أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (69)














المزيد.....

منزلنا الريفي (69)


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4664 - 2014 / 12 / 16 - 22:20
المحور: الادب والفن
    


إلى أستاذتي بهيجة، شكرا على دعمك من أجل مواصلة هذا المشروع الأركيولوجي .


عودة إلى البدء

توقفت فجأة عن الكتابة، ولكن لا أعتقد أن شيئا سيحول دون مواصلة هذا المشروع، إنه تقصي في الجذور، بحث في الحيوات البشرية، وتنقيب في بقايا الذاكرة، في تلك الصور المتناثرة العالقة التي كانت مؤشرا على ولادة الوجود من حضيض العدم، لا أذكر متى انبثقت إلى الوجود، ولا الإحساس الذي انتابني، ولا الناس الذين كانوا يحيطون بي، ولا أمي، ولا المخاض الذي رافقها، ولا بيتنا القزديري، كل هذه الأشياء عدم، وإذا طفت إلى سطح الوجود، فهي من تدبير أمي أو أختي، لكن بالنسبة لي كل هذه الأشياء عدم محيق، إنني لا أذكر شيئا، حتى الصرخة الأولى انتفت في النسيان، غير أن الكتابة هي صرخة الوجود، وبحث عن المعنى، وتقصي في الذاكرة الغابرة، تقول أمي أنني ما كنت مرغوبا فيه، كانت مكتفية بأولادها الأربعة وابنتيها الاثنتين، فلم أكن سوى نزوة عابرة، وإذا سألني أحد، فإنني سأقول الحظ هو الذي قادني إلى الوجود، حتى القابلة المدعوة الكبيرة ظنت أنني سأولد ميتا، قبل أن أولد كانت أمي تذهب إلى المرجات المجاورة بحثا عن الأعشاب لكي تسقط الجنين، هذه الرحلة التي كانت تقوم بها خولت لها معرفة الكنوز النادرة من الأعشاب في أرض كرزاز مثل الحميضة وشندكورة والحلحال ...بيد أنها منذ ذلك الوقت توقفت عن البحث، عرفت هذه المعلومات حينما رافقتها ذات يوم إلى السوق، كنت في العاشرة من عمري، والتقت بصديقتها بائعة الملابس التي لم تصادفها منذ أكثر من عشر سنوات، وسألتها عني، فأخبرتها أمي أنني ابنها، فهمست إليها كأنني لا أسمعهما :
- هل هو ذلك الذي كنت تريدين إسقاطه ؟؟
سكتت برهة، وراحت تنهر أمي، ثم أردفت قائلة :
- تبارك الله، كنت أقول لك دائما، لا تسقطيه، كل الأولاد يولدون برزقهم .
ترد عليها الأم متأسفة :
- أنت تعلمين يا صديقتي الظروف التي كنا نعيش فيها، حتى الكفاف الذي كنا نعيش عليه لم يكفينا، أردت أن أفعل هذا الفعل لأنني يئست من الأولاد، لم أكن أريد ذلك الولد الذي أمامي الآن، كنت يائسة مريضة، واعتقدت أنه سيكون عالة علي، شربت كل الأعشاب فأبى أن يموت، وتمسك بخيط الأمل في الحياة، ربما تكون تلك الأعشاب المميتة هي ما أحيته، فالحياة تولد في أحضان الموت، لشد ما يعجبني فيه هو رغبته في أن يوجد، فهو متفوق في دراسته، وتواق إلى الفعل لكي يترك الأثر وهو يستقبل الموت مغتبطا مسرورا.
أحسست بقيمة كبيرة، ولولا هذه المرأة، ما كانت أمي ستبوح بهذا الكلام، لن تقول أنني جئت صدفة إلى الوجود، ولا أنني متفوق في دراستي. كل الأسرار تمر عبر ثقوب ضيقة، ولكن تحتاج إلى سماع مرهف لمن يلتقطها. لو كنت لا مباليا بوجودي ما عرفت شيئا، ذات مرة سألت أختي عن اللحظات التي كانت قبل ولادتي واللحظات التي تلتها، أرادت أن تقول شيئا، لكنها اكتفت بالصمت، كما أحست بحرج كبير عندما أخبرتها عن نيتي في كتابة تاريخ عائلتي، لم أفهم صمتها، ولم أفهم ثنيها لي عن الكتابة مادمت أكتب عن حياتي التي أعلم أنها ستتلاشى في غضون لحظات، أين جدتي التي عمرت قرابة القرن ؟ إذا بحثنا عنها، فلن نعثر عليها، ستبقى صورة في الذاكرة، ولكن الذاكرة تنسى ! ما الحل إذن ؟ الكتابة ! غير أن أختي لا تحبذ الكتابة، لست أعلم لماذا ؟ لكنه سر دفين، بيد أنني سأواصل السماع والسؤال إلى حين معرفة هذا السر.
لم يمكث في الذاكرة سوى نتف من الصور طالها الغبار، تحتاج هذه الصور إلى عين بصيرة، إلى معرفة من يعلق في هذه الصور، كانت نسيا منسيا، وكانت تتلاشى في نسيان النسيان، وها أنا أحفل بها، وأعود بها إلى حقل الذاكرة. طفل صغير في ثنايا الذاكرة، حافي القدمين، يرتدي صدارا صيفيا، يهجع تحت كوخ من قش، ويمسك كوبا ورديا مملوءا بالماء، وبالقرب منه طفل أكبر منه بسنتين ينتظره، أيكون هو الذي أمسك بالكوب وغمسه في البرميل الأزرق وشرب ورمى البقية على الأرض ؟؟ لا يدري ماذا فعل فيما بعد !! ولا فيما كان يفكر، أكان ينتظر أمه الراجعة من السوق وفي مخيلته الذرة المقلية ؟؟ كان واقفا شاردا، حزينا ينخره الجوع، وينتظر عودة الأخت من المرعى من أجل أن يتناول البصل المقلي المحشو في الخبز، و الممزوج بالشاي، كل هذه الصور تطفح في ذلك الصيف الحار المتسم بالقيظ، كان يتردد على منزل عمته كطفل متشرد، يسألها عن رؤيتها الأم العائدة من السوق، كان يخيب، فيمني النفس ألا يسأل ثانية. تلك الصور تحمل تصميما آخر للمنزل الريفي غير التصميم الحالي !! لقد كان عبارة عن بيت قزديري متاخم لبيت جدتي وأمامه توجد كشينة جدتي الحجرية، ويساره يقبع الكوخ الذي كنا نضع فيه المياه التي نجلبها من العيون على متن الحمار. أما وراء الكوخ، فقد كانت هناك براكة خشبية يلفها القزدير، ودوامة من المسامير.
يتبدد هذا الطفل، ويظهر طفل آخر، وقد انبثق لتوه من سديم العدم، يقبع تحت شجرة وارفة منتظرا الحافلة، ذلك الطفل غادر الحي القزديري، فغادر خالته وابنها حليم مغادرة أبدية، لم يكن يريد أن يفعل هذا، وتعلقه بخالته لم يشفع له المكوث عندها، لقد انتهت العملية الجراحية التي قام بها، وأمه تمسك به وتحثه على الرحيل إلى أرض كرزاز. ذرف دموعا غزيرة، وتمسك بجذع الشجرة وارتطم بالأرض وصرخ، وضاع صراخه في الهواء، بينما الشجرة التي كانوا يجلسون قربها لاحت في البعيد، وانطفأت كشمعة داهمتها الرياح، أما الحافلة فراحت تبتلع الطريق دون إحساس أو مبالاة، لم يكن شيء في عقلي ذلك الوقت غير وعود خالتي التي وعدتني أننا سنلتقي هناك، ولكن عند وصولي لم أعثر سوى على الضباب والسراب، فمن أكون أنا دون خالتي ؟؟؟ أمي !! أمي صامتة، وأنا أريد من يحفل بوجودي، كانت خالتي هي كل شيء، هي الوجود...كل ما أذكره في هذه اللحظة أنني كنت منتشيا بسروالي الأزرق، ورحت أتمرغ وأبكي بلا هوادة حتى وجدت نفسي بين أحضان أختي، ومسكتني من يدي ورأيت ثلة من الناس ينتظروننا على مشارف البيت، ومن بين هؤلاء جدتي التي لثمت قبلة على خدي ستظل عالقة في ذهني مهما حييت ...

عبد الله عنتار . 12 دجنبر 2014 / المغرب



#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كنت الوحيدة
- حلم النهضة
- شرارة كلمات
- منزلنا الريفي (68)
- سأكتب لك أغنية
- أغصاني الميتة
- منزلنا الريفي (67)
- خربشات المحال
- منزلنا الريفي (66)
- منزلنا الريفي (65)
- منزلنا الريفي (64)
- منزلنا الريفي (63)
- حلمة الأثر
- منزلنا الريفي (62)
- منزلنا الريفي (61)
- منزلنا الريفي (60)
- شمس الخريف
- كئيب الروح والحياة
- منزلنا الريفي (59)
- زهرة الناي


المزيد.....




- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...
- فيلم -حرب أهلية- يواصل تصدّر شباك التذاكر الأميركي ويحقق 11 ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (69)