أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (70)















المزيد.....

منزلنا الريفي (70)


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4680 - 2015 / 1 / 2 - 10:52
المحور: الادب والفن
    



عودة إلى البدء (2)

في ذلك الزوال الغابر، كانت أمي تبكي، لست أعلم هل كانت تبكي حقا أم تبكي في داخلي ؟؟ جلست قرب صخرة موحشة تحف من حولها الغربان، كبرت مخاوفي وهواجسي، فلم أعد أستطيع أن أنظر إلى ما يدور من حولي غير صوت راكد يأتيني من بعيد "عبد الإلااااااه "، أحس بتأنيب الضمير. أكان بوسعي في ذلك الصباح ألا أغادر المنزل وأبقى في حضن أمي ؟؟ كلا !! العصفور مهما بقي في العش، فإنه سيأتي اليوم الذي يطير فيه، ويعانق السماء محاولا تقليد النجوم. هذا ما حصل في ذلك الصباح، اجتزت التل المجاور لمنزلنا الريفي، والتحقت بموكب القطعان الذي كان يقوده أخي صوب مرعى فدان ضبعة *"، إنه مكان موحش يبعث على الرهبة، تتخلله نباتات شوكية كثيرا ما علقت بها ملابسي، غير أن أعشابا صغيرة كانت تنمو جوارها تبعث على الحياة. كان يغريني الناي الحديدي الذي صنعه أخي، فبمجرد ما ينفخ فيه حتى تنبثق من داخلي أحلام وأماني كأن أرحل وأخرج من طوقي ومجالي وأذهب بعيدا. ما يتميز به الريف هو الأفق، عندئذ يمكن أن تحدد المسار أو الطريق الذي يأخذك نحو تحقيق أحلامك. جلست فوق صخرة مومن "** المفعمة بالصفرة، لاح الأفق بعيدا والنعاج تمضي من تحتي متجهة نحو المرعى، في تلك اللحظة راحت أمي تنادي، فمضيت في طريقي دون مبالاة، فجأة تراءى أمامي الوادي، تبدى لي كطفل صغير خرج من عرين أمه، وأمسى يتهادى في مجراه العميق نحو لجة البحر، هناك يضاجع المجهول والشمس تنير طريقه. كانت أحلامي صافية وملابسي متسخة، في أحلامي كنت أضحك، وفي واقعي أبكي، وحيد أنا في هذه اللحظة، أربض ككيس صغير فوق صخرة عظيمة، حتى نعالي خانتني، لقد تمزقت في الطريق، وراحت الأشواك تلسعني. أخي التحق بجماعة الرفاق، وراحوا ينصبون الشباك لصيد الأسماك . ماذا بقي إذن ؟؟؟ بقيت أنا، بقيت النعاج، بقيت صخرة حويميد*** أسفل فدان ضبعة !! كبرت هواجسي ومخاوفي من هذه الصخرة، قيل أن زوجة حويميد تربي الغربان، فتهاجم بها الأطفال والحملان، كبرت هواجسي، وأصبحت أعتصر بالعرق، ظهرت لي هذه المرأة بأظافر حادة كالسكين تمزق الأطفال إربا إربا. شرعت في البكاء، خشيت أن تسمعني، ما عدت أبالي بالأغنام، تذكرت أمي، عجزت أن أعرف مسار العودة، كنت أنشج، لم أعثر على صدر يضمني، الشمس بدت في السماء تتفرج. بعد برهة راح الأطفال يخرجون من المدرسة الرابضة في قعر التل، إنها العاشرة صباحا، أخي الذي يكبرني بسنتين يدرس هناك، كيف يمكنني أن أعثر عليه وسط جموع كالنمل ؟؟ خفت من المجهول !! ألا يمكن أن تعترضني زوجة حويميد في الطريق ؟؟ ازدادت خشيتي، فبقيت في مكاني أتجرع أحزاني، ظهر لي الوادي كئيبا تلعنه أمه، احتجزه البحر، فلم تعد له هوية أو وجود. طفا كهيكل فاقد للروح، جاف، ماتت سلاحفه وأسماكه، أما أخي الراعي، فقد انتفى من الوجود. أستجمع قواي، وأهم بالذهاب نحو تلك الجموع التي تبدو صغيرة كرسوم متحركة، بدت المسافة قصيرة، سرعان ما اتسعت كرحابة الكون. تطفو فتاة جميلة ذات لون قرمزي، طفا أمامها طفل يبكي، فاقد نعاله، كان شعره أسودا داكنا، مع وجه وسيم تبدو عليه علامات الحياة، هرعت نحوه، ضمته بحنان ملائكي، اعتبرته فأل خير، ربما يكون بشرى عريس قادم، كانت تلك الفتاة التي ضمتني ناهدة، مع شعر مسدل تغطيه بمنديل أبيض، لا يغطي الرأس بأكمله. بادرتني بسؤال أزال حجاب الخوف :
- ما بك ؟؟
أجبتها على الفور والدموع تسيل من عيناي :
- أخي حسن تركني وذهب !!
- عن أي حسن تتحدث ؟ ابن من أنت ؟؟ ما الذي جاء بك إلى هنا ؟؟؟
- حسن أخي !! ألا تعرفيه ؟؟
- آه حسن ابن خالتي نعيمة !!
- نعم جئنا إلى هنا لكي نرعى الأغنام، تركني وذهب من أجل أن يصيد الأسماك !! أنا لم أعرف كيف أعود إلى المنزل !!
دعتني لكي أقترب منها، لثمت قبلة على خدي، وحملتني إلى منزلها، قالت لي أنها ستتبناني وأعود ابنها، أحسست بخوف كبير أكثر من ذي قبل، لكن دموعي توقفت عن السيلان، أنزلتني على شفا المنزل، نادت أمها العجوز، وقالت لها :
- انظري بمن جئت ؟؟
- تبارك الله ولد من هاذ الزين ؟؟
- ولد نعيمة مرات عبد الله، خلاه خوه ومشى لواد، كون ملقيتوش كون مات بالبكا !!
قبلتني المرأة العجوز، وقالت لي :
- دخل أوليدي تشرب أتاي !!
تجرعت شايا لذيذا، وعيناي لا تفارقان تلك الفتاة المنقذة، لكن في داخلي أمي وأخي والأغنام، كما أخشى من فكرة التبني، أطلقت موسيقى، غير أنها لم تنفذ إلى كياني. أريد أن أبحث عن أخي، وكأن العجوز فهمتني قالت لي :
- سيعود ابني جواد من الحانوت وسيأخذك عند أخيك .
أحسست بفرج وجداني، أطلقت نظرة على البيت، بدا قزديريا، لا يختلف عن بيتنا القروي، الذي كنا نتكوش فيه جميعا، لا فرق، كلنا من الريف، ريف الدموع والفقر والجراح، منازلنا مجروحة كأجسامنا التي تلسعها الأشواك، ويهدها العياء الناجم عن الفقر المدقع، المرأة العجوز امرأة طيبة، عيناها ساهمتان، وضحكتها تفيض بحنان أنثوي غابر، أما ابنتها التي انتشلتني فكانت قمرا في الكون الواسع. ودعتها في ذلك الزوال بعينين كابيتين تكتنفهما العبرات، ولاح الوادي بمياهه المدرارة يستقبلني بحرارة، كنت خائفا، وها هو أخي يلوح في البعيد، وبمجرد أن رآني صاح :
- أين تركت الأغنام ؟؟
أجبته وأنا خائف :
- تركتها هناك ( لأنني لا أعرف المكان) !!!
كاد أن يلطمني على خذي لولا أن رفاقه منعوه، وأخذني من يدي وصفعني بقوة وقال لي :
- اليوم لن تعود إلى المنزل حتى تتعلم السباحة !
ملأني رعب مهول، واكتنف جسمي خوف عميق، رحت أسأل :
- ما الذي جاء بي إلى هنا ؟؟ أما كان الأجدر بي أن أبقى تحت كنف أمي ؟؟
