أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سمير ابراهيم حسن - أهمية علم الاجتماع















المزيد.....


أهمية علم الاجتماع


سمير ابراهيم حسن

الحوار المتمدن-العدد: 4631 - 2014 / 11 / 12 - 23:06
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



يعتبر علم الاجتماع من أهم العلوم الإنسانية صلة بالحياة الإنسانية ونشاطاتها. ذلك أنه في الاجتماع البشري تنشأ عوارض ومشكلات يشكل فهمها واقتراح الحلول لها جوهر اهتمام علم الاجتماع، فالمشتغلون في البحث الاجتماعي يمكنهم أن يساهموا مساهمة فعالة في فهم المشكلات الاجتماعية فهما علميا وتقديم الحلول المناسبة لها.
إن علم الاجتماع هو علم لدراسة المجتمع والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية والآليات والقوانين التي تحكم تغيرها وتطورها، فهو يقوم على الدراسة الموضوعية للظواهر الاجتماعية وتحليلها تحليلا علميا بهدف معالجتها معالجة مناسبة.
لقد كان ظهور علم الاجتماع جزءا أصيلا من النهضة العلمية والحضارية الحديثة في الغرب، كما ساهم ولا يزال مساهمة ممتازة في تقدم المجتمعات الغربية. ولعل فترة نشوء هذا العلم في غمار الثورة الصناعة أن تكون ذات دلالة واضحة على كونه جاء استجابة للمشكلات التي طرحها التغيير الاجتماعي في تلك المجتمعات.
في بلادنا لايزال علم الاجتماع يعاني من قلة الاهتمام به رغم حجم المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا. لقد ظل علم الاجتماع في مجتمعاتنا حتى فترة قريبة مهمشا، ونادرا ما دعي المشتغل بعلم الاجتماع إلى المشاركة في وضع البدائل والاختيارات أو حتى لإبداء المشورة في جميع المستويات الرسمية وغير الرسمية. وما زال الطلب على البحث الاجتماعي سواء في القطاع العام أم في القطاع الخاص قليلاً جدا مما جعل التقدير الاجتماعي لدور علم الاجتماع متدنيا.
اليوم يتنامى عدد الباحثين في علم الاجتماع وهناك دراسات عديدة في الأسرة والهجرة والتغيير الاجتماعي والعمل والسكان وجميع مجالات النشاط البشري ومشكلاته، يقدمها باحثون وأساتذة بمبادراتهم الذاتية.
لكن الأمر أنه ليس هناك طلب على البحث الاجتماعي، وكثير من الجهات والمؤسسات الاجتماعية الأهلية والرسمية إما انها قد تجهل فائدة علم الاجتماع وأهميته لنشاطها او نجاحها، أو قد ترى فيه علماً زائداً ونظرياً ولا حاجة لها ولا للسوق به. وبينما نجد أن علماء الاجتماع في الدول المتقدمة هم في المقدمة في مجتمعاتهم، فان المشتغلين في علم الاجتماع في بلادنا غالبا ما لا يجدون لهم مكانا لا في خدمة المجتمع ولا في صناعة القرارات الاجتماعية. والمفارقة أنك لا تجد خطابا سياسيا أو ثقافيا أو اقتصاديا يخلو من الصفة (اجتماعي) مع أن الباحث الاجتماعي هو الغائب الأول.
دعونا نفكر قليلاً ونتساءل: يا ترى، أليس ذو دلالة أن يكون معظم المستشارين في الإدارات الأمريكية منذ الخمسينات من القرن الماضي، وجميع مؤسسي مراكز دراسات المستقبل منذ ثلاثينيات القرن المنصرم في أوروبا هم من علماء الاجتماع؟ وماذا يمكن أن تعني لنا ملاحظة انه في المجتمعات المتقدمة اليوم لا تخلو مؤسسة بحجم متوسط وما فوق من وحدة للبحث الاجتماعي أو اتصال بمركز للبحث الاجتماعي؟ وهل يمكن اليوم صناعة قرار فعال ومؤثر وناجح في المجتمع وفي حياة الناس من دون معرفة بفئات المواطنين ومشكلاتهم وحاجاتهم وتوجهاتهم، او بدون معرفة واقعية وموضوعية بتركيبة المجتمع وإمكاناته؟
إن الملاحظة العامة والبسيطة اليوم، ترينا أن مراحل التغير الاجتماعي الاقتصادي السريع التي مرت بها بعض المجتمعات سابقاً كانت دائما تفرز مشكلات اجتماعية ثقافية وأخلاقية من كل نوع، فتنمو وتنشط وتتحفز فيها وفي جامعاتها أقسام العلوم الاجتماعية والثقافية، ومراكز البحوث والدراسات الاجتماعية، فجميع العلوم الاجتماعية الحديثة في أوروبا تبلورت ونشطت في أتون الثورة الصناعية وما أفرزته من مشكلات سكانية وأخلاقية وثقافية واجتماعية، وكان لعلم الاجتماع دور كبير في دراسة وفهم تلك المشكلات ومساعدة أصحاب القرار في التعامل معها.
فماذا عن مجتمعاتنا؟ أليست هي الآن تجتاز مرحلة انتقال وتغير اجتماعي سريع؟ مع ما يولده ذلك فيها من عواقب ثقافية واجتماعية وأخلاقية من جميع الأنواع، أوليست هي في غاية الحاجة الى متخصصين في علم الاجتماع والبحث الاجتماعي والخدمة الاجتماعية يمكنهم أن يتعهدوا هذه العواقب بالدراسة والفهم والتقريظ، وهذه التغيرات بالترشيد الاجتماعي العقلاني؟
ان العالم اليوم مذهل في سرعة تحوله: تكنولوجيا جديدة، عولمة، ثراء فاحش، وبطالة كبيرة، وإعلام عالمي، وحروب جديدة من نوع ومبررات جديدة مختلفة، وحركات شباب، وجماعات ومجتمعات افتراضية، وثورات جديدة، وسرعة تغير لا تسمح بالتقاط الأنفاس. هذه المشكلات تضع مجتمعاتنا والقائمين عليها من أصحاب القرار والمخططين والمفكرين والاستراتيجيين اليوم في جو من الارباك والتشوش، وذلك إنهم احيناً وقبل أن يتموا السنوات الأولى من خططهم يكون المجتمع قد انتقل إلى حالة أخرى مختلفة عما بدأوا به، والتركيب الاجتماعي الذي بدأوا به برنامجهم قد تحول إلى تركيب آخر مختلف.
لذلك يرى من يلاحظون هذا الأمر من المفكرين في علم الاجتماع، أن على علم الاجتماع أن يصبح نشاطاً نقدياً اجتماعيا سياسياً، يحلل القضايا اليومية، مثلما هو نشاط أكاديمي علمي يدرس القضايا الاجتماعية الكبرى.
كما يجب الآخذ بين الاعتبار أن جميع مناطق المجتمع تقريباً هي في حالة من إعادة التكون والتحول والتشكل بفعل ثقافة عالمية لا تعبأ بالحدود القومية القديمة. فنحن مثلاً ربما نصبح جميعاً مخلوقات حضرية (سكان مدن) في حوالي منتصف هذا القرن. لعل ذلك يقتضي إعادة النظر في أسس علم الاجتماع، ويجعل قضايا التغير الاجتماعي وآلياته ومستقبله وسبل الاستعداد لها في رأس قائمة اهتمام علم الاجتماع، كما تقتضي الحكمة من أصحاب القرار ومديري المؤسسات وعلماء الاجتماع اليوم أهتمامًا أكبر بالدراسات المستقبلية لاستشراف آفاق التغير ومساعدة المجتمع والناس للتهيؤ لها.
ان نتائج البحث الاجتماعي الذي يقوم به الباحثون وعلماء الاجتماع تساعد قادة المجتمع، من أكاديميين، وخبراء تربية، ومشرّعين، ومدراء، وسياسيين وغيرهم في حَلّ وفهم المشاكل الاجتماعية، وصياغة سياسات عامة مناسبة لمواجهة احتياجات مجتمعاتهم.
ربما لا تعي الشركات ورجال الأعمال والقطاع الخاص ومسؤولو حسابات وتخطيط الدخل القومي الإجمالي أهمية علم الاجتماع وأهمية البعد الاجتماعي والانساني الذي يشتغل عليه، فذلك منطق السوق الذي يعملون فيه، والذي يقيس كل شيء بمنطق الربح والخسارة المادية الملموسة بالأنامل، ولكننا نعتقد أن الحكمة تقتضي أن يكون أصحاب القرار أوسع أفقا في تقدير الأبعاد والعواقب الاجتماعية لسيرورة المجتمع والعالم الذي نعيش فيه. فيمكن للعلوم الاجتماعية اذا ما نالت حقها من الاهتمام والتشجيع والدعم أن تجنب المجتمع كثيرا من المشكلات والأزمات وأن تساعد في حل الكثير مما هو قائم منها وأن تقي من المقبل منها لا ريب.
ولكل ذلك، لعل الحكمة اليوم تقتضي إعادة التفكير باهمية علم الاجتماع والبحث الاجتماعي وتشجيع وزيادة الطلب عليه وتحفيز العاملين به مادياً ومعنوياً وزيادة الحصص المخصصة له في خطط البحث العلمي على المستوى الوطني.
اليوم تولد التطورات السريعة في تكنولوجيا الاتصال والاعلام والثورة المعلوماتية والتطورات الاقتصادية الصناعية والتجارية، وتوسع شركات الانتاج والتجارة وجماعات المصالح والسياسة المرافقة لها، تغيرات مذهلة بتسارعها في مجتمعاتنا، وتترك الحالة الراهنة لحركة العالم وتغيراته آثارا عميقة في التكوينات والبنى الانسانية المختلفة من الأسرة الى المجتمع المحلي الى المجتمع- الدولة الى النظم الاقليمية والمنظمات والبنى الدولية وفي توجهات الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع المدني.
إن هذه التغيرات الملموسة تشجع وتحث على أن يمارس علم الاجتماع دورًا نقديًا في دراسة وفهم المجتمع ، وعلى توظيف عملي لعلم الاجتماع، ودور أكثر فعالية في معالجة المشكلات الاجتماعية وتنظيم المجتمع. من هنا تنشأ الأهمية والحاجة الى التركيز على تحفيز علم الاجتماع في المجتمعات المعاصرة. لدراسة القضايا والمشكلات الاجتماعية، وتوجيه هذا العلم توجيهاً تطبيقياً يخدم المؤسسات الاجتماعية بأنواعها المختلفة الاقتصادية والسياسية والتنظيمية والثقافية.

لعل حاجات الدولة والصناعة والسوق والاستهلاك و"تحديات العولمة" المفهومة في مدى قصير جدا، قد حولت اهتمامات الجامعات في كل مكان اليوم تقريبا، باتجاه تخريج المهندسين والتكنولوجيين ورجال الإدارة والأعمال والمحاسبة وذلك من نظرة قصيرة المدى لا تهتم سوى بالحاجات الآنية النفعية سريعة المردود وتأمين متطلبات التكنولوجية وإشباع نهم المجتمعات المعاصرة في نهب موارد العالم والطبيعة. ومن الملاحظ اليوم، وبتأثير العولمة والسوق والتنافس الاقتصادي المحموم، أن الجامعات تتحيز وتركز على الخدمة المادية التكنولوجية والمهنية والتجارية. بينما تسود نزعة إلى النظر إلى الخدمة الاجتماعية الثقافية والأخلاقية التي تضطلع بها الآداب والفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية على أنها من الدرجة الثانية أو الأخيرة.
يبدو كل شيء قد أصبح اليوم يقاس بمعدلات الربح والخسارة المادية فحسب. في كتابه "حالة ما بعد الحداثة" يؤكد ديفيد هارفي: "الشيء الوحيد الواضح في ما بعد الحداثة هو اعتبار مطلب الربح الصافي هو المحدد في المقام الأول"(4) والمسألة بنظره تجد تفسيرها في تبريرات قائمة على إمكانية وجود جواب ايجابي على سؤال "هل كان مربحا؟"(5). وفي تقديمه لكتاب "انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم" يشير حامد عمار إلى امتداد التجارة لتشمل ليس فقط السلع والخدمات، بل والقيم والأفكار والطموحات والإبداعات البشرية(6)
ونقرأ في تقرير التنمية الانسانية العربية لعام 2003 :"ينطوي ترك منظومة اكتساب المعرفة لحافز الربح على خطر قلة إنتاج المعرفة، وحرمان الأضعف اجتماعيا من امتلاكها"(7)
إذا صدقت هذه الملاحظات، وهي صادقة من موقعنا كأكاديميين في العلوم الاجتماعية، فان ذلك يعني تراجعا في المسؤولية الاجتماعية الثقافية للمؤسسات العلمية والتعليمية تجاه المجتمع، أي تراجعا في البعد الجوهري الأساسي لوظيفتها في خدمة المجتمع، وظيفتها في صيانة الهوية القومية وتعزيز الأصالة والقيم الاجتماعية الايجابية في مواجهة التحديات التي يواجهها هذا الجانب الهام في حياة مجتمعاتنا، هذه التحديات الثقافية التي توشك أن تفقدنا هويتنا المميزة.
لقد أخذت الكوادر الأكاديمية في أهم جامعات العالم وأعرقها تعبر في السنوات الأخيرة عن مخاوفها من صعود تيار ”التوجه التجاري“ وهيمنة أساليبه في توجه الجامعات، وهناك اليوم من الأكاديميين في أرقى جامعات العالم من يضيق ويضج بالشكوى من "تتجير"§مخرجات الجامعة، ويحذرون من تهميش الدور الثقافي والتنويري والإنساني والأخلاقي والتربوي للجامعة أمام المنافسة المحمومة لخدمة السوق، والفهم الضيق الأفق لمجتمع المعرفة.
إن أي مجتمع، مهما كانت مقتضيات الاقتصاد والتكنولوجيا والإنتاج المادي، لا يمكن حصره بمجرد قطبين أو بعدين (اقتصادي وتكنولوجي)، بل إن هذين البعدين لن يتطورا دون البعد المحفز الثالث: البعد الاجتماعي الثقافي العقلي والأخلاقي. ومن هنا شدد تقرير اليونسكو لعام 2005 على بناء منظور أرحب للمعرفة الإنسانية، منظور لا يحصرها في البعدين العلمي والتقاني، بل يراها في بنيتها المتكاملة "التي لا تغفل الإنسانيات ومختلف العلوم الأخرى في الجماليات والقيم والفنون ومختلف تجليات المنتوج الرمزي الصانع لحكمة الإنسان....مما يمنح...مفهوم مجتمع المعرفة كفاءة أكبر في الإحاطة بجوانب عديدة من الفاعلية النظرية للإنسان التي لم يعد أحد يجادل في تفاعل وترابط أدوارها، حيث تعادل قدرة التعقل كفاءة التخيل، وحيث يصبح التركيب المعرفي فعلا مستوعبا لحصيلة الجهد الإنساني في الفهم والإبداع"(13).

ان ما أحدثته هذه النزعة التجارية والتكنولوجية النهمة لموارد العالم من تخريب في البيئة سيحتاج إلى عقود وربما قرون من جهود التنشئة والتربية الاجتماعية البيئية لإصلاحه، هذا إذا كان لا يزال قابلا للإصلاح. وفي كل الأحوال فان ذلك منوط بالعلوم الإنسانية والاجتماعية ولعل في مقدمتها علم الاجتماع. الذي يهتم بالدراسة العلمية للأبعاد الانسانية والاجتماعية للتنمية

علم الاجتماع والبعد الاجتماعي الإنساني للتنمية
لقد راج في العقود الثلاثة الأخيرة كثيراً مفهوم الإصلاح الاقتصادي ، وكاد هذا المفهوم أن يختزل التنمية بالنمو الاقتصادي الصرف، أي في الاستثمار وعوائده الرأسمالية. فأصبحت سمة الإصلاح الجديد انحصار اهتمامه بالأرقام والإحصاءات والمؤشرات الكمية عن دلالات الاستثمار و الإنتاج والمحاسبة المالية والنقد والتسليف. أما مستويات الحياة الإنسانية وعدالتها ومؤشراتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والثقافية، ورغم كل اهتمامات المنظمات الانسانية الدولية، فقد ظل يُنظر إليها باعتبارها نافلة أو مرتبة أدني؛ ظل التعامل مع الإنسان باعتباره إما منتجاً أو مستهلكاً، فهدف التعليم والصحة هو تأمين عمال أصحاء ومؤهلين لتعظيم الإنتاج القومي، والإعلام خلق مواطنين متغذين مستهلكين ومشترين، أما أوقات الفراغ فهي أوقات لزيادة الاستهلاك وتنشيط المبيعات وشراء الخدمات، بحيث فرضت معايير الربح على أوجه النشاط الاجتماعي كلها، حتى على القيم الأخلاقية، وتحول الإنسان نفسه إلى سلعة، أو مجرد ترس في آلة تعظيم الناتج القومي بغض النظر عن أنماط توزيعه .
لقد تم تجاهل الشروط الاجتماعية والحاجات الثقافية والروحية والاجتماعية بتأثير بعض الاقتصاديين من أصحاب الاختصاص الذين، على خلفية التهليل لنظام عالمي جديد، وللعولمة التي "لا رادّ لقضائها"، راحوا يقنعون أصحاب القرار (بأنهم يملكون نظرة ثاقبة)، نظرة تمثلت في تجاهل المسائل الاجتماعية والثقافية والروحية والمشاركات والتكافل وحجبها تحت عباءة مفهوم أحادي البعد للإصلاح الاقتصادي.
هذا المنطق في الإصلاح الاقتصادي الأحادي البعد الرائج اليوم ، يطمس الصورة الواقعية لتأثر الحياة الاجتماعية والثقافية على الإنتاج والتوجه الاقتصادي. وهنا يبرز دور علم الاجتماع في دراسة اتجاه تأتير المؤشرات الاجتماعية، كالنظم الاجتماعية والعادات والتقاليد والثقافة والتراث والتكوين العقلي، في الحياة الاقتصادية. حيث تظهر التجارب أن العديد من الخطط التنموية ، أو محاولات الإصلاح الاقتصادي، على الرغم من أنها قد تكون مدعومة بإرادة سياسية فعلية، قد تتعثر نتيجة عدم استعداد الناس أو عدم مشاركتهم، بتأثير عادات اجتماعية أو منظومات قيم وسلوك وأنماط حياه مكتسبة ومعتادة. الأمر الذي يبرز أهمية أخذ الظروف الاجتماعية المعطاة وتهيئتها للاندماج في الخطط ، وخاصة تهيئة الأفراد والهيئات الوسيطة ومؤسسات المجتمع الأهلي اجتماعيا وثقافياً وإعلاميا لمشاريع التغيير . وذلك هو دور علم الاجتماع بالدرجة الأولى .
إن رفع مستوى الإنتاجية كعملية اقتصادية، مثلاً، يتطلب رفع المستوى الثقافي عموماً، وإيجاد دوافع مادية و معنوية محسوسة، بحيث تعتبر العوامل الاجتماعية من أهم العوامل المؤثرة في الإنتاجية كعملية اقتصادية هامة، و كمفهوم اقتصادي مركزي في علم الاقتصاد.
إن عدم أخذ المؤشرات الاجتماعية بعين الاعتبار يؤدي دائماً إلى تعثر خطط التنمية، أو قل: إلى إعاقة النمو الاقتصادي، و الى ظهور ( آثار جانبية ) تلتهم العائد الاقتصادي و تخفض معدلات النمو.
وهكذا لو استطعنا اليوم أن نحسب الكلف الاجتماعية لكل ذلك و نقارنها بالعائد الاقتصادي البحث ( الدخل القومي )، فربما نكتشف الخسران المبين.
أمام هذا الواقع يفترض عدم ترك العوامل الاجتماعية تفعل فعلها بشكل مغفل، ولا بد من تطويعها و توظيفها في الإنتاج بصفتها مورداً لا تقل أهميته عن الموارد الطبيعية النادرة. و تلك مهمة أكيدة لعلم الاجتماع والمسوح الاقتصادية الاجتماعية والبحوث التي يمكن أن يتعهدها. وفي مستوى التغيير التنموي الشامل يفترض الاهتمام بالتدخل لإعادة توجيه التنشئة الاجتماعية و أساليبها وأنماط العلاقة بين مؤسساتها، كالأسرة والمدرسة والإعلام والمنظمات الأهلية والمدنية، بما يخدم ويحقق ترسيخ المفاهيم والقيم والسلوكيات المناسبة لطبيعة المشروع التنموي وأهدافه. فالتحدث، مثلاً، يفترض عموماً ذهنيات تناصر وتتقبل التغيير، و التصنيع يتطلب ترسيخ الإحساس بقيمة الوقت، والدقة في التعامل معه، والإيمان بقيمة العلم والمعرفة العلمية والتكنولوجيا. والترويج السياحي يفترض الانفتاح على الآخر وقبوله، وتحديث الزراعة بإدخال وسائل جديدة في الري أو محاصيل جديدة أو أصناف جديدة من الحيوانات أو تصنيع بعض المنتجات الزراعية أو تسويقها، يتطلب تغيير الكثير من العادات و النشاطات الإنتاجية الراسخة في الريف. والانتقال من نمط اجتماعي اقتصادي يعتمد على مركزية الدولة والقطاع العام في الإنتاج والتشغيل إلى نمط آخر أكثر حرية وحيوية في إطلاق مبادرات الأفراد والمؤسسات الخاصة ومشاركاتها يتطلب مشروعاً ثقافياً وإعلامياً مكثفاً لتغيير ثقافة العمل السائدة...... الخ
ولذلك فإن إعداد البرامج الاجتماعية و التثقيفية الموازية للبرامج الاقتصادية الإنتاجية والتنموية التي تركز على تغيير وتعديل القيم والعادات الإنتاجية الراسخة، تكتسب كلها أهمية كبرى، وسيكون ذلك متعذراً دون دراسات اجتماعية علمية موضوعية خير من يقوم بها علماء الاجتماع والباحثون الاجتماعيون.

ولجلاء التباس ممكن، فان علم الاجتماع لا يقتصر على دراسة المشكلات بالمعنى الوظيفي السلبي لما يسمى بالظواهر المرضية، بل يمتد اهتمامه إلى الظواهر والحالات والوظائف الاجتماعية السليمة لفهم عناصرها وعواملها وتحسين وتطوير أدائها. كما يمكن لعلماء الاجتماع استشراف المستقبل ووضع السيناريوهات المحتملة للعواقب الاجتماعية للإجراءات الاقتصادية أو السياسية، مما يمكن من الاستعداد للمشكلات المحتملة قبل حدوثها.
ويمكن للباحثين في علم الاجتماع أن يستجيبوا لمختلف طلبات الهيئات والجهات الحكومية والخاصة التي ترغب بإجراء بحوث ودراسات تتعلق باهتمامات هذه الجهات المختلفة ودراسة المشكلات التي تعترض أداءها، فتصمم وتنفذ البحوث الميدانية والتطبيقية اللازمة لدراسة هذه المشكلات واقتراح الحلول لها. كم هو مفيد كل ذلك؟
هذه مجموعة من القضايا العملية المباشرة والهامة التي يستطيع قسم علم الاجتماع في جامعتنا، تقديم ما هو مفيد جداً بشأنها. أليس ذلك رائعاً وهاماً؟ بالتأكيد، ولكن يبدو أن مجتمعاتنا لم نتعود عليه بعد. بينما لا تخطو مؤسسة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو ثقافية في البلدان المتقدمة خطوة بدونه. فباستطاعة علماء الاجتماع ومراكز البحث الاجتماعي تقديم الاستشارات العلمية في مختلف القضايا والمشكلات السكانية والاقتصادية والتعليمية والبيئية والأسرية والإعلامية، بما في ذلك استطلاعات وسبر الرأي العام ومعرفة ميوله وتوجهاته في أمور شتى.
هل لوزارة التربية اهتمام بمثل هذه المسائل ؟هل لوزارة التربية مشكلات في العلاقات بين المدرسة والأسرة ؟ أو مشكلات في التسرب الدراسي، أو مشكلات في العلاقة بين التعليم الفني والتعليم العام، أو في العلاقة بين التعليم والتنمية، أو قياس جدوى التعليم الفني أو تقويم أداء المدرسين ومعرفة العوائق الاجتماعية التي تحد من أدائهم.... ؟
هل تريد وزارة السياحة أن تهتم بالجانب الاجتماعي للترويج السياحي؟ أو الخلفية الاجتماعية للسائحين وما يفضلونه في الخدمة السياحية؟ أو تقويم الخدمة السياحية في منطقة مامن البلاد؟ أو تقدير الأبعاد الثقافية والإعلامية للسياحة؟ او اثر السياحة على القيم والعادات والهوية...إلخ
هل تريد وزارة البيئة أن تتعرف على اتجاهات السكان نحو البيئة ؟ وعوائق التعامل السليم مع البيئة، ودور العوامل الاجتماعية المختلفة والتربية والتنشئة في نمط العلاقة بالبيئة.
هل تريد وزارة الثقافة أن تتعرف إلى سبل وعوامل التنشيط الثقافي والارتقاء بالثقافة الشعبية، والوصول الثقافي إلى جميع السكان أو وصول جميع السكان إلى الثقافة؟ أو تريد أن تتعرف إلى الأسباب الاجتماعية للعزوف عن الاهتمام بالثقافة أو بالقراءة أو بمتابعة الفعاليات الثقافية؟ أو تريد أن تعرف الأسباب الاجتماعية لتفضيل نوع معين من المنشورات والكتب أو الآثار الاجتماعية والثقافية لهذا التفضيل ؟
هل تريد وزارة الزراعة تسويق برنامج تنموي في منطقة ريفية ما أو تقييم برنامج أنجزته أو دراسة الجدوى الاجتماعية لبرنامج تزمع القيام به؟ أو أسباب تعثر برنامج تنمية ريفية في منطقة ما؟
هذه عينة ملموسة مما يمكن أن يقوم به علم الاجتماع والباحث الاجتماعي وقسم علم الاجتماع في جامعتنا، وهذا بعض من مهنة الباحث الاجتماعي، وهي مسائل في المستوى الميكروي كما نسميه في علم الاجتماع، فنحن لم نتحدث عن دراسة الصراع الاجتماعي وبنية القوة في المجتمع والسكان والتحضر والهجرة والتكيف الاجتماعي للوافدين وتنمية المجتمعات المحلية، ومسح امكانات واحتياجات السكان في المجتمع المحلي ومشكلات الأسرة والتفكك الأسري، ومشكلات الشباب وصراع الأجيال، ومشكلات الأحداث والانحراف الاجتماعي، واستطلاعات الرأي العام في مجالات مختلفة كثيرة، كل ذلك من اهتمامات المتخصصين في علم الاجتماع ويستطيعون أن يقدموأ فيها الفائدة الأكيدة. إن علم الاجتماع هنا يمكن أن يقدم فائدة حاسمة لأصحاب القرار.
والمجال أهم وأوسع من ذلك، فتلك بعض اهتمامات وخبرات علماء الاجتماع والباحثين الاجتماعيين. إن المخططين وأصحاب القرار مهما كانت حكمتهم وسعة أفقهم، بحاجة لمعرفة علمية بكل ذلك، لرفع مستوى أدائهم في تطوير مجتمعاتهم. وعلم الاجتماع يعدهم بالفائدة الأكيدة.
لعل كثيراً من الجهات والمؤسسات الاجتماعية الأهلية والرسمية لا تعرف ثقافة البحث الاجتماعي العلمي، ولا تقدر أهمية أقسام علم الاجتماع في الجامعة، ولا ماذا يمكن أن تقدمه هذه الأقسام من خدمة مفيدة لهذه الجهات ولمجالات نشاطها. وهذا الوضع في الواقع لا يشجع علم الاجتماع ولا الباحث الاجتماعي.
إن علم الاجتماع يمكنه أن يقدم من المعرفة الدقيقة للمشكلات الاجتماعية والحلول الرشيدة لها ربما ما يفوق التصور في أهميته لسلامة المجتمع وتماسكه الاجتماعي والسياسي والثقافي. كما يمكن لعلم الاجتماع أن يستجيب لمختلف طلبات الهيئات والجهات الحكومية والخاصة التي ترغب بإجراء بحوث ودراسات تتعلق باهتمامات هذه الجهات المختلفة ودراسة المشكلات التي تعترض أداءها، فتصمم وتنفذ البحوث الميدانية والتطبيقية اللازمة لدراسة هذه المشكلات واقتراح الحلول لها.
كما يقدم علم الاجتماع اليوم خبرات عملية إجرائية للذين يُريدونَ العَمَل في الرعاية الاجتماعية والعمل الاجتماعي عموما، حيث تبلورت من هذا الاتجاه مجالات مهنية من أوسع مجالات العمل الإنساني المعاصر انتشارا وهي مجالات العمل الاجتماعي(Social Work) والخدمة الاجتماعية(Social Service) والرعاية الاجتماعية(Social Care) .



#سمير_ابراهيم_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التجربة الذاتية في الاطار الاجتماعي
- هل من جديد في المقدمة؟
- العلم وعواقبه
- عواقب التفكير العلمي


المزيد.....




- أندر إوز بالعالم وُجد بفناء منزل في كاليفورنيا.. كم عددها وك ...
- بعدما وضعتها تايلور سويفت في كوتشيلا.. شاهد الإقبال الكبير ع ...
- طائرتان كادتا تصطدمان في حادث وشيك أثناء الإقلاع.. شاهد رد ف ...
- بعد استخدامها -الفيتو-.. محمود عباس: سنعيد النظر في العلاقات ...
- لبنان.. القبض على رجل قتل زوجته وقطع جسدها بمنشار كهربائي ود ...
- هل ستجر إسرائيل الولايات المتحدة إلى حرب مدمرة في الشرق الأو ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن قتل 10 فلسطنيين في مخيم نور شمس شمالي ...
- الصين.. عودة كاسحتي الجليد إلى شنغهاي بعد انتهاء بعثة استكشا ...
- احباط عملية تهريب مخدرات بقيمة 8.5 مليون دولار متوجهة من إير ...
- -كتائب القسام- تعرض مشاهد من استهدافها جرافة عسكرية إسرائيلي ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سمير ابراهيم حسن - أهمية علم الاجتماع