أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود سلمان الشويلي - اوراق المجهول - رواية متسلسلة - الفصل الثاني والثالث















المزيد.....


اوراق المجهول - رواية متسلسلة - الفصل الثاني والثالث


داود سلمان الشويلي
روائي، قصصي، باحث فلكلوري، ناقد،

(Dawood Salman Al Shewely)


الحوار المتمدن-العدد: 4685 - 2015 / 1 / 8 - 21:50
المحور: الادب والفن
    


الورقة الثانية :
----------------------------------------------
تغير مزاج السماء منذ طلوع اول خيوط الشمس الصفراء ... اذ بدت السماء عندما نهضت من نومي مكفهرة ، كئيبة ، والغيوم تملأ صفحتها .
قالت امي بعد ان صعدت نظرها الى السماء:
- انها غيوم غير مطارة تنذر بحرارة عالية .
فيما قال ابي وهو يزمع االعودة الى المضيف الكبير الذي تركه قبل اقل من ساعة :
- اللهم سترك ... اللهم لا نسألك رد القضاء وانما نسألك اللطف بنا.
مر سرب من الغربان ضحى ذلك اليوم في سماء ارض القبيلة ، فوق رؤوس الناس الذين امتلأت بها الساحة الترابية السبخة التي ينفتح عليها باب المضيف الواطئ ، كان صوت نعيق الغربان يملأ السماء في اللحظة التي تعالى فيها صوت النحيب الرجالي الذي تعالى من داخل المضيف الكبير، فيما كانت الشمس تحاول الاقتراب الى كبد السماء ، والجو كان وخما ، والهواء ساكنا ثقيلا كأنه مصنوع من رصاص .
مات الشيخ الكبير بعد يوم من مرور النجم المذنب من شرق السماء الى غربها ليلة البارحة ،مات بعد ضحى ذلك اليوم الخريفي في تلك السنة التي كنت فيها انا وصديقي راضي طالبين في الصف المنتهي في الجامعة ،غير ان الحشد الرجالي داخل وخارج المضيف الكبير تلك اللحظة لم يصدقوا موته ، حتى راح بعضهم ينهر القائلين بذلك ويمنع اصحاب البنادق المصوبة – وما اكثرها - الى كبد السماء من رمي اطلاقاتهم لاعلام العشائر والقبائل الاخرى، وراح البعض يدخل المضيف الكبير ويخرج منه ليؤكد للناس المذهولين في الخارج انه حي يرزق ، الا ان الشيء الاكيد هو ان الشيخ الكبير قد مات بعد ان كتب القاضي ما اوصى به، ويا هول ما اوصى به .
خرج والدي حاسر الرأس وصاح بالجموع المصدقة وغير المصدقة بموت الشيخ : لقد انتقل الشيخ الى جوار ربه ... يرحمه الله برحمته ... وتهاوى على الارض باكيا ... وحث على رأسه بعض سبخ الارض وترابها . عندها صدق الحشد بموت الشيخ الكبير .
كان موت الشيخ الكبير هو الحقيقة التي ستجر وراءها حقائقا اخرى .
اخبرني والدي ، وكأنه يخبرني الان ، بعد ان تخرجت من الجامعة ونسبت مدرسا لمادة التاريخ في المدرسة المتوسطة الوحيدة في قريتنا بما حدث ذلك اليوم داخل المضيف الكبير الذي خرجت منه دفعا وقتها ،قال لي اشياء يشيب لها رأس الصبي ، اشياء دفعت بجموع قبيلتنا الى الانقسام الذي خلف العداء والذي من جرائه خسرت حبيبتي وخطيبتي وابنة عمي.
