عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4689 - 2015 / 1 / 12 - 15:22
المحور:
الادب والفن
مرت أكثر من ساعتين في حوار تراكم فيه الشد العقلي وأرهقنا المشي البطيء كنت أظن أن صاحبي قد أفرغ ل ما في جعبتي مما تراكم لدية أيضا من سنوات الفراق .... مازحته مرة أخرى وهذه المرة أبتعدت عن ذكر شمس التي كنت أيضا معجبا بها من غير أن أبوح لأحد ,جدائلها الصفراء المظفورة تتدلى على أكتافها يعتلي كل درج منها شريط أبيض ناصع وعريض يضيف لها ملامح أقل من طفلة في براءتها , الزي المدرسي الأزرق والأبيض مع بنية شبه ممتلئة لطالبة بعمرها وهي كالزهرة في أول أوان تفتحها تفتح الشهية لأحلام تتقد نارا .
في لحظة الحديث المتقطع يتواصل عقلي مع صور من ذكرياتنا المرة الحلو ونحن في ساحات القتال نلتقي كما العادة من حيث لا معود سابق و تدبير منا ,لفت أنتباهي صورة لا يمكن أن تنسى ونحن في منطقة تجميع للأفراد بعد خروجنا من أحد المعارك كانت وحدته القتالية بضيافة وحدتي وألتقينا في أطراف المكان ,عبارة عن ملجأ كان أصلا لموضع دفاعي لدبابة هيأنا المكان بأكياس الرمل وتم تسقيفه بألواح الحديد المضلع ليكون مقرا لقلم السرية .
الضجيج كان عارما وأصوات المدافع والقذائف تسكن جو المكان وتحيله لخراب فكري ,حركة الجنود وصراخ الضباط والمراتب الأخرى يزيد من حالات الخوف والارتباك , في هذا الجو المشحون وسيارات الجيش تنقل جثث القتلى والجرحى بالقرب من المكان حيث كانت وحدة الميدان الطبية نقطة الأخلاء والإحصاء ,دخل عدنان على مكاني بعد أن شاهدني خارجا ليرمي بجسده الثقيل آنذاك على صندوق خشبي ويخرج من كيسه القطني المحمول على ظهرة كتاب المقدمة لأبن خلدون ليتركني بإنشغالاتي ويسرح مع الكاتب وكأن هذا الضجيج والعجيج لا يلامس مدركاته الحسية .
في أواخر عام 1975كنا علة وشك الأنتقال للمرحلة الثانوية بعد أن أنعينا مرحلة المتوسطة ذاك العام كام مميزا بالنسبة لي فقد نجحت لأول مرة أن أحقق حلم فقد لبست البنطالون العريض جدا من الأسفل مع قميص كان بلونين الأصفر والقهوائي فيه زهور عباد الشمس ,كان الموديل الشائع منذ أكثر من سنه أسمه "الجارلس" لحد الآن لا أعرف المعنى ولكن ما يهمني أن حلما ما تحقق, أحتفلت به مع نفسي جدا كأني أعرف الجديد لأول مرة فقط هو عدنان من سخر مني ليس سخرية مما ألبس بل سخرية من سخافة الحلم .
اليوم أرى أنه كان محقا الأحلام كلما كانت أكبر صنعت فكرة أكبر لا يهم أن تتحقق أم لا المهم أن يكون حلمك خارج المدى المنظور حتى تتمكن من الوصول له لا بد أن تبذل جهد أكبر وأعظم وأكثر جدية هنا تتجلى فائدة الأحلام في عالم التكوين , كان عدنان محقا كصديق عندما سخر من سخافة حلمي بالمقابل كان يحلم أيضا ولكن أحلامه من طراز أحلام الأنبياء ,عندما تريد أن تكون عظيما لا تحلم بما يحلم به عامة الناس , كن أنت من يصنع العظمة ولا تدع لها فرصة الهروب من بين يديك وعقلك .
سألته هل تتذكر من أيام الحرب وذكرياتها ما يناقض ما وجدته في رحلتك للعالم الأخر ... مما في وجهه أعرف مقدار الألم الذي يعتصره حين يتذكر سنين الموت والحياة كما يسميها ,قال يا صديق تصور أن في عالمهم لا توجد فكرة أسمها تنازع أو مزاحمة إنه عالم مرتبط بطبيعة الكلمة الأولى التي لم يغادرها أحد منذ أن نطق الله بها لهم ,لا معنى في القواميس التي أدركتها كلها من معاشرتي لهم يفيد أو ينتهي لاشتقاق مصطلح يشير للحرب والقتال إنهم يحرصون على نحن كما يحرص الأناني المتخم بحب الذات على الأنا المتزاحمة عنده ,إنهم صنف يقترب جدا من الملائكة بل بالظن القريب من الجزم أنهم كذلك .
