أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - حمزة رستناوي - نظرية الحب والإتحاد في التصوف الاسلامي















المزيد.....



نظرية الحب والإتحاد في التصوف الاسلامي


حمزة رستناوي

الحوار المتمدن-العدد: 1308 - 2005 / 9 / 5 - 08:41
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


لقد قام المتصوفه بتأويل النص القرآني كغيرهم من الفرق الإسلامية ذات المنحنى العرفاني فغدت الشريعة في الرؤية الصوفية ذات منحنيين ، الظاهر: لعامة الناس وللخاصة و هم الفقهاء وعلماء الكلام ، أما الباطن : فهو لخاصة الخاصة وهم المتصوفه أنفسهم .
ما دمنا قد أشرنا إلى إشكالية الظاهر و الباطن ،فالفهم الباطن للنص القرآني أدى في تياره الشيعي إلى ثورات اجتماعية ودينية كان من شأنها تأسيس أكثر من دولة في مرحلة تاريخية ، فإن الفهم الباطني الصوفي للقرآن والحديث أدى بالمتصوفه إلى الانسحاب من العالم انسحابا كاملا،وتعميق التجربة الداخلية، وتطوير الطاقات الاستبصارية للفرد،وبالتالي الدخول في تجربة الحب الإلهي والسقوط في مهاد الشطح،و’’انحرافاته‘‘ عروجا نحو الله.
بما أن معرفة الله الحقة لا يعرفها سوى الله كما يقول الإمام الجنيد،إذا لا بد للصوفي المتطلع إلى معرفة الله من إقامة ضرب من العلاقة الجدلية مع الله عبر نظرية الحب الإلهي،صحيحا أن هناك اختلافا جذريا بين الله والإنسان،إلا أنه ليس اختلافا بالنوع،وإنما اختلافا بالدرجة، باعتبار الله خلق الإنسان على صورته.
ولكن ما هي الملامح العامة والبواعث التي أدت إلى ولادة التصوف الإسلامي؟!
أولا : الاحتجاج على السلطات القمعية الحاكمة وزعمها الباطل بتطبيق الشريعة الإسلامية
ثانيا : كان التصوف ردة فعل على التفاوت الطبقي وسوء توزيع الثروة في المجتمع،الأمر الذي يتناقض مع جوهر الإسلام
ثالثا : الفساد الاجتماعي وزيادة الترف والإسراف أدى إلى ضرورة الالتجاء إلى الله عبر التقي والورع المتشدد
رابعا : التصدي بشكل أو بأخر للفكر النصي الذي يمسك بزمامة الفقهاء، ولعل كلمة الحسن البصري حين ما سأله عمران بن نصير عن مشكلة شرعية،وأورد له رأي الفقهاء فيها حيث قال الحسن البصري للسائل " وهل رأيت فقيها بعينيك؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا البصير بدينه،المداوم على عبادة ربه عز وجل"
خامسا : الاحتجاج على العقلانية البرهانية التي أنتجها الفلسفة وعلماء الكلام الذين أكدوا على العقل البرهاني،وأهملوا القلب والوجدان، مما حدا بالتيار الصوفي إلى استبدال العقل بالقلب،واعتماد الحدس بدل من المنطق .
لقد استهدف الصوفية من حيث يعملون أولا يعلمون تجاوز كل الأشكال المطروحة أمامهم من سلطوية وفقهية وغيرها ليحققوا ارتباطا مباشرا بالله عن طريق العرفان والحب الإلهي ،الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى القول بالإتحاد ووحدة الوجود كما سنرى بعد قليل.
فلو تصفحنا الأعمال الموسوعية للمتصوفة لوجدنا أنفسنا حيال أرض خصبة وينابيع ثرة من الأقوال التي ترصد المعطيات الأساسية لتزاوج الحب الإنساني بالحب الإلهي ، وتبرز فيه المرأة كرمز أساسي،وكتعبير أصيل عن الحب الإلهي. وروايات صاحب حلية الأولياء، وصاحب الرسالة القشيرية، والمكي صاحب قوت القلوب ،وكما روايات صاحب اللمع، كثيرة جدا في هذا الصدد، نورد منها أن أبا الحسن السري السقطي كان يناشد قائلا
ولما ادّعيت الحب قالت كذبتني فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتى يلصق الجلد بالحشا وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحلّ حتى لا يبقّي لك الهوى سوى مقلة تبكي بها أو تناجيا
فالحب هو محور التجربة الإنسانية وهو محور الوجود، فلا شيء عندهم أكثر ضياعاً ووهما ًمن الحب الجسدي الذي يفرق بين الناس لا يجمعهم.

قال الشبلي : ذكر المحبة يا مولاي أسكرني
وهل رأيت محبّاً غير سكران
فالحب الروحي هو من يجعل الصوفي سلطان زمانه، إنساناً سعيداً في حياته. بينما إنسان العصر، كائن بائس مهزوز يفتري على نفسه، كما يفتري عليه الآخرون وذلك عائد إلى سبب بسيط جداً، كونه لم يستوعب بعد حكمة الحياة المتمثلة بالحب ،أو كما يقول ابن عربي :
أدين بديني الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
لقد شهد النصف الثاني للقرن الهجري الثاني ولادة التصوف كتطوير لفكرة الزهد المتفشية في المجتمع العربي الإسلامي آنذاك، وقد أخذا لتصوف الإسلامي فيما بعد مساراً أكثر عمقاً، محققاً نقلة كبرى من التصوف الزهدي إلى التصوف الفلسفي مرورا بالتصوف التأملي، فدخل مرحلة الإلهام والإشراق والشهود والتجلي والمكاشفة ، فمهمة الصوفي إقامة جسر تواصلي بين الإلهي والإنسان عبر بعض الأحوال والمقامات التي يصل إليها الصوفي بالمجاهدة، فالأحوال لدى الصوفي كالخوف والرجاء والقبض والبسط تأخذ طابع تناقض، وهي كما يعرفها الجنيد
"الحال النازل" حيث تهبط على الصوفي، وتحل فيه فجأة، وبشكل مؤقت، و بالتالي هي موهبة ،بينما المقامات مكتسبة يحققها الصوفي بالمجاهدة كالتوبة والورع والزهد والحب والمعرفة وسواها، وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن المعرفة الصوفية فردية باعتبارها حصيلة الطابع الذاتي للتجربة، حيث يحققها بالموهبة حيناً وبالمجاهدة حينا أخر ، أي بالأحوال والمقامات عبر محاولة فردية لعبور اللامتناهي .
يرصد الراشد في كتابه هذا’’نظرية الحب والاتحاد في التصوف الإسلامي,, التطور الفكري الموازي للتجربة الصوفية عبر تسلسل زمني يمتد حتى أواسط القرن الخامس الهجري وذلك عبر خمسة فصول .

الفصل الأول: من الحب إلى المعرفة
يحدثنا عن" أول المحبّين" إبراهيم بن الأدهم ،هذا الرجل الفذ الذي تخلى عن الإمارة وحياة اللهو والترف عقب نداء أو هاتف غيبي هتف به "يا إبراهيم ما لهذا خلقت ، ولا بهذا أمرت " فقال الرجل في نفسه بعد ذلك مباشرةً " والله لا عصيت الله بعد يومي ذا ما عصمني ربي " فانطلق في الترحال باحثاً عن الحقيقة ، ويروي ابن عساكر أنه جاهد نفسه كما جاهد البييزنطين على السواء وذات مرة قيل له أن اللحم قد غلا سعره يا إبراهيم ، فأجاب قائلاً: أرخصوه أي لا تشتروه وأنشد في ذلك
إذا غلا عليَّ شيء تركته فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
ثم ينتقل إلى الفضيل ابن عياض ، هذا الشاب التائه مصارع الغواني وملاحق الليالي الحمراء،وذات ليلة وهو يتسور جدارا للالتقاء بغانية كان على موعد معها،سمع صوتا من البيت المجاور يقرأ الآية القرآنية ( ألم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ما انزل من الحق ) وحين ما رنّت الكلمات الإلهية في أذنيه وغزت قلبه ، قال في نفسه:بلى يا رب وبذلك دخل الفضيل بن عياض ـ في طرفة عين ـ عالم التصوف ، ويروي أبو علي الرازي الذي صحبه ثلاثين عاما ، أنه لم ير الفضيل ضاحكا ولا باسما سوى اليوم الذي مات فيه أبنه ، ولما سأله الرازي متعجبا من الضحكة أجاب الفضيل (إن الله أحبَّ امرءاً فأحببت ذلك )0أي أنه دخل مرحلة جديدة غدا يحب فيها فقط ما يحبه الله ، ولو كان ذلك مصيبة بالنسبة له . وأما شقيق البلحني فقد عمّق مسيرة الزهد والصفاء الروحي عن طريق فلسفة الزهد نفسه ، لذلك نجده يقول (ميّز بين ما تعطي وُتعطَى : إن كان من يعطيكَ أحبُّ إليكَ فإنَّك محبٌّ للدنيا ، وإن كان من تعطيه أحبّ إليك فأنّك تحبّ الآخره) وشقيق البلخي هو أول من تكلم في الأحوال حسب ظن أبي عبد الرحمن السلمي "1"ورغم ذلك فهو لم يتكلم في الحب الإلهي ، ولم تتضمن رسالته (منازل أهل الصدق) كلمة صوفي أو تصوف ، ولعل ذلك عائدا إلى عدم شيوع هذا المصطلح في ذلك الوقت المبكر من المسير الصوفي
ورابعة العدوية إذ يروي أن أمير البصرة محمد بن سليمان خطبها بقصد الزواج على مهر قدره مائة ألف دينار ، مع مرتب شهري قيمته عشرة آلاف ، فكتبت إليه ما يسرني أنّك عبد لي، وأن كل ما تملكه لي، وأنك شغلتني عن الله بطرفة عين، وينسب إليها قولها وهي تناجي بارئ الأكوان
ولقد جعلتكَ في الفؤاد محدّثي وأبحتُ جسمي من أراد جلوسي
هذا البيت الذي حرّض فريقا من المؤرخين إلى اتهامها بالحلول في الشطر الأول من البيت، والإباحية في الشطر الثاني، ومهما يكن من أمر فهذا فيه بحث ونقاش ،ألم تقل عن الكعبة (هذا الصنم المعبود في الأرض ، وإنه ما ولجه الله ولا خلا منه؟)
فالله حاضر في كل زمان ومكان ،فعندما قالت (ما ولجه الله)فهي في قولها على صواب لأن الولوج يقتضي المادية والشيئية ،والله فوق ذلك كله، وكذلك حينما قالت (ولا خلا منه) فالله في كل مكان ، ولعل رابعة حيّدت في مقولتها هذه حول نظرية وحدة الوجود دون وعي منها أو قصد ،ومقولتها هذه تعد جرأة في الصدر الثاني من القرن الثاني للهجرة.

الفصل الثاني : من المعرفة إلى التوحيد
ونتوقف هنا عند معروف الكرخي وتلميذه السري السقطي ،حيث يروي لنا الأخير (رأيت معروف الكرخي في النوم كأنه تحت العرش ، فيقول الله لملائكته من هذا؟ فيقولون: أنت أعلم يا رب ، فيقول :هذا معروف الكرخي سكر من حبي ،فلا يفيق إلا بلقائي )وأما السري السقطي فيعدّ من السابقين الذين رمزوا للحب الإلهي بالأنثى فنجده يقول :
ولما ادّعيت الحب قالت كذبتني فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا .
وكذلك نقف عند ذي النون المصري ،باعتباره أول من تكلم في ترتيب الأحوال ومقامات الأولياء ،فقد صدرت عنه بعض الأقوال الجريئة التي أتاحت لمعاصريه اتهامه بالزندقة ، بل إنهم سعوا لدى الخليفة المتوكل حيث استدعاه من مقامه بمصر إلى بغداد ،وبعد اللقاء أعجب به المتوكل وفاضت عيناه بالدمع، ،وعلى صعيد أقواله الكثيرة قوله حينما سئل (بما عرفت ربك ؟قال :عرفت ربي بربي ، ولولا ربي ما عرفت ربي )والجدير بالذكر أن الدكتور مصطفى كامل الشبيني قد أشار إلى صلة ذو النون بالأسرار الإسماعيلية ، كما يستشف من قول ذو النون (من أراد طريق الآخرة فليكثر مساءلة الحكماء و مشاورتهم ، وليكن أول شيء يسأل عنه العقل ،لأن جميع الأشياء لا تدرك إلا بالعقل )

الفصل الثالث : من التوحيد إلى الفناء
في هذا الفصل نقف عند أبي سعيد الخراز أول من تكلم بالفناء ، متأثراً بالغنوصية وفلسفات الهند القديمة ، ولعل العبارات التالية التي يرويها عنه ابن الجوزي تعزز ذلك إلى حد بعيد(أكبر ذنبي إليه معرفتي إياه)هذه اللهجة المبكرة والتي سنلمحها بعد بوضوح كبير لدى البسطامي والحلاج تؤكد ذلك. أما الجنيد المتوفي 297للهجرة فكان عقليا ونصيا ووجدانيا ، لذا عارض متصوفة عصره الذين قدموا الحقيقة على الشريعة ، فأكد على الشريعة والمعنى النصّي بكل ما أوتي من قوة، حتى أن المستشرق هنري كوربان يقرّ بأن النقطة الأساسية الثانية في مذهبه (تظهر في عقيدة التوحيد ، باعتبارها أساس تجربة الاتحاد الصوفي ،وليس من شك في أن الجنيد قد اختص هذه المسألة في كل شمولها ، وكرّس كتابا كاملا ، فالتوحيد بالنسبة إليه ليس حجبا عقلية كما يفعل اللاهوتيون وعلماء الكلام ،وإنما هو عيش لوحدة الله المتعالية نفسها )"2"وهذا حسب رؤية الجنيد توحيد الخواص ، أي التوحيد المؤدي – بالضرورة- إلى الفناء في الله، ولو عدنا إلى دفاع الجنيد عن شطحات أبي يزيد البسطامي لتمكنا من الإمساك بطرفي الرؤية الصوفية لدى الجنيد ،أعني تمسكه بالظاهر ، وإيغاله بالباطن، بحيث يقول الجنيد (ألم تسمعوا مجنون بني عامر لما سأل عن اسم نفسه فقال: ليلى، فنطق بنفسه ،ولم يكن من شهود إياه فيه ؟)
لقد فتح الجنيد فتحا جديدا في عالم التصوف الإسلامي ،فكان من أوائل القائلين بالحقيقة المحمدية والنور المحمدي والإنسان الكامل ، ذلك أنه في إحدى رسائله يؤكد فكرة الوجود السابق على البدن التي أقام عليها الصوفية نظرية الحقيقة المحمدية والولاية .

الفصل الرابع من الفناء إلى الشطح
نقف عند أبا حمزة البغدادي "متوفى 289للهجرة"حيث أوغل في الفناء، لذلك اتهمه معاصروه بالحلول، دون أن يدركوا بأنّه راح يحوّم حول وحدة الوجود بشكل أو بآخر ،إذ يروي لنا السراج الطوسي قائلا عن أبي حمزة البغدادي أنه كان إذا سمع صوتا مثل هبوب الرياح وخرير الماء وصياح الطيور ،فكان يصيح ويقول: لبيك ،فرموه بالحلول لبعد فهمهم عن معنى إشارته )والشطح هنا لا يعبر عن إشكالية الاتحاد المستحيل التي وصلها فريق من المتصوفة ، وإنما يعبر عن جانب آخر...عن رؤية أبي حمزة بأن الأشياء والأحياء والكائنات كلها بمثابة تجليات عن الله ،فكان يرى الرجل في الشاة صورة من صور التجلي الإلهي ، لذلك كان يقول لبيك ، ولبيك هذه ليست للشاة وإنما لمن كانت الشاة تجلياً له
أما النوري المتوفي في 295 فيمكن الدخول لشخصيته من خلال محنة غلام خليل، و إذا كان رويم حينما وجه إليه الاتهام سارع إلى الفرار إلى بلاد الشام .
فإن النوري، ثبت في مكان إقامته في بلاد الرافدين ، وعاش المحنة بإبعادها كلها كما رواها عمر البنا البغدادي قائلاً " نسبوا الصوفية إلى الزندقة،فأمر الخليفة المعتضد في سنة 264للهجرة بالقبض عليهم،فأخذ في جملتهم النوري ،فأدخلوه ...وتوقف السياف عن قتله،ورفع أمره إلى الخليفة ،فرد الخليفة أمرهم إلى قاضي القضاة إسماعيل ابن إسحاق فسأل أبا الحسن النوري عن مسائل في العبادات فأجاب،ثم قال بعد ذلك : لله عباد ينطقون بالله، ويأكلون بالله، ويسمعون بالله، فبكى إسماعيل القاضي، وقال: إذا كان هؤلاء القوم زنادقة، فليس في الأرض موحد فأطلقوهم".
ونقف عند ثالثة الأثافي أبو بكر الو اسطي صاحب الجنيد و النوري،حيث يبلغ منتهي الفناء فالصوفي يتمركز بالله ويفنى بالله ،باعتبار "حياة القلب بالله ،بل أن بقاء القلوب مع الله ،بل الغيبة عن الله بالله " وفي ذلك منتهى الفناء ، لذلك نجده يهاجم الذاكرين بأفواههم "الذاكرون - في ذكره- أكثر غفلة من الناسين لذكره لأن ذكره سواه"

الفصل الخامس : من الشطح إلى الإتحاد المستحيل
في هذا نقف عند أبو يزيد البسطامي المتوفي 261 للهجرة ، وهو أول من أدخل الفناء المطلق إلى التصوف الإسلامي ، وبشكلٍ يمكن عدّه حلقة اتصال بين نظرية الفناء بالله وصولاً ، وبين نظرية الاتصال بالله إتحاداً ، لا على المستوى الفردي فحسب و إنما على مستوى الكليات والجزيئات ، وإن جاءت بشكل إرهاصات مبدئية وبذور أولية لنظرية وحدة الوجود التي ستتربع على عرش التصوف الإسلامي فيما بعد على يد الغزالي وابن عربي .
تبدو شطحات أبي يزيد التي سنشير إلى بعضها بمثابة نشاز في ذلك العصر المبكر جداً ، لقد كان تركيزه متوجهاً تلقاء الجهر الغير مباشر بالاتحاد عن طريق الشطح ، الأمر الذي حدا بالبسطامي إلى القول بغير مواربه عبر شطحه "أنا الله " و في شطحة أخرى يقول :" أنه دقّ رجل على أبي يزيد داره ،
فقال له : من تطلبه ؟ فقال له أطلب أبا يزيد ،فقال مُرّ ! ويحك، فليس في الدار غير الله "
وفي شطحة أخرى "سبحاني ! سبحاني ، ما أعظم سلطاني" وفي أخرى "حججت أول حجة ،فرأيت البيت، وحججت الثانية فرأيت صاحب البيت ، وحججت الثالثة فلم أرى البيت و لا صاحب البيت " ،و قد أغدق الدارسون على شطحات البسطامي التأويلات من كل حدّ وصوب كما فعلوا مع شطحات أبي الحسن النوري و الواسطي و سواهما بهدف تبرئة الصوفي الكبير و إخراجه من قفص الاتهام ، حيث انقسموا ما بين مؤيد و معارض ، وقليلون هم الذين توقفوا خارج هذه الثنائية ،حيث يقع ذلك خارج دائرة المفكّر به في تلك المرحلة القروسطية ، ولكن ذلك يلقي على كاهلنا مسؤولية كبيرة لإعادة النظر في هذا التراث الغني و المذهل ، على ضوء المناهج النقدية الحداثوية من بنيوية و تفكيكية و تاريخية جديدة و اجتماعية و غيرها .
نصل الآن إلى الحسن بن منصور الحلاج "ت 390هجري" هذا التلميذ العجيب لسهل بن عبد الله التستري،هذا الصوفي المتميز،والثائر الروحي الذي لا يهاب شيئا على الإطلاق،فلم يعمد كغيره من الصوفية إلى الانسحاب من العالم المحيط به ،بل ولج عالمه وكان يتمتع بشخصية غامضة،لا تكاد تطلق أسرارها العميقة إلا لمن هم أهل لها ،وهذا ما يؤكده قوله (أسرارنا بكر لا يغتصبها وهم واهم)وانطلاقا من بنيته المتمردة وأرضيته الثورية التي تريد أن تصنع شيئا ،لم يكتفي بإقامة صداقات ذات منحى أيديولوجي مع عدد لا بأس به من شخصيات زمانه كالأمير حسن بن علي ،والفيلسوف الرازي وأبي سعد الجنابي،وإنما كان يحاول زرع بذور عقيدة ذات خصوصية،وذكرا بن النديم واحد وأربعين مؤلفا أهمها(طاسين الأزل،)واتهم الحلاج بالسحر والشعوذة ومن جملة ما اتهم به محاولة تأليف قرآن خاص به،ولعل هذا ما جعل كثيرا من الدارسين القدامى للتصوف الإسلامي يخشون الخوض في شخصيته،فعلى سبيل المثال يعد السراج الطوسي على رأس الهرم من كل من تحدثوا عن الشطح،ومع ذلك كاد يتناسى شخصية الحلاج،فهو لم يشر إليه في كتابه (اللمع)إلا في ثلاث مواقع وبصورة عابرة،وكان ثالثها مأخوذا من يوم استشهاده،وكذلك نجد عملاقا معتزليا مثل القاضي عبد الجبار ،يصب جام غضبه على الحلاج ، لأنه حسب رؤية "كان يزعم أنه الإله أو أن الإله قد حل به"، وقد رد معظم الباحثين عناصر التفكير الحلاجي إلى جذور مسيحية وغنوصية ومدارس حران والفلسفة الإفلاطونية الحديثة .
يمكننا توضيح رؤية الحلاج إزاء وحدة الوجود في قوله "إني عرفت الأحد ، التي ظهرت منه الآحاد " وهذه العبارة تحمل في طياتها فكرة الفيض كما اعتمدها الفلاسفة ، أو فكرة التجلي التي أخذ بها الصوفية ، فالعبد لا يحقق حضوره الصوفي وفنائه في الله ، ما لم يضع حجاباً بينه وبين الناس والأشياء ، حتى أنه يضع حجاباً بينه وبين أعماله باعتبار"من لاحظ الأعمال ،حُجب عن المعمول به، ومن لاحظ المعمول له ،حُجب عن رؤية الأعمال " أو كما يقول " حجبهم بالاسم فعاشوا ، ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا ولو كشف لهم الحجاب عن الحقيقة لماتوا "
يقول الراشد (إذا ما شممتم هنا وهناك روائح أو إشارات حلولية لدى الحلاج ، فما ذلك إلا نتيجة مؤشرات ثقافية مختلفة ، فهو رجل أراد أن يفلسف التصوف ، مع أنه لم يكن مختصا بالفلسفة ومتفرغا لها )ص192 ويذهب الراشد إلى أن الحلاج إتحادي لا حلولي ، وهو بذلك يخالف الرأي السائد ، يقول الحلاج في كتابه الطواسيين
مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسّك شيء مسّني فإذا أنت في كل حال
و قوله
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحين حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا
يذهب (متز )إلى أن هذه الأبيات تأكد حلوليته ،إلا أن حسين مروة يعمل إلى إطفاء جانب من التحليل عليها موضحا أن "المزج مقولة حلولية ، ولكن نتاج هذا المزج كما صوره الحلاج (فإذا أنت أنا )يتضمن فكرة الاتحادية .فهو ذوبان كل من الأنا والأنت في الأمر دون أن يبلغا مرحلة الإتحاد المطلق أو الوحدة ،لأن ثنائية الروحين مازالت قائمة في الصورة المذكورة "(3)
قد يكون الحلاج تأثر بالتيارات الفاعلة في زمنه كلها ،بل أنه تاثر بها فعلا كالتشيع بفصائله العلوية والإسماعيلية والقرمطية،كما أنه ليس سنيا أيضا.
إن هذه التوهجات كلها ،وهنا تكمن عبقريته كونه استطاع أن يرسخ قواعد تفكيره على ذلك الشمول الذي يحاول الإمساك بناصية الحقيقة ،رغم أنه لم يستطع بذلك إلا بقدر بينما سنجد فيما بعد أن ابن عربي استوعب التيارات الفكرية للفرق الإسلامية كلها،فالحلاج كان يتحرى خلاصه وخلاص الآخرين ،ولعل سموه في الحب الالهي وشعوره بعظمته كثائر، كانت من جملة الأسباب التي جعلت صرخته المدوية (أنا الحق)تخرج من أعماقه ،كما لو كانت صوتا قادما من الملأ الأعلى .
وحسب رينولد نيكسون (إن لفظة الحلول تقابل عقيدة التجسيد المسيحية ،ولا يبدو لنا أن الحلاج أراد بها هذا المعنى) "4".
نكتفي بهذا القدر مع الحلاج لننتقل إلى أبو بكر الشبلي صاحب الجنيد ،حيث كان الشبلي يردد (ليس من احتجب بالخلق، كمن احتجب بالحق عن الخلق )ومما يروي عنه أنه إذا أعجبه بعض ثيابه سارع على قذفها في التنور وإحراقها، فإذا ما احتج عليه من حوله قائلا (هلا تصدقت بهذه الثياب بدلا من إحراقها ؟!)أجاب (ما أشغل قلبي فهو كذلك يشغل قلب غيري )
ولندخل الآن إلى عالم الشطح عند الشبلي ،فقد سأله شاب قائلا:يا أبا بكر لم تقول الله ولا تقول لا إله إلا الله ؟!
فأجاب الشبلي (استحي أن أواجه إثباتا بعد نفي )
وحسب الراشد فإن إشكالية الاتحاد لعبت دورا كبيرا في التصوف الإسلامي حتى خيل إلى القائلين بها أنها حقيقة مطلقة وفي هذا يكتسب التصوف الإسلامي خصوصيته .
ولكن ماذا يخبئ لنا عالم التصوف الإسلامي بعد الشبلي ؟!

الفصل السادس : من الإتحاد المستحيل تطلعا إلى الوحدة
نقف مع عبد الجبار بن الحسن النفري( ت345 هجري ) ذاك المتصوف من نمط خاص ،وكل من يقرأ كتابيه "المواقف "أو"المخاطبات "يلمس تلك النبرة الخاصة والتي تذكرنا بالكتب المقدسة التي أنتجها الشرق،وخاصة كتابات ماني إلى درجة يذهب فيها يوسف سامي اليوسف أنه "نبي مرسل إلى نفسه وحدها " حتى لكأنه التحقيق العلمي لما قاله ابن الفارض فيما بعد:
إلىَّ رسولاً كنت مني مرسلاً وذاتي بآياتي علىَّ استدلت "5"
فالرجل يعاني تأزم خلاقا ، شأنه شأن قلقلة التعبيري والرؤيوي ، إنها أزمة " وصال واتصال بين العالم الأعلى والعالم الأدنى "باعتبار "السوي في المنظور الصوفي ليس موضوعاً للوصال ، و لا العرفان الرؤيوي ، إنما هو حجاب وظلمات تستر أنوار الحق ، وتحول بينه وبين الروح المترع بالصبو إلى العلو "وهذه الرغبة في الوصول الاستبصاري هي التي شحذت خيال النفري على هذا النحو المميز " فلدى النفري ثلاث مستويات للاتصال بالحقيقة ، أدناها العلم ،وأسماها الرؤيا، وبين هذين تقف المعرفة ". ومن أجل هذا يقيم الرجل حواراً أبدياً مع الأبدي ، فالنفري عاش تجربة الحب الالهي ، ولم يكتوي بناره كالحلاج وإنما استضاء به ، فاستغرق الله باعتباره واقفاً ومخاطباً ، فالوقفة نور الله ، والواقف يرى الله وحده ، ولا يرى سواه يقول " الوقفة نار الكون والمعرفة نور الكون".
من يقرأ النفري في المواقف والمخاطبات يلمس أن النفري يترجم رؤيته إزاء الله والإنسان والعالم بضرب من الذهول النشوان،فيقدم نفسه بجراءة متناهية ووضوح كبير، فالخطاب دائما موجها من الله إليه ، وهذه إبانة من النفري بشكل غير مباشر إلى تحقيق التواصل مع الله.
وبعد هذه الوقفة مع النفري نقف مع المنتخب العاني (ت400هجري)وهو حسب الدكتور أسعد علي أحد المتصوفة الذين قالوا بالصدور ،ولم يقولوا بالتجلي ،حيث يقيم المنتخب مذهبه في الإتحاد والوحدة انطلاقا من الحقيقة المحمدية ،والتي تظهر بوضوح في الشطر الثاني من هذا البيت .
هو البيت والعرش المكين لعارف وأول نوره كان لله وحّدا
ويبدوا أن نظرية النور المحمدي،والحقيقة المحمدية،استقاها فريقا من المتصوفة من بعض الأحاديث النبوية(من رآني فقد رأى الحق) وقوله (إني هو وهو أنا ،إلا أنني ما أنا وهو ما هو ) وقوله (كنت نبيا بينما كان آدم لا يزال بين الماء والصلصال )حيث أقام الصوفية المسلمون نظرية الحقيقة المحمدية وتنطلق هذه النظرية من أن الله أول ما خلق نور محمد، ومن نوره خلق العرش والكرسي والقلم وكل شيء، وهذا معنى قولهم يا أول خلق الله . ويبدوا أن المنتخب كان سابقا لعصره في رؤيته إزاء الوحدة ،فنجده يعتمد رموزا عرفانية، فالحبيب والخمرة رمزان لواجب الوجود المطلق ومعرفته،والمنازل التي يبكيها رمزا لدار الخلود قبل فراقها ،ولعله كان بذلك سابقا لكل من جلال الدين الرومي وأبن الفارض
يقول المنتخب
فيا صاحبي والصبُّ في الهوى يناجي بشيء الحبّ من بات يصحب ُ
أعني على وجدي القديم بوقفة على ملعب لم يبق لي فيه ملعبُ
وننتقل إلى أبو سعيد ابن أبي الخير "المتوفى 440 هجري " وهو أول من سن الزوايا الصوفية وفتح آفاقها ، لذا اتجه إلى إقامة حلقات الذكر ،دون أن يسدل الستار على التصوف التأملي بمنحاه الديني الفلسفي في عصره ،ورغم قلة المصادر المتوفرة عنه إلا أن المعطيات تفيد بأنه كان دائم الصمت ،فلا يتحدث إلا لماما كما لم يكن يتناول طعاما إلا بعد غروب الشمس،وكان يسد أذنيه لئلا يسمع صوتا ،ويروي عنه أنه كان يدلي رأسه في فم البئر لا يرفعه قبل أن يتلو القرآن العظيم كله،ورغم ما في هذه الحكاية من غرابة إلا أنها غير مستحيلة الوقوع ، حيث يذهب أبو سعيد ابن أبي الخير موغلا في عالم الوحدة، ولعل الرباعية التالية تؤكد ذلك وتعززه
(قلت :حدثني عن جمالك من الذي يفوز ببهجة سناه ؟
فقال :أنا وحدي الفائز به،ما دمت في الوجود والحياة
فأني أنا وحدي العاشق والمعشوق والعشق والحياة في منتهاه
فأني أنا وحدي العين المبصرة،والجمال الزاهي والمرآة)
وينهي محمد الراشد كتابه نظرية الحب والإتحاد في التصوف الإسلامي محاولا الإجابة عن سؤال محوري
هل الصوفي إنسان حضاري؟!
للإجابة على هذا السؤال يورد الراشد في مقدمة الكتاب ثلاث خطوط متوازية ومتكاملة في حياة الإنسان:
الخط الأول :وهو العلاقة مع الله،وتتمركز على أرضية التوحيد والامتثال الالهي.
الخط الثاني :وهو العلاقة بين الأنا والآخرين،وهذا لا يتوقف عند الاعتراف بالآخر بل يتطلب التعاون معه للوصول إلى أكبر هامش للحقيقة الممكنة
الخط الثالث:وهو العلاقة مع الطبيعة، بمعنى عدم مصادرة حرية الطبيعة والاعتراف بحقوقها وفق القوانين الناظمة لها والتي صاغت وجودها بالأمر الإلهي .وهذا يعني إن أي عدوان على الطبيعة هو عدوان على التقي والورع ...وبالتالي فالعدوان على الطبيعة أو الآخر هو عدوان على الله سبحانه وتعالى( باعتبار الآخر والطبيعة خلق الله)
فالاتجاه الصوفي - حسب الراشد - (لو اعتمد الخطيين الأساسيين معاً , خط إعمار الأرض وبناء الحضارة وتحقيق خلافة الله في أرضه جنباً إلى جنب مع خط التقى والورع لتغيير التاريخ العربي الإسلامي , بل ولتغيير تاريخ البشرية جمعاء بانحراف تطوري ايجابي لا يقل عن مئة وثمانون درجة ).
إن الرأي الذي يطرحه الراشد حول الاتجاه الصوفي ( لو اعتمد ....... ) يصح على باقي الاتجاهات المكونة لبنية العقل العربي :
الاتجاه البرهاني : هل الفيلسوف إنسان حضاري ؟ !
الاتجاه النص البياني : هل الفقيه إنسان حضاري ؟ !
فالسؤال الواحد يطرح عدة أسئلة , والإجابة على هذا السؤال تتم عبر فهم متكامل وشامل لبنية العقل العربي
الراشد يقاضي الماضي بقانون لا يحتمله ، فهناك ظروف اجتماعية و اقتصادية وسياسية داخلية وخارجية أدت إلى ولادة التصوف الإسلامي .
وهذه الظروف أدت فيما بعد إلى انحرافات هذه الظاهرة وأخذها صيغة اجتماعية متخلفة تكرست في عصور الانحطاط .
يقول الراشد (يلوح لي أن الصوفي في جوهره إنسان حضاري بيد أنه ضل الطريق بشكل أو بآخر ، ولطالما كان رواد التصوف الإسلامي أناساً حضاريين اعتباراً من الرسول الكريم صلوات الله عليه وأله ،مروراً بآل بيته الأطهار وصحابته الأخيار ، ففريق من التابعين وتابعي التابعين )
( ولكنما سريعاً ما تحول ذلك الصفاء والتمرد والاحتجاج والثورة ضد كل ما هو خاطئ ، سريعاً ما تحول إلى انسحاب من العالم ، حتى غدا التمرد خنوعاً والاحتجاج خروجاً من دوائر الواقع ....ولطالما أخذ الخوارج على المتصوفة خضوعهم وخنوعهم للسلطات الزمنية رغم ظلمهم وطغيانهم حين ما فضلوا النية على العمل و هذه واحدة ، وثمة نقطة أخرى ألا وهي إسرافهم في القول بالجبر، وإن الإنسان مجبر على حركاته وسكناته )
وتعليقا على نص الراشد
أولاً : نحن نتكلم عن التصوف الإسلامي كاتجاه فكري اجتماعي بالخاصة بدأت إرهاصاته في النصف الثاني للقرن الثاني الهجري ولا نتكلم عن التصوف المقابل للصفاء والزهد أي عن التصوف كنزوع عام لدى الإنسان، ومن ثم لا يجوز اعتبار( الرسول الكريم وأل بيته وصحابته والتابعين وتابعي التابعين) متصوفة بهذا المعنى .
ثانياً :التجربة الصوفية هي بالضرورة تجربة فردية ذات منحى جوّاني ليست قابلة للتعميم و الازدهار على أرض الواقع ،إلا كما وجدت جمهورية أفلاطون ومدنية الفارابي الفاضلة
ثالثاً: السؤال المعلق هو لماذا تحول هذا الصفاء والتمرد إلى انسحاب و رضوخ ؟!
يقدم الراشد في كتابه (نظرية الحب والإتحاد في التصوف الإسلامي من الحب الإلهي إلى دوامات الاتحاد المستحيل ) قصة التصوف الإسلامي وفق انسجام زمني وفكري مدخلا بعدا دراميا تصاعديا على سرده وهو يحاول قدر الإمكان الابتعاد عن المصطلحات الصوفية المتخصصة تماشيا مع روح العصر الحديث،وبذلك يقدم عملا مفيدا قريبا من القارئ الغير متخصص ، وهو عمل غير مسبوق حسب إطلاعي .
يذكر الراشد في مقدمة كتابه أنه (عمد إلى رصد وتجسيد موقف الصوفي بعيدا عن تفصيلات حياته وباقي آرائه المختلفة )ولكن الراشد لا يلتزم بذلك فلا يمكن الفصل بين موقف الصوفي وسيرة حياته ،بل أننا نتعرف على موقفه ليس من خلال الأقوال فقط ،بل من خلال تصرفاته وعلاقته مع الآخرين ضمن السياق الاجتماعي والسياسي، ويبدوا ذلك واضحا عند إبراهيم بن الأدهم و الفضيل بن عياض والحلاج ورويم البسطامي كما رأينا ...فالتيارات العرفانية الإسلامية ذات علاقة عضوية بالسياسة إذ عمدت على توظيف الباطن على الصعيد العقدي المذهبي والسياسي التنظيمي وذلك بالمماثلة بين هياكلها التنظيمية- سياسية كانت أو دينية طرفية - وبين البنية الميتافيزيقية العامة التي نسجت عليها العرفانيات القديمة والهرمسية منها بشكل خاص )"6" فالراشد لا يقدم نظرة موضوعية اتجاه الشخصيات التي يتوقف عندها ،فهو دائما متحمسا لها ومدافعا عنها -وغالبا ما يأخذ دفاعه عنها شكلا تقليديا - فهو ينطلق من رؤية ايمانوية توفيقية ،وكأنه يتقمص آراء القشيري المشهور بدفاعه عن التصوف والمتصوفة في الأوساط السنية ،والذي كرس كل جهده لنفي التهم الموجه إليهم وبخاصة استصغار العبادات ،والقول بالحلول والتصريف الإخراجي المناسب للشطحات ، والتأكيد على الفصل النهائي بين الله والإنسان ،وبين الذات والصفات الإلهية
فالراشد يقول لنا :
1- إن هؤلاء المتصوفة مسلمون منزهون وليسوا زنادقة
2- ينطلق المتصوفة من رؤية قرآنية ونبوية بامتياز ذات مرتكز نصي
3- لا يوجد تعارض بين الشريعة والحقيقة ،ولا يجوز إسقاط العبادات والشعائر بأي حال من الأحوال.
وسأعمد إلى اقتطاف مجتزئات من كتاب الراشد لتأكيد ذلك،فعند حديثه عن الجنيد يقول(عارض متصوفة عصره الذين قدّموا الحقيقة على الشريعة ،فأكد على الشريعة والمعنى النصي بكل ما أوتي من قوة) وعند حديثه عن الحلاج يقول(إن لفظة الحلول تقابل عقيدة التجسيد المسيحية ولا يبدوا لنا أن الحلاج أراد بها هذا المعنى )ويفرد الراشد فقرة كاملة عند حديثه عن الحلاج بعنوان (لا حلول ولا حلولية )
وعند حديثه عن الشطح يقول (صحيح أن الصوفي يؤكد باستمرار أنه مخلوق وعبد للخالق العظيم،ولكنه في لحظات التوتر المبدع يخيل له إنه مخلوق على قدم المساواة مع الخالق على صعيد الأسماء والتحليات .. الأمر الذي يغرقه في ظلمات الشطح )وأركز هنا على كلمة ظلمات التي وصف بها الشطح!!
فالشخصيات الصوفية ينبغي أن نقرأها بعيدا عن التفسير التبريري والأحكام المطلقة المؤيدة أوالمعارضة فالشطحات نصوص أدبية فذة ،ونصوص مشحونة بالمعنى والدلالة تقرأ ضمن سياقها الخاص
--------------------------------------------------------------------------------------------
(1)طبقات الصوفية :ص61تأليف أبي عبد الرحمن السلمي،تحقيق نور الدين شريبه ط2 عام 1986م
(2) تاريخ الفلسفة الإسلامية :ص291تأليف هنري كوربان ،ترجمة نصير جروة وحسن قبيسي ط بيروت عام 1966
(3) النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية :ج2 ص224، تأليف د. حسين مروة ،ط بيروت عام 1980
(4)كتاب تراث الإسلام :ص316،مقال عن التصوف كتبه السير رينولد ألن نيكسون ط بيروت عام 1978
(5)مجلة المعرفة :العدد389عام 1996،ص177 مقال بعنوان مقدمة للنفري، كتبه الأستاذ يوسف سامي يوسف
(6) بنية العقل العربي .



#حمزة_رستناوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جرائم الشرف أم جرائم قلة الشرف
- غرباء في عقر دارنا
- لماذا أحتفل؟!
- أحاديث الرفاق
- أولاد الحداثة الجديدة في مضارب بني غبار
- أرغون و القراءة التاريخية للنص القرآني
- من سلطة العشيرة الى عشيرة السلطة
- الشيطان وطلب اللجوء السياسي
- تخلف دوت كوم
- الرجل القائد للجماعة و صلاة الجمعة
- خدمة بلا علم
- التيار الفلسفي في وحدة الوجود
- المعري وبيداغوجيا المريدين الفاشلين
- حقوق الانسان بين الفاعل والمفعول به
- الفكر الاصولي واستحالة التأصيل
- الجامعات السورية ..منارات تجهيل
- رأس مالي... ورأس فقهي
- الشاعر السوري عباس حيروقة : يسقط في مدار نهد
- نانسي عجرم ..... والفقه الافتراضي
- العرب وشيطان اللغة الابتر


المزيد.....




- إزالة واتساب وثريدز من متجر التطبيقات في الصين.. وأبل توضح ل ...
- -التصعيد الإسرائيلي الإيراني يُظهر أن البلدين لا يقرآن بعضهم ...
- أسطول الحرية يستعد لاختراق الحصار الإسرائيلي على غزة
- ما مصير الحج السنوي لكنيس الغريبة في تونس في ظل حرب غزة؟
- -حزب الله- يكشف تفاصيل جديدة حول العملية المزدوجة في عرب الع ...
- زاخاروفا: عسكرة الاتحاد الأوروبي ستضعف موقعه في عالم متعدد ا ...
- تفكيك شبكة إجرامية ومصادرة كميات من المخدرات غرب الجزائر
- ماكرون يؤكد سعيه -لتجنب التصعيد بين لبنان واسرائيل-
- زيلينسكي يلوم أعضاء حلف -الناتو- ويوجز تذمره بخمس نقاط
- -بلومبيرغ-: برلين تقدم شكوى بعد تسريب تقرير الخلاف بين رئيس ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - حمزة رستناوي - نظرية الحب والإتحاد في التصوف الاسلامي