أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - حاتم الجوهرى - مجلة السياسة الدولية: بين التكيف والثورة















المزيد.....



مجلة السياسة الدولية: بين التكيف والثورة


حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)


الحوار المتمدن-العدد: 4641 - 2014 / 11 / 22 - 01:57
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


- حاولت المجلة العريقة لىَّ عنق فكرتى عن "التكيف" و"الثورة" لتضعهما فى سياق مغاير، فى ملف خصصته لمحور: التكيف والاستقرار فى الثورات العربية، ولا ضير فى تعبير كل عن انتمائه وسياقه التاريخى الحاكم لو تم ذلك بشكل منهجى، لا بشكل يقوم على "تغيير السياق" أو تأويل النص بما يخالف منطوقه الظاهر ومكنونه المحتمل.
- قدم محرر الملف إحالة إلي كتابى عن نظرية الثورة لم أستطع العثور عليه نصا أو ضمنا! ليخدم فكرته ودعمه لسياق سياسى بعينه.
- خصوصية الحالة المصرية فى "نظرية التكيف": هى فرض "النمط باستمرار" وكبح القدرات البشرية والإنسانية وقهرها لتنتج حالة شبه دائمة من السلب الوجودى عند ثوار الشعب المصرى وعامته.
- الصراع حاليا على سيادة النمط: بين الثورة والثورة المضادة.
- كمون "الأنماط" وسيادتها: ذلك تفسير "النظرية العامة للتكيف" للصراع الدولى.
- تيار "القطيعة والصدام" حتى الرمق الأخير مع "الطليعة الثورية"؛ يمثل جوهر منظومة الاستبداد التاريخية فى مصر، و سيطرته حتى الآن تمثل موروث مئات السنين من الاحتلال والقهر والظلم وسيادة "نمط الانتهازية"، والمنتفعين وأهل المصلحة المادية على حساب أهل المبدأ والمثل الروحية والقيمية.
- خطورة الثورة المصرية ترتبط بلحظتها التاريخية وجوهرها القيمى، التى لو نجحت فى فرض "النمط الإنسانى" القيمى؛ لتجاوزت الأطر: الطبقية والقومية والدينية وأصبحت قابلة للتطبيق و"تصدير النموذج" فى أى مكان، متجاوزة معظم الأنساق السياسية السابقة عليها.. رغم اعتمادها – الطبيعى – على بعض هذه الأطر، لكن الصدارة ستكون لنمط " الثورة القيمية" وعلاقات "المجتمع الفعال" التى ستنتظم حولها التجربة البشرية.
أبرز الانتقادات للملف:
- غياب المنهج ونقطة الانطلاق فى بناء "النموذج المعرفى" لمقاربة فكرة الثورة نظريا.
- التبعية للنموذج المعرفى الأمريكى النظرى باستخدام مصطلح ومقاربة "عدم الاستقرار".
- دفع الأمور فى اتجاه القطيعة ومن ثم الصدام بين "المطالب الشعبية" و"سياسة النظام".









مدخل:
رغم انشغالى الشديد فى الآونة الأخيرة وتأخرى فى كتابة هذه المقالة الطويلة؛ إلا أن سعادتى كانت غامرة؛ باهتمام مجلة السياسة الدولية الفصلية العريقة التى تصدر عن مؤسسة الأهرام الأكثر عراقة؛ بمقاربتى لنظرية الثورة والصراع "الكامن" والمستمر فى الأنماط بين قوى الثورة وقوى الاستبداد، لكن هذه السعادة تحمل عتابا، على قدر شدته على قدر المودة المفترضة والحتمية التى يحملها شركاء الوطن الواحد بعضهم لبعض.. أعاتب الأصدقاء الكرام فى المجلة على شيئين، أولا: كان الأجدر دعوتى للمساهمة بورقة بحثية فى الملف باعتبارى صاحب الأطروحة والكتاب (كتاب: "المصريون بين التكيف والثورة: بحثا عن نظرية للثورة")، ثانيا: حاولت المقالة الافتتاحية أن تقدم سياقا مضادا لطرحى عن العلاقة بين التكيف والاستقرار والثورة فى ظل الحالة الثورية! لتقلب رسالة الكتاب – عبر اقتباس منه غير صحيح بالمرة – فبدلا من أن يكون المركز للثورة ويتحول الاستبداد لطرف هامشى يتكيف معها ويستجيب لمنظومة قيمها العادلة؛ عكست المعادلة وقلبت الصيغة بشكل عكسى تماما، مقدمة سياقا نظريا ملتبسا - لحد بعيد - يشجع على القطيعة السياسية بين النظام من جهة، وبين الشعب ومطالبه وثواره من جهة أخرى! بما يقدم مؤشرات خاطئة وغير دالة فى هذا السياق، وبما قد يتسبب أيضا فى ردة فعل عنيفة "كامنة" ورابضة فى صراع الأنماط بين "الثورة" و"الاستبداد" فى مصر.

لماذا الربط بين الثورة والفوضى فى أذهان الناس:
لقد قدمت المجلة ملحقها النظرى الدورى (مع عدد يوليو-2014) المعنون "اتجاهات نظرية" حول ملف التكيف والاستقرار فى الثورات العربية، تحت عنوان: "عدم الاستقرار: مقاربات تفسيرية لاضطرابات الأنظمة السياسية"، وتعرض المقال الافتتاحى لمحرر الملف لكتابى وتصورى عن نظرية الثورة فى متن المقال وأعطى محرر المقال الصديق العزيز د.خالد حنفى على؛ عنوانا رئيسيا له يقارب ويستدعى عنوان كتابى (المصريون بين التكيف والثورة) ويتماس معه، وهو: "تكيف أم فوضى" وعنوانا فرعيا: "اختبار عدم الاستقرار فى مراحل ما بعد الثورات"! ومن الوهلة الأولى تظهر وجهة نظره - التى له الحرية المطلقة فيها - عندما وضع "الفوضى" بديلا للثورة! وكأن الثورة من وجهة النظر هذه تعنى الفوضى والخراب! فى نمط تكرر لربط فكرة الثورة بالخسارة والندم عند بعض الأصدقاء المنظرين والإعلاميين منذ لحظة انطلاق 25 يناير..! وقدم محرر الملف اقتباسا محرفا– ربما سهوا وبشكل غير مقصود – من كتابى يتكلم عن تعريف "التكيف" إيجابا وسلبا! وهو التعريف الذى أعدت قراءة الكتاب من أجله عدة مرات – وأنا مؤلفه – ولم أجد له أثرا فى الكتاب بكامله لا نصا ولا ضمنا!

نزع الثورة من سياقها وحرمانها من مركزها:
الملحق فى مجمله محاولة لتفسير الثورة الكبرى الأولى فى القرن الحادى والعشرين؛ بنظريات أواسط القرن الماضى التى تعود لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وعالم الحرب الباردة! ويحاول بشكل رئيسى أن يضع الثورة المصرية – ومعها الثورات العربية – فى سياق تفسيرى سلبى، مصورا إياها كحدث يخضع لإرادتين وفاعلين رئيسيين، أولا: النظام الدولى والدول الكبرى العالمية والدول الإقليمية، ثانيا: التنظيمات المحلية (يسميها: الفواعل غير الدولتية) وخاصة التى ترفع شعار الدين فى السياسية!

"النخبة الفاعلة" والحركة الطلابية المصرية:
قام الملف - والمقال الافتتاحى للمجلة - بإهمال وإسقاط العامل الأبرز والحقيقى فى الثورة المصرية، القائم على تطور نخبة وكتلة شعبية طليعية – وإن تعرضت لها دراسات الملف على استحياء ودون إبراز نظرى– ظهرت داخل الحركة الطلابية المصرية انطلاقا من عام 2000دعما للانتفاضة الفلسطينية، والتى تطورت مع الزمن واكتسبت آليات عملها المستقل حتى أنتجت لحظة الثورة المصرية التى فجرها تواصلهم مع لحظة الثورة التونسية، هذا بالطبع مع الإشارة لتراكم النضال السياسى المُثمَّن للجماعة السياسية المصرية على مدار تاريخها وحتى لحظة الثورة المصرية، لكن الذى قدمته الحركة الطلابية فى عام 2000 وحتى انطلاق الثورة المصرية، كان آليات جديدة فى الحركة والتواصل والتنظيم (انظر كتابى عن نظرية الثورة الذى خرج فى صورته الأولى عام 2004، وفى طبعته الأشهر والأكثر انتشارا، بعد تنقيحه وزيادته والوضع فى الاعتبار انطلاق الثورة المصرية، عن قصور الثقافة المصرية عام 2012 عن سلسلة كتابات الثورة ، الفصل الخامس ، المبحث الثانى بعنوان: الحركة الشعبية المستقلة وآليات العمل ص 201).

نمط ثورات الميادين والاختيار القيمى الحر للشعوب:
حاول ملحق "السياسة الدولية" أن يسلب من الثورة المصرية رونقها وعبيرها الخاص؛ أن يسلب تمثلها بوصفها تعبيرا عن "الإرادة الحرة" لمجموعة من "الثوار القيميين" المخلصين لقضيتهم، لم يتكلم عن "نموذج ثورات الميادين" والصدور العارية أمام الرصاص، التى ترفع مثلها القيمية العليا فى وجه الاستبداد والقمع بشتى أنواعه، وانتقال هذا النموذج و"النمط الثورى" وتصديره – ربما تلقائيا وهنا مكمن خطورته – إلى اليونان وإنجلترا وأمريكا وتركيا وأفريقيا، وحتى إلى "إسرائيل" ذلك الثقب الأكبر فى رداء الأمة العربية! لم يتحدث عن "المجتمع الفعال" و"المواطن الفعال" الذى يمتلك آليات التأثير فى مجتمعه، وينطلق من دوافع أخلاقية وقيمية ترتبط بمنظومة "قيم إنسانية أعلى"! إنما حاول الملحق تقديم قراءة تعتمد على نظريات خارج سياق الحدث ولا تستطيع التعبير عنه.

نقد مصطلح "عدم الاستقرار" وقطيعته مع سياق ثورات القرن الحادى والعشرين:
بداية يتمركز ملف الملحق حول مصطلح "عدم الاستقرار"! وهو مصطلح تاريخى يعود للمدرسة الأمريكية فى السياسة؛ ويرتبط بفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وفترة الحرب الباردة؛ عندما حاولت أمريكا دراسة الحراك الشعبى فى الدول وعوامل قيام الثورة أو استقرار النظام السياسى خاصة فى الدول الشرقية والدول النامية أو حديثة الاستقلال عن الاستعمار الغربى القديم..! وهنا لابد من الانتقاد والاعتراض الصريح على التبعية والهيمنة الأمريكية فى بناء النموذج النظرى لمقاربة الثورات العربية!
إن العولمة لها جانبان؛ الأول: شكل وأدوات وآليات يمكن توظيفها تبعا لظروف كل شعب وعلاقته بظروفه الداخلية، والثانى: مضمون يرتبط بهيمنة أمريكا وتواكب ذلك مع تطور أدوات الاتصال والمعرفة والإعلام، حيث حاولت فرض نمطها الحضارى ووجهة نظرها – من خلال تلك الآليات - على الدول التى لم تستطع إنتاج نمط حضاري خاص بها!

ضرورة الإمساك باللحظة التاريخية المفصلية:
إننا كعرب يجب علينا التعامل مع آليات العصر وتقنياته، ولكن ليس علينا التعامل مع ما تحمله تلك التقنيات من وجهة نظر سياسية أو أيديولوجية أو فلسفية قد لا تناسب مرحلتنا التاريخية أو ظروفنا الاجتماعية.. التاريخ يبحث عن لحظات مفصلية تنتظم عندها الأمم وتنطلق للمستقبل لتستعيد وجودها فى دورة حضارية مستمرة ومتداولة منذ الأزل! وكل أمة لها معادلة خاصة بها، إذا نجحت فى الوصول إليها وأخرجت من مخزون الهوية الخاص بها؛ ما يناسبها ويناسب قدرتها على الانطلاق، نجحت واستعادة وجودها المتفوق وسط الأمم! ونحن أمام لحظة تاريخية مصرية وعربية قادرة على أن تكون المفصل والمعبر الحقيقى للأمة لتجاوز تاريخ الصراع الداخلى وتراكماته، ولتجاوز الإرث الخارجى من النظريات المستوردة المعلبة: نحن أمام لحظة ثورية فارقة، قادرة على إنتاج نخبة صلبة تقود الأمة، وقادرة على التواصل مع ظرفها التاريخى وتقديمه فى شكل نموذج طليعى للعالم أجمع.. فلماذا إذن يسحبون اللحظة التاريخية للثورة المصرية نحو آليات تفسير القرن الماضى العتيقة التى تناسب الحالة الأمريكية وتعتبرها المركز فى بناء طرحها النظرى!

استشهادات من داخل الملف:
وفى هذا السياق سأورد الاستشهادات التالية من داخل دراسات الملف التى تبرز اعتماده وذكره للنموذج الأمريكى النظرى، لأدلل على نقدى لمقاربة "الاستقرار" الأمريكية فى تناول الثورة المصرية والثورات العربية! كما سأذكر عناوين الدراسات التى وردت فيها تلك الاستشهادات:
"لم يكن تشكيل لجنة عدم الاستقرار السياسى من جانب حكومة الولايات المتحدة، بداية من عام 1993 سوى إقرار بمدى خطورة وجدلية هذه الظاهرة التى تمحورت حولها مختلف الاجتهادات النظرية"
"وهو ما استكملته اللجنة عام 2001بإثبات أن طبيعة نظم الحكم، ومستوى الاندماج فى النظام الاقتصادى العالمى، ومستوى التنمية البشرية بالدولة هى المحددات الأساسية لظاهرة عدم الاستقرار السياسى، والأزمة التى يمر بها نموذج الدولة القومية على امتداد الدول النامية"
محمد عبد الله يونس، إشكالية الاختزال: الاتجاهات الجديدة لظاهرة عدم الاستقرار داخليا وخارجيا ص5، ملحق السياسة الدولية.
"وفى إطار مشروع فريق عدم الاستقرار السياسى لعدد من الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية طوال الفترة ما بين 1955 و 2002، خلصت دراسات مجموعة من الخبراء والمتخصصين بجامعة جورج ما سون إلى أن العوامل الاقتصادية والإثنية والإقليمية تمارس تأثيرا متوسطا نسبيا فى رفع مخاطر عدم الاستقرار السياسى للدولة، فى حين يبقى التأثير الأكبر لأنماط المنافسة السياسية والسلطة السياسية فى الدولة"
على جلال معوض، فرص وتهديدات: العلاقات الارتباطية بين عدم الاستقرار والمراحل الانتقالية ص13، ملحق السياسة الدولية.

النظرية الواقعية والملعب السياسى الدولى القديم:
كما تُقدم فى هذا السياق نظرية أساسية لتفسير ثورات ما بعد الحرب العالمية الثانية تقوم على علاقات الدول الكبرى وأهدافها، وسعيها للسيطرة المتبادلة على العالم ودعمها لبعض الأنظمة أو الجهات المعارضة فى هذا السياق، وتنطلق أساسا من فكرة مركزية وهى الصراع بين أمريكا وروسيا على فرض النفوذ فى العالم، وتسمى بالنظرية الواقعية.. كما يتحدث الملف عن نظرية "تحول القوة" كأحد أسباب عدم استقرار النظام الدولى؛ عندما تصل دولة ما لمرحلة من القوة تجعلها تسعى لتعديل وضعها إقليميا ودوليا.. والملاحظة الأبرز أن المشترك بين النظريتين هو إسقاط الدور الواعى لإرادة الشعوب واختياراتها ووضع ثقل الميزان فى يد أطراف كونية كبرى (أمريكا والسوفيت فى مرحلة الحرب الباردة، وأمريكا وروسيا والصين وإيران وتركيا وأطرف أخرى فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة مع نظرية تحول القوة)، وربما كانت تلك المرحلة تناسب عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها لا تناسب القرن الحادى والعشرين ومرحلة "المواطن الفعال" و"المواطن الكونى" التى عبرت عنها الثورة المصرية بجدارة! واستطاعت للمرة الأولى أن تقدم للثوار آليات الإعلام والاتصال والتنظيم، والدعوة والكمون وإعادة الحركة فى الوقت المناسب.

الثورة المصرية: التمكين الأول لـ "الطليعة الثورية" عبر التاريخ
أقدم فى كتابى تصورا وهدفا نهائيا للثورة القيمية يتمثل فى منظومة قيم "المجتمع الفعال" ضد منظومة قيم "التكيف" والاستبداد، مع الإشارة إلى أننى أصنف الثورة المصرية بوصفها الثورة القيمية الأولى فى التاريخ الحديث (ارتباطا بتمكنها من آليات بعينها، وتفاعلها مع الحالة المصرية بأهم سماتها التى تتمثل فى "مخزون حضارى" كامن، وأيضا خصوصية تطور نخبة ثورية تشكلت عبر عقد كامل من الزمن انطلاقا من دعم الحركة الطلابية المصرية للانتفاضة الفلسطينية)، أى الثورة التى يقوم بها طليعة قيمية يحركها مثل إنسانية عليا، وتتمرد على تراكمات التاريخ وفرضياته التى أسس لها الاستبداد ومجموعات المصالح المتعاونة معه، وهذا التمكين يعتمد على آليات التواصل والحركة والإعلام والتنظيم وإعادة الإنتاج، حيث الثائر يقدم باعتباره "المواطن الفعال" (للمزيد حول فكرة الثورة و"المجتمع الفعال" انظر المبحث الأول من الفصل الرابع فى كتابى المصريون بين التكيف والثورة ص167) الذى يملك آليات الاتصال والحشد والتأثير والتنظيم قصير الأجل وربما طويل الأجل بشكل ما (ولن ينزعوا عنه كل هذه القدرات مهما فعلوا لأن عجلة التاريخ لا تعود للوراء، لكنها قد تتأخر حينا وتعطى الفرصة قبل أن تدور مجددا وتتجاوز ما يخالفها)، ذلك الثائر/ المواطن الذى يملك القدرة على "الفرز الطبيعى" لاختيار أفضل العناصر بالتجربة والخطأ.

خصوصية الحالة المصرية فى علاقتها بنظرية التكيف،
والثورة القيمية الكبرى الأولى:

الحقيقة أن ثورة "المواطن الكونى" تفجرت فى مصر دون غيرها من الدول حتى من ضمن الدول التى أنتجت آليات وتقنيات "المواطن الكونى".. لأنه لم يكن المواطنين فى تلك الدول فى حالة افتقاد لـ "توازن حاد فى المكانة"، بين التاريخ وتراكم قيمه وبين الواقع ومنظومة قيمه.. المصرى فى حالة "استلاب وجودى" منذ القدم، لديه عامل نفسى جمعى يمكن أن نطلق عليه فى علم نفس الثورات: "المخزون الحضارى الكامن" الذى يعطى قابلية شديدة للثورة والانفجار فى وجه تراكمات السياق التاريخى الذى سلبته حقه فى الوجود الطبيعى والتعبير عن نفسه، يجبر على أن يعيش فى حالة شتات على أرضه (وهذا أحد أسرار خصوصية الحالة المصرية بالنسبة لمن ينكرون الطبيعة المتفاوتة للشعوب القومية)، فقد تعاقب عليه الاحتلال والاستبداد لحرمانه من التعبير عن تراكم حضارة قائمة منذ آلاف السنين؛ فخصوصية الحالة المصرية فى علاقتها بنظرية التكيف وصراع الأنماط، تكمن – بنسبة كبيرة – فى فرض النمط وجموده وكبح القدرات وتفريغ إمكانيات المجتمع؛ وذلك من خلال أهم آلية أو الآلية المركزية فى يد الاستبداد، وهى سلطة "الدمج والتسكين" التى تتحكم فى المسارات الاجتماعية للبلاد عبر الزمن، ومن خلال مقابلها سلطة "الاستبعاد والحرمان"، كان الثوار وأصحاب المواهب والمثل والقيم يتعرضون للنفى والتشويه؛ والأكثر أهمية ودلالة "تشويه النمط" وأسلوب حياة الثوار وربطه بـ "الفوضى" و"الخسارة" و"غياب الاستقرار" و"ضياع الأمن" و"تهديد لقمة العيش" و "مصدر الرزق".
وهنا سر الخطورة فى الثورة المصرية حيث أنها ثورة قيمية بحتة تقوم على اختيارات إنسانية مثالية وقيمية عليا، ولا تقوم على فرز طبقى أو قومى أو دينى.. وهنا أيضا مكمن كل القلق منها حيث أنها تهدد كل الأنظمة السياسية القائمة والموجودة بالفعل فى العالم، ولكن أليس ذلك شأن كل الثورات الكبرى فى تاريخ البشرية!

التحرر الذاتى وتراكمات السياق التاريخى:
فى رؤيتى لهذه الزاوية من الثورة المصرية أقدم الاقتباس التالى من خاتمة كتابى عن نظرية الثورة المصرية ص 227 والذى انتهيت منه فى صورته الحالية أواخر عام 2011:
" هل يمكن أن تكون الثورة المصرية هى المِؤسسة لفكرة: "الثورة القيمية" الأولى فى التاريخ الإنسانى الحديث! الثورة التى تستند لمطالب ودعاوى قيمية إنسانية عليا، سعيا لعملية "التحرر الذاتى" من أثر فروض وتراكمات السياق التاريخى المتعاقبة، يطالب أصحابها بها فقط لا لشئ سوى: التمرد على سلطة ومنظومة "قيم التكيف" التى يفرضها المستبد من جانبه، وتخضع لها طوائف وفئات الشعب فى مقابل "الدمج والتسكين الاجتماعى".. هل يحاول الجميع وئدها لما تطرحه من مشروع ثقافى، وقيمى سوف يقلب النظام العالمى المستقر رأسا على عقب ! أعتقد أن كرة الثلج تدحرجت ، تتطلب فقط بعض الوقت، وبعض الوعى؛ ليتأسس ذلك المنطق الجديد."

نقد مقاربة المقالة الافتتاحية للمحرر للعلاقة بين الثورة والتكيف:
من ثم لابد من نقد المقالة الافتتاحية لملف "الاتجاهات النظرية"، التى حاولت – ربما بحسن نية – أن تخلق سياقا مضادا لصراع الثورة ومنظومة قيم الحرية و"المجتمع الفعال"، مع منظومة قيم القهر و"التكيف" والاستبداد.. حيث كانت المقالة تدفع فى اتجاه قبول منظومة قيم "التكيف" بحجة ربط الثورات العربية بالفوضى – كما وضح من عنوان المقالة –؛ وفى الواقع تقدم المقالة الافتتاحية وجهة نظر شديدة الصدامية تجاه منظومة قيم الثورة، وترى انه يجب تجاهلها لأقصى درجة ممكنة، ولكن مكمن الخطورة فى هذا الطرح أنه قد يخرج من الثورة أشد وجوهها شراسة وغضبا، وقد يتسبب فى حالة من القطيعة بين النظام وظهيره – أيا كان حجمه – الشعبى، بما قد يؤدى فى النهاية لتفجر موجة أشد قوة وغضبا فى وجه بنية النظام القديم وشبكات مصالحه المادية والمعنوية..

تحريف المفهوم وقلب التعريف فى استشهاد المجلة:
فى البداية كانت المفاجأة والصدمة من الإحالة والاقتباس الذى أوردته المقالة الافتتاحية من كتابى دون أن تذكر رقم الصفحة ولا الفصل ولا المبحث الذى ورد فيه هذا الاستشهاد! والصدمة مرجعها مخالفة الاستشهاد لوجهة نظر الكتاب وأطروحتى حول العلاقة بين "الاستبداد" والنظام القديم ومنظومة قيم القهر، وبين الثورة ومنظومة قيم الحرية والعدالة التى تطالب بها، والصراع الدائر بين منظومتى القيم؛ وكانت الفقرة الصادمة/ الأزمة التى أوردها محرر الملف ونسبها لكتابى تقول:
"فالتكيف، بمعناه العام يشير إلى قدرة الإنسان أو النظام الذى يوجد فى بيئته على البقاء فى ظل أقسى الظروف الأمنية، والسياسية، والاجتماعية. وقد يكون هذا التكيف سلبيا، أى رضوخا لحالة عدم الاستقرار، وقد يكون إيجابيا، بمعنى محاولة تقليص آثاره، وبناء مساحات أكثر استقرار تجتذب غيرها من القطاعات غير المستقرة. وترتبط تلك القدرة على التكيف بأمرين، أولاهما: مدى استيعاب معطيات عدم الاستقرار فى البيئة الجديدة. أما الآخر، فيتعلق بقدرة المجتمع على تفسير استيعابه لهذه البيئة، عبر شكل سلوك وسياسات مقبولة فى نطاق المجتمع الجديد".
د.خالد حنفى على، تكيف أم فوضى؟:اختبار عدم الاستقرار فى مراحل ما بعد الثورات"، ملحق السياسة الدولية ص3.
وقد حملت الفقرة عدة إشكاليات بغض النظر عن إشكالية علاقتها بطرح الكتاب! فربما من الوارد أن يقتبس الباحث فقرة ويعلق عليها ويضع وجهة نظره فيها من عندياته؛ ثم وفى زمرة انشغاله بالبحث قد يستشهد بفقرته ورأيه الشخصى ويسقط من ذهنه – سهوا – أن يضع الأصل الذى استشهد منه وبه! ربما كتب الصديق العزيز د.خالد حنفى فقرة ما من كتابى على "بطاقة ورقية" وعلق عليها فى نفس "البطاقة" دون أن يلتفت إلى أنه لم يضع أصل الاستشهاد..!

المعادلات النظرية التى قدمها محرر المجلة:
لكن لنعود الآن لنص الفقرة ذاتها، وما حملته من أفكار تمثل الضد لأطروحتى عن الثورة فى الكتاب:
- إذا اعتبرنا أن الثورة من وجهة نظر المحرر = عدم الاستقرار..
- فمن وجهة نظره يكون التكيف والاستجابة للثورة (التى تساوى عدم استقرار النظام السائد) والخضوع لمنظومة قيمها: سلبية! خاصة من جانب النظام القديم السائد ومنظومة قيمه، ومن جانب سدنته وكهنة معبده.
- أما الإيجابية من وجهة نظر المحرر؛ فتكمن فى الانتصار على الثورة وتحدي منظومة قيمها، وفرض منظومة قيم النظام القديم/السائد، لتصبح هى الأساس والنموذج فى المجتمع، وتصبح هى المركز الذى يجب على باقى قطاعات الوطن أتباع "نمطه" السياسى فى التعامل مع الثورة!
- وهنا مكمن الخطورة الشديدة والتشوه فى مقاربة الملف لفكرة الثورة؛ هو يريد أن يقطع خط التواصل مع منظومة قيمها العادلة، ويريد أن يواجهها بكل الصلف والغرور واللامبالاة.. وهنا سنعود لأهم مبدأ فى العلاقات الإنسانية: لكل فعل رد فعل؛ مساوى له فى القوة ومضاد له فى الاتجاه..!
- ذلك الطرح النظرى من الخطورة بمكان؛ إنه يعيد إنتاج أسباب الغضب نفسها التى تراكمت خلال عهد مبارك، ويدفع بالدولة والمجتمع فى اتجاه الصدام والفشل والعجز، الدولة إذا أرادت التوحد مع مواطنيها فعليها التكيف مع الحالة الثورية، لا محاولة قتلها وتجاهلها، والالتفاف حولها.. ذلك سوف يراكم الغضب ويختزنه فى العقل الجمعى للثوار، وذلك التيار النظرى إذا تحققت له السيادة الكاملة فى الموقف الرسمى للدولة؛ فمعناه أنهم يدفعون النظام للهاوية، ويشجعون على حالة المجتمع الفاشل والعاجز، ويشجعون الإرهاب والعنف، عبر تقديم المبررات له ولاستمراره!

دعاوى الاتجاه النظرى لترسيخ القطيعة بين النظام والشعب:
يقول المحرر فى نفس المقالة الافتتاحية؛ حينما يضع معادلة نظرية واضحة ترسخ لوجود الاستقرار ومنظومة قيم التكيف والقهر والنظام القديم فى جهة، والثورة ومنظومة قيمها والحرية فى جهة أخرى:
"لم تستطع المسارات الانتقالية بعد الثورات طرح مقاربات ناجعة.. وهو ما خلق إجمالا حالة يمكن تسميتها بـ الإنهاك المتبادل للدولة والمجتمع فى المنطقة، بما أصبحت معه قضية استعادة الاستقرار أملا قد يعلو لدى البعض على تكريس مجال عام للحريات أطلقتها الثورات".
ويقول أيضا فى محاولة قد يفسرها البعض، وقد تبدو له وكأنها ترويج للاستبداد وقدرته على تشويه الثورة: "لقد دفع المشهد المضطرب للمنطقة البعض إلى إعادة النظر فى التصورات الأولى بأن الثورات على الأنظمة الاستبدادية ستنقل المجتمعات العربية إلى حالة من الاستقرار المستدام".
ومن أخطر الآراء التى تدفع فى الاتجاه المضاد لطرحى فى كتابى عن نظرية الثورة، وتدفع للصدام المبكر وتدعو للقطيعة بين الشعب والنظام؛ أورد المحرر التالى:
"إذ إن ثمة اتجاهات نظرية ترى ضرورة تغيير المقاربات التقليدية لعدم الاستقرار، عبر منظور التكيف مع الظاهرة نفسها، أى احتوائها والتقليل من آثارها، على الحد الذى يسير حركة الدولة والمجتمع، لاسيما أن مقاربة الحل الجذرى لعدم الاستقرار أصبحت بمنزلة الأسطورة، كما يشير د.محمد عبد السلام".

دلائل ترسخ تيار "الصدام والقطيعة" كتوجه داخل النظام:
والإحالة هنا لـ د.محمد عبد السلام هى لدراسة نظرية قدمتها المجلة نفسها! فى مستهل العام الثانى للثورة بعنوان: "التعايش مع فترات الانتقال الطويلة فى الشرق الأوسط"، مجلة السياسة الدولية العدد 187، يناير 2012، وهو ما يؤكد ترسخ ذلك الطرح النظرى الصدامى القائم على القطيعة بين المجتمع ومطالبه، والنظام السياسى الحاكم، وتبنى ذلك التوجه داخل قطاع ليس بهين فى البيروقراطية المصرية بمستوياتها المختلفة التى يعبر عنها ويمثلها ذلك الطرح النظرى لمؤسسة عريقة وتحمل صفة "القومية" فى أدبيات السياسة المصرية، والمفاجأة أن ذلك هو التيار السياسى الصدامى ذاته الذى حذرت منه – دون تسمية وإبراز – بعض دراسات الملف فى عرضها المجمل للموضوع!!!
ومن أخطر الفقرات التى ساقها المحرر لتزكية هذا التوجه فى القطيعة بين النظام والمطالب الشعبية، استنادا لحالة الاستبداد ومنظومة قيم القهر التاريخية وتنميط المجتمع و"تكييفه" فى الدولة المصرية، الفقرة التالية من المقالة الافتتاحية نفسها:
"إذن فحدود التكيف مع عدم الاستقرار، وتخفيض حدته، ترتبط بعوامل عدة تتعلق ببنية الدولة، والطبيعة القيمية داخل المجتمع والنظام الإقليمى بشكل عام. وعلى ذلك، فقد تبدو حدود التكيف ممكنة مثلا فى الحالة المصرية أكثر من نظيرتها الليبية واليمنية والسورية. إذ إن الميراث المؤسسى للدولة، وطبيعة القيم التكيفية للمجتمع المصرى يكادان يشكلان بيئة مساعدة لعملية استعادة الاستقرار بشكله النسبى وليس المطلق"
ثم يصل المحرر إلى التعميم النظرى الأخطر والخاطئ – من وجهة نظرى – فى العلاقة بين النظام والمطالب الشعبية؛ والتى تدفع فى اتجاه "مراكمة الغضب" حين يقول فى المقالة الافتتاحية نفسها:
"بيد أنه من المهم الانتباه إلى التكيف مع اللااستقرار بشكل رضوخى سلبى، وليس إيجابيا، قد يشكل مدخلا لتغييرات أكثر حدة قد تسهم فى تصاعد مستويات عدم الاستقرار".

دراسات الملف وموضوعيتها تجاه علاقة التكيف بأهداف الثورة:
على الرغم من محور الملف وارتباطه بمصطلح وموضوع "الاستقرار" الذى التزم به كتاب دراسات الملف، إلا أن تناولهم للعلاقة بين الثورة والتكيف كان أقرب للموضوعية من مقاربة المقالة الافتتاحية للملف التى قدمها المحرر، رغم عرضهم لوجهات النظر التى قاربت "مصطلح عدم الاستقرار" ونظريته، فاتفق غالبيتهم على ضبابية المصطلح وميوعته، وتحدث بعضهم على استحياء عن نقد سياقه التاريخى فى مقاربته لثورات الألفية الثالثة..
ولكن موقفهم كان واضحا فى علاقة التكيف بالثورة وارتباط ذلك بتحقيق النظام لأهداف الثورة، وليس تكييف الثورة مع تهديد النظام لها؛ عبر تهديده لمواطنيه من خلال ملفات الاقتصاد والأمن والسلام الاجتماعى! بما يتفق مع تصورى فى الكتاب لعلاقة الثورة بالتكيف والجدلية التى تؤدى للاستقرار فيما بينهما.

استشهادات دراسات الملف تدفع فى اتجاه
تكيف النظام مع الثورة وليس العكس!!

فى ذلك نورد الاستشهادات التالية من داخل دراسات الملف التى تعارض المقال الافتتاحى للمحرر وهدفه السياسى وتوجهه النظرى، وتؤكد على ضرورة تكيف النظام القديم مع الثورة وليس العكس:
"اقتراب تحليل النظم: حيث يرى ديفيد إيستون أن عدم الاستقرار السياسى مرادف لتهديدات جوهرية لبقاء النظام السياسى، نتيجة عدم قدرته على التكيف مع التحولات المجتمعية".
"التكيف، بمعنى القدرة على البقاء، والتواؤم مع التحولات البيئية، وهو ما يمكن قياسه من خلال العمر الزمنى للمؤسسة، والعمر الجيلى، بمعنى الانتقال السلس من جيل لآخر داخل المؤسسة، والتغير الوظيفى، أى بعبارة أخرى قدرة المؤسسة على تنويع وظائفها بإتاحة وظائف جديدة، والتخلى عن وظائف حالية للتواكب مع التغيرات البيئية وتطلعات المواطنين، مثل مدى قدرة الأحزاب السياسية على الانتقال السلس من وظائف ممارسة السلطة إلى وظائف المعارضة، دون تفككها، وانهيارها.
محمد عبد الله يونس، إشكالية الاختزال: الاتجاهات الجديدة لظاهرة عدم الاستقرار داخليا وخارجيا، ص5، ملحق السياسة الدولية.
"وتركز نظرية النظم على دور النخبة الحاكمة، فى استقرار النظام من عدمه، بين من تسعى لتصدير أزمتها الداخلية، عبر سياسات وإجراءات عدوانية ضد دول أخرى، وبين من سماها جورج مودلسكى بالنخبة الناجعة القادرة على تعبئة القوى المحلية وخلق الترابط بين مصالحها، وإيجاد التجانس الداخلى حول أهداف وطنية. ورهن التحليل الوظيفى – البنائى بقاء النظام واستقراره بوظائفه، دون التوافق حولها، عبر التكامل والتكيف داخليا، أو استعمال التهديد باستعمال قدر من الإكراه خارجيا"
"وربط جيمس روزناو عند تفسيره لأسباب الثورة بين التغير والعنف الداخلى فى المجتمع، حيث تزداد إمكانيات الثورة فى بيئة الإحباط الاجتماعى والسياسى، والحرمان الاقتصادى، وعدم المساواة، وتفشى الفساد والسلطة القهرية، وقمع الحريات، فيما قد يرتفع منسوب عدم الاستقرار فى المرحلة الانتقالية لما بعد الثورة حتى تحقق الأهداف التى اندلعت بسببها"
"بينما يعود يعود النظام إلى حالة الاستقرار، وفق نظرية النظم، بفضل التغذية العكسية المكملة لمنظومة المدخلات والمخرجات، من خلال عملية ديناميكية تسمى الانتظام الذاتى.. لإعادة توازنه واستقراره، وذلك إما بتغيرات داخلية مضادة، أو بعملية تؤدى إلى تعديل فى هيكل النظام، أو الأقلمة الفعلية والمتوقعة فى البيئة، مما يساعد على التكيف وبلوغ وضع مستقر جديد"
"ولكى يبقى النظام متوازنا، لابد من توازن نظمه الفرعية، الفردية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، ذات التشبيك المتداخل، عبر تجديد نماذجه الرئيسية ومعاييره، والتكيف مع البيئة والتغيرات الجارية فيها"
د.نادية سعد الدين، انعدام اليقين: أى مستقبل للنظم الإقليمية فى ظل بيئة عدم الاستقرارص19، ملحق السياسة الدولية.

النظرية العامة للتكيف والصراع الدولى:
التدافع الكامن والمستمر بين "النمط السائد" و "الأنماط الكامنة"

أما فيما يخص "نظرية التكيف" وقدرتها على تفسير الصراع الدولى، فلم يلتفت الملف برمته لقدرة النظرية على تفسير الصراع الدولى ووضع أطره العامة، وهو ما أحب أن أشير له هنا؛ إذا اعتبرنا أن هناك نظرية عامة لـ "التكيف" تفسر الظاهرة والسلوك الإنسانى عامة، وهناك حالة خاصة من "نظرية التكيف" تفسر الحالة المصرية كما أوضحت سابقا... لقلنا أن ملخص "النظرية العامة للتكيف" يقول بوجود "نمط سائد" واحد دائما فى الحالة البشرية المتعددة؛ وهذا النمط "يتكيف" معه الجميع ويتحول إلى ما يسمى "معيار التكيف" أو الطريق التى يسعى البشر – جماعات أو أفراد – لتقليده واتباعه جبرا أو طوعا.
ومن ثم تكون الحالة البشرية فى حالة "تدافع" مستمر وكامن ما بين "الأنماط السائدة" و "الأنماط الكامنة"؛ حيث سيادة "نمط" ما لا تعنى القضاء التام على "الأنماط الحضارية" الأخرى ولكن تعنى كمونها انتظارا للحظة تسترد فيها "سيادة" نمطها الوجودى القديم.. هذا هو الإطار العام لتفسير الصراع الدولى وفق "النظرية العامة للتكيف" وتصورها لفكرة "صراع الأنماط" السائدة والكامنة عبر التاريخ..
وتجدر الإشارة إلى أن "النمط السائد" قد يكون ورائه دافع القوة (دافع مادى) أو دافع الاعتقاد (دافع قيمى)، والحقيقة أى تغير رئيسى مادى أو قيمى على السواء، سيعيد بناء وتشكيل المجتمع وفق معاييره الخاصة، ولكن التغير الرئيسى عموما لابد سيغير من بنية المجتمع وفق قواعد "الدمج والتسكين" الجديدة المصاحبة له ليخلق "النمط السائد" والمعيار الذى على أساسه سيضبط العلاقات داخل المجتمع.
ومن خلال العلاقة بين "النمط السائد" و "النمط المتنحى" تسير عجلة التاريخ، حيث التدافع الذى هو سر الوجود البشرى وتناوب "الأنماط الحضارية" وصراعها عبر التاريخ البشرى.
من ثم يكون هذا هو تفسير "نظرية التكيف" لفكرة التدافع الحضارى والصراع الدولى وديمومته بين البشر؛ الذى يحمل – داخله أيضا – الحلم المثالى بعيد المنال دائما عن "نمط أوحد" يرضى به الجميع وتكون له السيادة الدائمة على باقى "الأنماط التاريخية" الأخرى.. لكن الطبيعة البشرية وتاريخها المتراكم؛ تخبرنا دائما بعجز "النمط السائد" عن تقديم متطلبات ذلك النمط "المثالى الأوحد"، حيث يعود ذلك لطبيعة النفس البشرية التواقة للتغيير من جهة، ولافتقاد الأنماط الحضارية عادة لفكرة العدل والمساواة بين "الأنا" و "الآخر".

معادلة تفوق النمط السائد و"الثورة القيمية":
طبيعة "النمط السائد" كقوة مادية أو كقوة ناعمة قيمية، تتفوق حين المزج بينهما (وهذه أنجح طرق الأنماط الحضارية السائدة تاريخيا من حيث قدرتها على ترك أثر إنسانى قيمى ومادى مستمر).. أى أن يعبر "النمط السائد" عن شكل اجتماعى وبنية اجتماعية تدعم اختياره الروحى القيمى، أو بصياغة أخرى أن يكون شكل البنية المجتمعية منتجا لحالة "المجتمع الفعال" التى تدافع عن نمطها الروحى "القيمى"؛ وذلك هو أخطر الأبنية لنجاح المعادلة الثورية فى بناء المجتمع الفعال، حيث تكون القدرة على تقديم بنية مجتمعية (مصرية) فعالة لا تحاصر منظومة القيم الثورية (منظومة القيم الإنسانية الأعلى)، إنما تدافع عنها وتنتجها..
"ومهم جدا الالتفات للمجتمع الفعال، الذى يملك القدرة الذاتية على توليد آليات دفاعه عما يؤمن به، مجتمع قد يتمرد على نخبته التاريخية إذا لم تعبر عن طموحه، أو قدمت هدف وجودها التنظيمى المصلحى الذاتى على هدف تغيير المجتمع ككل، فأهمية المجتمع الفعال وخطورته أنه مجتمع خارج نطاق السيطرة، مجتمع مفتوح الاحتمالات" المصريون بين التكيف والثورة ص 168.
فالواقع أن أساس المشكلة الإنسانية عبر التاريخ – وفى مصر تحديدا – يكمن فى العلاقة بين الطليعة الثورية القيمية والسلطة/الاستبداد؛ فلقد كانت "الاختيارات القيمية" للثوار تدفع لاستباعدهم، و"اختيارات الانتهازية" تدفع لدمجهم، ووفق "الاختيارات القيمية" والعلاقة مع الاستبداد كان يتم تشكل البنية الاجتماعية، بهدف تشويه "النمط القيمى" للثوار وربطه بالفوضى و"عدم الاستقرار" والخسارة، ولتغيير تلك المعادلة التاريخية يجب حماية "الاختيارات القيمية" و"الإنسانية العليا"، عبر بناء مجتمعى يتصف بالحرية والفعالية، والقدرة على التعبير عن الرأى وتشكله فى أطر سياسية متجددة خارج سيطرة السلطة، أو الاستبداد أو الاحتلال التاريخى فى مصر.. وذلك من خلال الموضوعية والشكل العادل، وتحول سلطة "الدمج والتسكين" وتوزيع الأراضى والمنافع السيادية والخدمية؛ من سلطة المركز السياسى فى مصر، إلى مؤسسات الدولة المصرية وتثوير المؤسسات المصرية عبر ضبطها وفق معايير عادلة غير سياسية، بما لا يربط القهر و"التكيف" والصمت والخضوع بالحصول على المنافع و"الدمج والتسكين"، ولا يربط حياة الثوار وأسلوب حياتهم الفعال بالفوضى و"عدم الاستقرار"، والخسارة و "الاستبعاد والحرمان".

الخاتمة: الاستقرار بين التكيف والتكيف المضاد:
الاستقرار فى الحالة الثورية يرتبط بتغير معادلة فرض القيم وماكينة التنميط التاريخية، الاستقرار فى الحالة الثورية هو استجابة الأنظمة القائمة لمطالب الثورة العادلة، وتكيف السلطة مع المطالب الشعبية وما تفرضه من قيم جديدة ومتطلبات مستجدة، الاستقرار فى الحالة الثورية هو انقلاب معادلة التكيف وماكينة صنع القيم وفرضها؛ وتحولها من السلطة المستبدة إلى الحراك الثورى الشعبى، والذى تقوده طليعة تملك القدرة على امتلاك "معامل رفض قيمى" صلب لمنظومة قيم التكيف والتنميط القديمة، التى على رأسها قدرة النظام المستبد على "الدمج والتسكين " الانتقائى.
لكن هناك من يسعى لترسيخ القطيعة بين النظام والمطالب الشعبية؛ ويراهن على تحدى قدرة الثوار على تحمل الخسارة والصبر، ويراهن على زيادة جراح الشعب كوسيلة لينفض يده من الثورة! هذا التوجه لتيار "القطيعة والصدام" بين الشعب ومطالبه وثواره وبين النظام، سيؤدى لحالة تشبه هدوء ما قبل العاصفة، وسوف يعتقد منظروه أنهم يكسبون أرضا (كما حدث مؤخرا مع عودة مجموعة من وجوه النظام القديم للواجهة مجددا؛ ومحاولة تأميم البرلمان القادم لصالح الاستبداد).
لكن ذلك لن يغير من الأمر فى شىء؛ سوى فى قسوة "الموجة الثورية" القادمة، وقوة رد فعلها وشدته.



#حاتم_الجوهرى (هاشتاغ)       Hatem_Elgoharey#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة فى أحداث الجامعة: مؤسسات الظل ومؤسسات الدولة
- مؤشرات نظام السيسى: الاحتواء والاحتواء المضاد
- الانتخابات النيابية: رؤية ل أبوالحسن بشير
- نقاط الترجيح السياسى بين النظام القديم ومعارضته
- أسطورة الدولة حارسة التناقضات: تاريخ صناعة آليات التنميط فى ...
- تفويض الجند، وتفويض السماء!
- اليمين واليسار وثالثهما: النظام القديم!
- العربي بين الضحية والمناضل في الشعر الصهيوني
- وليم بليك: خريف الطبيعة وربيعها
- وليم بليك: للحرية والإنسانية والتعايش
- وليم بليك: سيد الرومانتيكية
- وليم بليك: بين الإلهي والأرضي
- البدائل السياسية لمسار الثورات العربية
- دوافع وأشكال الثورة عند المصريين
- نظرية الثورة وتمرد 30/6/2013
- مراحل الثورة وسيناريوهات ما بعد الإخوان
- الثورة المصرية والنخب التاريخية
- معادلة الاغتراب في شعر المنجى سرحان
- ثالوث الصراع الثوري: المستبد- الثوار والمتكيفون
- جدلية الانسحاق والصمود فى أدب التسعينيات


المزيد.....




- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء
- المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي: مع الجماهير ضد قرارا ...
- بيان تضامن مع نقابة العاملين بأندية قناة السويس
- السيسي يدشن تنصيبه الثالث بقرار رفع أسعار الوقود


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - حاتم الجوهرى - مجلة السياسة الدولية: بين التكيف والثورة