أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (71)















المزيد.....

منزلنا الريفي (71)


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4682 - 2015 / 1 / 5 - 05:30
المحور: الادب والفن
    


عودة إلى البدء (3)

يقول الفيلسوف سارتر : " عندما تختار، فإنك تختار للآخر ، هكذا حينما أحببت جميلة، فإنني اخترت أن أحبها، ولما اخترت ذلك، اخترت لها أن تحبني، ومن ثمة تكون الحياة هي سلسلة من الاختيارات، ونفس الشيء حصل في المكان الذي تواعدنا فيه على الغرام، لقد اخترنا ذلك الكوخ الصيفي المهجور القابع أسفل التل، والمجاور للوادي، كنا نلتقي فيه على الدوام بمحض اختيارنا. وفي الوقت الذي قررنا أن نضع حدا لحبنا مضى كل واحد في طريقه، وبين لحظة وأخرى عليه أن يختار اختيارا من سلسلة من الاختيارات، وكل اختيار يكون مرفوقا بالمسؤولية، فإذا تكلمت عن فشل العلاقة، فأنا المسؤول عن فشلها بقدر ما هي مسؤولة عن فشلها، لذا تكون العلاقة برمتها فاشلة، لأنها أريد لها الفشل، فلكل فشل صانعوه.
كانت جميلة فتاة رشيقة، تمتاز بشعر مسدل يتماوج على كتفيها، أما قدها فكان نحيلا، بينما بشرتها بيضاء ككل المدينيات، كانت تعشق الوادي، وتحب امتطاء الحمير، ورعي الأبقار، كل صباح تطلق بهائم جدها، وتتردد على كوخنا (عشتنا)، نتناول الفطور الذي أعدته أمي، ونهيم نحو المرعى، وعلى رؤوسنا قبعات مصنوعة من نبات الدوم (ترازات)، بينما في أيدينا بعض الأواني لكي نقطف التين، ونعود به إلى أكواخنا. فحينما ننتهي من توريد المواشي، وممارسة السباحة في بحيرة (كلتة ) بوغابة *، نتسلق حقول التين (الكرم)**، فنملأ الأواني. كنت أتسلق الأشجار، بينما جميلة تبقى ماكثة على الأرض، وعندما أعثر على تينة، أنادي عليها، فتستقبلني بآنية، فأرمي في وسطها التينة، وفي الوقت الذي ننتهي فيه نغادر أدراجنا صوب الأكواخ .في بعض الأحيان ننسى حمل الأواني، فنقتلع سمارة، ونعقدها من أسفلها، ونرتب فيها حبات التين.
نقترب من الكوخ، فيلوح لنا دخان أزرق يضاجع السماء، إنه كوخنا، وفي وسطه تقبع أمي وهي تطهو وجبة الغداء على نار مشتعلة، لم نكن نتوفر على قارورة غازية (بوطة)، وإنما كنا نطهو طعامنا على حطب تجمعه أمي من الغابة المجاورة، أو من الروث الجاف الذي كنت أجمعه بمعية جميلة حينما كنا نجوب التيرس*** على متن الحمار. كان غداؤنا المفضل هو البطاطس المقلية الممزوجة بالفلفل والطماطم، ناهيك عن الشاي، فنتناوله بلذة ونشوة كبيرتين، وبعد برهة تستقبلنا الأكمة، فنلعب الأرجوحة، كنت أدفعها بقوة، فكانت تشعر بنشوة عظيمة تحثها حثا على تقبيلي، ثم يأتي دوري وهكذا، حتى يأتيني صوت صادر عن العشة :
- رضوااان. وااارضوان. توقف عن اللعب وامضي لكي تطلق المواشي !!
كانت الشمس متكورة في السماء، كانت تصفعني وأنا أمتطي الحمار، بينما جميلة تجلس خلفي كالملاك، كنت أنغزه فيرفع رجليه الخلفيتين إلى السماء، محاولا إسقاطنا، تصرخ جميلة، فأتوقف، ثم أضربه ضربتين، فأستحثه على الإسراع، فيعدو على مشارف الوادي، هناك تستقبلنا حقول التين، فنطلق البهائم، ونمضي نحو الوادي، فنستمتع بجريانه، وبعد برهة نصل إلى الكوخ.
كان الكوخ يتحيز قرب الوادي، يتكون من حواجز (خصاص) مأخوذة من السمار والبرواك، مع مجموعة من الأكياس يتم رفعها بواسطة عمودين تتوسطهما خشبة أفقية تكون مشدودة بأوتاد مغروزة في الأرض. تعود ملكية الكوخ إلى الحاج الميلودي الملقب بالحريري، وهو رجل ينحدر من الساحل****، ترك كوخه وعاد من حيث أتى، لقب بالحريري لأنه يحب الحساء، لكن زوجته لم تكن تجيد طهي الحساء، فكان يشعر بتذمر نحوها .
ترك الحريري منزله مهجورا، وفي المساء كنا نتسلل إليه، فنمارس الحب، وذات يوم تركنا المواشي فداهمت حقول الحمص والذرة، ومكثنا طويلا في الكوخ، فإذا بالأهل داهمونا، فررنا ذلك اليوم من أعشاشنا وبتنا في العراء، وفي الصباح أرسلتني أمي إلى الساحل، ومنذ ذلك اليوم غاب عني وجه جميلة.
لم أعد إلى العزيب***** إلا بعد مرور أسبوع، قيل لي أن جميلة لن تعود إلى الريف، أخذتها أمها ورحلت إلى المدينة، أصبح المرعى مغطى بسحابة كئيبة في السماء، أما الحصيدات فلم يعد يكتنفها البياض، بل السواد الذي طفا كالسراب، بينما البرنيشات****** اكتنفها البياض كالمحال، ذهبت في ذلك اليوم قرب الوادي، نظرت إلى صفحة الماء، فطفا وجهي ممتقعا، رميت حجرة، فانكسر وجهي، شعرت بالخوف، فوليت هاربا مناديا بأعلى صوتي :
- جميــــــــرضوان ...
ينفجر صوتي في أدغال الوادي، والغبار من خلفي، والشمس ارتمت في الأفق تاركة الظلام يعمر كياني ...
---------------
لماذا وجدنا ؟؟ هل وجدنا لأنفسنا أم لغيرنا ؟؟
أمي كانت تقول لي : ينبغي أن ترافق المواشي أينما حلت وارتحلت، بينما ذاتي كانت تقول لي : يجب أن ترافق جميلة أينما ذهبت، فهي ذاتك الأخرى، وظلك الهارب !! حاولت أن أمزج بين الموقفين برهة، لكن الذات تشظت ككومة من الغبار، فما العمل إذن ؟؟
---------------------
يوم 25 نونبر 2008 – ثانوية الشريف الإدريسي بنسليمان/ المغرب – القاعة 9
كبرت الأزمة في كياني، ومع مرور الوقت همدت كما يهمد بركان مسعور، لكن في ذلك اليوم، وفي تلك القاعة الباردة، كنت أجلس على طاولة مهترئة رفقة مجموعة من التلاميذ ونحن ننتظر بلهفة درس الفلسفة، يمثل أمامنا الأستاذ الهاشمي بكاريزميته، وبعد هنيهة يكتب على السبورة عنوانا عريضا :
* وجود الغير .
ويتوجه نحونا بالسؤال التالي :
* لماذا وجد الإنسان ؟؟
نتجمد في أمكنتنا من هول السؤال، ويتسرب في كياننا فنتشظى كالحطام، بينما نغلي في دواخلنا كفورة بركان !!! عظيمة هي الفلسفة بجلال السؤال الذي يتقصى الأصول ويمتح من الجذور ..طفت جميلة كوردة أينعت قرب الوادي . من أجل من وجدت يا جميلة؟؟؟ تصمت كمومياء وتختفي كالفراغ، وتموت كالأحلام، ويبتلع الزمان ذرة الإمكان، ويشمخ الضياع، كوحش يبتلع الغبطة والأفراح .
أغيب غيبة طويلة، وتوقظني فرقعة سارتر : إن الإنسان مشروع، وجد من أجل ذاته، فهو الذي يصنع ماهيته، ومحكوم عليه بالاختيار، فيحطم كافة الأغلال والقيود النفسية والاجتماعية والتاريخية ، الأوهام، الأوهام !! ما كانت تقوله أمي سراب، وما كانت تقوله جميلة هراء، الحب خراب . وجودنا اختيار، كل حب له بداية وله نهاية!! إسفين هو الماضي، قيد هو الحاضر، فلنشيد مشروعنا الذي يولد في غضون المستقبل !!
----------------------
* بحيرة بوغابة هي أوسع بحيرة من بحيرات وادي النفيفيخ في المنطقة الكرزازية، تتميز بعمق كبير يصل إلى أربعة أمتار، سميت بهذا الاسم نظرا لأنها تحيط بها كثافة من نبات الدفلى، كما يجاورها حيز ترابي يسميه الكرزازيون الدزيرة" (الجزيرة) كون الوادي ينشطر إلى قسمين خلال فصل الشتاء .
** يقصد بالكرم غابة من التين كانت تجاور وادي النفيفيخ، وهي ليست بعيدة عن القنطرة التي شيدها الاستعمار الفرنسي، أما الآن فقد تلاشت هذه الغابة إما نتيجة تدخل الإنسان، أو الرعي الجائر، أو فيضان الوادي .
*** تربة سوداء صلبة و خصبة تتواجد في الضفة اليسرى للوادي، يرتحل إليها الكرزازيون كل صيف قصد النجوع والعزيب .
**** الساحل هو منطقة مرتفعة ذات تربة قليلة الخصوبة، وهو مجال رعوي يتموقع في الضفة اليمنى لوادي النفيفيخ. يستقر فيه الكرزازيون أثناء فصل الشتاء.
***** يقصد بالعزيب ظاهرة النجوع والترحال في المجتمع الكرزازي، إذ يعمل الكرزازيون على الترحال بين الشمال والجنوب، فخلال الشتاء يستقرون بالساحل أي الشمال، وخلال الصيف يستقرون بالتيرس أي الجنوب، ويعتبر وادي نهر النفيفيخ هو الحد الفاصل بين المجالين، لكن الملاحظة الأنثروبولوجية تبين أن ظاهرة العزيب تنحو نحو الانقراض، والأمر يعزى إلى تقلص المجال الرعوي، وفي الآن نفسه تقلص المواشي نظرا لتوالي سنوات الجفاف والهجرة.
****** البرنيشة هي قطعة أرضية تمت زراعتها من قبل الأهالي بالحمص أو الذرة، وتكون أكثر خصوبة في الموسم الموالي أكثر من الحصيدة .



#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منزلنا الريفي (70)
- الرماد 2
- منزلنا الريفي (69)
- كنت الوحيدة
- حلم النهضة
- شرارة كلمات
- منزلنا الريفي (68)
- سأكتب لك أغنية
- أغصاني الميتة
- منزلنا الريفي (67)
- خربشات المحال
- منزلنا الريفي (66)
- منزلنا الريفي (65)
- منزلنا الريفي (64)
- منزلنا الريفي (63)
- حلمة الأثر
- منزلنا الريفي (62)
- منزلنا الريفي (61)
- منزلنا الريفي (60)
- شمس الخريف


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (71)