أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جميل حسين عبدالله - همم الحكماء، وذمم السفهاء















المزيد.....



همم الحكماء، وذمم السفهاء


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4627 - 2014 / 11 / 8 - 01:19
المحور: سيرة ذاتية
    


في إحدى غفلاتنا التي نغشاها مكرهين على ربيعها الدسم بالغضارة، لم يمر علينا سيل الكلمات التي نسمعها بمرارة، من غير أن يوحي إلي بشيء من الإلهام الذي نفهم به تعارض الأضداد بحرارة، ونعي به كيف تصير التناقضات نارا على وجنات أغرار لا يجيدون قواعد الصمت بين الأماكن الخادعة، فضلا عن أن يكون رحيق الكلام ممنونا على ألسنتهم الكاذبة. لم يكن ما وعيته غريبا عن سمع قدر له أن يسمع صوت الرداءة في كل موئل يأتاه بلا معية روحه، وجلية فكره، ولن يكون ما سوف أسمعه بعيدا عما أتصوره من أوغاد اغتالوا الأسماء الحقيقة لذواتهم القذرة، ثم اغتصبوا أوصافا ترفع من هام سفاهة أعيانهم الدنيئة، وأقوالهم الرديئة. لكنني أتفرس هذه الوجوه المتوردة بخجل النفوس الهزيلة، وأتمعن في هذه الملامح التي تعلوها سحابة تذبل معها ملامح الوجوه القبيحة، فتنداح معها أوتار الصوت المختنق بأنفاس سجينة، وكأنها قارعة تقرع أجراس الحقيقة بين فراغ العقول الغريرة، فأرى من وراء هذه المظاهر أحلاما حقيرة، سرعان ما تبعدنا عن النظرة الأولى التي نخال فيها هؤلاء أطهارا أتقياء، ونحسبهم بها أمناء أوفياء. شيء لا تؤلمني حدته حين أجد ذوق مساغه مر الخبيئة، ولا يؤذيني أن يتجسد تمثاله بين الأعين العليلة، لكن الذي يقض مضجعي حين أخلو بنفسي بين سطور حروفي المفجوعة، وأدنو من دويرة روحي متسائلا عن سر هذه الذوات المرتبكة في سيرها نحو هدفها المنشود بقوة العقدة، أو بخبث الحيلة، -فأحيانا أجدها تلتفت إلى الوراء بلا نظام الاهتداء، وأحيانا ترسل من ورائها دخان الحقد بلا اعتداد،- هو ما يزفر به هؤلاء من ادعاء يخلق بين أطلال الحقائق أشباحا تشخص للظنون شامخة، وللعيون جاثمة، فيحسبها المخدوع شجرا يبر بمخبره، ويهز بمنظره، وحين يقطف من أغصانها ثمرة عارضة، ونشوة غالبة، تتلاشى بين يديه، ثم تزول بين عينيه، فلا يدري هل هو مشدوه بين أشخاص يعولون في مأتم العزاء.؟ أم تغيرت خلقة الأشياء بين سرادق أجواف الخواء، وغدا الربيع خريفا في نظر الأعين الكليلة الوقاء.؟ أشياء تتعثر في مرادها، وتضطرب في معادها، قد لا يجد الإنسان معها سوى عَب ما في المعين من غربة يعتاده هينا، ويرتادها لينا، لعله يشرب منها جرعة الهدوء الآسن الطبيعة، وإذا ما اختلس لحظة يغفل فيها الرقيب عن ضمور نيته الكأداء، يرمي بنفسه بين أكياس ألفاظه، وأجران معانيه، فيختار منها كلمات قريبة إلى قلبه، يدونها على الجدران الصامتة، ويحبرها على وسادة حلمه الواجفة، وهو لا يريد إلا أن يعرف مقعده بين سفلة يرقصون على فِناء الخيام العارية، ويهتفون بغفلة بين جفاء الجفان الخابية. والمحتشدون حولهم من دهماء المرابض الغاوية، لا يدرون شيئا عن نهيج هذه الحركات المتغنجة بعنفوان المقاصد الداجية، بل ربما من شدة حرصهم على نعي الذوات النائمة تحت وقاء الجهالة الجائرة، لا يميزون بين زهو الأماكن الزافرة، وعري الأجساد الناعمة. ولو ميزوا بين من ألف الحياء طبعا، وبين من ادعى العفاف بِدعا، لكانت نظرة الطرف موضحة للمستور من النيات الفاجرة، والمخزون من اللذات الواجفة، لكنهم سمعوا صوتا يتحدث عن الإله بغرة، وعن الشيطان بمقة، وعن الدنيا بخسة، وعن الآخرة بعفة، فانسجمت عندهم هجنة الكلام مع هيف الذوات الضارعة بين ضجيج الأهواء الساحرة، والعواطف الهائجة، واستحالت لديهم فورة الكلام إلى نسمة خارقة، لا يفرق فيها بين الرغبة الجامحة، والحاجة القاحلة. فلا عيب إذا اختلت الموازين، وارتعشت المواعين، وغدا ما نخشاه لِفافة تستبطن عقولا تنفض عن ذهنها أوجاع السنين، وتنثر عن ذواتها ما علق بها من أوضار الحنين، وهي ترى قيام دين الخلة فيما تقدمه من هروب تستهدي به نور السماء، وتستقوي بتعلاته على لغوب الفناء، ولا عجب إذا نسيت أنها قد خلقت لتكرم في الأزل بكل معنى بذله الحكم على التمييز، والتفضيل، وتشرف بكل صفة حف بها القدر الأعيان بين موارد الإجمال، والتفصيل. وربما يتباطأ بها العزم عن فعل الضمير الراكد بين أوجاع الأيام، فلا تكاد تجد لها إلا مكرا يحملها بين أودية الهوان بإحكام، ويرفعها على سطوح تقف حذاء شفيرها بخجل المتع المحبرة بإدغام، ثم ينجرف بها الوهم إلى حضيض يعريها عن قمصان الكُنى، فتغدو بين تشابه الوجوه جامدة المنى، وهي في غورها تتألم بكرب أصابها بضجر، وأقامها بوضر. فيا للحسرة، كم كان العناء مؤلما لنفوس فقدت عنفوان إباء الأنفة الوهاجة، وتلفت منها زفرات الهمة الوقادة، فحسبت أن عز وجودها في إذلال ما تخاله إلها بين أدكن منافي باطنها، وأن سر حياتها في سعير ما تراه ذخرا بين أفجر مجالي ظاهرها، وأن غب طبيعتها في تحلية الوجوه بطلاء ذل مطالبها الشقية، ومكاسبها العصية، بل حسبت أنها تنال متشابهات القصد بوصب المهانة، لا ببذل الجود المنفعل مع كتاب الوجود المقروء بيقين يعري ما بين أصلاب الحقائق من شآبيب المهابة، ويعنو بالسفهاء عند منابت الوساخة. فلا غرابة إذا سعى الموتور برداءة الأماكن إلى استكناه ما فيها من رموز الطلب، وإشارات الجلب، وهو يأنس بما يقال من كلام، ويألف ما يراد من مرام، ولا رغبة له سوى أن يعرف ما بين فصوص الكلمات من احتراق الصدور، وانهزام السطور. كلا، لولا نفَس الوجع المكتوم، وعطر الوجه المختوم، لما أدركنا من العلامات دناءة المحتد، ووقاحة المورد، ورقاعة المقصد. فكيف صار المقام مظنة للخطب المهاب الجناب.؟
