مستقيمات

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

الحوار المتمدن-العدد: 4667 - 2014 / 12 / 20 - 12:56
المحور: الطب , والعلوم
    

لو نكون في مدينة أو بلد غريب، ونسأل عن وجهةٍ ما، عن محطة أو مطعم أو متحف ... غالباً ما نستمع لما يُشير لنا خلال الوصف بأن نتجه في طريقنا للأمام، فنستمع لصيغة الأمر :
توجه هكذا ... للأمام.
وهذا التعبير يختلف من بلد لآخر حسب اللهجة الدارجة، فنحن في العراق نقول (إطلع كبل) وفي مصر يقولون (على طول أو دُغري) وفي المغرب (نيشان) وفي السودان والصومال يقولون (ترس) وفي الشام (ساوي) وكلها تعني التوجه بشكل مباشر وبخطٍ مستقيمٍ، وتختصرها الإنكليزية بكلمة (سترايت لاين) أي بخط مستقيم ...
لو سألتَ (هندياً) في دبي فسيستخدم لغته المحلية بشكل لا إرادي ويقول (سيدا)، ولكثرة الهنود هناك تجد أن الكلمة (سيدا) قد طغت على غيرها ةصار حتى العرب يستخدمونها، ولو يصفون الطريق لك داخل دبي فسيقولون لك أن تتجه ... (سيدا)!
المقصود بكل هذه الكلمات وفي كل الأحوال الإشارة لأقصر الطرق وأقربها، والتي يمثلها ... الخط المستقيم.
فكم من معنى حقيقي، وكم من معنى مجازي، تحمل كلمة ... (مستقيم) ؟
أول معنى يتبادر لذهنك حين تسمعها، يدل على اهتماماتك وميولك في الحياة، هل هي علمية نظرية، أم عملية عملية، أم ميول دنيوية، وهذه اهتمامات هي بالتسلسل إما ما تعلمناه في دروس الحساب أو ما درسناه في الأحياء أو ما كنا نسمعه في درس الدين.
لنتحدث عن هذه الاحتمالات، ولنسِر بخط مستقيم مع ... الخط المستقيم.

× في حصة الحساب في الإبتدائية، قالت لنا المعلمة بأنه لو كل تلميذ منا، يَعتبر مكان جلوسه على التخت (الرَحلة) نقطة، فأقرب مسافة مباشرة بينها وبين مكان جلوسه على مائدة الطعام بعد نهاية الدوام لدى عودته الدار، ستُشكل خطاً مستقيماً من (مالانهاية )*من النقاط، وهو يُشكل جزءً من خط غير منتهي الأطراف، أي ليس هناك حدود لامتداده.
حملتُ تعريفها وعدت لمائدة طعامي وتمعنتُ في كلامها، كيف يمكن لشيء أن يكون غير منتهي، فحتى الكون يُقال بأن العلم يبحث اليوم عن أطرافه، أي أنه لا يمتد الى (مالانهاية). صحيح هي أطرافاً بعيدة، لكن أكيد هناك حافات في آخر مشوار طويل وبعيد جداً جداً جداً !
الخط المستقيم الذي رسمناه على ورقة دفتر في يومٍ ما، هو خط لا يميل ذات اليمين ولا ذات الشَمال، وهو أيضاً يقع على مساحة مسطحة، أي لا يتجه للأعلى ولا للأسفل، وبالتالي فهو لا يطابق مواصفات الخط الممتد على الأرض الذي وصفته معلمتنا لنا، حيث أن خطها في الواقع هو موازٍ لمحيط الأرض، أي مقوس للأسفل قليلاً، ولو بقينا نمده بنفس أرتفاعه عن الأرض فسيلف الأرض ومن ثم يلتقي طرفاه، إذاً يمكن لطرفاه أن يلتقيان !
لكنه لو يمتد بالاستقامة المجردة، فسيبدأ يبتعد عن محور الأرض ويسيرُ من مكان جلوسنا في الصف (على ارتفاع متراً تقريباً) ليصل دارنا الواقعة على بُعد عدة مئات من الأمتار بزيادة طفيفة عن أرتفاع انطلاقه، عدة مليمترات، لأن الأرض كروية.
ولو يمتد هذا الخط لمسافة أبعد سيصل لسطح دار زميل يسكن القرية المجاورة، وللطابق الرابع في بناية تقع بمدينة أخرى، تبعد عشرات الأميال عنا !

حين نفذت شركة في السبعينات خط أتصالات لاسلكي (مايكرو ويف) يربط بغداد بعمّان، بنتْ أبراجاً يبعد الواحد عن الآخر ثلاثون كلم تماماً، ووضعت فوق كل برج جهازي استلام وإرسال.
ـ لماذا ثلاثون كلم وليس أربعون أو عشرون ؟
قالوا بأن المسافة تعتمد على ارتفاع البرج، كلما زاد الارتفاع، زادت إمكانية تباعد الأبراج بعضها عن بعض، المهم أن لا تصطدم الموجات المايكروية التي تسير بخطوط مستقيمة بالأرض، أي تجنباً لتكور الأرض.
المستقيم هو مستقيماً في الاتجاهات (الأربع) وليس أثنين فقط ما عدا من يمتد منه على ورقة مستوية، لذا وما دامت الأرض كروية، فإن أي خطاً مستقيماً نرسمه على الأرض، لا يمكن أن يبقى ملامساً لمحورها، بل يبتعد عنها شيئاً فشيئاً وبزاوية مقدارها جزء من عدة أجزاء من الدرجة عن المحيط. وعليه فسيكون كالعصا المتوازنة على كرة، أي ملامساً لمحيطها وعمودياً على القطر وتبتعد أطرافة بالتدريج عن محيطها كلما أبتعد، لكنه لو يمتد موازٍ لسطح الأرض، فسيدور حولها وبالنهاية سيلتقي بنقطة انطلاقه، لذا فهو ليس بمستقيم، لأن للمستقيم طرفين لا يمكن أن يلتقيا.
باختصار فأنه لا يمكننا (عملياً) أن نرسم خطاً مستقيماً على الأرض.
المستقيم المرسوم على ورقة مستوٍ، تُعرفه نقطتين، أو نقطة وميل. وهو ما يكفينا لتحديد اتجاهه، العلاقة التي تربط الإحداثي السيني بالصادي، تمثلها معادلة الخط المستقيم، وهو ما درسناه في الرياضيات التحليلية في المرحلة الثانوية.

× في درس الأحياء، كان للمستقيم معنى آخر، ففي جسم الإنسان والحيوان، (المستقيم) يقع بنهاية الأمعاء ويمثل ما استقام من الجزء الغليظ منها، وله ثلاث فوائد رئيسية للجسم.
فهو ذي أهمية كبرى في امتصاص آخر مياه ومعادن في الغذاء قبل أن يُطرح كمخلفات، ويُعزى له الفضل في ضغط البراز بشكله الذي يختلف من حيوان لآخر، كما أنه يتحكم بطرحه خلال فترات من الزمن وبسيطرة تامة من الكائن الحي، حيث يقوم بإرسال إشارة امتلاءه للدماغ فيعطي الأخير إيعازاً باسترخاء عضلات الفتحة ثم يقوم بدفع البراز بتقلصات متوالية لعضلاته مثلما يعمل المريء بدفع الطعام للمعدة، أي ليس بالاعتماد على الجاذبية الأرضية، وأي خلل أو تراخي نتيجة مرض أو أحياناً كِبر السن يؤدي لنتائج لا تحمد !

× في درس الدين، كان (للمستقيم) رأياً آخر، فهو (الحق)، والصراط المستقيم، يُقصد به طريق الحق، وهو أفضل وأقرب الطرق وأنقاها للعبادة ولملاقاة الخالق والتحدث معه، لأنها بدون (لف ولا دوران).
والاستقامة في الدين معناها الابتعاد عمّا يُنهيك عنه الله، والطاعة المطلقة وعدم (الحيود) عن الحق قيد أنملة، أي بدون الانحراف بـ (زاوية) يميناً ولا يساراً، وهي تُعتبر أعلى درجات الإيمان وأشد لزوم الطاعة لله، ومن استقام في الحياة ـ يقول الدين ـ يموت وقلبه مرتاحاً وتُبعث روحه مطمأنة للسماء.
وباختصار فإن الإنسان المستقيم هو الإنسان الذي يسير على خط مستقيم، لا يحيد عنه مهما جابهته مغريات الحياة ومطامعها، وكلمة (عدل) تعني الاستقامة بالحكم ونطق كلمة الحق.


السؤال : أياً من المستقيمات الثلاث هو الذي من تبادرَ لذهنك أولاً ؟
فلو أن أول ما تبادر هو المستقيم المخطوط على الورق، فأنت إنسان علمي نظري،
ولو كان المستقيم يعني لك ما في جسم الإنسان، فأنت إنسان علمي عملي،
أما إذا كان يعني لك الاستقامة بالحياة، فأنت إنسان متدين تفكر كثيراً بآخرتك !

عماد حياوي المبارك

× ينظر علم الرياضيات للـ (مالانهاية) على أنه عدد نسبي، فلمالانهاية من البشر أو النجوم قيمة خلال لحظة معينة وقابلة للعد لكنها تتغير باستمرار.
ونحصل على (مالانهاية) فيما لو قسمنا أي رقم مهما صَغر أو كبر على (صفر).
كما أن بإمكان الـ (مالانهاية) أن يدخل في عمليات حسابية، فمقسوم أي رقم مهما كان كبيراً على (مالانهاية) يقترب بنتيجته من الصفر، لكنه لا يساوي صفراً، بينما مقسوم (مالانهاية) على أي رقم ـ عدا الصفر ـ مهما كان، تبقى قيمته مالانهاية.
يمكن أن تكون (المالانهاية) موجبة أو سالبة، ومهما نضيف أعداداً لها أو نطرحها منها، النتيجة تبقى (مالانهاية).
لكن مقسوم أو مضروب الـ (مالانهاية) على أو في (مالانهاية) هو عدد غير محدد وقيمته مُبهمة لا يمكن تحديدها.

#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)       Emad_Hayawi#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات