حسني إبراهيم عبد العظيم
الحوار المتمدن-العدد: 4664 - 2014 / 12 / 17 - 01:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
شهد المجتمع المصري في الآونة الأخيرة حالات صارخة من الانتحار، لم يعتد المجتمع المصري على قسوتها وصرامتها، ويرى بعض الباحثين أن معدل الانتحار قد ارتفع نسبيا خلال الفترة الأخيرة، واتسمت حالات الانتحار كما أسلفنا بقدر كبير من القسوة والبشاعة، ويبدو أن هؤلاء المنتحرين أرادوا توصيل رسالة قوية وصادمة للمجتمع، رسالة تتضمن إدانة لهذا لمجتمع ووسخطا عليه، حيث لم يلتفت المجتمع في خضم صراعاته السياسية والدينية إلى فئة عريضة مهمشة ومطحونة ليس لها انتماء سياسي، وإنما فقط تملك انتماءً إنسانياً، ومع الأسف لم يشفع لها ذلك الانتماء الإنساني أن تحيا حياة كريمة.
والحقيقة أن موضوع الانتحار Suicide كان أحد الموضوعات الكلاسيكية في تاريخ علم الاجتماع، حيث أجرى قطب علم الاجتماع الكبير إميل دوركايم دراسة شــهيرة عن الانتحار في نهاية القرن التاسع عشر في عام 1897، بعنوان الانتحار: دراسة اجتماعية وكانت أول دراسة ميدانية في تاريخ علم الاجتماع.
وتمثل دراسة دور كايم عن الانتحار تطبيقاً لآرائه المتعلقة بتحليل الظاهرة الاجتماعية تحليلاً اجتماعياً, وذلك من خلال ربطها بغيرها من الظواهر الاجتماعية, والابتعاد عن أي تحليلات نفسية أو بيولوجية أو أي مؤثرات أخري غير اجتماعية.
فلقد ركز دور كايم في دراسته علي معدلات الانتحار, وليس علي الحالات الفردية, ويري أنه لا يجب علينا بوصفنا علماء اجتماع أن نقدم تفسيراً لانتحار فرد ما في وقت معين وفي مكان محدد, وإنما يجب علينا أن نهتم بإجابة هذا السؤال: لماذا يقوم عدد معين من الأفراد في فترة زمنية معينة في مجتمع معين بقتل أنفسهم أو بارتكاب فعل الانتحار؟
إن وضع دور كايم لمشكلة الدراسة بهذه الكيفية يمثل في الواقع اتجاهاً سوسيولوجياً حقيقياً يأخذنا بعيداً عن الاتجاهات السيكولوجية في علم الاجتماع, فلقد حاول دور كايم أن يدرس بدقة ـ وبقدر كبير من الكفاءة الإحصائية - في وقته ـ معدلات الانتحار في قطاعات مختلفة من سكان أوربا, وقد كان يهدف من وراء ذلك إلي هدفين : الأول يتمثل في نقد النظريات التي حاولت تفسير الانتحار علي أسس سيكولوجية أو بيولوجية أو تطورية أو جغرافية , أما الهدف الثاني فهو تدعيم تفسيراته السوسيولوجية بشواهد واقعية.
ولقد خلص دوركايم إلى نتيجة مؤداها أن اختلاف معدلات الانتحار, يرجع في المحل الأول إلي فروق في درجة التضامن الاجتماعي, فالتضامن الاجتماعي يمثل متغيراً مستقلاً للأنماط المختلفة من الفعل الاجتماعي, فإذا كان التضامن الاجتماعي ضعيفاً نتج عنه مجموعة من النتائج السلبية يعد الانتحار أحدها, وقد يكون التضامن الاجتماعي القوي سبباً في بعض الأحيان في زيادة معدلات الانتحار.
وقام دور كايم بتطبيق دراسته على ثلاث جماعات دينية وهم الكاثوليك, والبروتستانت, واليهود, بالإضافة إلى بعض الجماعات الأسرية والسياسية والعسكرية, ويخلص دور كايم من ذلك إلى أن هناك ثلاثة أنماط أساسية للانتحار:
أ ـ الانتحار الأناني Egoistic
ينتج عن ضعف التضامن الاجتماعي, حيث يشعر الفرد بانعدام الروابط الاجتماعية أو ضعفها, ولذلك فإن هذا النمط يسود بوجه خاص بين الجماعات التي تقل داخلها الروابط الاجتماعية, وبناء علي ذلك نجد أن هذا النمط أكثر انتشاراً بين البروتستانت وغير المتزوجين وذلك لأن البروتستانتية تعطي قدراً من الحرية للمنتمين إليها في الممارسات الدينية, وبالتالي تتعدد أساليب التفكير والسلوك, ولذلك تقل درجة التضامن والاعتماد على المؤسسة الدينية, أما غير المتزوجين , فإنهم أقل انتماءً لعدم وجود روابط أسرية تجمعهم (فليس لديه زوجة أو أبناء يساهمون في التخفيف عنه).
وعلي العكس من ذلك يقل هذا النمط من الانتحار لدي اليهود ولدي الكاثوليك والمتزوجين بسبب قوة الروابط الاجتماعية, فاليهود يتسمون بقوة التضامن الاجتماعي نتيجة ظروفهم التاريخية وما تعرضوا له من مذلة وتشرد على مدار تاريخهم، وكذلك ما تتسم به حياتهم من انعزالية عن المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها, أما الكاثوليك فإنهم أكثر ارتباطاً بالتنظيم الكنسي الذي يحقق درجة عالية من الترابط والاندماج, في حين تقلل الروابط الأسرية الحميمة من مشاعر الإحباط والانعزال لدي الفرد.
ب ـ الانتحار الإيثاري altruistic
يحدث هذا النمط ـ على العكس النمط السابق ـ بسبب قوة التضامن الاجتماعي , بحيث يضحي الفرد بحياته في سبيل الجماعة التي ينتمي إليها, ويأتي ذلك نتيجة إحساس الفرد بالواجب نحو المجتمع الذي ينتمي إليه لدرجة التضحية بالنفس من أجل بقائه, كذلك قد يقتل الشخص نفسه إذا أحس أنه أصبح عالة أو عبئا ثقيلا على المجتمع، ويعطي دور كايم العديد من الأمثلة علي هذا النمط ومنها انتحار الرجل المسن في بعض المجتمعات البدائية لأنه أصبح عبئاً على أفراد مجتمعه, حيث لا يستطيع أن يعيل نفسه أو يقدم إية مساهمة لمجتمعه، كذلك رفض الأرملة في بعض الطبقات الهندية الحياة بعد رحيل زوجها، فيتم دفنها مع زوجها الراحل, ومن ذلك أيضا حينما يقتل البوذي نفسه وهو يحمل معبوده تنفيذاً للطقوس الدينية, وعندما ينتحر الجندي أو قائد الجيش عندما يقع في الأسر ؛ حتى لا يفشي أسراراً عسكرية ستضر بالطبع جيشه ومجتمعه, أو عندما يقتل نفسه لتحقيق أهداف عسكرية تفيد الجماعة.
جـ الانتحار اللامعياري anomic
يحدث هذا النمط في الحالات التي يتهتك فيها النسيج الاجتماعي, وبالتالي تنشأ حالة من اللامعيارية Normlessness أو انعدام المعايير – التي يسميها دور كايم (الأنومي) Anomie .
وحالة انعدام المعايير هذه تنتج عن التغيرات الهائلة والمفاجئة في المجتمع، مما يؤدي إلي حدوث حالة من الخلل في التوازن الاجتماعي, سواءً أدي هذا التغير إلى نتائج إيجابية أو سلبية, فمثلاً الرخاء الاقتصادي والكساد الاقتصادي حالتان تمثلان تغيراً مفاجئاً في النظام الاجتماعي يترتب عليه درجة من اللامعيارية تؤدي إلي زيادة معدل الانتحار, وقد حلل دور كايم بعض الأمثلة لهذا النمط, فدرس الأزمات الاقتصادية التي حدثت في فينيا عام 1873, وفي باريس عام 1882, وقد قارن بين معدلات الانتحار قبل وبعد هاتين الأزمتين فاتضح أن المعدلات قد زادت بعد حدوثها.
ويؤكد دور كايم أخيراً علي أنه عندما يقول إن الكساد يؤدي إلى اللامعيارية, فإنه لا يعني بذلك حالة الفقر الاقتصادي فقط , وإنما يعني التغير في مواقف الناس وقيمهم وسلوكهم، نتيجة التغير المفاجئ الذي يحدث في المجتمع.
واستنادا لنظرية دوركايم يمكن القول إن حالات الانتحار المتعددة التي شهدها المجتمع المصري في الآونة الأخيرة، وزادت حدتها خلال عام 2014، جاءت نتيجة المرحلة الانتقالية التي يعيشها المجتمع المصري منذ ثورة 25 يناير 2011 المجيدة، فالمجتمع المصري منذ ثورة يناير يشهد قدرا كبيرا من الحراك السياسي والاجتماعي، ربما لم يشهد له مثيلا في العصر الحديث، وثمة مشكلات متعددة كشفتها الثورة وأماطت اللثام عنها، وكانت لدى قطاعات كبيرة من الشعب آمال عريضة لحل تلك المشكلات وتجاوزها، والعيش بصورة أفضل، وتحقيق الحد الأدنى من الحياة الكريمة. بيد أن الأحداث التالية للثورة لم تحقق تلك الآمال، بل إن التطورات السياسية لمرحلة ما بعد ثورة يناير أفضت إلى مشكلات أكبر وأعمق مما كان موجودا قبلها.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد حدث انهيار واضح في معايير المجتمع وقيمه، وفقد عدد كبير من الناس الثقة في تلك القيم، خاصة عندما بدأت تعود من جديد رموز النظام السابق بما تحمله في الذاكرة المجتمعية من قيم الفساد بكل أشكاله، والاستبداد بمختلف صوره.
إن حالات الانتحار تمثل ناقوس خطر ينبغي التعامل معه بجدية واهتمام، ويعكس أزمة كامنة في أعماق هذا المجتمع، وينبغي على علماء الاجتماع تحليل تلك الظاهرة بعمق لرصدأبعادها ومآلاتها، والكشف عن تأثيراتها على المجتمع في حاضره ومستقبله.
إن حالات الانتحار التي وقعت ليست نمطا من السلوك الفردي، وإنما هي فعلا اجتماعيا يعبر عن حالة اجتماعية من فقدان المعنى، وفقدان القيمة، وفقدان الأمل في العيش بكرامة بحيث يضمن الفرد الحد الأدنى من ضرورات الحياة الإنسانية.
#حسني_إبراهيم_عبد_العظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
