الكماليون والأرمن ( 1919-1923)-1

عطا درغام

الحوار المتمدن-العدد: 4692 - 2015 / 1 / 15 - 16:44
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    

تركت الهزيمة العثمانية تأثيرا نفسيا إيجابيا علي الأرمن . فقد أدرك كثير ممن كانوا مرتابين في جمهوريتهم أن لديها فرصة البقاء. وقرر بعض المثقفين والماليين الأرمن الذين مكثوا في تفليس الذهاب إلي يريفان لتقديم خدماتهم إلي الجمهورية.أكثر من هذا ، قرر حزب الشعب الأرمني ، ممثل الطبقة الوسطي والمعادل القوقازي للحزب الديمقراطي الدستوري0ساهماناتير رامجافار) في المهجر، الانضمام إلي الحكومة. وفعلا،احتضن الطاشناقيون الليبراليين ومنحوهم نصف، إن لم يكن مناصب الحكومة، نظرا لحاجتهم الماسة إلي خبرة حرفيي الطبقة الوسطي ورغبتهم في أن يثبتوا لدول الوفاق أن راديكاليين لم يكونوا مسيطرين علي أرمينية.
ورغم هذا الوضع المتفائل، عانت أرمينية شتاء قارسا خلال عامي 1918-1919، فقد أدي نقص الغذاء والدواء والإيواء إلي شغب وأوبئة ومجاعات حتي أكلت الناس الكلأ والميتة والجلود المسلوقة . ناهيك عن بعض حالات أكل لحوم البشر. والنتيجة : هلاك حوالي "200" ألف أرمني إثر الجوع والصقيع والتيفوس. ثم أخيرا، وصلت المعونة.إذ جمعت لجنة إعانة الشرق الأدنى الأمريكية ملايين الدولارات من أجل الأرمن الجياع. وبحلول ربيع 1919 ما برحت تصل المعونات الغذائية والكسائية والدوائية التي أنقذت حيوات آلاف الأرمن ومكنت جمهوريتهم أن تصلب عودها.
يبدأن الخلافات الحزبية قد عرقلت مسيرة تطور الجمهورية الأرمنية. فرغم وجود الشعبيين في الحكومة ، سيطر الطاشناقيون علي المناصب الحكومية العليا . وشكل حزب الشعب الليبرالي بقية الحكومة. ولكلا الحزبين الرئيسيين فلسفة متباينة. فبينما كان حزب الشعب مرنا انفتاحيا ، كان الطاشناقيون ثوريين متشددين ومنغلقين. وتطلع أيديولوجيو وسياسيو الحزبين إلي رفاهية أرمينية والأرمن. ولكن نظرا لأنهم انحدروا من خلفيات اجتماعية- اقتصادية مختلفة، فقد بحثوا عن الرفاهية بطرق متغايرة. ففي حين انبثق الليبراليون من رحم التقاليد الليبرالية للطبقات الوسطي العليا في تفليس وباكو وموسكو وسان بطرسبرج ، كان الطاشناقيون نتاج الطبقات الوسطي الدنيا والعمال والفلاحين الذين تأثروا بالتوهج الثوري والطموحات القومية المتفشية في أوربا الشرقية.
وثمة قضايا مهمة شغلت بال الجمهورية الأرمنية آنذاك لعل في مقدمتها النزاعات الحدودية مع جورجيا وأذربيجان ثم مؤتمر السلام المنعقد في باريس منذ 18 يناير 1919.
كانت أوضاع ما وراء القوقاز بعيدة عن الهدوء.إذ أن انقسام الإقليم إلي ثلاث جمهوريات جعل أرمينية ذات مشاكل حدودية غير محسومة. تمثلت المشكلة الأولي في النزاع الأرمني- الجورجي حول إقليمي أخالكالاك ولوري الحاويين أغلبية أرمنية. ورغم أنهما إقليمان أرمنيان، فقد دخلا وفقا للتقسيمات الإدارية الروسية في القرن التاسع عشر ضمن إقليم تفليس. ولهذا ، ادعت جورجيا أنهما جزء من جمهوريتها الجديدة. وأدي النزاع الأرمني- الجورجي إلي اندلاع اشتباكات عسكرية صغيرة بين الدولتين المسيحيتين انتهت بعقد تسوية ، أصبح لأرمينية بمقتضاها السيطرة علي نصف لوري بينما أصبح النصف الآخر نطاقا محايدا واحتفظت جورجيا بالسيطرة علي أخالكالاك.
وتعد المشكلة الحدودية الثانية بين أرمينية وأذربيجان أكثر تعقيدا . فمن وجهة النظر الأرمنية ، ثمة تمييز بسيط بين الآذريين والأتراك أنفسهم.إذ أن التعاون الآذري- التركي خلال عامي 1917- 1918 هدد بقاء الجمهورية الأرمنية. واعتبرت أذربيجان نفسها وريثة إقليمي باكو وإليزافيتبول ( جنزه)؛ ومن ثم اعتبرت كاراباخ ( قرة باغ) وزانجزور مناطق آذرية. زد علي هذا ، اعتبر الآذريون الأجزاء الشمالية من أرمينية والمناطق الشرقية من جورجيا ذات الجيوب التركية ضمن حدود أذربيجان.أكثر من هذا ، طالب الآذريون بتلك الأقاليم من أرمينية الغربية التي آلت إلي روسيا بعد برلين 1878. وبمعني آخر، تصور الآذريون دولة تمتد من بحر قزوين حتي البحر الأسود، مع وجود أرمينية حبيسة بينها وبين الدولة العثمانية. ومما زاد في تعقيد الموقف وجود آلاف المسلمين يقطنون جنوبي أرمينية وآلاف الأرمن يسكنون كاراباخ وزانجزور وضواحي باكو وإليزافيتبول.