من يسمع الرجل يصف هذا العالم الغريب يظن أنه مصاب بداء التوهم أو انفصام بالمخيلة الطبيعية لديه , لا يوجد في العالم كله صنف من مخلوقات لا يسكنها حب الأنا ولا تحركها شهوات النفس وتتداركها الحاجات حتى تدفعها للتنازع , إنها الطوباوية الفكرية أو تأثيرات عالم الجن والوحدة والتوحش التي تذهب بالعقول بعيدا حتى أنها تتصور ما هو طبيعي ومؤتلف مع الطبع البشري على أنه خطيئة , لا أثق أنا إلا بحدسي المقترن بتجربة الفهم المتبادل بيني وبين عدنان , إنه يتكلم وفق ما يراه صحيحا وعن ثقة بما يقول .
أخيرا وجدنا مكان جميل على جانب نهر صغير يمر ببستان يبعد قليلا عن الشارع العام وهناك بعض النخيل وشجرة توت عملاقة , المكان أكثر من مناسب وخاصة أننا قطعنا مسافة تبدو في الأوقات العادية لا يمكن أن تقطع بهذه السهولة ,حدثني وبدون مقدمات عن شمس تلك الصبية الملهمة وهي تنتزع دقات قلوبنا نحن الشبب كلما خرجت من داره للمدرسة أو عندما تعود , وحده ومن غير منافس فاز عدنان بقلبها الصغير .
ذكرني عن حادثة لم أسترجع تفاصيلها من قبل وكادت أن تندثر في زحام ما في ذهني من مصفوفات رهيبة وغريبة ومتناقضة ومؤلمة جعلت من محاولة الإسترجاع أمرا مرهقا لي في هذا العمر , الحادثة تتلخص بأننا وفي أمتحانات أخر العام ,أبتكر هو فكرة الملازم المترجمة وهو كشكول لأهم ما يتوقع من اختبارات في اللغة الإنكليزية مترجم للعربي وباللفظ العربي وصورة الكلمة كما يراد منا أن نجيب , قام كل طالب بنسخ واحدة ونجح الجميع الفكرة والتنفيذ له , سألته وما علاقة شمس بذلك وهي في الصف الأول المتوسط , قال لقد عملت لها نسخه وأوصلتها لها بطريق ما , لكن من أوصلها خان الأمانة وأخبر ألاب وكان الخصام بين ابوها وأبي وجدي .
في العالم الأخر الذي عشته لم يعد هذا العمل مخالفة لا يجلب أدنى تحسس منه بل يعد من النبل أن تمنح جهدك لأخر كي يعبر اللحظة الحرجة , ما كان يؤلمني ليس التصرف المشين ممن أخبر الأب ,مصدر ألمي من أبي وجدي وأبوها حينما أرتكبا الجريمة بدم بارد ,يدعون أنهم أهل علم وفكر وأنهم أصحاب موقف ,لا تطلب من الكريم أن يثبت كرمه بل عليك أن تشجعه لأن يستمر بالفضيلة .... تصور يا صديقي أن شمس ما زالت شمس لم تشرق لحد الآن تجاوزت الخمسين من العمر وضياءها محبوس تحت جحر حفره الكبار .
_ رأيتها أذن ؟.
_ السؤال ليس هو هذا .
_ ولكن كل السنين التي مرت لم تخبرني بشيء.
_ صديقي لم أنقطع عن رؤيتها أبدا ... شمس عي مصدر إشعاعي الداخلي , أرى من خلال ما تشع علي من ضياء كل الأشياء الجميلة وأولها ذلك الوجه الذي تعرفه أنت .
_بالتأكيد كان وجهها كقرص الشمس وسلاسل الشعر المتدل على أكتافها كسبائك الذهب , صدقني يا رجل لو رأيتها الآن لا يمكن أن أنسى تفاصيل وجهها .
_ لم تكن شمس من أحلامي بل كانت من حقي فقط .
_ إذن ما موقفها من كل ما جرى ؟.
_ أكلمك عنها بذات المنطق الذي أتكلم به معك الآن , إنها تحمل الكبار أثم الجريمة كاملا .
أبشع الأشياء أن تحيل الجمال بكلمة تافهة إلى قبح مطلق وتنتزع من الطبيعة روحها الحرة , في هذا الحديث الذي أعادنا لعالم الألم ونحن نبحث عن هدوء جاء رجل من اقصى المكان ليشغل ماكنة بقرب الشجرة يسحب الماء للبستان ,كان صوت الماكنة يمزق روح الطبيعة ويقتل حتى سكون الشجر والعصافير ويمزق أخر فرصة لنا أن نستمر بالكلام , إنها عالم مصنوع ومكيف لأن يكون واحة ضجيج تدمر فينا السلام الداخلي وتهيء النفس لتقبل القبح أمرا واقعا .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