أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتح الخطيب - أمي














المزيد.....

أمي


فاتح الخطيب

الحوار المتمدن-العدد: 4655 - 2014 / 12 / 7 - 11:23
المحور: الادب والفن
    


كان لأمي مساحة صغيرة من الأرض تعتني بها وتزرعها كل سنة تشكيلة منوعة من البقول والخضروات, وقلما كنا نساعدها أنا وأخوتي بتعشيبها أو بحرثها وبزرعها, واذا صدف أن طلبت مني المساعدة, فلن تنسى بأن تضع لي قروشا في يدي بدل الخدمة التي أقدمها. وحتى حين لا أقوم بنصف ما اتفقنا عليه. وفي الربيع تتحول تلك القطعة الصغيرة الى أجمل جنة في الأرض, وأحب مكان نطالع به دروسنا أنا وأخوتي.
كان لما تنتجه مزرعة أمي مذاق يختلف تماما عن كل ما هو موجود في الأسواق, طعم البازلاء والحلبة مثل العسل, وكنا نأكل الفول الأخضر الى أن نصاب بتخمة, ومثل باقي أخوتي كنت دائما أقطف البندورة والبصل الأخضر وأطلب من أمي أن تحضر لي طبق السلطة المضاف له زيت الزيتون بطريقتها الخاصة لتكون أطيب سلطة نأكلها, وكنا نطلق عليها اسم ( سلطة عجاوية ) نسبة الى بلد أمي.
وفي أعياد الأضحى تنشغل العائلة منذ الصباح الباكر بتوزيع جزء من لحم الخروف على أخواتي وأخوتي المتزوجين, ثم نستهل يومنا نحن كأسرة بوجبة إفطار دسمة بتناول الكبد. وكانت أمي تحرص أن تحضر خروفا قبل عيد الأضحى بشهر أو شهرين, وكالعادة فهي من تتولى كل مهام الرعاية لذلك. وفي المرات القليلة التي تصدف أنها بحاجة لمساعدة, كأن نحضر للخاروف عشبا مثلا, أو نشتري علفا له أو ما الى ذلك, كنت أبتزها لاخذ الفكة التي بجيبها مقابل ذلك. وفي احدى المرات أصاب الخروف إسهال شديد, وكان علاجه أن نشربه ( سفن اب ), وبالطبع كنت أنا من سيشتريه, فهددتني بأنها ستغضب علي إذا لم أفعل, فأشتريته بعد أن صادرت ثمن الزجاجة مرتين أو ثلاث. ثم بدأت مغامرة إرغام الخروف على شرب ( السفن اب ), وأذكر ذلك الموقف بتفاصيله لأن شيئا غريبا قد حدث, ففي غفلة من أمي شربت أنا زجاجة ( السفن اب ) ثم ملأتها بالماء ليشربه الخروف المسكين بالقوة. وفي اليوم التالي ولدهشتي, شفي الخروف بالفعل, فأزاح عني قلقا شديدا وخوفا من غضبها إن اكتشفت ما فعلت! فلم أنس أن أبتز أمي مرة أخرى بما لديها من فكة, على أن البركة بشفاء الخروف جاءت بفضل جهودي, وكانت المسكينة دائما تدفع لي.
وككل نساء الشرق اللاتي يشعرن بظلم الحياة لهن, كانت أمي كذلك, وكان أكثر ذلك الظلم يأتي من أبي, وحين أجادله مدافعا عنها, كانت تقول لي في كل مرة:
يُمًا روح راضيه وطيب خاطرو
لا تنام وهو غضبان عليك
الله يرضى عليك يما لا تزعلو منك
وتحت إلحاحها, كنت أستسمح من أبي لأكمل السهرة معه حتى وقت متأخر من الليل. أما أمي فتكون قد اكتفت بسعادة ذلك الاحساس بأن ابنها وقف الى جانبها وانتصر لها. كان ينتابني احساس بأنني أغلى الأبناء لديها, فتبقى عدة أيام وهي تطهو ( ورق العنب ) وهي أكلتي المفضلة ترحيبا بي وقت عودتي من السفر.
كنت أحرص في كل مرة أعود فيها من سفرة طويلة على جمع كل أفراد عائلات أخواتي وأخوتي في بيت العائلة, وقد تكون هي أهم مناسبة عند أمي فنرتب الدعوة لتكون في أول يوم جمعة من حضوري, وكنا في تلك المناسبة نطهو ( بانغو بنغا ) الأفريقية التي أحبها الجميع, ربما للطقوس التي كانت تحيط بتلك الطبخة, حيث اجتمع في احدى المرات على تلك الوليمة ثمانون شخصا هم الأبناء وأزواجهم والأحفاد. وفي تلك المناسبة كنا نرى أمي في أجمل حالاتها من تألق وفرح.
أغبط كل الذين ينعمون بحنان أمهم ودفء حضنها, وربما هم غافلون عن حجم البركة التي تمنحهم بوجودها, وأعتقد أن هذا الحنين لن يدركه الا الذين رحلت أمهم مثلي. وكم أتمنى لو عاد الزمان بك يا أمي مرة ثانية. لكنت قبلتك مائة قبلة كل صباح قبل أن أحتسي القهوة معك, ولافتعلت أحداثا كثيرة لأحشو هذه الذاكرة المتعبة بمزيد من صورك يا أمي. لكنت اشتريت لك ثوبا جديدا, واصطحبتك لمطعم يطهو الطعام الذي تحبين. ولجمعت أفراد العائلة كل أسبوع لكي نراك بذلك الألق, وسوف أشتري لك قرطا بدل الذي بعته من أجلي عندما كنت طالبا, وسوف أحضر لك الجوافة والصبر والخردلة والعكوب وكل الخضر والفواكه التي تحبين. وسوف اخذك في المساء الى أفضل من يصنع الكنافة النابلسية. وسوف أغني لك ( ست الحبايب, وأمي يا ملاكي ). وعندما يقترب وقت النوم سوف أطلب منك أن تحكي لي حكايات الصبا في البلاد, عن بيارات البرتقال في بيسان وحقول السمسم الرائعة في المرصص والتي كان أبي يغطس بها وهو على فرسه ولا ترينه, وكيف كان جدي يستقبل الثوار ويقدم لهم المؤونة ويحميهم من الانجليز.
الله يا أمي كم هي حياتي فقيرة دونك, فكلما ضاقت بي الظروف, وعصرتني الأوجاع أبحث عن حضنك لأدفن هذه الرأس المتعبة فيه فلا أجده. في عتمة الليل الموحش, أتلمس طيفك في ذكرى هنا أو ذكرى هناك علك تمسحين دموعي والامي وتهدهدين على رأسي فأنام.
اه يا أمي لو عاد بك الزمان.



#فاتح_الخطيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنتحار جندي إسرائيلي
- هذا حديث لا يليق بنا
- -S-
- حركة فتح وجمود السلطة
- وهم السلطة وسلطة الوهم
- نداء الى كل شرفاء فتح
- جريمة الدراما العربية ,,,,,,, والعقاب
- تيك تاك في اسرائيل
- فزاعة الشارع العربي
- نداء المصلحة الوطنية
- سفراء القضية الفلسطينية 2
- سفراء قضية فلسطين 2
- سفراء القضية الفلسطينية
- الرعب القادم


المزيد.....




- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتح الخطيب - أمي