اخبرني والدي وكأنه يفشي سرا خطيرا لايعرف به احد غيره ، وهذا صحيح ، لان والدي كان ثاني اثنين في المضيف يعرفون بما دار بين الشيخ الكبيرالمحتضر والقاضي لحيم الجسم الذي اجلسوه على كرسي جاءت به حاشيته من دار القضاء الحكومي، كان ابي احدهم وهو الكبير بينهم والثاني شيخ سلف العماريين الذي حشر نفسه دون استئذان على الرغم من اننا – كما يقول والدي - لم نكن في ذلك الوقت في حالة من يعطي الاستئذان لاحد، ومن منا المخول بذلك؟ – طرح السؤال ولم يجب عنه - وكل الحاضرين هم سادة(*) ورجال دين ورؤساء عشائر وافخاذ واسلاف قبيلتنا ؟
وها انا انقل عن فيهه ما قاله لي والدي ونحن نجلس وحدنا في غرفة الخطار . (*)
قال وقد تغضنت صفحة وجهه:
- عندما جلس القاضي على كرسيه الذي جاء به رجاله ، جفف وجهه بمنديل ابيض ما تصبب على صدغيه وخديه من العرق الذي كان ينز من صفحة وجهه الحمراء اللحيمة ، ثم شخر اكثر من مرة ، بعدها تكلم ... قال موجها كلامه للشيخ الكبير المحتضر :
- ها شيخ... كيف ترى نفسك ؟
اجابه الشيخ الممدد جسده تحت الدثار السميك بصوت واهن :
- انا بين يدي الرحمن الرحيم .
رد القاضي الذي لمعت بشرته الحمراء اللحيمة تحت تصبب العرق بصوت شخيره الذي يصدم الاذان:
- ونِعم بالله .
ثم ، وكأنه يريد ان يخرج بسرعة من المضيف، وجوّه الخانق الممتلئ برائحة الاحتظار ، تابع قائلا :
- ها شيخ ... بماذا توصي ؟
عندما وصل والدي الى هذه الفقرة من حوار القاضي مع الشيخ الكبير الذي بين يدي الرحمن الرحيم تأوه ، وتأسف كثيرا ضاربا كفيه الواحدة بالاخرى، ثم تابع ناقلا لي ما حدث وقتها في المضيف الكبير بين الشيخ الكبير وبين القاضي الجالس على كرسيه .
قال والدي :
- قال الشيخ الكبير: اوصي بما تركته الى امي .
ولاذ والدي بالصمت ، وقد رأيت اكثر من قطرة دمع تنزل من عينيه وتجري على خديه المتغضنتين ، فيما راح نشيجة يصل الى اذنيّ بصوت خفيض وكأنه يصدر من مكان بعيد .
تركته يبكي صاحبه الشيخ الكبير بعد هذه السنوات التي مضت ... فقد زامله اكثر سنوات عمره ... وهو – كما كان يقول لي دائما – من نسل الشيوخ العظام لقبيلتنا، وانه يحترمه ويحبة اكثر من اولاده ، كما قال عند وفاته الى من كان يجلس بالقرب منه .
مسح عينيه بكم دشداشته ، وراح يتابع ما بدأه ، قال :
- عندما اوصى الشيخ الكبير رحمه الله بتركته الى والدته ، سأله القاضي :
- شيخ ... ومشيخة القبيلة؟
ولاذ والدي مرة اخرى بالصمت ، كمن اشتعل فيه فتيل الذاكرة ، وأيقظت مكامن حزن كان يظن أنها قد ماتت،الا انه لم ينشج ، ولم تسقط من عينيه دمعة واحدة ، فأحترمت صمته ، وانتظرت اللحظة التي يكمل فيها سرد احداث ما حدث في المضيف الكبير وقتذاك .
وبعد صمت غير طويل كانت فيه نظرات والدي تائهة بين نقاط عديدة على جدران الغرفة الجالسين فيها، قال والدي متابعا :
- لم يجب الشيخ الكبير ، فردد القاضي سؤاله اكثر من مرة ، عندها وضع اخوه " نهر" الذي جاء مسرعا حيث اشار له القاضي، اذنه على صدره يتنصت الى دقات قلبه ، وبعد لحظات قال:
- الى رحمة الله - واكد - انتقل الى رحمة الله .
صعد الى ملكوت الله ، وروحة غير المتحررة من آثار المشيخة التي اخذها معه، وترك مالها وارضها لوالدته فقط .