الوادي لا ينحث الجبال بين برهة ولحظة، ولا يتسلق الهضاب بين آن وحين، إنه يرتمي في العالم الفسيح، فيحدد مساره مع توالي السنين والأعوام، علي أن أقذف نفسي في بحيرة الوادي مثلما قذفت نفسي هذا الصباح، فلو بقيت في المنزل، أكنت سأعرف ذاك الصوت الملائكي الذي ذكرني بأمي حواء ؟؟؟ فماذا لو لم أتلمس ذاك الصدر الناهد ؟؟ أكنت سأعرف قيمة الحياة دونه ؟؟؟ وماذا عن العينين الساهمتين لتلك العجوز، ألا تحيلني على الموت كعدم محيق وجد قبل الآلهة والكون والحياة فانبثقت كفرقعة وعي لأعي من أكون ككينونة وجدت بين العدم والعدم ؟؟
كان الأطفال يتراشقون بالمياه، أحسست بجاذبية نحوهم، أزلت ملابسي، أصبحت طفلا خرج من رحم أمه، وها أنا يقذف بي وسط البحيرة، ولجت القعر، شعرت بأن الموت قد عمرت أوصالي، لم أعرف كيف أسبح، وفجأة أجد أخي قد انتشلني، يصعدني، ثم يرميني ثانية وهكذا ...
تتلاشى تلك اللحظات من قعر الذاكرة، وتطفو أمام مخيلتي شجرة جبوج وارفة، جلست تحتها مرتعدا من هول البرد، كانت تلك الشجرة متاخمة لمقبرة بنت عبو، هناك يمضي سهب خزيت **** حيث يلتقي مع الوادي. " أمي أمي ي ي"، صرخت بأعلى صوتي، وضمني البكاء، ووحشة الفراق، عانقتها بملء الاشتياق، وراحت تأخذني من يدي، فجلسنا تحت الشجرة، وتناولنا الغداء . لم أذكر هل كان أخي معنا ؟؟؟ لعله كان، فالصحن الذي كان أمامنا بدا فارغا !!! وحينما التحقت بالمدرسة، كنت أعود إلى الشجرة لكي أحلم !!
-----------------------------------------
* فدان ضبعة : عبارة عن مرعى شاسع مليء بالنباتات الشوكية، يوجد جنوب دوار بني كرزاز- غرب مدينة بنسليمان، تحكي الرواية الشفهية المحلية أنه كان مأوى للضباع الضارية، فالمنطقة في القدم لم تكن رعوية، بل كانت غابوية كامتداد لغابة الفلين المجاورة لمدينة بنسليمان .
** صخرة مومن : هي صخرة عملاقة توجد وسط بني كرزاز، سميت بهذا الاسم تيمنا بأحد أجداد فخدة ولاد مومن الكرزازية، تحكي الرواية الشفهية المحلية أنها كانت عبارة عن عين، لكنها نضبت الآن ولم تبق إلا الصفرة كلون ممتقع وشاحب يطفو على الصخرة .
*** صخرة حويميد : صخرة صغيرة توجد بمنطقة موالين الواد . كان يقطن جوارها رجل أجنبي يدعى حميد، لقب بحوميد نظرا لبنيته الجسدية الصغيرة وانكفائه عن نفسه .
**** سهب خزيت : هو جدول مائي عابر لدوار بني كرزاز، وأحد روافد وادي نهر النفيفيخ، سمي بهذا الاسم نظرا لأنه كان يفيض على حقل أحد المزارعين، وكان يتردد بلفظة "خزيت " تعبيرا عن حنقه وتذمره .

عبد الله عنتار / 31 دجنبر 2014 / بني ملال المغرب



#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرماد 2
- منزلنا الريفي (69)
- كنت الوحيدة
- حلم النهضة
- شرارة كلمات
- منزلنا الريفي (68)
- سأكتب لك أغنية
- أغصاني الميتة
- منزلنا الريفي (67)
- خربشات المحال
- منزلنا الريفي (66)
- منزلنا الريفي (65)
- منزلنا الريفي (64)
- منزلنا الريفي (63)
- حلمة الأثر
- منزلنا الريفي (62)
- منزلنا الريفي (61)
- منزلنا الريفي (60)
- شمس الخريف
- كئيب الروح والحياة


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (70)