أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد زكريا توفيق - كيف ظهرت نظرية الكم من حطام النظرية الكلاسيكية















المزيد.....


كيف ظهرت نظرية الكم من حطام النظرية الكلاسيكية


محمد زكريا توفيق

الحوار المتمدن-العدد: 4631 - 2014 / 11 / 12 - 11:46
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مع بداية القرن العشرين، دخل علم الفيزياء عالم جديد. عالم الذرة متناهي الصغر، وعالم الأنوية الذرية وجسيماتها الأولية. القرن العشرون أنتج لنا نظرية جديدة، خدمت علماء الفيزياء بإخلاص منذ اكتشافها، وهي نظرية الميكانيكا الكمية. نظرية مجنونة، لكنها مفيدة إلى أبعد الحدود.

عالم الذرة الجديد يختلف بشكل جذري عن ما نعرفه من قبل. الفرق عظيم إلى درجة أن العلماء لم تجد الكلمات المناسبة لوصف ما يحدث. نظرية الميكانيكا الكمية، عليها أن تجد مفاهيم جديدة لعالم الذرة متناهي الصغر، وسلوكه الغريب الذي يفوق كل التصورات والخيال.

عادة، لا تعمل قوانين الفيزياء الكلاسيكية القديمة في عالم الذرة الجديد. فجسيمات الذرة تهرب منا وتفقد أبعادها وتتحول إلى موجات. ثم نجد الموجات تعود لكي تسلك سلوك الجسيمات من جديد. الإلكترونات، وجسيمات أخرى للذرة، تستطيع المرور خلال حواجز غير قابلة للاختراق، أو إنها تختفي كلية، تاركة وراءها وميضا من الضوء (فوتونات). مثل هذه الأشياء، تتعامل معها نظرية الميكانيكا الكمية.

الطاقة الذرية، النظائر المشعة، أشباه الموصلات، الجسيمات الأولية، الليزر. كلها ألفاظ مألوفة، إلا أنها كلها حديثة الاكتشاف، لم تظهر إلا في القرن العشرين.

في هذا العصر، تقدمت المعرفة بطريقة مذهلة. كل خطوة جديدة، تفتح معها آفاقا عديدة غير مسبوقة. العلوم القديمة تقوم بتجديد شبابها بنظريات جديدة. علم الفيزياء له الريادة على باقي العلوم، فهو يعمل كطلائع لاكتشاف عالم المجهول. وكلما اتسعت الجبهة وخيل لنا أن الجهود قد تباطأت، نفاجأ باندفاع وتجديد وإصرار بين علماء الفيزياء لاكتشاف هذا العالم المجهول .

لفك طلاسم الطبيعة ومعرفة أسرارها، كان على علماء الفيزياء تصميم أجهزة متقدمة ودقيقة. في أقسام الطبيعة بالجامعات والمعاهد ومراكز البحوث، يصطف مئات بل آلاف علماء الفيزياء النظرية لرسم خريطة أو نموذج يوافق نتائج الأبحاث والتجارب العملية. لا يتم ذلك في الخفاء، لأن مجال المعركة، مضاء بأبحاث العلماء الأفذاذ. أقوى أشعة الضوء الساطعة، تأتينا من نظريتي النسبية والميكانيكا الكمية.

نظرية الميكانيكا الكمية جاءتنا مع بداية القرن العشرين. 17 ديسمبر عام 1900م. هذا هو اليوم الذي أعلن فيه عالم الفيزياء الألماني، ماكس بلانك، أمام جمعية أكاديمية العلوم الفيزيائية، بأنه قد توصل إلى حل لأحد المصاعب التي تواجه نظرية الإشعاع الحراري.

الصعوبات التي تعتري العلوم شئ طبيعي، يواجهها العلماء كل يوم. لكن لقاء بلانك مع الجمعية الأكاديمية للعلوم، كان له أهمية خاصة. لأنه قد تنبأ بتطور علم الفيزياء لسنوات قادمة.

شجرة معارف جديدة قد نمت من بذور أفكار بلانك. التي باتت نقطة انطلاق لاكتشافات مذهلة تفوق الوصف حتى بالنسبة لمؤلفي قصص الخيال العلمي. من أفكار بلانك، نما علم الميكانيكا الكمية، الذي آذن بكشف أسرار عالم جديد متناهي الصغر، الذرة ونواتها، والجسيمات الأولية التي تكونها.

لكن، ألم يكن الناس يعرفون شيئا عن الذرة قبل القرن العشرين؟ نعم، كانوا يعرفون شيئا إلى حد ما. معرفتهم لم تكن تتعدى التخمين والتقدير. فضول الإنسان لم يتوقف عن التكهن بمثل هذه الأشياء. كان الإنسان يتخيل أشياء، يثبت صحتها بعد ذلك بعدة قرون.

قبل عصر الرحالة والاكتشافات، كان يعتقد البعض بوجود أناس وحيوانات وأرض أبعد من المكان الذي يعيشون فيه. كذلك كان الاعتقد بوجود عالم الأشياء الصغيرة قبل اكتشافها.

في الزمن القديم، لم يتوقف الفلاسفة والعلماء عن التساؤل، كيف خلق العالم الذي نعيش فيه من فوضى عارمة ومواد لا شكل لها؟ ومن أين أتت هذه المواد، ومما تتكون، وما هي مواد البناء الأولية التي تدخل في تركيبها؟

جبال هائلة الحجم يفنيها عصف الريح ونحر المياة وغضب البراكين. الصخور مع مرور الوقت، تتفتت إلى قطع صغيرة. مع مرور مئات، بل آلاف السنين، تتحول هذه القطع الصغيرة إلى تراب ورمال.

فهل لهذا التكسير والتفتيت من نهاية؟ وهل هناك جسيمات صغيرة من المادة، تعجز الطبيعة عن تكسيرها وتفتيتها؟ الإجابة هي "نعم". هكذا قال الفلاسفة الإغريق القدماء، أبيقور، ديموقريطس، وآخرين في عصره. هذه الجسيمات الصغيرة التي لا تنقسم، أطلق عليها اسم "ذرة". كلمة ذرة باللغة اليونانية (Atom) تعني "التي لا تنقسم".

لكن، ما هو شكل هذه الجسيمات؟ في الزمن القديم، لم يمكن الإجابة على هذا السؤال. الذرة ربما تكون في شكل كرة مصمتة، لا يمكن اختراقها أو تفتيتها. أو ربما لا تكون كذلك. إذا كانت غير ذلك، فكم صورة وشكل تكون عليه؟

ربما تكون كلها على صورة واحدة وشكل واحد، أو ربما تكون بآلاف الأشكال. بعض الفلاسفة، منهم أناكسيماندر، كانوا يعتقدون بأن هذه الصور والأشكال أربعة فقط. العالم كله يتكون من أربعة عناصر مختلفة من المادة. هي: الماء، الهواء، التراب، والنار. يتكون كل منها من ذرات مختلفة، لكنها متشابة بالنسبة للعنصر الواحد، في كل شئ.

بالطبع مثل هذه المعلومات الضئيلة عن الذرة، مع نقص التكنولوجيا والتجارب العملية اللازمة، لأن فلاسفة الإغريق كانوا علماء نظريين وليسوا عمليين، لم تسمح بتقدم علم الذرة كثيرا. وبات محصورا في كيف تعمل الذرات المختلفة مع بعضها، وهذا هو علم الكيمياء.

ثم نسي كل شئ عن كنه الذرة لقرون عديدة. لكن مفهوم الذرة وطبيعتها تم إعادة اكتشافه، ولم يخترع من فراغ. فقط في بداية القرن التاسع عشر، بدأت الناس تسمع عن الذرة. لا عن طريق الفلاسفة أو علماء الفيزياء، ولكن عن طريق علماء الكيمياء.

مع بداية القرن التاسع عشر، بينما كان نابليون يعيد رسم خريطة الدول الأوروبية، كان العلماء ينكفئون على أجهزتهم في معاملهم لكي يختبروا طبيعة الأشياء بأسلوب راديكالي ثوري، لكي يعيدوا صياغة مفاهيم كانت راسخة غير قابلة للشك.

"ينج" في إنجلترا و"فريزنيل" في فرنسا، قاما بوضع أسس النظرية الموجية للضوء. "آبل" في النرويج و"جاليوس" في فرنسا، قاما بوضع حجر الأساس في صرح علم الجبر الحديث (Groups).

"لافوازيه" الفرنسي و"دالتون" الإنجليزي، بينا أن الكيمياء قادرة على اختراق كنه الأشياء بعمق. علماء الكيمياء والفيزياء والرياضيات، في ذلك الوقت، قاموا باكتشافات مذهلة، مهدت الطريق لازدهار العلوم الدقيقة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر.

"بروت" الإنجليزي، في عام 1815م، اقترح وجود جسيمات دقيقة، تستطيع الاشتراك في كل التفاعلات الكيميائية بدون أن تتغير أو تتحطم، نسميها بالعوامل المساعدة. هذه الجسيمات، هي الذرات بالطبع.

أثناء هذه السنوات، وضع العالم الفرنسي اللامع "لاجرانج"، أصول الميكانيكا الكلاسيكية بطريقة أنيقة، لكن لم يكن فيها مكان للذرة.

لا شئ يأتي في العلوم، وربما في الآداب والفنون والفلسفة أيضا، من فراغ. لذلك يمكننا القول بأن الميكانيكا الكمية، هي بنت الميكانيكا الكلاسيكية التي وضع قوانينها إسحق نيوتن.

نيوتن لم يكن هو مكتشف قوانينها الأوحد. فقد ساهم في تطويرها أيضا علماء عظام آخرون كثيرون في عصر النهضة مثل: ليوناردو دافنشي، الرسام الشهير، وجاليليو جاليلي، الفلكي المشهور، وعالم الرياضيات الهولندي سيمون ستيفن، والفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي باسكال.

لكن نيوتن هو الذي وضع قوانين الحركة، وصاغها في نظرية بسيطة رائعة. تمخضت عن ثلاث قوانين تصف حرة الأجسام المتحركة والساكنة. قوانين الحركة هذه، يقوم بدراستها كل طلبة المدارس الثانوية قسم علمي.

نحن نعرف بالضبط تاريخ ميلاد الميكانيكا الكلاسيكية، وهو عام 1687م، عندما نشر نيوتن في لندن مؤلفه العظيم "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية". في ذلك الوقت، الفيزياء كانت تسمى بالفلسفة الطبيعية.

هذا الفضاء المترامي بما فيه من أجرام سماوية متباينة الحجم والكتلة، كان في وقت ما، منذ زمن سحيق، في حالة سكون. إنه الله هو الذي أعطى إشارة البدء، نفخ في الكون الحياة، فأصبح يدب بالحركة وفقا للإرادة الإلهية.

منذ ذلك الحين، بدأت الأجسام تتحرك وتتفاعل وفقا لقوانين عديدة ثابتة. من هذه القوانين، قوانين نيوتن الثلاث المشهورة التي تصف حركة الأجسام.

لم تعد الأحداث تأتي بالصدفة. كل شئ معد ومحدد سلفا. لا شئ عفوي يمكن أن يحدث من نفسه. أصبح الكمال والهارمونية هي صفة الكون الذي تسيره قوانين إلهية ثابتة.

ظل هذا الفكر سائدا بين العلماء إلى أكثر من قرن من الزمان بعد نيوتن. كلما اكتشفت خاصية جديدة، كانت هذه الخاصية تتوافق تماما مع هذه النظرية الكونية. لكن لم يدم هذا الحال طويلا. فدوام الحال من المحال.

بعد ذلك، بدأ العلماء يشكون في ثبات نظرية الخلق هذه. بدأت الظواهر ونتائج التجارب المتوالية تتعارض ولا تنسجم ولا تتوافق مع النظرية القديمة، نظرية الميكانيكا الكلاسيكية وقوانين نيوتن.

مع نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت قوانين نيوتن المشهورة تواجه أزمة طاحنة. هذه الأزمة، أودت بفكرة الحتمية الميكانيكية للكون. الكون ليس بالبساطة التي كنا نعتقد أنه بها، ولم يعد يعمل مثل الساعة التي تسيرها القوانين الإلهية الثابتة.

لم تعطنا "الميكانيكا الكمية" معلومات جديدة فقط، وإنما جاءت أيضا بنظرية جديدة مختلفة لتصف هذا الكون. لأول مرة في تاريخ العلوم، يتنبه العلماء للأحداث التي تظهر بالصدفة البحتة ومن خلال الفوضى العارمة.

الكون لم يعد حتمي، مسير كالساعة بقوانين ثابتة. لقد سقطت نظرية الحتمية، بمعنى أنه لكل شئ سبب، ولكل فعل رد فعل، وكل فعل وراءه فعل مسبب له.

الكون يا سادة بات محكوما بالفوضى الضاربة، وأصبحت أحداثه لا تخضع للقوانين الثابتة المعروفة. هذه أزمة فكرية شديدة الخطورة، استغرق الخروج منها بعض الوقت، واستنزفت جهود علماء وفلاسفة عباقرة ندر وجودهم.

يقول المثل، الفضول قتل القطة. هذا ينطبق أيضا على النظريات العلمية. النظرية تبدو لنا صحيحة طالما هي قادرة على تفسير كل الحقائق الموجودة في ذلك الوقت. لكن عندما تظهر حقائق جديدة لا تستطيع النظرية تفسيرها، هنا تسقط النظرية ونعتبرها غير صحيحة.

الميكانيكا الكلاسيكية كانت نظرية صحيحة عندما ينحصر استخدامها في الأحداث الميكانيكية. لكن العلماء في القرن التاسع عشر لم يكن يتعاملون مع أحداث ميكانيكية فقط.

كانوا يدرسون الحرارة، ومنها ا تولد علم الميكانيكا الحرارية. وكانوا يدرسون الضوء، والكهرباء والمغناطيسية. إلى هنا وكل شئ بدا أنه على ما يرام، على الأقل على السطح.

لكن مع كبر صرح الفيزياء الكلاسيكية، بدأت علامات الإجهاد والشروخ تظهر. ثم بدأ الصرح كله يتهاوى تحت وابل الحقائق الجديدة المكتشفة. من هذه الحقائق الجديدة المذهلة، حقيقة ثبات سرعة الضوء.

سرعة الضوء ثابتة حتى لو حملت مصباحا وسرت به بسرعة رهيبة. ضوء المصباح يسير وهو ثابت بنفس سرعته وهو متحرك. سرعة الضوء لايمكن زيادتها. هذا يختلف عن سرعة العربات والطائرات وحتى الصواريخ التي نعرفها.

لكي يخضع الضوء للنظريات والقوانين الكلاسيكية القديمة، حاول العلماء افتراض وجود وسط أسموه "الأثير"، لكي يسير فيه الضوء كموجات. لكن حتى الأثير لم يستطع إنقاذ الفيزياء الكلاسيكية القديمة من قدرها المحتوم.

عقبة كأداء أخرى ظهرت في وجه النظرية الكلاسيكية القديمة، جاءت عن طريق دراسة الإشعاع الحراري للأجسام. ثم جاءت الضربة القاضية عند اكتشاف المواد المشعة.

فالمواد المشعة، يحطم إشعاعها أنوية الذرات. فضلا عن أنها لا تخضع للقوانين الميكانيكية القديمة. وسط هذه المتاهة واللخبطة التي ألمت بالعلماء، ظهرت نظرية النسبية ونظرية "الميكانيكا الكمية".

تاريخ ميلاد الميكانيكا الكمية هو بداية القرن العشرين. لكن لماذا هذا الاسم بالذات؟ في الواقع، الاسم يعكس طبيعة الأشياء التي تتعامل معها الفيزياء الحديثة. ولماذا يشمل الاسم كلمة ميكانيكا، وليس هناك شئ ميكانيكي في النظرية الجديدة، ولا يجب أن يكون؟

كلمة ميكانيكا في اسم النظرية، ربما تأتي هنا بمدلولها العام، الذي يعني مبادئ التشغيل. مثل الآلة الميكانيكية والساعة الميكانيكية. أي التي تعمل وفقا لقوانين الميكانيكا. من ثم، الفيزياء التي تعمل بالكم، هي ميكانيكا كمية، أي تشتغل بالنظرية الكمية.

هذا مثل الذي يفسر الماء بعد الجهد بالماء. لكن لماذا إذن هي كمية؟ كلمة كمية (Quantum)، في اللغة اللاتينية، تعني كميات متقطعة. الفيزياء الحديثة تتعامل مع الكميات المتقطعة المتدفقة مثل نقط المطر وطلقات المدفع الرشاش، وليست المتصلة المنسابة مثل الماء في الأنهار.

الأكثر غرابة من ذلك، بالنسبة للفيزياء الحديثة، هو أنها تتعامل مع الطبيعة الثنائية للمادة. بمعنى أن الشئ الواحد يمكن اعتباره جسيم، ويمكن اعتباره موجة في نفس الوقت. تخيل أنك تتعامل مع شئ موجود وغير موجود في نفس الوقت.

دع كرة تتدحرج على سطح أملس أفقي. إنها ستستمر في الحركة في خط مستقيم بعد أن تتركها. مثل هذه الملاحظة أعطتنا قانون القصور الذاتي، وهو أول قوانين الحركة الثلاث لنيوتن.

الكرة على السطح الأملس لن تبدأ في الحركة إلا بعد أن تدفعها باليد، أو تضربها بكرة أخرى. الكرة الساكنة تظل ساكنة، والمتحركة، تظل متحركة على السطح الأملس في خط مستقيم، طالما لا توجد هناك قوة تغير من هذا السلوك. لكن إذا ظللت تدفع الكرة باليد، فإنها تتزايد سرعتها حسب قوة الدفع. هذا يعطينا قانون نيوتن الثاني للحركة.

أما القانون الثالث للحركة لنيوتن، فيقول أنه لكل فعل رد فعل، مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. المحرك النفاث والصواريخ تعمل وفقا لهذا القانون. قوانين نيوتن الثلاث هذه، هي التي جعلتنا نرسل إنسانا للقمر ونعيده سالما. فمن يشك في صحتها.

هنا يترك الباحث المدقق العالم الأرضي وينظر إلى السماء، لكي يبحث عن سر حركة الأجرام السماوية، وعما يجعل الكواكب تدور حول الشمس؟ لابد أن هنالك نظام متكامل يجعل بعض القوانين تتحكم في حركة الكواكب هذه.

حركة الكواكب حول الشمس، تشبه حركة قطعة الصخر في المقلاع حول اليد قبل إطلاقها. قطعة الصخر تدور في مسار دائري لأنها مشدودة بالحبل طول الوقت باليد. كذلك الكواكب تدور حول الشمس، لأنها مشدودة بقوى الجاذبية.

حقا لا يمكن مشاهدة قوى الجاذبية بالعين، لكنها قوى موجودة. نيوتن هو الذي اكتشف وجودها عندما شاهد التفاحة تسقط إلى أسفل وهو يتريض في البستان. عندها، سأل السؤال الذي يسأله عادة العلماء ولا ينتبه له العامة. لماذا سقطت التفاحة إلى أسفل، وليس إلى أعلى؟

عبقرية نيوتن تجلت في فهمه أن الجاذبية المستمرة بين الشمس والكواكب هي التي تجعل الكواكب تدور حول الشمس، مثل جذب الحبل المستمر في المقلاع، هو الذي يجعل قطعة الصخر تدور حول اليد. المهم هنا أن المقلاع يعمل كنموذج مصغر لحركة الكواكب.

يبقى السؤال، هل من الصواب أخذ القوانين التي تنطبق على ظاهرة ما وتعميمها على ظواهر متشابهة؟ نيوتن كان يعتقد بصواب ذلك. فالكون وحدة واحدة، والقوانين التي تصدق على الأرض، تصدق أيضا على الكواكب وباقي الأجرام. ما ينطبق على الأشياء الصغيرة والمتناهية في الصغر، ينطبق أيضا على الأشياء الكبيرة والمتناهية في الكبر.

لذلك واجه علماء الفيزياء أزمة كبيرة عندما قاموا بدراسة الجسيمات متناهية الصغر. فهي ترفض للانصياع للقوانين المعروفة والتي ثبتت صحتها عندما طبقت على الأجسام الكبيرة.

منذ نهاية القرن التاسع عشر، استخدام النماذج، المقلاع على سبيل المثال، لم يكن ناجحا طول الوقت. نموذج "الأثير" الذي تسير فيه موجات الضوء، والذي اعتقد مخترعوه أنه سيقوم بإنقاذ الفيزياء الكلاسيكية من مصيرها المحتوم، لم يكن نموذجا ناجحا. لأنه لم يستطع تفسير ثبات سرعة الضوء.

نموذج الأثير، بفرض وجوده، يقول بأنه شفاف لا يمكن تحطيمه، ومع هذا يسمح لكل الأجسام بالحركة خلاله. عندما تتحرك الأجسام بسرعة داخل الأثير، فإنه يتموج وينتج عن ذلك حركة للأثير نفسه تشبه حركة الريح.

حاول العلماء لسنوات عديدة اثبات وجود الأثير ومعرفة خواصه بالتجارب العملية، ولكن بدون فائدة. الأثير قد بدا أنه أبعد ما يكون عن الحقيقة. ومن ثم فشل نموذج الأثير.

فشل أيضا كل نموذج كلاسيكي للذرة وضعه العلماء. فشل بطريقة أو بأخرى في تفسير سبب الأشعة الغامضة التي تنبعث من عناصر اليورانيوم والراديوم وعناصر ثقيلة أخرى. هذه الأشعة تظل تنبعث من هذه العناصر بصفة مستمرة لمدة آلاف وملايين السنين بدون مصدر خارجي للطاقة.

فرض أينشتاين أن الضوء عبارة عن فوتونات لها طبيعة ثنائية. أي لها خاصية الجسيمات والموجات في نفس الوقت. هذا الفرض، هو الآخر، يعتبر نسف للنموذج الكلاسيكي القديم.

نيوتن كان يعتقد بأن الضوء عبارة عن جسيمات دقيقة تنبعث من المصدر الضوئي وتقع على العصب البصري فتسبب حاسة الإبصار. هذا يفسر لنا قدرة الضوء على السير في الفضاء بدون وسط. لكننا لا نستطيع تفسير ازدواجية الضوء، بمعنى أنه جسيمات وموجات في نفس الوقت.

مع شئ قليل من الخيال، يمكننا تصور تركيبة الذرة التي تشبه تركيبة المجموعة الشمسية. وهو النموذج الذي اقترحه بور ورازرفورد. بمعنى أن الإلكترونات تدور في فراغ مطلق حول نواة في المركز. مثل دوران الكواكب حول الشمس.

بعد ذلك بسنوات قليلة، جاء بروجلي لكي يعقد الأمور أكثر مما هي معقدة ويقول، إن الإلكترون والنواة وكل المواد والأجسام بصفه عامة، لها نفس الخاصية الثنائية التي جاء بها أينشتاين بالنسبة للفوتونات الضوئية.

لم يعد من الممكن تصور النموذج الجديد للذرة. وعلينا أن نتعايش مع نموذج لا يمكن تصوره أو حتى تخيله. لكن هذه هي الطريقة التي يتطور بها العلم الحديث. وهذا يبين لنا عظمة علماء القرن العشرين.

لقد تمكنوا من شق طريقهم عبر متاهات ونماذج وتجريدات لا تنتمي للواقع والحياة المعاشة بأي صلة. ومع ذلك نجحوا في بناء نظرية جديدة لعالم الذرة متناهي الصغر.

لقد قاموا باكتشاف سر الطاقة الذرية، والجني الذي يقبع في الزجاجة، التي لم يحاول أو يقدر أحد على فتحها من قبل. الطاقة والمفاعلات الذرية وصناعة الأجهزة الإلكترونية والكمبيوتر وثورة المواصلات، لم تكن ممكنة بدون اكتشاف الميكانيكا الكمية.

وللحديث بقية، فإلى اللقاء.



#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معالم على الطريق
- لن يستطيع الأزهر قيادة حركة التنوير والإصلاح الديني؟
- فريدريك نيتشة – اسلوبه ورأيه في المرأة
- فريدريك نيتشة – الثقافة والأخلاق
- نيتشة - 1
- امفيتريو، لبلاوتوس
- مرة أخرى، الأزهر وفهم نظرية التطور
- الأخوين ميناكمي، لبلاوتوس 4/4
- الأخوين ميناكمي، لبلاوتوس 4/3
- الرقص الشرقي والكبت الجنسي
- الأخوين ميناكمي، لبلاوتوس 2/4
- الأخوين ميناكمي، لبلاوتوس 1/4
- الأخلاق عند أرسطو، والصداقة عند مونتين
- شيخ الأزهر ونظرية التطور
- هل ينتصر الدين في معركته ضد الإلحاد؟
- جرة الذهب، لبلاوتوس
- الحل الأمني وحده لا يكفي لمحاربة الإرهاب
- سنة سودة ولا أمل في إصلاح ديني
- أرسطو، فكر تحتاجه بلادنا (2)
- أرسطو، فكر تحتاجه بلادنا


المزيد.....




- وحدة أوكرانية تستخدم المسيرات بدلا من الأسلحة الثقيلة
- القضاء البريطاني يدين مغربيا قتل بريطانيا بزعم -الثأر- لأطفا ...
- وزير إسرائيلي يصف مقترحا مصريا بأنه استسلام كامل من جانب إسر ...
- -نيويورك تايمز-: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخ ...
- السعودية.. سقوط فتيات مشاركات في سباق الهجن بالعلا عن الجمال ...
- ستولتنبرغ يدعو إلى الاعتراف بأن دول -الناتو- لم تقدم المساعد ...
- مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا
- الكويت..قرار بحبس الإعلامية الشهيرة حليمة بولند سنتين وغرامة ...
- واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام
- مليون متابع -يُدخلون تيك توكر- عربياً إلى السجن (فيديو)


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد زكريا توفيق - كيف ظهرت نظرية الكم من حطام النظرية الكلاسيكية