قد يكون من اللائق بي أن أستمع إلى هذا الهراء الذي لا ينضب نبيذه، ولا يغور نميره، وأصمت صمت الخاشع المتضرع بهمس المجالس الدنية، وأكتم سري بين من لا يرى في إعراضي عن ضنى الهوان فوران صولتي الجلية، وأخبو بين آهات أهتدي بها إلى أغواري الفتية، لكني إذا ما خلوت بأغاني قفص رقي، نثرت عن ذهني قيود الملامح التي تجرح شعور ذوقي، ونفضت عني غبار الأقوال التي تحزن أشواقي، ودلفت إلى طيوري التي تغني بعشقي. وإذ ذاك، لا يضيرني ما فقده غيري من وجل البواطن، وهم يرون ذلك سبة تلحق أعياننا بالضغائن، فآه، آه، لو أيقنت بضرورة هذا في مطلق الحرية، وآمنت في وداد بدني بهوان قلب لا يثيره خبث السجية، لأعلنت بأسى المتشوف إلى فواته عن نهاية مطلعي، ولأنخت بعيسي عند سرور مهيعي، لكنني لن أعثر على اسمي في نكوصي عن ضرع حزني، ولن أظفر ببيتي عند انتفاش عهني، بل سأكون متعبا في خدري، ومدنفا في صدري، ولن أطيق بعد ذلك أن أنشئ في ذم الثعالب قصيدة يقرأها الذئاب، ولا أن أدون بين كياسة صوتي صراح لب الألباب. فمن هذا الذي يروي قصته بشجاعة الملامح الخادعة، وجبن المعالم الفارعة.؟ سيكون هذا سؤالا ضروريا يزفه إلي طيف نابه الذكر، أو شطح خامل الدور، وهو يروم أن يفهم القصد بلا تلويح، ويعرف خفق اللفظ بلا تبريح. فمن هو هذا الذي نرمي شباكنا حول شكله، ولا نريد التصريح بسمياه حتى لا يفقد سريان ألفاظ هوله.؟ قد يكون رجلا بعينه، وقد يكون حالا بنفسه، وقد يكون موجودا في الحقيقة، وقد يكون معدوما في الطبيعة. فقصارى الجهد أنني حفزت مدارك أولئك الذين يبحثون بين الحقائق عن همم الحكماء، وذمم السفهاء، فيروون معي تلك القصة كما سمعوها، أو يحكونها معي كما فهموها، وسواء في ذلك أولئك الذين ابتلوا بجهد حروبها، أو الذين ينتحون دفء دروبها، أو الذين يعرفون دغل خبيئتها، أو الذين انززوا إلى ركن قصي لئلا يشموا رائحة أجساد وجفت من نظر ربيئتها، وسواء في ذلك هؤلاء، أو غيرهم، فما يجمعنا بين مرارة عناقها، ويلمنا بين ظلام محاقها، هو البلاء الذي لا نسأم من وفادته، ولا نمل من سهو صحف وجادته. وهو أكبر ما يطلبنا في جدنا، وأقل ما ننسلخ عنه في كدنا، بل هو العناء الذي يطوف علينا حين نحتقر مواقعنا بين البأساء، ونتملق حبابه بين صرير أيدي النعماء.
فأغرب شيء أننا حين نرد هذه المآدب التي تحولت إلى موارد تستقي منها الأوداج المنتفخة نحيب الأصوات الزاعقة، لا نرى فيها إلا شطارا يرقصون على أديم الحقائق التالفة، أو جبناء يتهامسون بالإنكار على زعيق الصبية حين يؤوبون إلى أوجاعهم النازفة، فلا يرون ما كان تجاوزا لقدر الهمم، ووعد الذمم، تعديا على المحتد المنتحب بألسن الأغرار المتطاولين بأجنحة يخالها الأوباش تواضع الأتقياء، وهي في سرها خفة تعن للطياش حين لا تكون قدود الكبار على مقدار هامات العظماء. وما عدا هذين الصنفين من المشايعين، والمنابذين، فهو في عذاب تمتحن به عزائم الإرادة الموجوءة، وتنتهب به نسمة العنان المسود بدخان ولائم القذارة الموفورة. فمن نحن في نسل هؤلاء الوارثين لمفتاح باب الجنان.؟ ومن هؤلاء الذين يستلذون ذل المواقد بين عزة عبيد الديان.؟ لا عجب إذا كانت الصقور تجسد غرة شهامتها على مربأة الضريح المنكوسة أعلامه المجمومة، وهي ترقص بكيد مخالبها المسمومة، وتعتلى بوشي ألفاظ تنزف بين أسحار الفقراء بصديد الأحقاد المكتومة، وتفجر بين أكباد الأغنياء سؤر كِبْر يجعل دعي المكارم رأسا بلا جهد الأنظار المزمومة، ويصيِّر صائغ الحكايات عودا ينقر في غور بطنه لكي يطرب سماعه، ويرضى في كيسه لكي يمتع خداعه. ثم يغدو جليس زيف الأنغام مستوفز العين الوقادة، ومستوهب الأذن الورادة، لعله ينسى ضياع المنية بتصاب يمسح سكره عار هلعه من الغد الموعود، والأمل الممدود. لكنه وإن أتخم فراغ الأذهان بسقم الأفكار، فإنه لا يطيق دفع شكوك المجربين لدروب المدينة المقدسة الأقدار، فلم يروا فيها إلا مريضا أضعفه الدوى، وهزيلا أوقده الردى، ولم يجدوا فيها علاجا لسقم ما عسر عليهم هضم فهمه، وحين أيسوا من نفث لعاب حممه، اجتووا وخيم الأحكام المقدرة بمعايير النفس القذرة المرابد، وانزووا إلى طبيب ودع العلم لخرافة المراقد، وضيع صفاء الجرعة بين قناة الموارد، فلم يرشح منه إلا رعاف يخرم أنوف العارفين بمواقع الضعف الأنكد، ومواطن اليقين الأوكد. فلا علينا إذا أسمى نفسه بأسماء عديدة، وأربى على قرينه بأوصاف زهيدة. فهل كان جسمه على قدر اسمه.؟ وهل كان نعله على مقدار أثره.؟ أشياء سينوء بها هذا الكتيب الذي ندون به لهمة الحكماء، وذمة السفهاء، ولكن قبل أن نسبر غوره حبا لاسمه، أو كرها لصفته، لا بد أن نستمع إلى الأوغاد المحتشدين حوله بعينين واجفتين، وهم يقبلون وجنتيه المتوردتين، ويقولون: يا شيخ. فهل كان لنظير الشيخ فضيلة في صياغة التاريخ العربي.؟
نعود من حيث أتينا استعداد لقبول أقوالنا، وآرائنا، ونحن نستلهم معنى الشيخ من بوارق معاني تاريخنا، وحضارتنا، ونسترفد قيمته من سلوك حكمائنا، وفقهائنا. ولعل أجلى ما عندنا هو صريح قدس النص الذي يغرد به هؤلاء المتأدبون بدسم مأدبة الخداع المتجاسر المطالع، والمتخالف المقاطع، فهل كان للشيخ معنى الكمال في سيرة الكمل.؟ لو نظرنا إلى حقيقة شيبته المقبولة في الأعين المتوسلة إلى احترام الكبار بعين الإجلال، لقبلنا صيغة الشيخ في دلالتها على الطعان المستحر مع غارات زمن الإذلال، لكن لو ابتعدنا عن هذا المعنى القريب الجني بالتدني، وتناسينا عجز الأجسام عن درك لذات الشباب بالتمني، وأقررنا محال عودة غضارة العود إلى جذوع الوجوه الحرونة التشهي، وأنى لها أن تعود.؟ فإننا لن نأنس بمعنى العظيم في الكلمة إلا مجازا. فلو تأملنا قوله تعالى: "ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا" وقوله: "وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا" وقوله: "إن لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا"، فمن أين سيرد علينا هذا المعنى الذي ينتفخ به ودج الأغرار عند منازلة الأقران بالمفاهيم الكليلة.؟ فالمعنى أوضح من الغزالة في كبد الفضاء، واللفظ لا يستعمل في غير حقيقته إلا مجازا بصفاء، ولا يدل على ذاته وغيرها إلا اشتراكا بوفاء، لكن تحريف المحنطين لرسالة السماء المدبرة لأوضاع اللغات البشرية، لم يجعلوه جاريا على مجراه الذي نطق به الأزل في القيمة الجسمية، بل ألبسوه لبسة الغرة، وكتبوا به طرة العزة، ونالوا من صفته ألوانا من الحظوة، وفنونا من الصبوة. فهل انحرف اللفظ عن حقيقة سياقه، وانجر في طريق مغرب عن مساره.؟ ذلك ما سيعاجل به ذنب الرداءة مسترخي عضلات الفكر عن صنعة الفضيلة، وهو يحبر بين العقول صورا يكون بها الساقط ندا في الجديلة، ويصير بها الفدم عالما يجاري طارف الحقيقة، ويباري تالد الطريقة. إنه عراك الأضداد على درن المتناقضات الطبيعة، ونزاع الأوغاد على طعم المتعارضات الدسيعة، بل هو شقاء الرذيل حين أناخ لدى عتبات العمر المتجهم القلادة، ووقف عند نزق الهوى الذي أسكرت ميعته بالبلادة. كلا، فالاسم بلا ذات تُرى بعين المساوي الموافق، والمسمى هو ذاك المتفيهق المتحاذق، والوصف هو هذا المتهاوي المفارق، والموصوف هو ذاك الرعديد المتحامق. فأين عرين الشيخ بين دلالة الألفاظ على معانيها، ولو كانت حقيقة عرفية في مبانيها.؟ لو دل على صوغ ذلك الصبي بين آبق سلالته، لما محنته مُضلات سوأة جهالته، لكن لو قيل قد دل عليه بالالتزام، أو بالتضمين، فما هو إلا مقرون بالكبر، لا بتعظيم القمين، إذ ليس كل شيخ عظيما، ولا كل كبير كريما. وما دام اللفظ لا يدل عليه إلا بقرينة العرف المتعاقب بين جزء من الخليقة، فإن إطلاقه لن يفي بالأصل في وضعه إلا بضميمة الوفاء بمعناه على الحقيقة. ولو اعترض على التحرير متبرك بما في بزة الصبيان من وضر الدسم، وقال بأن اللفظ قد استعمل في أكابر الرَّسَم، فما رأى إلا شجرة التقى بين رياض القلوب الندية، إذ لو ثوى الكبر على مزية الدروب الطرية، فإن شيوخا لم تتميز خفارتهم للمقام ببهاء الأقوال، ونقاء الأفعال، فكانت دنايا أنفسهم داء أزرى بمتون العلوم الذاتية، وهي خصيصة تستوفي موفور عشق كمال النعم البشرية، وأودى بلبوس طهر الخلال العرضية، وهي تميمة تستوحي جمال القيم المعنوية. فلا الكبر محمود، ولا الصغر مردود، بل يرى في الصوغ ما سلم بناءه في علم المعلوم، ثم كان فطنة في مدرك فهيم بالمنطوق، والمفهوم. فسواء حصل اعتبار قوة الوجود بتلك النعوت، والصفات، أو لم يحصل بالأسماء، ولا بالصلات، فمقامهم فيض يسقي وارث عز الجدود، وينبت في أرض الكرامة امتداد الحدود. ولله در ابن زيدون حين قال::