عندها جاءنا نحن الواقفون خارج المضيف الكبير عويل ونحيب الرجال ممن كان داخله ، فسرت عدوى النياح والعويل الينا، ثم تعالت اصوات عويل ونحيب النساء من داخل الدار الكبيرة وكأنهن ينتظرن وفاة الشيخ الكبير على احر من الجمر – وحتما- انهن قد نزعن فوطهن(*) ، وحللن شعور رؤوسهن ، ومزقن جيوب اثوابهن ، ورحن يلطمن ويردحن على شيخ قبيلتهن الكبير ، فيما راحت العدادة (*) تطري لهن مآثره، وتسمعهن كلاما يفتت الصخر من شعرالرثاء بصوت اريد منه ان يستقطر اخر دمعة في العين، وآخر آهة حرى في القلب، وراحت مكبرات الصوت الموضوعة بأتقان على زوايا سطح الدار تنقل للرجال ذلك الشعر الذي يقطر الما على فقد الشيخ الكبير .
عندها غاب اخر غراب من سرب الغربان من صفحة السماء ذات الغيوم كالزجاج الذائب، وبدأ وابل من المطر يهطل بكل قوة عموديا على رؤوس من كانوا في الساحة لمدة ربع ساعة ، كان المطر دموع السماء كما قالت امي بعد ايام.
كنت واقفا مع الواقفين امام باب المضيف الكبير التي ازدادت حركة الداخلين والخارجين منه ، وكان صديقي وكاتم اسراري مع ابنة عمي (راضي)– وبالمقابل كنت انا كاتم اسراره مع حبيبته (فوزية)- يقف بجانبي، وعيناه لا تبرحان باب الدار الكبيرة علهما تريان حبيبته (فوزه) كما يحلو له ان يسميها.
تعالت الاهازيج والهوسات من الرجال، وراحت اجسادهم التي انفتحت مساماتها وهي تدك الارض تفرز ذلك السائل المالح مختلطا بدموع السماء ، كانوا كأنهم ينتظرون هذه اللحظات ليدكوا فيها الارض السبخة واليابسة ، التي ارتوت لدقائق بدموع السماء، باقدامهم العارية ، ولو كان للارض لسان لصاحت منهم (الداد)(*) الا انهم ، والاعلام ترفرف فوق رؤوسهم، قد اخذتهم (الحمية) وحب الشيخ الكبير الى ان ينسوا اثقال ما كانوا يحملونه من مُر السنين، واصبح عندهم كل شيء هينا بعد رحيل الشيخ الكبير دون ان يعلموا انه عندما سأله القاضي عن حاله قال: انا بين يدي الرحمن الرحيم .
كانت الاعلام والرايات والبيارغ تخبر عن انتسابها ، حمر وخضر وسود وقد امتلات بآيات قرآنية وكلمات تشير الى اسم العشيرة والقبيلة التي يرفرف فوق رؤوس ابنائها الذين يدكون الارض دكا وشفاههم تردد هوسات (*) من عرف عنه ترديد تلك الهوسات التي تمجد الشيخ الكبير، وفضل القبيلة بعلاقتها بآل البيت.
تركنا انا وراضي الناس بما كانوا يفعلون ،وتحركنا بعيدا عنهم، قريبا من باب الدار الكبيرة ، انا لاحظي بلقاء ابنة عمي خيرية، وراضي ليحظي بلقاء فوزه ،بعد ان كان الجميع مشغولا بالهوسات ودك الارض وكأنهم في حشر عشائري لاخراج الماء من باطن الارض .
كانت هذه اللحظات فرصة لنا ، ولي خاصة بعد ان اصبحت خيرية خطيبتي رسميا ، وقد اتفق والدها ووالدي ان لا نلتقي الا بعد الزواج، اما راضي وفوزه فلم يعلم بقصة حبهما ولقاءاتهما السرية سواي وخيرية ، لانهما كانا من عائلتين بينهما مشاحنات وبغضاء ونفور على الرغم من ان جديهما لابيهما ابناء عمومة .
كانت خيرية ابنة عمي وابنة خالتي في الوقت نفسه، فقد كان والدي ووالدها اخوة من اب وام واحدة ، والاكثر من ذلك انهما كانا توأمين للحاج سلمان ، فيما كانت امي وام حبيبتي وخطيبتي اخوات من اب وام واحدة ، والاكثر من ذلك وهذا الطريف في الامر انهن كن توأمين لبطن واحدة لزوجة الحاج سالم اخي الحاج سلمان والدي.
