أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - زقنموت (رواية) 5















المزيد.....


زقنموت (رواية) 5


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 4634 - 2014 / 11 / 15 - 20:14
المحور: الادب والفن
    


مسكوناً بلذة الشعر.
أرق ثقيل باغته،ما زال يخاصمه،سهر يفكك مراميه،هجره ليله،رفض مركب النوم الخلود في محطة جفنه.
بحث.
وجد شوارد فكرة تتشكل،ألقى(ميزان الذهب)،محاولة أغوائية لاقتناص فكرة أضجرته،بدأ يلقي الطعم،ترك مداد قلمه ينزف.
ليل ساكن،كلاب البلدة ما عادت تنبح،بح صوتها،ربما تحجرت حنجراتها،ربما اكتشفت النباح في زمن الحرب غير مباح،قد يفسر على أنه تمرد على السلطة الحاكمة،الحكومة بعد صخب النهار تريد أن تنام في الليل نوماً هانئاً استعداداً لنهار متعب،النباح يقلق الحكومة،ربما ستجيش عسكرها لأبادتها،لذلك وجدت كلاب البلدات الصمت يصب في خانة الولاء لسياسة الحكومة.
(ماهر)وجد صمت الكلاب فرصة للكتابة من غير قلق،النباح يبدد الحلم،يعكر وجه القصيدة بطعم الارتباك ويلبسه ثوب النفور،جلس يكتب،يمزق ورقة تلو ورقة،تكومت حفنة أوراق،تعذرت قصيدة عنيدة مصالحة خلايا مخه.
ما لي أرى الشعر
غادر حديقة القرنفل والآس
ما لي أرى حشود الناس
ما لي أراهم
يديرون دفة الجدال
ما بين الرأس والرأس
ما لي أراهم يحطمون
قلعة شيدناها
بحرقة أنفاس
ما لي أراهم
يحدون لرؤوسنا
نصل السكين
والفأس.!
***
فجره العاشق لا يجيء سريعاً.
خرج يمشي.
نثار ذهب لاح في الشرق يغريه،خروجه في تلك اللحظة تقليعة مزمنة،دائماً يجد نفسه يمشي في الجبال،يبحث عن قرارة نفس،يخرج كلما يجد ليله يقفل أبواب الشعر بوجه خياله،جبال وديعة تحادد (جلبلاء)،ساكنة،عاشقة للصمت،تشعر البيوت بالخصب،كلّما ينهمر المطر،تلملم السيول،تدحرجها عبر أخاديدها،فيضانات تلملم الناس لإلقاء نظرة إعجاب على ماء مجنون يحتل بطن البلدة.
الوادي..يشق البلدة إلى نصفين شبه متعادلين،يوم جنونه،على طرفيه تعيش الناس عيداً،الكل فرح بهذا الجنون المائي المندلق من أحشاء الجبال،ماء كحليب ممزوج بالقهوة،يندفع بعنف،يصب في نهر البلدة،هناك تقام أعياد أخرى،كل أهالي البلدة،صغاراً وكباراً،رجالاً ونساء،واقفون يستمتعون بمشهد لا يتكرر إلاّ لماماً، كون سنوات البلاد جاءت بالقحط،لا مطر يكرر هذا المشهد الإنساني المسالم،رغم قسوته،رغم عنف السيل يجمع قلوب الناس في فرن الوحدة،يجمع أنظارهم في بؤرة واحدة،في الاتحاد تعم السعادة،وتندحر الضغائن.
المطر في البلدة بات من النوادر.
قيل..رحيل جد(ماهر)،الرجل المبارك،صاحب الكرامات،سبب توقف المطر.
قيل..ترك العلاج بالطرق الشرعية،من الأسباب الأكثر توضيحاً للقحط المتواصل على البلدة.
قيل..عسكرة البلاد تهزم الغيوم المارة في السماء.
يمشي.
الجبال سكرانة من أثر الليل،برد ينهض مع وميض الخيط الأبيض،لكم تبدو الجبال مهيبة،مغرية،تحكي قصة لياليها،حكايات الضواري والمهربين وسرّاق الحياة وسالبي أرواح الناس أو دافينها في مقابر جماعية من غير شواهد.
خط الشارع الرئيس يمتد،شاقاً أحشاء البلدة إلى نصفين متناقضين.
القسم الأسفل..الجهة الشمالية.
أكوام منازل طينية،عشوائية تتداخل،تتخثر في فوضى اللا نظام،أزبال تتناثر بين الأزقة والساحات القليلة المتبقية بعد زحف وباء(التجاوز)وتلويث عقول الناس بالكامل،ناس أتت على كل شبر أرض لبناء مساكن غير قانونية،سببها نوم الحكومة،وتجاهلها القضايا الحيوية لعصب الدولة،كل الحيوانات السائبة،حمير، كلاب،قطط،وجدت السلام الشامل عند قاطني بيوت التجاوز،ربما شعور فطري بالتضامن توالد بعد سنوات من العذاب والنوم المشترك،بشراً وحيواناً،على التراب.
القسم الأعلى..الجهة الشرقية.
بتدرج وتناسق تتراص منازل طابوقية،تلتصق بـ خدود جبال دائرية متهدلة،فيها أمكنة تسمح بسير عجلات (الجيب)العسكرية من غير عرقلة،بقية متبقية من مخلفات العهود البائدة،حررتها الحكومة الجديدة في مزادات علنية متواصلة،رغم متانتها وقوة محراكاتها،بدلتها بعجلات حديثة،مكلفة،من باب تطوير الآلة الحربية للبلد،انسجاما مع مزاج النظام السياسي الجديد،فالحرب حلم ينمو في الذاكرة،لا حكومة شرقية تنجح ما لم تنضج على نيران الحروب،الحرب تجعل الناس في خوف دائم،في إطاعة عمياء،الحكومات الحربية تعيش بسلام داخلي،تتوفر لها فرص نادرة للتخلص من الضبّاط الكبار،في الهجومات أو تخويناً،حكومات كثيرة تمد يد العون،تبيع السلاح والخطط العسكرية،الكل ينتفع من الحرب،لا أحد يفكر بتغير النظام، العسكريون يقتلون تباعاً في الجبهات،الولائيون يتدرجون في المناصب،ذوو القتلى ينالون مكاسب ومنجزات كبيرة،قطع أراضٍ سكنية،منحة من دائرة العقاري بفائدة مدفوعة سلفاً،راتب شهيد معتبر،عشرة درجات على المعدل لأبنائهم للمنافسة على مقاعد الدراسة في الكليّات،وأكبر كل الفوائد،لا أحد يفكر بالزعامة في ظل الحرب،الكل يلهث لتكديس كومة أنواط على صدره.
الكل يفكر برغبة واحدة،رغبة النجاة من الموت.
والحروب أثبت الزمن أنها تقوي أركان الحكومات الثورية.
قبل أن تجيء إلى سدّة الحكم،تضع في بالها برامج حربية شاملة،ستشنها على الداخل والخارج،على الخلان والجيران،على الحيوان والإنسان،على الأنهر والحقول والغابات،على العقل والصحة والأمان.
في تلك الجهة،القسم المرموق من البلدة،عيشاً وبناء،ماء المجاري في الأزقة،يمضي منحدراً من غير مشاكل(نساء).
شارع فرعي يتفرع إلى فروع ملتوية،يبدأ من الشارع الرئيس للبلدة،مائلاً نحو الشرق،يخترق بيوتات منضبطة البناء،ينتهي عند مخالب قبور تنفلت زاحفة من المقبرة الجديدة،بعدما تم إزالة المقبرة القديمة لأغراض سياسية بحتة،رغم أن الحكومة أعلنت ـ عبر يافطات توزعت على الأعمدة الكهربائية وجدران المنازل وعبر سماعات مركبة على مركبات،ظلّت تخترق الأزقة ـ أنها بصدد بناء مؤسسة خدمية لتطوير المجتمع المدني، مهمتها تنظيف عقول الناس من مزابل الحكومات السابقة،ناسية أنها ستغدو مزبلة كما غدت سابقاتها، لتهيئتها للمرحلة الثورية الراهنة،مرحلة العيش الرغيد،توزيع الحقوق كاملة غير منقوصة بنظام اشتراكي عادل ،وعائدات النفط ستوزع بنظام الصواع على الناس.
البعض ممن كان يمتلك رؤية سياسية عقلانية بسبس همساً في آذان غير جاسوسية:
((هذه الحكومة شيطانية،بدأت تمرر رسائل غير علنية لترضية العالم الغربي الغاضب على أوضاع شرقنا الكسول،سنبقى مكممي الأفواه،ليس بوسعنا تحرير آهاتنا علناً إلى أجل غير مسمى.))
فاجأت الحكومة الناس ببناء دار(سينما)على مكان ظلّ مقدساً بالنسبة لأهالي(جلبلاء)،كونه يحتضن مقبرة البلدة الوحيدة،مكان شبه أثري،يضم أضرحة سادة قيل أنهم كانوا أصحاب كرامات مشهودة في أزمنة البراءة، أيّام كانت الناس تتزاور،وكانت تترك أبواب منازلها مفتوحة مع انبلاج الفجر وحتى منتصف الليل.
أكثر القبور مهابة كان قبر جدّ(ماهر)،المسوّر بسياج حديدي مصبوغ بلون أخضر،في أصيل كل خميس تتقاطر النسوة ليجلسن حوله باكيات،طالبات المراد،وتحقيق الآمال المأمولة من جدثه.
في تلك المقبرة،ترقد أرواح فلذات أكباد أكلتهم الأوبئة والحروب لكل الأجيال المنسحقة.
(ماهر)..يمشي.
عبر الشارع الفرعي،لم يسبق له أن سار فيه في كل صباحاته السابقة،هاجس ما دفعه أن يتبع ضوءً ظلّ يسحبه،شيء ما،يغري،يسعد،ينعش خياله.
قيامة أغنية أشعبت تضاعيف الجسد
موطنها الريح والرعد
ترجف القلب
يرتعد
نبض المصير يسري كالمد
موسيقى تضوع الفضاء بلا حد
جسدي خرج من قشرة الفراش كالمحتد
خرج يبحث عن سر هذا الغناء
الممتد
عن سر صهيل
في وادي عقلي
ينهد..!
***
قوافل فتيات تمر،يشغلهن هم الدراسة،هموم أخرى متواجدة،يمكن قراءتها داخل عيون خائفة تتلفت،أنفاس مرتبكة تتصاعد،ابتسامات خجولة تشرق وتخمد،نهود مستفزة ترتج،خدود مرتجفة تتورد،ثغور حذرة تتأوه.
(ماهر)مشغول يطارد كلمات في فضاء خياله تطير.
نشيد ليله يمتد.
صباح منعش،جاء غير سريعاً،أخرجه مريضاً بحمى وجد ينمو،يغزو كيانه،فجأة،من غير إضاءة،من غير تنبيه،عينان ترنوان،حجاب الصباح فشل في تشويه ألقها،جاءت كالبرق،ضربت المنازل والأشجار،وصلت منطقة خجله.
ما الذي أتى بها من هذا الدرب.؟(قال لسانه)
اللسان أوّل المبادرين،الجسد فيما بعد يسترد وعيه،على مهل نضجت الرغبة.
(مهما)تمشي،تدنو،شيء ما أوقفه،أجبره الامتثال لنداء أخترق المسافة الفاصلة بينهما.
وصلت..قالت:
((طريق الشعر ليس من هنا.))
لسانه تحرر:
((طريق الحب من هنا أيضاً.))
كلام ناعم،ناعس،فيه شيء من رغبة أنثى راغبة،قليل من الخوف لا يؤثر،كثير من شجاعة تمررها عينان واسعتان،قالت ما يؤرقها،ما راكمت في بالها من شوق مؤرق،وقف يعيد صياغة كلماتها.
مشت..بدأ يتبعها،لم تتلفت.
شحّاذ يلهث خلف ميسور بخيل،قلبه يصرخ،أعضاءه تحارب بشراسة،تخترق المسافات،اخترقت أزقة،يلهث، قدماه تخسران شبراً شبراً،تغدو المسافة مترامية،أقدامها تعدو،تتسع هوّة الفجوة،قبل باب المدرسة بأمتار وقفت..وقف،تلفتت،شعرها تطاير،أومأت تناديه،مرتجف الأوصال،مخلوع الفؤاد،رذاذ يغرق نور الصباح، يندفع مع لهاثه.
وصل..قالت بشجاعة كاملة:
((الساعة تسع......!!))
توقف لسانه،لم يرغب أن يستفسر أو يفه بشيء،يفقد اللسان وظيفته أوان الحب،يعجز عن ترجمة مشاريع الذهن إلى واقع حال،كل ما يؤسسه الشاب من عمارات كلماتية،وعود وباقات أشعار يهيئها لساحة اللقاء، تنهار لحظة الحقيقة،كل شيء يتبدل،ما يوفره العقل ينسفه المشهد الآني،(مها)لم تزد شيئاً،ربما الخوف نبت، كل ما عندها أوجزته في نصف جملة،عبارة قد تكون غير مجدية،لا تشكل شيئاً في هرم الحب،عيناه في عينيها،كأنها هبطت من كوكب غريب،كأنها في تلك اللحظة،لم تكن تلك الفتاة،صاحبة الكهرباء،صاحبة داء الأرق والقلق،صاحبة القبلات العابرة،نثرت ابتسامتها،ضحك الصباح من حوله،ضحك العالم،سقط كطفل في عرس يلملم حلوى ثغرها،لم تشاركه الوليمة،تركته ومضت.
واصلت سيرها.
باب المدرسة،فم غول جائع التهمها.
مشى.
إلى أين لا يدري،لم يعد الشعر جوهرة تغري الخيال،لم تعد موسيقى الليل تتواصل،رأسه يتلفت،مسكوناً برغبة مأمولة،قد تخرج كما في الصباحات،تدخل البيت وتخرج،لم تعد الرؤية تسعف بركان الرغبة.
عند مقبرة(جلبلاء)الجديدة،وجد مرتفعاً ترابياً،جلس يعيد ترتيب أوراقه:
ماذا تريد(مها)مني.؟(قال لسانه)
واضحٌ هو الجواب.
لا شيء يربط الأنثى بالرجل سوى الشهوة،لا شيء يربط الكائنين سوى فكرة خالدة،التلاحم من أجل إخماد حرائق الروح،أمّا البقية الباقية مجرد إسقاط فرض،ليس في بال الفتاة واجبات الوجود،أو رغبة تتملكها لتشكيل المجتمع ومواصلة البقاء،تتوالد فيها شرارة تحرق،لا مطافئ يكافح حرائقها سوى رجل يمتلك وسامة،في كثير من الفرص يكون بلا وسامة،المهم رجل يمتلك ذكورة،يوفر لأنثاه مطفأة حرائقها الليلية،ليس بالضرورة أن يكون مألوف الوجه،الحب يفتقر إلى العيون،كونه جوع القلب،والقلب كما تشير الشرائع أنه يرى من غير بؤبؤ وجؤجؤ.
أحياناً يأتي فارس القلب فجأة،يفرض شخصه منقذ حرائق عاطفية.
خوفٌ ينمو.
تحول إلى رعشة جسد،لم تعد الكلمات تحوم في فلك الخيال،القصيدة ولّت،جالسٌ بين مئات الأجداث الراقدة،في الحقيقة لم تكن كلها أجداث،كثيرٌ منها أكوام تراب،تم لملمتها من المقبرة القديمة بعد إزاحتها بالبلدوزرات،تم نقل أكوام التراب في أكياس خام،على أنها بقايا أجداث أموات في تظاهرة جماهيرية شعبية،شارك فيها الجميع من باب كسب الحسنات لـ محو السيئات يوم العرض على رب العالمين،دسوها في خاصرة مرتفع أرضي جديد جنوب شرق البلدة.
(ماهر)شارك المحتفلين يوم تقاطرت الجموع لنقل رفات جدّه،وضعوا عظامه تحت حراسة مشددة خوفاً من ناس تسرق عظام السادة لتبيعها بأثمان غير زهيدة،كونها تنفع لزيادة بركات المنازل التعيسة،وضعوها في مكان مناسب يليق بمقامه،حسبوا حسابات أخرى،مكان يوفر مساحة مناسبة للزائرات،علموا أن بعد المقبرة لم يشكل هاجساً عارضاً ولا كلفة متعبة ينأي نساء البلدة من زيارة المقابر،وجدوا له مكاناً متفرداً،يتميز من بين القبور المنفية.
كان قبر(جدّه)خلفه على مرتفع،لم يجد وازعاً يدفعه أن يقف عنده،ليقرأ سورة الفاتحة على روحه،طالباً منه التوسل عند الله كي يمد يد العون له في أيامه القادمة.
مشغولاً بكلام(مها)،باغته سؤال بدا معقولاً،لم اختارت:
((الساعة تسع.....؟))
(مها)تخرج عند منتصف الظهيرة،يقينه وليد حالة شائعة،أشياء تعذر عليه فهمها،نشيطة كانت حين ألقت سؤالها،متحمسة،في عينيها لاحت تباشير الفرح وأشياء جديدة ومضت واختفت.
وقته غير سريعاً يمضي.
لا ساعة تسوّر معصمه.
(ماهر)يكره من يسوّر معصمه بسير ساعة،لا يعرف السبب،كانت ساعة المعصم تذكره بالقيد،شعور ظلّ ماثلاً منذ طفولته يوم رأى رجال الشرطة(يكلبجون)معاصم بعض الشباب ويسوقونهم إلى السجون.
قيل..يقرءون الكتب والصحف ويكتبون أفكارهم الغريبة لتلويث عقول الناس.
قيل..لا يؤمنون بالله،كفرة،زنادقة.
قيل..يتزوجون من أخواتهم عند تعذر متطلبات الزواج.
قيل..سفلة تفو عليهم وعلى حزبهم الـ خرا.
عرف(ماهر)أن من يقرأ الصحف في(جلبلاء)يقذف بتهمة الشيوعية.
يساقون إلى السجون،يعذبون عذاباً جسدياً،يجبرون على توقيع تعهدات،لا كتاب في اليد والبيت ولا صحيفة استثناء صحف الدولة الرسمية الناطقة باسم الحزب،بعد التوقيع،لا أحد يتجرأ أن يعاند،أو يحنث بتعهداته،رغم تواجد همسات،أنهم يواصلون القراءة سراً،يتبادلون الكتب والمناشير بطرق شيطانية،عجز رجال الأمن ملاحقتهم أو كشف(جرائمهم)السياسية على حد زعمهم،ويوم ضبط أحدهم في المدرسة،تم سجنه لشهر من التعذيب وإعدامه أمام طلاب البلدة،بعدما قادوهم في مسيرة تأييد للسلطة الجديدة،حشروهم في ملعب لكرة القدم،تفاجئوا بقيادة طالب معصوب العينين،أوقفوه وأمطروه بالرصاص بعد تخوينه بمعاداته للسلطة.
كان الطالب المعدوم،واضعاً أوراقاً من كتاب(عشرة أيّام هزّة العالم)لـ(جون ريد)بين أوراق كتاب المنهج،كتاب التربية الإسلامية،بطريقة لا يمكن التوصل إليها،ورقة منهج..ورقة من الكتاب الممنوع،اتهموه بتلويث كتاب الدين ونهج الحكومة بـ براز الاشتراكية.
في كل شبر أرض زرعت عيون تتلصص،ساهرة تحرس النظام،يخافون من نمو أحلام الناس،عيون سريّة ظلّت تلاحق أصحاب التعهدات،تمكن أبن أحد رجال الأمن أن يستغل خلو الصف من التلاميذ،تسلل وراح يفتح حقائب المشكوكين بولائهم،سحب الكتاب الملوّث وقدّم دليل الجرم لأبيه.
حالات إخراج الطلبة من الصفوف تواصلت بحجج مبتكرة،يخرجونهم بداعي العمل الشعبي،يخرجونهم في رحلات راجلة إلى الجبال بحجة الرياضة الجماعية،بحجة تقوية وتنشيط الأبدان،على الناس في ظل الأنظمة الثورية أن تتمتع بالصحة الكاملة،ببنية جسد موفور العافية،كي يتهيأ كل فرد لحمل السلاح دفاعاً عن ثورية وطنه،فيما بعد تبين أن هناك اتفاقات سريّة مبرمة بين مدراء المدارس ودوائر الأمن،الوسيلة الوحيدة لغربلة أحشاء حقائب التلاميذ،أكثر من تلميذ أكد باختفاء طعامه من داخل حقيبته،كلامهم ذهب سدى،ممنوع التفوه بما يشكك برجال أمن خلّص،تنازلوا عن ضمائرهم من أجل(عقّال رأس الزلم)،((نفذ ثم ناقش))نفذوا ما عليهم ووجدوا أفواههم مخيّطة بالخوف والموت،كان رجال الأمن أو أبناءهم بمشاركة المعلمين السياسيين يفتشون ويسرقون،لكن لا أحد يتجرأ من قول الحقيقة.
من خلال تلك العيون المتجسسة اختفى من البلدة،معظم الموقعين على التعهدات الأمنية،ألبسوهم تهم منسوجة بشيطانية،محاربة الثورة،بعضهم تمكن من مغادرة البلدة والبلاد بعدما وجد فرصة مغامرة ناجحة.
من يومها وجد(ماهر)نفسه تشمئز منها،من كل شيء يسوّر معاصم اليدين،حتى من الأساور،رغم أن الساعة،أداة مفيدة،تعطي دقائق الزمن،تنظم حياة الناس،تبرمج الواجبات،تؤرخ الوجود بالثواني.
عقلياً بدأ يخمن الوقت،حسب حساب المسافة ما بين المدرسة وبين المقبرة،كم جلس،عجز ذهنه التوصل إلى حساب مقنع،حالة الإخفاق قائمة طبعاً،الفكر مشوّش،مشغول،القلب يضرب بعنف،لم يجد بد كي يواصل مكوثه،الشمس بدأت تطبخ رأسه،عاد من المقبرة،وجد مكان وقفتها قفراً،باب المدرسة مصفقاً،لابد أنه أخفق في تقديره للزمن.
(مها)خرجت ولم تجدن.(قال لسانه)
وقفت تنتظر،حتماً غضبت،لا تحتمل الفتاة الصدمة العاطفية الأولى،الصدمة الثانية تمر مرور البروق الكاذبة،لابد أنها عادت إلى البيت مليئة بالخوف،قلقة،غير واثقة من تعاطفه معها.
وقف دقائق شبه يهذي..يغمغم.
في الجوار أنفار تمضي،نساء ينشدن السوق،نساء ينادين أطفالهن،دجاجات تركض نحو مزبلة المنطقة، ديك يواصل سيادته الكاملة على مملكة دجاج،بين لحظة وأخرى يركب دجاجة ليدس حريقه في جوفها، بحجة تلقيح بيضها،قطط تغربل أكياس القمامات،كلبٌ واقف عند باب مفتوح يرمقه،خجل أن يطرح سؤاله على إنسانٍ يحمل في معصمهِ ساعة.
نهار يدنو من منتصفه.
(مها)لعبت لعبتها معي.(قال لسانه)
شيء من هذا القبيل بدا معقولاً له،هكذا فكر،لا يعرف لم طرأت بذهنه تلك الفكرة،(مها)قالت كلامها برغبة وصدق وشوق بان من خلال نظراتها،من خلال انفعالاتها،من خلال لسانها،قالت كلامها دون أن ترتبك، يقسم أنها كانت تريد الحب،ترغب بموعد طويل لوضع بعض النقاط الضائعة على حروف مستقبليهما، ما زال يحتفظ بنظراتها،بثغرها المبتسم.
داهمته الظهيرة،بدأت طوابير البنات يخرجن من الباب الخلفي للمدرسة،ضرب قلبه بعنف،تراجع،وجد جداراً يحتوي خوفه.
انتهت الطوابير.(قال لسانه)
انتهى العالم.(قال لسانه)
أين(مها).؟(قال لسانه)
لا واحدة تشبهها في المشي،(مها)تمتلك مشياً نادراً،تقدم ساقاً ببطء،تمشي بحركة من تدربت على إحراق أعصاب الذكور،تتبعها بساقٍ،أنها توقع على الأرض بصمة الفرادة والريادة.
لابد أنها أرادت من كلامها أن ينتظر،مهما يحصل،عليه أن يقف،أن يطيع أمرها،لابد أنها وضعت في بالها شيئاً يهمه،تعذر عليه حساب الجوانب المتوقعة لسؤالها.
لابد أنها خرجت في موعدها،كلام العاشقة قرار،مواعيدها أقدار،لا غرو حصلت الكارثة،وجد نفسه في حيرة، لم يعد يرغب ترك مكانه،ماذا يقول لها لو جاءت غاضبة،عيناها ترميان بشرر،أنفاسها حريق،ليتها تعاتب،عتابها كتاب يمكن طي أوراقه،يمكن أن يخمد غضبها.
يائساً وصل البيت.
قالت أمّه:
((أين كنت،لم تتناول فطورك.؟))
((ذهبت إلى المدرسة.))
((ألم تقل أنك ستتركها.!))
لم يجبها.
دخل غرفته.
أبواب العالم منغلقة بوجهه،حب متعثر،حياة فاشلة،مستقبل ضائع،لم يحتمل وحدته.
نهض وخرج.
على رصيف الشارع،كان العالم مشغولاً،مركبات حربية تنقل الجنود والعتاد،ناس تتقاطع،وحده بلا أمل.
في لحظة ضيق جاءت طفلة البريد تلهث،وقفت قربه..قالت:
((خالتي تسلّم عليك،أرسلت لك هذه الورقة))
الورقة صارت بيده.
ركضت الطفلة،شيعها بنظرات حائرة.
وقف متلهفاً ينتظر فرصة قراءتها،قربه دكان حداد مغلق،على الباب قماشة سوداء،((كل نفس ذائقة الموت))،إعلان بشهادة والد صاحب المحل في الجبهة.
على السندان،شعر في تلك الجلسة،شبح مطرقة ارتفعت وبدأت تهوي على رأسه،مرتجفاً بدأ يقرأ:

[ لما لم تلبِ رغبتي،خرجت عند التاسعة،قلت للمديرة أشعر بصداع،أعطتني ورقة عيادة،(ماهر)أضعت فرصة لا تعوض،كان من الممكن أن نفصح عمّا في نفسينا بشكل أكثر،نوضح رغباتنا،أريد أن أعرف مدى حبك لي،هل حقاً أثير إعجابك أم أنك متردد،هل أصبحت قصيدة عصماء في ديوان قلبك،أم أنك تعيش في عالم آخر،لا تستغرب من كلماتي،حبك شجعني لقراءة الأدب والنصوص،ألتهم كل مفردة تثير عواطفي،أم أنك تريد موديلات لقصائد لا تعنيني،صحيح أننا لم نبرم الموعد مسبقاً،من أجل هذا فقط أعذرك،ربما في الفرصة القادمة،نكتشف أنفسنا أكثر،عش محترقاً على فرصة أضعتها،في المرة القادمة أحترس،كن حريصاً،لا فتاة تعشق كسلاناً،أم أنك نسيت قبلاتنا السريعة خلف المدرسة.!]
***
مدجج بفرح غامر عاد،سر سعادة مباغتة فضحه.
قالت أمّه:
((سبحان مغير الأحوال.))
((من أجلك لن أدع الحزن يسكنني مرة أخرى يا أمّي.))
هيأت غداءه،أكل كثيراً،بعد دقائق تمدد في غرفته،منفوخاً بأحلام ستورق حتماً في القريب العاجل،الحرب ربما ستنتهي سريعاً،لا حرب تمتد في راهن الوقت،أبواق الإذاعات تنعق،ألسنة النساء تتناقل كل ما يقال،لكن عقله فسر الحرب،كل شيء سينتهي إلى خراب،الصواريخ بعيدة المدى،شاملة التدمير،ستضع حداً عاجلاً لجمال الحياة،رأي آخر يفرض حضوره،الحروب الإقليمية طويلة النفس،طالما دول شيطانية ترغب بتسجير تنانيرها،تستفيد من بيع سلعها،تبيع أسلحة لكلا الطرفين،دول الاستكبار العالمي تقدم خبرات حربية وخطط مقابل أموال الشعب،فما نفع الأموال لشعب قرر أن يموت من أجل كرامة وعز وطنه،الفقير حسابه خفيف، فلا داعي للغنى،طالما الجميع مشاريع استشهادية للحفاظ على منجزات ومكتسبات ثورتهم العملاقة.
قرأ ورقة(مها)أكثر من مرة،بتأمل،بشيء من البكاء،بقليل من الضحك.
عينان أشرقتا من نافذة كياني
أحاول لملمة جيش ضجري
أرى طفولتي
تتسكع في شوارع مجهولة العنوان
شتّان ما بينها
ـ مها ـ
وبين من عزفت قبلها
ـ مهدية ـ
في ربوع قلبي
أقصر الألحان
لم يعد الشعر قنديلاً
لم يعد الحلم دليلاً
لم يعد الأمل خيلاً
لم يعد خيالي أرخبيلاً
لم يعد الشعر حلماً
يبدد وحشة زماني..!
***
أخيراً..
اكتشفت حقيقتي
لم تعد(فناجين الدجل)تروي قضيتي
لم تعد
كلمات ليل الكسل
تطوي حتى الصباح
بين جدائل الفجر
مصيبتي
يا غربتي..
ها هي بنت الزقاق
تدق مسمار براءتها
على جدار صعلكتي
ها هي
بكامل مستقبلها
ترتمي على جرف حياتي
لتستكمل محنتي.!!
***



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زقنموت (رواية) 4
- زقنموت (رواية) 3
- زقنموت (رواية) 2
- زقنموت (رواية) 1
- ليالي المنسية(رواية)جزء38الأخير
- ليالي المنسية (رواية) جزء 37
- ليالي المنسية (رواية) جزء 36
- ليالي المنسية (رواية) جزء 35
- ليالي المنسية (رواية) جزء 34
- ليالي المنسية ( رواية) الجزء 33
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 32
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 31
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 30
- ليالي المنسية(رواية)الجزء 29
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 28
- ليالي المنسية ( رواية ) الجزء 27
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 26
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 25
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 24
- ليالي المنسية (رواية) الجزء 23


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - زقنموت (رواية) 5