دعم البريطانيون الإدعاءات الآذرية في كاراباخ وزانجزور بسبب بترول باكو، إذ ما انفك البريطانيون يضخون ويبتاعون النفط بمجرد وصول قواتهم هناك. وأسفر عن مقاومة كاراباخ نشوب مذابح في عدة قري أرمينية. ثم أجريت تسوية حصلت بموجبها المناطق المأهولة بالأرمن في كارباخ علي حكم ذاتي داخلي في دائرة اختصاص الآذريين. ولكن الأخيرين أخلوا بهذه التسوية مما أدي إلي تمرد أرمني في شوشي الملتهبة عاصمة كاراباخ. عندئذ، لم تكن حكومة يريفان قادرة علي التدخل لصالح الأرمن. ومن ثم، أضحت مشكلة كارباخ وغيرها من المشكلات الحدودية الأرمنية قيد انتظار مباحثات السلام المنعقدة في باريس منذ 18 يناير 1919.
حينذاك، كانت دول الوفاق يرتبون في العاصمة الفرنسية بنود السلام مع الدول المقهورة :ألمانيا والنمسا- المجر والدولة العثمانية وبلغاريا. وأرادت الدول المنتصرة تحقيق " الضم الفوري" للأراضي المعطاة بها علي أساس معاهدات الحرب. بيد أن الرئيس الأمريكي ويلسون عارض هذا. وطرح فكرة الانتداب كحل وسط بين الضم الاستعماري وحق تقرير المصير الذي نص عليه البند الثاني عشر من بنود مبادئ السلام الأربعة عشر التي أرساها ويلسون.
وفي 30 يناير 1919 وافق المجلس الأعلى للوفاق ( الحلفاء) علي مسودة قرار تفصل بموجبه أرمينية وسورية والعراق وفلسطين والحجاز عن الدولة العثمانية وتوضع تحت الانتداب.
وقد أرسلت الجمهورية الأرمنية في 4 فبراير 1919 إلي هذا المؤتمر وفدا برئاسة آفيديس أهارونيان (1866-1948) للمطالبة بأرمينية الغربية ومخرج للجمهورية علي البحر الأسود. وفي أعقاب وصول الوفد الجمهوري ، التقي مع جماعة أرمينية أخري : الوفد القومي الأرمني برئاسة بوغوص نوبار باشا نيابة عن الأرمن الغربيين وأرمن المهجر. بيد أن ثمة اختلافات جد متباينة بين الوفدين. فبينما تشكل الوفد الجمهوري من أغلبية طاشناقية، تكون معظم الوفد القومي من الحزب الديقراطي الدستوري. وفي حين كان بوغوص يطالب بإقامة دولة أرمنية كبري قوامها الأرمن العثمانيين ولا يؤمن بتمثيل الجمهورية الأرمنية لكل الأرمن ، كان وفد أهارونيان يتميز بأنه يمثل دولة قائمة بالفعل عظما ولحما ودما.
غير أن الوفدين آثرا اتفاقهما ظاهريا علي توحيد مطالبهما الأساسية والتقدم بها معا باعتبارهما وفد أرمينية المتكامل . وفعلا ، قدم الوفدان الأرمنيات في 12 فبراير 1919 مذكرة مشتركة إلي الوفاق تحوي المطالب الآتية:
1- الاعتراف بدولة أرمينية مستقلة قوامها:
أ‌- ولايات فان وبيتليس وديار بكر وخربوط وسيواس وأرضروم وطرابيزون.
ب‌- سناجق قيليقية الأربعة الأربعة : مرعش وسيس وجبل بركات وآضنة.
ج- الجمهورية الأرمنية القائمة في القوقاز مع ولاية يريفان كاملة والجزء الجنوبي من ولاية تفليس والقسم الجنوبي الغربي من ولاية إليزافيتبول ( جنزه) وولاية جارس.
2- تأمين كيان الدولة الأرمنية من قبل الدولة الحليفة أو الولايات المتحدة الأمريكية أو عصبة الأمم.
3- تكليف دولة كبيرة بجعل أرمينية تحت انتدابها لمدة عشرين عاما.
4- التعويض عن الأضرار اللاحقة بالأرمن إثر المذابح والتشريد والنهب والدمار.
5- علي الدولة المنتدبة إجبار الحكومة العثمانية علي إجلاء الأراضي الأرمنية، وتأمين تجريد السكان من السلاح ، وملاحقة جميع الذين اشتركوا في ذبح الأرمن وألحقوا بهم الغبن، وإبعاد عناصر الشغب عن البلاد وإعادة المهاجرين الذين حلوا محل الأرمن إلي بلادهم.
كما عقد بوغوص نوبار في باريس خلال الفترة من 24 فبراير حتي 22 أبريل 1919 المؤتمر القومي الأرمني لتأييد المطالب الأرمنية ومناقشة مستقبل أرمينية . وطالب هذا المؤتمر بأن يسند الوفاق " الانتداب علي أرمينية" إلي الولايات المتحدة.
علي أية حال ، ثمة تعقيدات اعترضت المطالب الأرمنية، فقد خصصت اتفاقية سايكس – بيكو (مايو 1916 ) قيليقية ونصف أرمينية الغربية لفرنسا . أكثر من هذا، اصطدمت المطالب الحدودية الكردية مع مثيلاتها الأرمنية.

زد هنا أيضا، لم يكن الجيش العثماني في الأناضول منزوع السلاح. من ثم، لا تستطيع الجمهورية الأرمنية الصغيرة- مع نقص أسلحتها ومواردها – الدفاع عن أرمينية صوف تربو مساحتها علي "100" ألف ميل مربع.
عندئذ، احتاجت أرمينية قوة انتدابية لمساعدتها في هذا التحول، ولكن لما كانت بريطانيا وفرنسا قد تولتا المرقبة والإشراف علي بعض الأقاليم العربية التي ستفصل عن الدولة العثمانية، فقد آمل زعماء الوفاق في 14 مايو بأن الولايات المتحدة قد تقبل بانتداب ( عصبة الامم) علي الدولة الأرمنية المزمع تأسيسها. والحقيقة أن دول الوفاق خشوا قبول الانتداب علي أرمينية بسبب الالتزامات المادية الجسيمة التي تلزمها .ناهيك عن احتمال الانجراف في حرب مع روسيا السوفيتية أو الدولة العثمانية.
ومن ناحية أخري، آمل البريطانيون قبول الولايات المتحدة الانتداب علي أرمينية بغية توظيف الاهتمام الإنساني الأمريكي بالأرمن في خدمة الطموح الاستعماري البريطاني.فالوصاية الامريكية علي أرمينية تعد حاجزا فاصلا بين البترول الإيراني والاحتياطي النفطي الكبير في بلاد الرافدين وبين البلاشفة في روسيا. ناهيك عن أنها ستعاكس النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط. وستوقف الحركة الداعمة للطورانيين التي قد تعرض المصالح البريطانية في الهند للخطر. بيد أن ويلسون حذر دول الوفاق من أن الكونجرس والشعب الأمريكي لن يقبلا بسهولة حمل مسئولية الانتداب. وأن قبوله مرهون بموافقة الكونجرس.

#عطا_درغام (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات