أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - سلام عبود - قراءة في روايات صدام حسين..دكتاتور كبير وقارئ كبير















المزيد.....



قراءة في روايات صدام حسين..دكتاتور كبير وقارئ كبير


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1307 - 2005 / 9 / 4 - 11:34
المحور: الصحافة والاعلام
    


1

(قراءة في أدب صدام حسين الروائي)


تمهيد لا بد منه
ماذا و كيف ولماذا نقرأ؟
في العاشر والثالث عشر من سبتمبر 2004 نشر الكاتب العراقي فؤاد التكرلي, مقالة عنوانها (قراءة في رواية صدام حسين " اخرج منها يا ملعون") , في صحيفة ( الشرق الأوسط). ولم تكد تمضي سوى أيام حتى انبرى كاتب من العراق اسمه عادل العامل ليرد على التكرلي بمقالة عنوانها (فؤاد التكرلي في حضرة الكاتب الكبير صدام حسين), نشرت في صحيفة المدى العراقية في 26 سبتمبر 2004.
هذه الواقعة الصغيرة, المهملة, والهامشية في حياتنا الثقافية ستكون محور مقالتي, على الرغم من أنني لن أتوقف عند المقالتين السالفتين طويلا, سأخصهما ببضعة أسطر لا أكثر, لأواصل البحث في قضية أساسية ستكون جوهر وهدف مقالتي, التي يمكن ايجازها بالسؤال التالي: لماذا نقرأ؟ ومن خلال هذا السؤال سنعرج على أسئلة ضرورية ملازمة له , منها : كيف نقرأ؟ وماذا نقرأ؟ وهي أسئلة قد تبدو استفزازية, لأول وهلة, لأنها تحاور نصوصا لكتاب لهم شأن معتبر في ثقافة بلدانهم. وفي حقيقة الأمر, أنا أعني ذلك تماما. فالقضية الأساسية في مقالتي هي: كيف تقرأ الثقافة العربية واقعها الثقافي, وبدقة أكبر: ما المهم والأقل أهمية في الواقع الثقافي؟ وهذا السؤال يعني العودة الى الأسئلة السابقة: لماذا وكيف وماذا نقرأ؟ هل تقرأ الثقافة العربية محصولها الثقافي بوعي حقيقي؟ ما الحقيقي وغير الحقيقي لدى حملة هذه الثقافة؟ ما مقاييسه, وما مرجعياته؟
هذه الأسئلة ستميط اللثام عن قضايا ليست بسيطة, أهمها: مقدرة الجسم الثقافي العربي على الاستجابة للتفاعلات الداخلية والمؤثرات الخارجية استجابة حيّة, إضافة الى سبل تحقق هذه الاستجابات ومقدار أصالتها وعمقها. وهي أسئلة تمهيدية غرضها النهائي الوصول الى استنتاج يجيب عن السؤال التالي: هل نحن أحرار حقا في خياراتنا العقلية والثقافية؟

الثقافة بين السمو العقلي والمزابل
من عنوان مقالة عادل العامل نلحظ بوضوح سافر النبرة الاستنكارية, التهكمية. وحينما نمضي قدما في قراءة المقالة يتأكد لدينا هذا الإحساس بعمق. فالمقالة بأجمعها يمكن اختزالها الى جملتين, هما الفكرتان الأساسيتان للنص بأكمله. الفكرة الأولى , هي أن التكرلي " يبحث عن درة في كومة من الزبالة". وقد يفسر القارئ مثل هذه الفكرة على أنها ضرب من اللوم سببه ضعف أدوات التكرلي البحثيّة و إخفاقه في استخراج ما هو مفيد للقارئ مما قرأه . بيد أن فكرة المقالة الأساسية الثانية تقودنا الى منعطف آخر. فالكاتب يختتم عتابه للتكرلي بالقول: " كان الاحرى بكاتبنا الكبير التكرلي, مهما كانت دوافع الكتابة لصحيفة الشرق الأوسط , ان ينفعنا بدلا من ذلك بشيء عن تجربته الادبية الطيبة, او يتناول احد الاعمال القصصية الموهوبة بمثل هذا التأمل النقدي الصبور والموضوعية المهذبة الهادئة"
فمشكلة التكرلي إذن لم تكن قائمة في جانب نقص التأمل النقدي والموضوعية, وإنما تنحصر في أنه قرأ لنا نصا يتوجب علينا أن لا نقرأه, لأنه في نظر الكاتب "كومة من الزبالة". أي أن الموضوع يتعلق بقضية ماذا ولماذا نقرأ, لا كيف نقرأ.
حينما نعود الى مقالة التكرلي ذاتها, نجد أن التكرلي يوجز وجهة نظره, بعد عرض مسهب, بجملة معبرة واحدة: "إنه نص معبر رغم كل شيء". بيد أن التكرلي, الذي أرهق نفسه وأرهق القارئ معه في تلخيص الرواية من أولها الى آخرها, أغفل أن يقول لنا أمرين أساسيين: عمّ يعبر هذا النص؟ ورغم أي شيء؟
تلك هي الأسئلة الجوهرية, في تقديري, التي لم يتمكن نص التكرلي من أن يجيبنا عنها. وهي أسئلة كان من الممكن لها أن تقود الى إجابة مقنعة, كرد مسبق على مقالة عادل العامل أو غيره, تقول له بوضوح تام: لهذا السبب ندرس كومة الزبالة, إن كانت هي حقا كذلك.
"كومة الزبالة" هذه عبارة واجهتنا في زمن قريب سابق, حينما ظهرت الحاجة الى دراسة أدب وثقافة الحرب والعنف في العراق. فعلى امتداد عقدين سيقت أجيال من العراقيين الى محارق متكررة, و" تحت لهيب النار" سارت فيالق من الكتاب والفنانين العراقيين. شعراء, قصاصون, ممثلون, مخرجون, رسامون, مغنون أنتجوا أدبا وفنا سعى الى الامتثال لمقاييس قادسيات صدام الفنية والعقلية. واليوم يدرك الجميع حجم الكارثة, ومع إدراكنا هذا نعيد سؤالنا السابق: لماذا لم يقرأ أحد ذلك الكم الهائل من الركام الثقافي الحربي؟ الى ماذا كان ذهن المثقف العربي منصرفا في الوقت الذي كان نزيف الأجساد والأقلام متدفقا؟ لماذا لم نجد قلما واحدا يدخل معركة النقد أو التسجيل والتوثيق لهذه الثقافة العلنية الباذخة في إنفاقها وقسوتها وضحالتها وجوائزها؟ وهنا لا أعني الكتاب العرب فحسب, بل أعني الكتاب العراقيين بدرجة أولى. أين كان العقل؟ بعض الذين أجابوا عن هذا السؤال أظهروا قدرا عاليا من "الاستنكاف" الأدبي, فكان جوابهم أنهم لم يجدوا شيئا ثمينا في تلك الثقافة الرديئة يستحق الدراسة!! وهو ما يذكرنا الآن بعبارة "كومة الزبالة". ذلك الأدب الرديء, وكومة الزبالة هذه جزء جدي ومؤثر من ثقافة سادت وما بادت بعد. وما الاستنكاف, الكاذب, سوى ضرب من التبرير المنافق يخفي تحته إحساسا صريحا بالعجز أو بالإثم. فذلك الأدب هو أحد صور الواقع الثقافي, وهو الصورة النموذجية لثقافة نظام شغل البشرية كلها ولم يزل. وما التنصل من مسؤولية النظر فيه سوى تعبير عن عجز المثقف عن قراءة الواقع قراءة طبيعية, وعجز الجسد الثقافي عن الاستجابة لمتطلبات الواقع وحركته وتفاعل مكوناته الروحية. وسبب هذا يعود الى أمر واحد: وجود المثقف, كانشغال عقلي, خارج دائرة الواقع. فالمثقف مشغول بواقع مفترض, واقع آخر غير الواقع الذي نعيش فيه. وهذا يشمل الجميع, أولئك الذين اغتفروا للطاغية قادسياته, وأولئك الذين استنجدوا ببرابرة العالم أجمع كي يستوردوا لنا قادسيات جديدة بأزياء أميركية.
حينما نتأمل هذا الاستنكاف الأدبي: "كومة الزبالة", نجد أنه يغترف من المعين نفسه الذي نبعت منه ثقافة الديكتاتور: احتقار مبادئ الوعي, احتقار قواعد الفهم, احتقار المعرفة كقانون من قوانين إدراك العالم والارتباط بالواقع.
تلك هي الخلاصة الأولى التي توصلت اليها من قراءة ما كتب عن أدب صدام حسين, وقبلها من دراسة أدب وثقافة الحروب الصدامية.

الثقافة المبتورة وقراءة الواقع
حينما نتحدث عن الانفصال عن الواقع في المجال الثقافي نعني بذلك فصم الصلة التي تربط المنتوج الأدبي والثقافي بمصادره التاريخية, ببيئته, بزمانه وعناصره الاجتماعية, وتحويل المادة الثقافية الى مادة غريبة على الحياة وعلى منتجها ومتلقيها. فحينما يتحدث الأديب خليل السواحري عن أدب السجون, على سبيل المثال, ذاكرا ما كتبه هوشي منه وغرامشي و نهرو وغيرهم, لمناسبة حديثه عن رواية صدام حسين ( اخرج منها يا ملعون) نكتشف معنى الانفصال الثقافي بوضوح تام. فهذا الأديب العربي, الذي تحمس لقادسيات صدام, ولبى نداء الواجب فمجد المحارق قبل سقوط الطاغية, لم يكن مخلصا ,من الناحية الثقافية, لما يؤمن به ولو بالحد الأدنى من الإخلاص: الاطلاع والمعرفة (القراءة). فالذين واكبوا الأدب العراقي يتذكرون كلمات ممجدي المحرقة العراقية, ومنهم السواحري, الذي كان مثالا جيدا لهذا النمط من الكتاب, وحسبنا النظر في مداخلته المقدمة الى ندوة أدب الحرب ( 15-17 شباط 1989) لنتعرف على الكيفية التي ُيقِيم بها بعض المثقفين صلتهم مع الواقع, يقول السواحري: " أيها الأخوة العراقيون كتاب أدب الحرب ونقاده, نعترف ابتداء بأننا مقصرون, مقصرون مرتين, مرة لأننا لم نشارك في الحرب بأجسادنا, وان كنا قد شاركنا بقلوبنا, ومرة أخرى لأننا لم نطلع بعد وكما يجب الاطلاع على أدب الحرب العراقي. هذا الادب الذي تحول الى سمة بارزة لادب الثمانينيات في العراق, قصة ورواية وشعرا ودراسة". في مقالته عن أدب السجون يقصّر السواحري للمرة الثالثة بحق ثقافة العنف والحرب, حينما لا يكلف نفسه عناء قراءة رواية كتبها, بنفسه, بطل الحروب المقدسة. ولأنه لم يقرأ النص عدّ السواحري رواية (اخرج منها يا ملعون) من أدب السجون, من دون أن يفطن الى أن صداما كتب هذه الرواية قبل اعتقاله بعامين تقريبا! ربما سيأخذ البعض هذا المثال كطرفة ثقافية, لكنني أرى فيه شيئا مغايرا تماما. فمثل هذه القراءة الافتراضية, التي "يفترض" فيها أن تكون أمينة ووفية لمن نكتب عنه, لا تختلف بحال من الأحوال عن تلك التي اعتبرت ما كتبه صدام ليس سوى "كومة من الزبالة". فالكاتبان ينطلقان من موقع واحد هو انتفاء ضرورة القراءة, أحدهما يدفعه الكره نحو إنكار أهمية القراءة, والآخر يدفعه الحب.
وهذا هو ما أعنيه بالانفصال عن الواقع.
ولأن الثقافة سلسلة متصلة الحلقات, والقراءة هي مفتتح الطريق نحو الوعي بحقائق الواقع, يجد المرء نفسه – في ظل عادات القراءة السيئة- مبعدا عن الواقع أكثر فأكثر كلما واصل السير في دروب القراءة العمياء. وهذا أحد المؤشرات الجدية على انحدار أمة في تقديري. فإذا كان السواحري يعد (اخرج منها يا ملعون ) من أدب السجون, لأنه لم يقرأها أصلا, فإن صحيفة (الشروق) التونسية تنشر, نقلا عن صحيفة الوفد المصرية, في 25-6-2005 خبرا يتحدث عن أن رواية ( اخرج منها يا ملعون) يفترض أنها "ستصدر في عمان الاسبوع المقبل", من دون أن يعي ناقل الخبر أنها كتبت قبل عامين وأنها نشرت قبل أكثر من عام. وحينما تضع الصحيفة عنوانا للخبر يقول: " صدام يتنبأ بتحرير العراق على يد ابنته رغد", تغدو عورات القراءة عظيمة ومركبة. فنحن هنا أمام صحافي ينقل خبرا عن صحيفة, لم يقرأ اصل المادة فيها, يوجهه الى قارئ, لا صلة له بالمرجع. وإذا كانت وسائل الإعلام الغربية قد توقفت عن الحديث عن (اخرج منها يا ملعون) لقدمها خبريا, فإن النسخة العربية من إذاعة (بي بي سي) تفاجئ مستمعيها العرب في 5 يوليو 2005 بالخبر التالي:" تدور أحداث الرواية (اخرج منها يا ملعون) حول شخصية رجل عربي قبلي تمكن من هزيمة أعدائه الأميركيين" وتضيف:" يشار الى انه نسب لصدام ثلاث روايات عندما كان في سدة الحكم". إنها سلسلة متصلة من حلقات عدم القراءة, إنها تأصيل لمبدأ انتفاء الحاجة الى الاتصال بالمرجع قرائيا. وهذا واحد من مظاهر فصل الوعي الثقافي عن واقعه, وفصل القراءة عن أساسها المرجعي وجعلها مجرد افتراضات. لذلك لا غرابة لو أننا وجدنا كلمة "مفترض" و" مفترضة" تتكرر غير مرة في خبر صحيفة الشروق. أنحن أمة يقرأ إعلاميوها افتراضا؟

ما أهمية روايات صدام؟
هل يرتبط الجواب عن هذا السؤال بنا نحن, بنوع الأهمية التي نريدها وننشد الوصول اليها, بمواهبنا, بعمق اهتماماتنا, وبمقدرتنا على استخلاص الأفكار؟ أم أنه يرتبط بالنص ذاته؟
وهل الأهمية قيمة ذاتية يفرضها القارئ على النص, أم أنها قيمة موضوعية تحددها مقدرة النص ذاته على العطاء؟
مما لاشك فيه أن القيم الفنية والعقلية والمعرفية للنصوص تكمن في النص ذاته. بيد أن استخدام النص والتصرف به شأن ذاتي دائما وأبدا. فإذا كان الهدف من دراستنا لهذا الأدب اكتشاف مواهب صدام الروائية الفنية, فإننا لن نعثر على درر في كومة الصفحات التي خلفها صدام لنا. ومن يكون صدام لكي يخلق دررا روائية؟
في هذه الزاوية الضيقة- البحث عن الجوانب الفنية- حصر كثيرون أنفسهم وراحوا, عبثا, يبحثون عما لا وجود له, ليصلوا في النهاية الى نتيجة تقول:" خلطة عشوائية بين التاريخ والسياسة برمزية فجة" كما وصف فؤاد التكرلي رواية (اخرج منها يا ملعون), أو "أقل من رواية وأكثر من خطبة استبداد" كما يقول لؤي عبدالإله في الشرق الأوسط, 13 سبتمبر 2004 عن الرواية ذاتها, و"الرواية مملة أكثر من قصص العقيد" كما يقول محي الدين اللاذقاني في (الشرق الاوسط) أيضا في كلمة له عن رواية (زبيبة والملك) عنوانها (طارق وزبيبة), أو هي, أي الروايات, "محض دروس في الانشاء الابتدائي" كما كتب عبد الستار ناصر في (الزمان) في 28يونيو 2003 ,وهي أيضا " عبارة عن خطب طويلة مملة, لغتها أثقل من أفكارها الساذجة" كما تقول فاطمة المحسن في مقالتها المعنونة (الرئيس وتجليه الروائي) في (الثقافة الجديدة), وان روايتيه الأولى والثانية " لم تكونا في المستوى المطلوب" كما يقول خليل السواحري في صحيفة الأيام الالكترونية. لقد قمنا بتقديم هذه الطائفة من الشهادات التي تصر على تفاهة ما كتبه صدام فنيا لتأكيد شيوع هذا الرأي لدى الكتاب. ولكن, هنا, في هذا الموضع, قد لا يصح البحث عن درر أو غيرها. فمن دبج المقالات الطوال المملة كي يثبت لنا ضعف مواهب صدام حسين الفنية قد أساء فهم صدام حسين أولا, وأساء فهم معنى القراءة وأهدافها ثانيا, وأتعب نفسه وقارئه ثالثا. فمثل هذه القراءات تندرج في باب القراءة الاستهلاكية, الدعائية, التي لا تختلف, في قيمتها الفنية, عن قيمة روايات صدام نفسها, مهما راوغنا وكابرنا وأدعينا. فهذه القراءات مظهر آخر من مظاهر انفصال الوعي الثقافي عن الواقع, ولكن بصورة أكثر تمويها واحتيالا.
بيد أن الواقع الثقافي العربي المعقد لا يبخل علينا بمن يخالف تلك الصورة. فللكاتب الفلسطيني رشاد أبو شاور قراءته الفنية الخاصة, المغايرة. فهو – رغم الخشية ورفض المجاملة والابتزاز- لا يخفي استحسانه الفني لرواية (اخرج منها يا ملعون). يقول أبو شاور في صحيفة (القدس العربي) بتاريخ5-7-2005 " أخشى لو قلت انني قرأتها وانها أعجبتني أن أتهم بمعاداة الديمقراطية, وإن جاملت أعداء العراق بهجاء الرواية وفنيتها أن أحيد عن الموضوعية واستجيب للابتزاز...".
سوءة أبي شاور القرائية أنه لم يقرأ النص, الذي استحسنه فنيا, كما قرأ الآخرون الأعمال الأدبية للقذافي. فقد اكتفى في جزء من مقالته بمطالبة غيره من الكتاب العرب بقراءة الرواية" كنص روائي, في أقله أسوة بالأعمال الأدبية للرئيس الليبي". وفي ما تبقى من النص غرق في تفسير عنوان الرواية, من خلال إضافة قصة جن جديدة, فلسطينية المنشأ, ليفسر لنا بها جن صدام, عراقي المولد. هنا يضعنا أبو شاور مجددا أمام السؤال المحير: لمن نقرأ؟ والذي يعني أيضا: لماذا استحسن الكاتب النص فنيا, ما مواضع الاستحسان؟ لماذا "الخشية" والكاتب ينطلق من موقع عدم الخضوع للابتزاز والمجاملة؟ وفي الأخير لماذا لم يقم الكاتب, بنفسه, بقراءة النص قراءة فنية "بلغة الحداثيين", بدلا من أن يدعو الآخرين الى مأدبة القراءة؟ قراءة أبي شاور ضرب آخر من ضروب القراءة الافتراضية, القراءة التي لا تقرأ ما هو مكتوب, وإنما ما يود هو أن يُكتبَ. قراءة لا تقرأ, بل تدعو الآخرين الى أن يقرأوا له, نيابة عنه, وتعبيرا عما يعتمل في وجدانه. فأبو شاور قرأ أيضا, ولم يقرأ.
عند دراسة النصوص المكتوبة عن أدب صدام الروائي نواجه اتجاهين كتابيين متناقضين ظاهريا, متطابقين جوهريا. الاتجاه الأول ساد الكتابات العراقية عامة, عدا النزر اليسير. وهو اتجاه جنح نحو الانغمار في التفاصيل الصغيرة, حتى أن التكرلي مثلا أعاد تلخيص رواية (اخرج منها يا ملعون ) تلخيصا شافيا وافيا. أما الميل الآخر, فقد ساد نصوص الكتاب العرب من غير العراقيين, مؤيدين ومعارضين, الذين غرقوا في العمومية والوصف الفضفاض. وكلا الميلين ينتسب بحثيا الى منهج واحد هو المنهج الشكلي. وهو منهج يعتمد القراءة القشرية أساسا له, مهما غلف بكلمات كبيرة. وربما تكون مقالتا فاضل العزاوي وجمعة اللامي من بين ذلك النزر, الذي سعى لأن ينأى بنفسه عن الوقوع في التفاصيل أو العمومية المهلهلة. فقد سعى العزاوي في مقالته (زبيبة والملك بين الكوخ والقصر) المنشورة في موقع (شكو ماكو) الى تقصي بعض مواطن صدام النفسية والسلوكية كحاكم من خلال نصه, مثلما سعت رواية (عالم صدام حسين) الى فضح عالم الديكتاتور الداخلي, بيد أن ذلك النص لم يكن مؤهلا وسخيا بما فيه الكفاية لمنح الكاتب ما يريد. أما اللامي فقد نأى بنفسه عن الخوض في الرواية نفسها واستخدم منها عنوانها ليس غير, من أجل أن يمد تساؤلاته الى ما هو أبعد من صدام نفسه, الى المثقف العراقي, داعيا إياه الى تحطيم الصنم القابع في داخله منذ عقود. وفضلا عن هذا فقد انغمر الجميع في موجة الدفاع أو التكفير, التي ربطت ظلما بجمال الغيطاني, والتي هي في جزئها الأعظم تنتسب الى ظاهرة: كيف نقرأ, وقد تمتد الى ما هو أبعد منها من مساوئ القراءة, الى ظاهرة : هل قرأنا النص موضع النقاش حقا؟

كيف قرأ الآخرون زبالتنا الثقافية؟
لغرض إعطاء صورة واضحة عن هذا الأمر, سأستعين بخبرتي الشخصية, فيما يتعلق بروايات صدام. ففي 21-7- 2004 عدت من عملي عصرا فوجدت عددا من المكالمات الهاتفية في انتظاري, جلها لصحافيين وإعلاميين سويديين يستفسرون عني من غير أن يعطوا ايضاحا عن سبب المكالمات. دهشت للأمر, وتوجهت من فوري الى جهاز التلفزيون ومواقع الانترنيت ورحت أبحث في نصوص الأخبار لذلك اليوم, فلم أجد شيئا مثيرا. عن أي شيء يبحث أولئك الاعلاميون؟ لقد اعتاد بعض الإعلاميين السويديين الاتصال للاستفسار أو طلب إجراء حوار عند وقوع أحداث مثيرة ومفاجئة تتعلق بالعراق. لكن الوضع كان هادئا على الجبهة العراقية, فما سر تلك الاتصالات؟ في الساعة الخامسة تقريبا بدأت الاتصالات مجددا, ومن خلالها عرفت أن الجميع يحمل سؤالا واحدا: ماذا تعرف عن رواية صدام الأخيرة؟
اعتذرت الى أغلب المتصلين من أنني لم أقرأ (رجال ومدينة), أما (اخرج منها يا ملعون) فلم أقرأها كاملة. كانت معارفي محدودة آنذاك, فأنا لم أقرأ سوى روايتي (زبيبة والملك) و (القلعة الحصينة) منشورتين في كتاب, إضافة الى الفصول التي نشرتها صحيفة( الشرق الأوسط) من رواية ( اخرج منها يا ملعون). لكنني قرأت أغلب ما كتب عن (زبيبة والملك), وشاركت في النقاشات الدائرة حولها بمقالة (من يكون الروائي صدام حسين؟), المنشورة في صحيفة النهار. لكن إحدى الصحافيات المتحمسات أصرت على أن تسجل ما أقوله, وإن كان محصورا في جزء من روايات صدام.
في مساء اليوم نفسه نشرت كبرى صحف المساء السويدية (آفتون بلادت) نص الحوار حول (زبيبة والملك). وما أثار دهشتي وحيرتي هو أن الصحافية التي أجرت المقابلة معي عدلت أثناء الحوار كلمة قلتها عن لغة صدام, فقد قلت:" إنها ملتوية مثل كاتبها". لكن الصحافية تساءلت إن كنت أعني مفخمة, فأجبتها: لا, أعني ملتوية . وحينما نشر الحوار وجدت أن جوابي تضمن كلمة "مفخمة", التي لم أوافق الصحافية عليها. ساهمت في الحوار نفسه المستشرقة السويدية مارينا ستاغ مؤلفة كتاب حدود حرية التعبير في مصر, إضافة الى صحافي عراقي غير معروف لي, قدم جوابا افتراضيا على طريقة خليل السواحري, ولكنه مستخلص من سوء النية هذه المرة.
شغلني تعبير "مفخمة", والذي قد يعني قاموسيا لدى السويديين "فخامة كاذبة", ويعني أيضا "مبهرجة" و"منمقة". وهي أمور لم ألحظها في روايات صدام الأولى والثانية والأخيرة. بيد أن إصرار الصحافية على استخدام التعبير وإرغامي على قبوله ظلما, من شخص لم يقرأ حرفا واحدا لصدام, جعلني أفكر في الأمر من زاوية جديدة. فرحت أتقصى الموضوع مجددا وابحث عن سر تهافت الإعلاميين في هذا اليوم بالذات على أدب صدام حسين. وبعد تحر بسيط توصلت الى حقيقة الأمر, وخلاصته أن صحيفة انجليزية نشرت موضوعا يتعلق بأدب صدام في لندن, فتلقفته وسائل الإعلام , في الدول الأوروبية الصغيرة, كالسويد خاصة, التي تعاني من مركبات نقص تجاه اللغات الأوروبية الكبيرة. وفي مقالة للكاتبة الانجليزية جو تاتشل, التي عدها الصحافيون مكتشفة مصطلح "أدب الديكتاتور" أو "الأدب الديكتاتوري" عثرت على كلمة "مفخمة", كما وجدت كلمات كثيرة للكاتبة عينها قد تسربت الى نصوص العراقيين والعرب القاطنين في بريطانيا ممن كتبوا عن الموضوع ذاته. وهنا نلاحظ شدة سطوة آداب وثقافات الأمم القوية, حتى في مجال التأثير اللغوي وفرض القناعات العقلية بقوة منطق المهيمن. فصحافيّة سويدية متواضعة, كالتي أجرت الحوار معي, غير مستعدة لتقبل فكرة أن يعارض كاتب عراقي كاتبة انجليزية, حتى لو كان هذا الكاتب يملك رصيدا منشورا قدره خمسة عشر كتابا, وحتى لو كان عراقيا يبحث في شأن يخص لغته و"ديكتاتوره". ففي ظل ثقافة الاحتلال الأميركي يجرد المواطنون من كل شيء, حتى من ديكتاتورهم! إنهم يسلبوننا ديكتاتورنا!
لم تقتصر المفاجآت الثقافية المتعلقة بأدب صدام على التأثير اللغوي, بل تعدته الى ما هو أبعد وأخطر, تعدته الى صناعة الخبر, والى توجيه الحدث, والى بناء الحقائق والقناعات ورسم الأهداف وتنفيذها.
كانت نقاط ضعفي المعرفية, كما ظننت, تنحصر في أنني لم أطلع وقتذاك على رواية صدام الثالثة, ولم أكمل روايته الرابعة. لكنني فوجئت بأن النقاش كان يدور حول رواية صدام الخامسة! وهي رواية لم أسمع بها من قبل, ولم أزل أجهلها تماما, كما يجهلها قراء مقالتي هذه. ولم يكن الحديث يدور حول تكهنات صحافية, بل عن أخبار تفصيلية تتحدث عن رواية اسمها (الصحوة الكبرى), تحكي قصة " ملك يقود بلاده, من منفاه, نحو الحرية" ( نقلا عن الراديو السويدي في 21 يوليو 2004, نقلا عن جو تاتشيل أيضا). باختصار شديد كان الإعلام الغربي يتحدث عن رواية خامسة لصدام, لا زلنا نجهلها جهلا تاما حتى اليوم, في الوقت الذي لم يكن الإعلام العربي قد أتم قراءة رواية صدام الرابعة! من أين لهم هذا وصدام يقبع في زنزانته الانفرادية في عراقنا الحر؟

صحافة حرة وضمائر مستعبدة!
مما لا شك فيه ان الإعلام الغربي يتفوق علينا بسبب ما تتمتع به تلك البلدان من مكانة وحضور مؤثر في العلاقات الدولية, بيد أن ذلك ليس هو السبب الوحيد, كما سنرى. فهناك عشرات الأسباب التي تجعل الإعلام الغربي متفوقا ومؤثرا. فإضافة الى الحماسة للعمل والابتكار والاستجابة الايجابية لمقتضيات التطور, هناك الإخلاص المهني, وهناك الإتقان والاستقلال النسبي المهني, هناك حب المهنة, وهناك شيء جوهري لا نعرفه نحن إلا على نحو غامض اسمه وضوح الأهداف الخاصة والعامة وفق قاعدة احترام الذات واحترام وعي الآخر, والموازنة المحسوبة بدقة الصيرفي بين الشخصي والوطني. تلك هي عناصر تفوق صانعي الأخبار والأفكار الغربيين.
في مقالة تاتشل عن (زبيبة والملك) أوردت الكاتبة خبرا, من باب الطرفة غير البريئة, تتحدث فيه عن أنها أرسلت نص الكتاب الى بعض الناشرين من دون أن تضع اسم كاتبه عليه, لكي تختبر فراستهم, وقد جاءها الرد سريعا بأن هذا النص تُشم منه رائحة ابن لادن:" لدي إحساس كريه بأن المؤلف يمكن أن يكون أسامة بن لادن".
المعضلة الكبيرة المحيرة هنا, هي أن نص (زبيبة والملك) لا صلة له بالأصولية الإسلامية على الإطلاق. فـ (زبيبة والملك) فاجأت قراءها لفرط مروقها الأخلاقي, حتى أن أحد المواطنين العرب علق عليها, تحت عنوان( وجهة نظر كويتية في زبيبة والملك) في أحد مواقع الانترنيت قائلا:" إنها تروّج للعاهرات وتصنع منهن وموزا معظمة" (نادي الفكر العربي- 29-5-2005), لقد صدم صدام ذلك القارئ حينما جعل الملك يسأل زبيبة عن عدد المضاجعات التي تريدها, وعن درجة مهارة زوجها في تهيئة مقدمات المضاجعات! إذن , من أين جاء هذا الإحساس الكريه؟ وكيف تسربت رائحة ابن لادن سهوا الى النص؟ وهل يعقل أن تكون تاتشل- مكتشفة أدب الديكتاتور- لم تقرأ نص الديكتاتورأصلا؟
هذه الواقعة الصغيرة تثير عددا لا يحصى من الأسئلة, لكن المرء لا يستطيع العثور على جواب عن أي منها.
لنتأمل قضية أخرى تثيرها تاتشل. تقول الكاتبة إن روايات صدام أثارت شهية المخابرات الدولية الى الحد الذي قامت " السي اي ايه و الأم 16 والموساد بحرث كتب صدام لغرض فهم بنيته النفسية غير المنضبطة ( التي يصعب توقع ردود فعلها) و الحصول على خيوط تقود الى خططه السياسية".
والسؤال الذي يواجه المرء هنا: هل حقا أن كتب صدام تملك مثل هذا الخزين السري؟
في حقيقة الأمر, إن روايتي (زبيبة والملك) و( اخرج منها يا ملعون) خياليتان, تاريخيتان, تتحدثان عن أزمان غابرة. أما (رجال ومدينة) فهي سيرة ذاتية يتوقف السرد في جزئها المتداول عقب حادثة اغتيال عبد الكريم قاسم, حينما كان صدام يخطو خطواته الأولى في عالم الجريمة السياسية, أو كما قال الناقد باسم عبد الحميد حينما " تصدوا لسيارة كريم قاسم عصر 7 تشرين الأول 1959 ليضعوا حدا برصاصهم لدكتاتورية مثقلة بالدماء وبقتل المناضلين من البعثيين والقوميين". فأية خطط سياسية وسلوك غير قابل للحسبان يمكن رصده من تلك النصوص؟
من هذا نرى أن الكتاب الوحيد الذي يستحق الدراسة من قبل المخابرات, لغرص الحصول على (خطط!) هو رواية (القلعة الحصينة). ومن مفارقات الثقافة العربية أن أحدا لم يقرب هذه الرواية أو ينشر فصولها أو يبحر و"يحرث" فيها , علما أنها احتوت على أراء مهمة عن الجبهة الوطنية والحرب العراقية الايرانية وغزو الكويت , كما أنها رسمت صورة مسهبة للموقف من الحصار, الذي كان موضوع الرواية الرئيس. والمقالة الوحيدة التي تسنى لي قراءتها عن الرواية كانت بعنوان غريب (الفلاحة والحرب والغرام عناصر رواية صدام حسين الثانية), نشرت بلا اسم في الشرق الأوسط, لمراسل مجهول لم يقرأ الرواية أصلا, لأن الرواية لا صلة لها بالفلاحة. إضافة الى هذا قرأت تعليقا كتبه أحدهم من وحي المقالة المذكورة, التي لم يقرأ صاحبها الرواية. أما مجلة (آخر ساعة) فقد نشرت في 26 سبتمبر 2001 , العدد 3505 خبرا عن الرواية جاء فيه عن بطلها : " يروي الظروف غير الطبيعية في شمال الوطن والحرب ضد ايران". ولم تكن الحرب ضد ايران موضوعا للرواية ولا الأحداث في شمال الوطن! لماذا لم تحصل هذه الرواية على جزء يسير من الاهتمام الذي حصلت عليه رواية (زبيبة والملك)؟ لماذا تجاهل الإعلام العربي, الولوع بالفضائح الصغيرة, رواية دسمة, بأكثر من سبعمئة صفحة مليئة بالأسرار والخطط الجهنمية؟ أيهما أجدر بالقراءة رواية خيالية عن عرب البوادي, جرت أحداثها قبل آلاف السنين, أم رواية تتحدث عن الحصار والحرب من وجهة نظر أكبر ديكتاتور معاصر, ديكتاتور لم يحاكم بعد؟ ماذا أخافهم فيها؟ سنجيب عن هذا لاحقا, ولكن سنبقى في موضوع المخابرات الغربية
إذا كان العرب لم يقرأوا هذا الكتاب كما ينبغي, فهل قامت المخابرات الأجنبية بذلك؟ وماذا درسوا فيه؟
لو ربطنا قضية ابن لادن بموضوع اهتمام المخابرات نعثر على خيوط تقودنا الى خطط تاتشل السياسية. فبعد أن عجز الأميركيون عن إثبات وجود "أسلحة الدمار الشامل", ووجود صلة مباشرة تربط صدام بالقاعدة, أضحت كتب صدام مواقع " تحرث" فيها المخابرات, لكي تجد الدليل المحتمل. مثل هذه الأفكار الساذجة, لا يقبلها صاحب عقل, حتى على سبيل التندر, وهي أفكار يدرك المرء على الفور غايتها, فهي مخصصة لمخاطبة عقول المواطنين الغربيين, محدودي الثقافة ومحدودي الاهتمام السياسي, بغية التأثير عليهم بطرق أقل إثارة للشكوك السياسية. وإذا كان الأمر كذلك, كيف انطلت تلك الحيل السطحية على الإعلام والمثقف العربي, حتى أن خبر المخابرات ذاع على كل لسان, ولم يسلم منه كتاب مرموقون. فقد ورد الخبر في ذيل مقالة (زبيبة بين الكوخ والقصر) : "تناقلت وكالات الأنباء أن النيويورك تايمز ذكرت ان المخابرات الاميركية يحاولون دراسة هذه الرواية (زبيبة والملك) لمعرفة طريقة تفكير الرئيس العراقي". أما محي الدين اللاذقاني فقد وسع من حيز التعليق في الجانب المخابراتي قائلا: إن " رواية (زبيبة والملك) لكاتبها لم تهتم بها غير المخابرات والحاشية الأدبية المنافقة ويومها ترجمت الاستخبارات الاميركية الرواية على الفور اقتناعا منها ان مبدعها هو الروائي صدام حسين ونسبت صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 25-5-2001 الى ضابط كبير في سي اي ايه قوله لقد انهمك رجال الادارة في ترجمتها وتحليلها وتكرار قراءتها..."(الشرق الأوسط 28 فبراير 2004), كم هي غبية إذن أجهزة المخابرات هذه, التي تهتم بـ "ترجمة" و "تحليل" و " تكرار قراءة" نصوص وصفت بأنها "محض دروس في الإنشاء الابتدائي" و" عبارة عن خطب طويلة مملة, لغتها أثقل من أفكارها الساذجة" وأنها "كومة من الزبالة"!
أما لؤي عبدالإله فقد ذهب أبعد حينما وجد في عناوين فصول رواية ( اخرج منها يا ملعون) شفرات سرية. وهنا لا بد لنا أن نتساءل: إذا كانت تاتشل تتفوق علينا بمقدرتها الفريدة على اختراق جدران سجن صدام المنيعة, بسبب كونها تنتمي الى جنس الغزاة المقتدرين, فماذا نسمي وقوع صانعي رأي عام عرب في فخاخ مخصصة أصلا لاصطياد الجهلاء من القراء الأوروبيين
بعض وسائل الإعلام العربية لم تكتف بنقل خبر اهتمام المخابرات الأميركية بمنجزات صدام العقلية, بل تعدتها الى إعلان سعادتها لأنها أرشدت المخابرات الى هذا الكنز الخفي. وبهذا الصدد تقول صحيفة الشرق الأوسط , بزهو, في 26 مايو 2001
" خبر في (الشرق الأوسط) عن رواية صدام يستنفر الاستخبارات الأميركية"
وهذا نص الخبر :
"واشنطن: ايلين سيولينو"
أثار نشر «الشرق الأوسط» اوائل العام الحالي لخبر عن رواية عراقية بعنوان «زبيبة والملك» يعتقد ان صدام حسين كاتبها، اهتمام وكالة الاستخبارات المركزية (سي.آي.ايه) فطلب مسؤولوها البحث عن نسخة منها وترجمتها املا في ان يجدوا فيها نافذة يطلعوا من خلالها على تفكير الرئيس العراقي.
وشعر مراقبو العراق داخل «سي آي ايه» بالسعادة البالغة عندما عثروا على نسخة من الرواية الواقعة في 160 صفحة في مكتبة للكتب العربية في لندن. وبعدما درس مترجم تابع للحكومة الاميركية الرواية لمدة ثلاثة اشهر، اصبحت «سي.آي.ايه» على قناعة متزايدة بأن صدام حسين لم يكتبها، لكنه اشرف بعناية عليها واضاف اليها الكثير من كلماته وافكاره. وبالرغم من ذلك، فقد انكب المسؤولون الاميركيون على كل تفاصيل الرواية ثم قرأ البعض ما بين سطور نثر الرواية غير المترابط احيانا والساخن بعض الاحيان لمعرفة ما يصفونه بأنه نافذة مثيرة على تفكير صدام حسين"
وهذا خبر آخر نشرته الصحيفة ذاتها:
"كان مسؤولو وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي ايه» اطلعوا على مقالة في «الشرق الأوسط»
اوائل العام الحالي اشارت الى ان الرئيس العراقي هو مؤلف قصة «زبيبة والملك» وهي قصة حب رمزية. غلاف القصة يشير الى انها من تأليف «مؤلفها». وفي نظام مغلق مثل العراق، حيث لا توجد معلومات صادقة حول السياسة الداخلية وصنع القرار وحيث يتردد ان للرئيس صدام بديلا ينوب عنه في الاحتفالات العامة، فإن دراسة وثائق مثل القصص يمكن ان تكون وسيلة هامة بالنسبة لحكومة الولايات المتحدة. وذكر مسؤول «نشعر بتواضع امكانياتنا في ما نعلمه عما يجري في الداخل».
فـ (زبيبة والملك) "وثيقة" و "نافذة مثيرة" و "وسيلة هامة" في الحرب الأميركية, لذلك لم يكتف الأميركيون باستنفار مخابراتهم وبقراءة الرواية لمدة ثلاثة أشهر, وإنما راحوا يفتشون " ما بين سطور" القصة!
أين موقع الخلل في ثقافتنا؟
لو عدنا الى خبر عثور الأميركيين على (زبيبة والملك) وقرأنا عنوان الخبر, نعثر على مفاجأة جديدة, غير سارة للبعض. فـ (الشرق الأوسط ) لم تكتف بإرشاد الأميركيين الى كنز الديكتاتور العقلي فحسب, بل شاركتهم أيضا في عملية صيد الساحرات الخبيثات. فعلى رأس الموضوع وضعت الشرق الأوسط هذا العنوان: "المخابرات الأميركية تبحث عن مؤلف رواية صدام حسينِ". ولما كانت المخابرات الأميركية واثقة , استنادا الى الخبر نفسه, من أن صداما لم يكن كاتب الرواية, فلا نستبعد أن يكون هذا الخبر هو بيضة "أولاد أميركا" التحريضية, التي فقست فيما بعد لتخرج منها حملة التشكيك الظالمة الموجهة الى جمال الغيطاني.
ألا يحق لنا الآن أن نعيد السؤال الذي بدأنا به مقالنا:
كيف نقرأ؟ وماذا نقرأ, ولماذا ولمن نقرأ؟

ديكتاتور كبير وقارئ كبير

لو رجعنا الى حكاية جو تاتشل ووضعناها أمام الخبر الذي نقله لنا محي الدين اللاذقاني عن المخابرات الأميركية, المتعلق بـ (زبيبة والملك) سنجد من دون ابطاء أن مصادر الخبر الغربية, وخاصة مثقفي المخابرات, لا صلة لهم بالثقافة على الإطلاق, فهم مجرد باعة أخبار رديئة, وأن صانعي الإعلام في بلداننا هم مشترو تلك الأخبار ومروجوها الوحيدون.
تقول تاتشل إن رواية (زبيبة والملك) خلقت عند قارئها" إحساسا كريها بأن مؤلفها هو أسامة بن لادن", في حين أن ضابط جهاز المخابرات الأميركية, في رواية اللاذقاني, أحس بما يناقض ذلك تماما, فقد كان "في كل قراءة يحس بالتعاطف مع بطلها الملك", الذي هو وفق التفسيرات كافة صدام نفسه, أو ما ينسبه صدام لنفسه صدقا أو كذبا. فالإعلام العربي, في الثقافة اليومية, يلبث تائها, مهصورا بين شعورين أجنبيين متناقضين: التعاطف والإحساس الكريه. لكنه في النهاية, لفرط ضياعه, يرمي نفسه هنا أوهناك من غير وعي. وهنا, تبدو علاقتنا بفن القراءة علاقة كلب جائع بما يرمى اليه من فضلات, فهو يسارع اليها منقادا حتى لو كانت حجرا قاتلا!
الإعلام الغربي الرسمي يقرأ ما يريد هو قراءته, لا ما يعرضه الآخرون أمامه من كلمات وأفكار. أما نحن فنقرأ بعيون زائغة وشفاه متهدلة ما يوحي به الآخرون لنا.
وقد تبدو قراءة تاتشل للبعض متعارضة مع قراءة ضابط المخابرات, ولكن لا وجود لتعارض جوهري في هذه القراءات المختلفة. فالإعلام الغربي الرسمي يقيم علاقاته مع الآخر وفق قانون المصلحة والمنفعة, بالتجرد التام من القيم العاطفية والأخلاقية. لذلك فإن أميركا لا تقع في تناقض حينما يكتشف العالم أجمع أن الحجة التي جاءت بها الى العراق, المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل باطلة. لأن أميركا, ببساطة تامة, على استعداد فوري للقبول بتلك النتيجة, وهي في ذات الوقت جاهزة لاختراع سبب جديد يحقق لها الغاية ذاتها. لا تناقض هنا أبدا. أما الحجة البالية المفتضحة والمتناقضة عن وجود أسلحة دمار شامل أو غيرها فتترك أميركا أمر الدفاع عنها , بعد افتضاحها, لوكلاء محليين صغار جدا, من رؤساء دول ورؤساء حكومات ووزراء وإعلاميين محليين ومن هم في "سياقهم وعنوانيهم" , إذا أردنا استخدام تعابير صدام حسين العجيبة.
المنطق الغربي يقوم على توازن الحجج, وليس على تطابق الحقائق مع الواقع. يقوم على الحجة المرتّبة ترتيبا نفسيا وفنيا متقنا, والمرتبطة بغاية وهدف محددين.
حينما ناقش الكتاب العرب كتب صدام عدّوها "كومة زبالة", لكنهم في الوقت ذاته وجدوا فيها " وسيلة" و "نافذة" للبحث عن الأسرار. مثل هذه التناقضات العقلية لا يقبلها الإعلام الغربي, لأنها تفسد مقدرة الخطاب على الإقناع, والاقناع هدف أساسي للإعلام. لذلك وجدنا الإعلام الغربي يروج لفكرة لا وجود لها في مخيلتنا, ولا وجود لها في حقيقة صدام ذاته, وهي فكرة صدام المثقف. ففي نظر الإعلام الغربي يبدو صدام حسين رجل فكر وثقافة, وبالتالي فهو رجل خطير, يستمد خطورته لا من كونه "كومة من الزبالة", بل من كونه يهيمن – وهميا- على " أكبر ترسانة أسلحة دمار شامل في التاريخ" ويقود بلادا تملك آلافا من المشتغلين في التصنيع العسكري, جلهم من حملة الشهادات العالية. إذن, هم لا يحاربون "كومة زبالة", ولا يسعدهم إخبار مواطنيهم أنهم يبحثون بين سطور المزابل, لأن هذه الصورة تفسد حجة الخطر العالمي المرتبط أساسا بتكنولوجيا أسلحة الدمار. هذا هو المنطق الغربي في صورته المنهاجية. هكذا يقرؤون كلماتنا ومواقفنا. لهذا السبب رسم الغرب صورة أخرى لصدام الشرير, تختلف تماما عن الصورة السائدة لدينا, العاطفية, والصادقة نسبيا, لكن المتناقضة والسطحية, التي رسمها الإعلام العربي الناطق بلسان الهيمنة الأجنبية. فصدام في نظر خصومه ومريديه من الغربيين رجل ثقافة وفكر, لذلك علل ناشر رواية (زبيبة والملك) الفرنسي جيل مونييه تبنيه مشروع طباعة الرواية قائلا إنه يريد أن يعطي صورة مغايرة لصدام حسين, أي صورة الكاتب, المثقف. ويرسم لنا نيكولاس كريستوفر في الشرق الأوسط 11 اكتوبر 2002 الصورة المتناقضة لصدام في ثنائية خيالية تجمع الوحش والمثقف في وحدة فريدة. فهو قاطع لآذان منتقديه وعاشق لهمنغواي, وجزار كبير وأب يرغم أولاده على حضور حفلات الموسيقى الكلاسيكية. أما مارك بادون مؤلف كتاب (قصة طاغية) فيخترع لصدام هذه الصورة الثقافية الزائفة: "كثيرون تحدثوا عن اعجابهم بذكاء وانفتاح عقلية صدام في أيام الشباب حينما كان ثوريا اشتراكيا". ويضيف راسما صورة خالبة لصدام المثقف, فهو " قارئ نهم, تشمل قراءاته كل المجالات من الفيزياء الى الرواية وله اهتمامات واسعة وولع خاص بالتاريخ العربي والعسكري", إضافة الى ولعه بسيرة حياة القادة.
ولا يتوانى الإعلام الغربي, حينما يريد أن يقرأ, أن يطلب المساعدة حتى من أعدائه الظاهريين, لكي يحقق الهدف القرائي على نحو صحيح ومتقن. فقد استعان أغلب المؤلفين الغربيين بشخصيات بعثية أو مناصرة للبعث عند رسم صورة صدام "الايجابية". ومن تلك الصور ما نقل عن الشاعرة العراقية أمل الجبوري قولها: " عُرف صدام شخصيا بأنه قارئ كبير... وأنه كان يرغم حراسه الشخصيين على قراءة تاريخ الشرق الأوسط, ويقوم فيما بعد باستجوابهم لمعرفة ما قرأوه" (نقلا عن راديو السويد 21 يوليو 2004), ولم تخف الجبوري في المقابلة نفسها إعجابها بجوانب أخرى, غير ثقافية, من شخصية صدام, فهو في نظرها "صادق" و "رومانسي" أيضا.
فالغرب يقرأ لنا واقعنا ويعيد تصدير ما يقرأه الينا. أما الإعلام العربي اليومي, جلّه, فلا يعرف سوى الركض هنا وهناك لإلتقاط ما يقذف اليه من فضلات الكلام.














#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكومة ننسحب, ما ننسحبشي!
- الله ساخرا!
- شكر المحتل, وشكر صدام ! ؟
- مزاد علني في الهواء الطلق
- وداعا زهرون...نم شفيف الروح يا بطل هذا الزمان!
- من يذكر طه حيدر؟
- صيادو رؤوس سويديون يتوجهون الى العراق
- إنهم لا يحصون الجثث
- أما آن الأوان لكي يعود طائر الثقافة المهاجر الى عشه؟
- أبو طبر
- النهلستي الأخير! دفاع مع سبق الإصرار عن سعدي يوسف, دفاع عن ذ ...
- زهرة الرازقي: رواية عن الحرس القومي
- أطفال الحرب
- ليس مباحًا أن يكون المرء طويلا في بغداد
- رحل فدائيو صدام, جاء فدائيو بوش!
- الاحتلال العراقي لأميركا
- ســقـط صــدام هــل يـســقـط الـحـزب؟
- مــوســيـقــيـو الـحــدائــق
- أيـفــنـد يـونـســون الـحــلـم الاوروبــي فـي الادب الاســوج ...
- القيادة الكردية العراقية الحاكمة بين خياري الفيدرالية والحرب ...


المزيد.....




- بوتين: ليس المتطرفون فقط وراء الهجمات الإرهابية في العالم بل ...
- ما هي القضايا القانونية التي يواجهها ترامب؟
- شاهد: طلاب في تورينو يطالبون بوقف التعاون بين الجامعات الإيط ...
- مصر - قطع التيار الكهربي بين تبرير الحكومة وغضب الشعب
- بينها ليوبارد وبرادلي.. معرض في موسكو لغنائم الجيش الروسي ( ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف مواقع وقاذفات صواريخ لـ-حزب الله- في ج ...
- ضابط روسي يؤكد زيادة وتيرة استخدام أوكرانيا للذخائر الكيميائ ...
- خبير عسكري يؤكد استخدام القوات الأوكرانية طائرات ورقية في مق ...
- -إحدى مدن حضارتنا العريقة-.. تغريدة أردوغان تشعل مواقع التوا ...
- صلاح السعدني عُمدة الدراما المصرية.. وترند الجنازات


المزيد.....

- السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي / كرم نعمة
- سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية / كرم نعمة
- مجلة سماء الأمير / أسماء محمد مصطفى
- إنتخابات الكنيست 25 / محمد السهلي
- المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع. / غادة محمود عبد الحميد
- داخل الكليبتوقراطية العراقية / يونس الخشاب
- تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية / حسني رفعت حسني
- فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل ... / عصام بن الشيخ
- ‏ / زياد بوزيان
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير / مريم الحسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - سلام عبود - قراءة في روايات صدام حسين..دكتاتور كبير وقارئ كبير