عندما جاء ابي وعمي الى الحياة كان جدي – والدهما – في الحجاز مع الشيخ الكبير- اب الشيخ الكبير الذي مات وهو بين يدي الرحمن الرحيم - يأدون فريضة الحج ، فقام عمهما – والد امي وخالتي – برعايتهما حتى وصل جدي والشيخ الكبير الى اراضي القبيلة .
في اللحظة التي وطأت اقدامهما ارض المضيف الكبير، كانت القابلة العجوز للقبيلة مع زوجة الحاج سالم لتولدها ، وبعد اقل من دقيقة من وصول خبر وصول الحجاج تعالت هلاهل جدتي زوجة الحاج سلمان بمناسبة ولادة اختها، وقدوم المولودتين التوأم الجديدتين.
جاء الخبر الى المضيف بالتوأم ، فصاح جدي الحاج سالم فرحا وهو يوجه كلامه للشيخ الكبير :
- اشهد يا محفوظ (*)ان بناتي هدية الى ابناء اخي الحاج سلمان .
انتشر الخبر اولا في المضيف الكبير بين المهنئين بقدوم الحجاج ، ثم ساح كما يسيح الماء في ارض عطشى بين ابناءالعشيرة ،ومن بعدها تناقلته السن من تعلم نقل الاخبار بين ناس العشائر والافخاذ والاسلاف الاخرى ، وقد فتح وقتها الشيخ الكبير السجل الكبير الذي يسمونه " الشاهد" وسجل بتاريخه تلك الهدية التي شكر جدي الحاج سلمان اخيه الحاج سالم عليها ، و ختمه الشيخ الكبير بقوله بارك الله بكما وبأولادكما ليجعلهما الله من انصار اهل البيت، وقال في هذه المناسبة شاعر القبيلة ابياتا شعرية ، تردد صداها في مضايف عشائر واسلاف قبيلتنا.
هذا ما اخبرني به جدي الحاج سلمان قبل وفاته بأيام ، فيما اخبر جدي الاخر الحاج سالم خيرية بذلك، وكأن هذه الامور سرا تتناقله العائلة فيما بينها ولا ينقله سوى الجد الى الاحفاد ، على الرغم من ان الامر كان معروفا للقاصي والداني ومن ضمنهما انا وخيرية .
عندما ولدت قبل ايام من ولادة خيرية كان جدي الحاج سلمان وجدي الحاج سالم قد اتفقا على ان البنت التي ستلدها زوجة ابنه الثاني – الذي كان يسكن في دارعمه الحاج سالم ليكون بمثابة ولد له بعد ان حرم الولد- ستكون لخيري ويسمونها خيرية ، وعندما سأله الحاج سالم كيف عرفت انها بنت ؟ رد جدي الحاج سلمان: اسأل الشيخ الكبير ، عندها صدّق جدي الحاج سالم بما قيل وبارك المولودين – انا والبنت التي ستولد – دون ان يعرف كيف عرف الشيخ الكبير بجنس المولود ،واخبرا الشيخ الكبير بذلك ، فطلب من الرجل الذي يخدمه ان يأتي بالشاهد ليسجل فيه الاتفاق .
***
الورقة الثالثة:
---------------------------------------------------
كنا نعود الى بيوتنا في الليل منهكي القوى ، انا وابي وامي واختي، بعد ان يجهدنا العمل في مجلس فاتحة الشيخ الكبير ، ان كان ذلك في المضيف انا ووالدي ، او كان ذلك في الدار الكبيرة بالنسبة لوالدتي واختي، اذ امتد مجلس الفاتحة لاكثر من اسبوع وقد نحرت مئات الذبائح وصرفت العشرات من اكياس الرز والسكر والشاي ، وتكسرت المئات من الاستكانات الفارغة و المملوءة بالشاي والمواعين الصيني (*) لاصطدام اقدام الناس بها لشدة الزحام .
في اليوم الرابع من ايام الفاتحة تحينت الفرصة للاختلاء بخيرية – ابنة عمي وحبيبتي و خطيبتي – بمساعدة صديقي راضي الذي التقى صدفة وبعيدا عن اعين الناس بحبيبته فوزه ، وكنت انا اقف ليس بعيدا عنهما وانما كنت احاول ان ارد بعض الصبية عن مكان خلوتهما، وعندما انتهيا من الخلوة عاد راضي وهو يحمل البشرى لي.
كنت على احر من الجمر للقاء حبيبتي وخطيبتي ، الا انه في الوقت نفسه كنت اريد ان اعرف كل شيء عما جرى ويجري داخل الدار الكبيرة بعد ان بدأت السن الناس تنقل اشاعات عديدة.
بعد اقل من ربع ساعة كنت اختلي بخيرية في المكان نفسه الذي كان يختلي به راضي بفوزه .
كانت اول ما فعلته خيريه ان رمت نفسها عليّ وراحت تقبلني القبلات ذاتها التي تعلمتها من الافلام التي كنت انا وراضي نشاهدها في سينمات بغداد بعد انتهاء دروسنا في الجامعة ، واعلمها لها.
راحت تمتص شفتاي مصا كأنها قطعة حلوى، فيما انا لم اشاركها سوى قبلتين ومصتين من الشفاه،حتى ان خامس اطرافي الذي بين بدايتي افخاذي لم يتحرك قيد انملة كالسابق تحت تأثير هذه المصات والقبلات، اما تفكيري فقد كان منصبا على ما يحدث في الدار الكبيرة، وعن صدق او كذب الاشاعات.
انتبهت خيرية للقائي البارد معها ، واخذت تمطرني بوابل من كلمات اللوم والعتب التي امتلأ بهما قاموس الصبايا المحبات ، بل راحت تلوم نفسها لانها اتت اليّ بقدميها كالبهيمة ، وهمت بالخروج ، الا انني امسكت بها وصحت زاجرا:
- الا تكفين عن ذلك ... لقد شبعت من القبلات ومص الشفاه ... اخبريني عما يحدث في الدار الكبيرة ؟
عندها نظرت لي شزرا ، وكمن صعقت بكلامي ، استدارت غاضبة لتخرج من غرفة ماكنة سحب الماء التي نختلي بها، فأسرعت واغلقت الباب ورحت امطرها بوابل من القبل الباردة كالثلج ، اذ كنت اعرف ان القبل والمص سيهدأ من ثورتها كلما غضبت مني في كل مرة، الا انني كنت مخطئا،لانها لم تشاركني قبلاتي بعد ان شعرت ببرودتها، او انها عرفت ان ما اقوم به هو تهدئة لخواطرها ليس الا ، فصحت بها ناهرا:
- كفى ... اخبريني عن أي شيء جرى في الدار الكبيرة ، وماذا فعلت النسوة التي جيء بهن من المدينة بسيارة القاضي ، ولماذا جيء بهن؟
عندها هدأ غضبها قليلا ، وكمن يعرف كل شيء قالت :
- لن اخبرك ... لدي اسرارا لا يعرف بها سوى النساء .
ثم ضحكت بصوت عال وانفلتت مني وفتحت باب الغرفة وخرجت والضحكة العالية كادت تفضحنا .
بقيت ساكنا لا اعرف بماذا اجيب على تساؤلات راضي الذي وصل اليّ مسرعا ، كنت كمن يقف على حافة هاوية، كاد خروج خيرية من الغرفة يوقعني على الارض ، انها ما باتت تحبني ، وشعرت بأحشائي الداخلية تتمزق .
قلت لراضي بتوتر بان على كلماتي:
- لم تخبرني بشيء ... ثم تساءلت او سألت راضي :
- هل انتهى حبها لي ؟
اجابني راضي :
- اترك هذه الافكار خارج رأسك.
وبعد لحظات تابع قوله كالواثق من كلامه :
- ابق هنا ، ستعود حتما ...
ثم قال:
- سأعود اليك .
وخرج .
بقيت والدوخة لفت رأسي كله ، كنت احس برأسي كـ (الجبنة)(*)، شيء اسفنجي ... هلام لا استطيع السيطرة عليه . فيما كان جو غرفة ماكنة سحب الماء كالتنورالملتهب ، كان العرق يتصبب من كل مسامات جسدي ، فيما النواح ما زال يتصاعد من الدار الكبيرة ، تساءلت مع نفسي:
- اتتركني ابنة عمي وحبيبتي وخطيبتي هكذا ؟اين حبها لي ؟ اين ذهبت قبلاتها لي ؟ اين ذهب مص الشفاه؟
- لقد عادت.
اخرجتني كلمات راضي من تفكيري الاسفنجي ، ودون ان اراه ، رأيتها تنكب على وجهي بالقبلات ، واستجابت شفتاي لقبلات شفتيها مضطرا، وبدأنا المص بعد ان احتضنتها وعصرتها بساعديّ لاقنعها .
اخبرتني خيرية وكأنها تخبرني للتو، اذ لم تكن كلماتها قد احاط بها ضباب سنوات المحنة التي عشناها معا واصابتنا كما اصابت الاخرين من ابناء قبيلتنا.
قالت :
- لقد جاء القاضي بالنساء العارفات بمسائل النساء من بغداد ، وقمن بفحص زوجة الشيخ الكبير ، لانها اخبرت ام الشيخ الكبير بعد وفاته مباشرة بأنها حامل ، فقامت ام الشيخ الكبير وارسلت بمن يطلب من القاضي ان يرسل العارفات .
وعاد الصمت مرة اخرى الى الغرفة الملتهبة، سكتت خيرية وما زال بصرها يلامس صفحة وجهي، انها عرفت ان ما تخبرني به ذا اهمية كبيرة ، وارادت ان استجديها الاخبار ، الا انني لم افعل ذلك ، بل صحت بها ناهرا:
- لا تكوني انانية... هيا اكملي دون توقف.
نظرت لي وابتسامة شامتة على شفتيها ... تجرعتها بمرارة كمن يتجرع زيت الخروع لتليين محتويات معدته، وكززت على اسناني ، الا انها ، وكمن عرف انها قد ردت لي صاع عدم تجاوبي معها قبلاتها بصاعين من شفتيها الشامتتين ، قالت ضاحكة:
- اخذن زوجة الشيخ الكبير رحمه الله معهن الى بغداد لتبقى في بيت القاضي لفترة لم يحددن طولها ، وكان ذلك بطلب من ام الشيخ الكبير... ثم اردفت قائلة:
- هذا ما حدث في الدار الكبيرة يا حبيبي.
ثم كمن تريد ان تسترضيني ، قالت متسائلة والابتسامة تشع على وجهها:
- ارضيت يا حبيبي ؟
بعد اربعة اشهر وعشرة ايام من وفاة الشيخ الكبير اخبرني والدي وكأنه يخبرني للتو ،بعد ان سألته عن الاخبار التي تتناقلها الالسن ، وخاصة السن النساء،عن زوجة الشيخ، قال :
- نعم ... وقد تبين ان المرأة كانت كاذبة ، اذ انها لم تكن حاملا.
قلت فيما قلته سابقا انني فقدت ابنة عمي وحبيبتي وخطيبتي خيرية ، وذكرت ان وفاة الشيخ الكبير، وعدم وصيته بالمشيخة هي التي آذنت بالفراق ، لهذا رحت اتحين الفرص لاسأل والدي عن ذلك ، اذ ان اعباء مساعدة الوكيل الجديد ارهقته كثيرا، وعندما حانت لي فرصة الحديث معه بعد حصولي على الشهادة الجامعية مباشرة ، أي بعد اربعة اشهر وعشرة ايام من وفاة الشيخ، واحتفالي انا وراضي بهذه المناسبة بشرب قدحين من الشربت الاحمر الذي جلبته معي من بغداد، دخل علينا والدي غرفتي فيما كان راضي يهم بالخروج ، هنأه والدي على نجاحه ، وعندما غادرنا ، سألني والدي مباشرة :
- ها... ماذا ستفعل بالشهادة ؟
ودون تردد ، وبجرأة غير معروفة عندي عند الكلام مع والدي ، قلت له :
- ابي ارجو ان نترك امر الشهادة الى مابعد ان تجيبني عما يدور في رأسي من تساؤلات قد مضى عليها وقت دون ان تجد لها اجوبه ، وانا في حيرة منها؟
نظر والدي في وجهي- حتما انه عرف ما اريد ان اسأل عنه - وكمن غضب من شيء قال بتوتر :
- ان اسألتك كثيرة ، واجوبتك قليلة ، ماذا اصابك ، هل الجامعة انستك من انت، ام ان الدراسة في بغداد انستك انك ابني ؟ ام ماذا ؟ اجبني انت؟
كان الغضب يتصاعد مع تصاعد وتيرة صوت كلمات ابي التي تخرج من فمه كأنها مفرقعات، ولكي اهديء من غضبه ، رحت اتوسل اليه واطلب منه ان يهدأ، وقلت كما اذكر:
- ابي كل الذي قلته غير صحيح ،فلا الجامعة ولا بغداد قد انستني انني ابنك ، وانت والدي ، الا انك تعرف انني كبرت ودرست وعليّ ان افهم جيدا ما يجري حولي، خاصة ان ما جرى قد مس القبيلة والعشيرة بالسوء كثيرا وقد لحقك انت وعمي، بل قل بيتنا وبيت عمي بهذا السوء – بين هذه الكلمات تذكرت محنة ابناء جدنا آدم - الا يمكنك ان تخرج من صمتك هذا وتخبرني الحقيقة دون ان اعرف هذه الحقيقة من الاخرين ، وانت تعرف الاخرين والقيل والقال؟
سكتُّ بعد ان احسست ان جملي كانت طويلة جدا ولم يستوعبها فهم والدي القروي، وعليّ ان ارأف بكبر سنه، الا ان ابي لم يعلق بشي، وهذا ما زاد الطين بلة، بل راح ينظر في وجهي وابتسامة صغيرة على شفتيه اضاءت وجهه المتغضن بلحيته الخفيفة البيضاء، ثم وهو يقبلني على جبيني قال :
- اسأل.
احسست بالدم يصعد الى وجنتي خجلا ، بل حقيقة كنت خجل من ابي كأنني صبية عذراء امام من يسألها القبول بالزواج من شخص ما (*)، وبهدوء واحترام الابن لابيه، قلت:
- سامحني ان اغضبتك ، الا انني اريد ان اعرف منك بالذات لماذا افترقت عن عمي؟ ولماذا فسخت خطوبتي من خيرية ؟ ولماذا ...؟
ولم اكمل اسألتي، اذ وضع والدي كفه على فمي واغلقه، كأنه يغلق اناء تفوح منه رائحة لا يطيقها، وخرج تاركا اسئلتي علامات استفهام كبيرة .
كان صمت والدي يُخفي أشياء كثيرة لاتريد ان تنعتق من قمقمها الذي في رأسة والمشدود جيدا بعقاله الاسود الشطراوي (*)، فأحترمت هذا الصمت ورحت انا اتصنعه ايضا الى حين .



#داود_سلمان_الشويلي (هاشتاغ)       Dawood_Salman_Al_Shewely#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اوراق المجهول - رواية متسلسلة
- ورقتي التي قرأتها في الحفل التأبيني للأديب الراحل (( محسن ال ...
- حرق سعدي يوسف
- القصة في ذي قار - مقترب تاريخي ... عبد الرحمن الربيعي انموجا
- التحول المجاني - رحلة الشيخ من مرجع الى علامة-
- فليحة حسن والقصيدة ألايروتيكية !
- رحلة في الذاكرة -النقد والدراسات-
- ذكريات - 1 -: - ابن المدينة الحارة في مدينة الثلج-
- قانون الشمري للاحوال الشخصية الشيعية وعمر البنت
- ليس دفاعا عن المرأة ( مناقشة حديث نبوي )- ( ملف بمناسبة 8 ما ...
- ذكريات : 4
- العراق تحت احتلالين
- السياب والذكريات الاولى
- ذكريات مع الشاعر رشيد مجيد - 3
- الشعر خارج منطقته - ليس دفاعا عن الشاعر سعدي يوسف -
- هل مات مانديلا ؟
- ذكريات مع الشاعر رشيد مجيد - 2
- ذكريات مع رشيد مجيد
- - عاشوراء - الذكرى والتأسي
- رسالة حب الى المثقفين والادباء والفنانين


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود سلمان الشويلي - اوراق المجهول - رواية متسلسلة - الفصل الثاني والثالث