ولسنا نسميك إجلالا وتكرمة *** وقدرك المعتلى عن ذاك يغنينا
إذا انفردت ما شوركت في صفة *** فحسبنا الوصف إيضاحا وتبيينا
لكننا إذا اقتضبنا المعاني الدالة على القيم المعنوية في أفعال تساق خارج دائرة النبض البشري، والكوني، وهي مفرغة من محتوى نصها التاريخي، والحضاري، فإننا نغتصب الحقائق بسعار الرغبة الكامنة وراء النفوس الهجينة، وهي لا تستقل في كسب أرباح ذهنها بتأملات جديدة، ولا في سعي جوارحها بفعل منفعل مع الوجود بالإيجاب، أو السَّلبية، وتكتفي بالمظاهر العاطفية التي تعاني من قسوة الحدود المرسومة عند الأوائل بعلية، سواء كانوا أجدادا، أو أبناء وقتهم في مرسوم القضية الخالدة، ولكنهم كانوا بذورا تزرع في زند الأجيال القادمة، لكي يكون الدم شهيدا على الفعل، والأفعال، لا دليلا على وجود الحطام، والأطلال. وهب أننا اقتنينا هذه الأسماء من مكر الشطار المحتشدين على رمس يستجن المناقب الآدمية، والوجودية، فهل تدل بدلالتها على معانيها الحقيقية، أو المجازية.؟
إن انتحال الصفات في زمن فشو الرداءة اللامة، لم يكن غريبا عند نفوس تخط رسومها على جدث المترفعين عن معرة عتل العامة، ولم يكن حقيرا في عقول ترشف مشابنها ذل العهر على أجداث التاريخ الأغر الطلعة، بل غدت هذه السرقة مشروعة لدى قاطع رحم الأحرار بين ذمام التاريخ الأبلج الغرة، وعاقِّ ميثاق الأصول في طلاوة ذرر الحضارة الموشومة الطرة. وذلك ما جعل الضمائر متعبة بما ينسج في الوجدان من آمال متألمة، وصير المرائر منغصة ببدع الأهواء المردية، قل أن تجد فيها محترقا يكمن بين جوانحه المتضجرة بما لحق المعاني من مسخ المدعي، أو المتشبع بما ليس له من ورع المتقي، أو المتزيي بلباس الزور كذبا من أجل كسب هامة المهتدي. ولا غرو إذا اختل الميزان في وزن المعاني التي تحكى غرورا بنية المقتدي، وتروى بهوج يبديه الأدعياء بغلمة السفيه المعتدي، ثم صارت المقامات بلا عناء، والمرامات بلا شقاء، بل كان التمني والتشهي دليلا على حدوث الأشياء في قيمتها، ومتى ظهر شيء منها محرفا، واستساغه الدهماء مشنفا، صار حقيقة بلا منازع في هتون ديمتها، فهل تغتصب المعاني كما تغتصب الأسماء.؟ أم أنبتت الرياحين زهر ولايتها على قبور الأحماء.؟ لو ادعى النبوة نديم متعجل لشرة الخمرة، فهل سيكون اللفظ دالا على ذات الجمرة، ولو بعرض خارج عن القدرة.؟ وهل النبوة تعرف بكثرة طلابها.؟ أم بقلة قصادها.؟ أم هي الوحي الذي يفتق من جهالة البشرية طريقا نحو السماء.؟ أم هي النور المرجى ربحه بين أمان الدماء.؟ لو كانت الأسماء تنال معانيها بالادعاء، لكان كل منتسب أولى بها من غيره في الإنعاء، لكن تولد الأسماء مع الذات وفاقا، وما عرض لها من صفات تُحكى عتاقا، فهو الظل لها، لا الحقيقة فيها، ولو توافق الناس على الأسماء، فليس كل اسم يقع موقع القبول في الأحناء، فقد يسمى الأسد في دلجة الخوف بكلب الغابة، ولكن هل هو في حقيقته يخيف، ولكنه لا يفترس في الغاية.؟ فأين مكمن الخلل في انتحال الأسماء، والصفات.؟ ذلك أمر سنعرج عليه بإيجاز الكلمات، واكتفي من القصة بما يسمح به قصر الأوقات، فأقول:
1-حين وثب الإنسان بين بُرود العهود القديمة، لم تكن وثبته إلا نظيرة لغيره من الحيوان المشارك له في هم الوجود بين الأكوان المديدة، لكنه سرعان ما أدرك عدم امتلاكه قوة الطائر كي يطير في السماء، ولا قوة القرود كي يقفز في الفضاء، وهناك أدرك ضعفه عن الوثوب إلى الأعلى، فكر، وقدر بما هو أجلى، ثم اكتشف في ذاته جناحا، وخفة مثلى، تحلق به إلى العلياء، ولو لم يفارق جرمه عالم الغبراء. فما الذي اكتشفه في باطنه من قوة تجعله يضاهي عالم الحيوانات الأخرى، ويفضل بها سائر الكائنات التي تعيش معه ألم الحياة الدنيا.؟ لو اكتشف قوته في جسده، لتعاظم بضعف لا يرفعه إلى السماء في قصده، ولو اكتشف شدته في عقله، لعاش متألما بين عقول تجبره على الحيلة في وجله، لكي يصير بها فعلا في الأذهان، ولو اكتشفها في قدرته على النطق ببيان الأوزان، لما كان إلا فهيها بين صراخ البكائين من مرارة الأحزان، ولما كان إلا شحروا لا يجيد صوغ الأغاني على هدوء الأفنان. لم يكتشفها في شيء مما قد يكون فعلا ظاهريا، ولا مما عساه أن يصير عرضا خارجيا، بل اكتشفها في همته التي يخترق بها أمداء المجد، ويطوي بها منازل نهج السعد، ويقطع بها فيافي الألم المستحوذ على العقول المتلذذة بروض الموجود، ولو فقدت روحها بين حرد المجهود. فلا عليه إذا أيقن بأن ما يكون به وجودا ظاهريا في الأنظار المؤتلفة، ما هو إلا اغتراب يعرد به بين الشهوات المختلفة. فهل سيعيش بين ألم وجود اللذة، وألم فقد الدعة.؟ لو كانت لذته في وجود الأفياء، لصار بها جانفا في حكمة الأشياء، لكن لذته فيما به بقاءه المطرد، وهو فيه ماهيةٌ لا تفارقه في العقل المجرد. ولو فارقته في العلة الناهضة، لكانت لذة في الحال العارضة. ولو كانت في العلم بها لذة خافضة، فعدمها أولى من وجودها، إذ وجودها لا يدرأ عنه نسيان فقدانها. فلا غرابة إذا رأى كل لذة تفارقه عذابا، وكل نعيم لا يحييه خرابا. فما هي اللذة التي ضاعت لدى خمول الإنسان عن الخلود، ومن أجلها أقام الحروب الشرسة مع الوجود.؟ لن نعدو الحقيقة إذا رأيناها في دراب همته، لا في عُراض هامته، فلو كانت في غرور دالته، لانحنى مع غارات الدهر إلى أود حاجته، ثم يغدو متهالكا على سقط متاع لذاته. لكن لذته الحقيقية التي لا تنابذه في صفاء الأرواح، ولو كانت أنفاسه حرى بين قُبضة هادم الأدواح، هي التي تنفجر من طاقته الباطنية، وتندلق من قوته الروحية، وهي أعلى المعاني في عالم الفوارق، وأولى المواعظ في كتاب الخوارق. ومن أدرك قيمتها في دقة ملاحظته لمعالم كنه ذاته، كان سرها فيه زيتا يضيء سراج قوته.
2- إذا أدركنا قيمة الإنسان في كونه لا يفضل غيره إلا بقيمته الكامنة في حرم جوهره، وأن وهجه في قدس ذاته، لا في رياض غيره، وأن تاريخه يكتب بمداد معاني داخله، لا برياش مباني خارجه، وأن مواقفه جزء من كمال كليته، لا جزء مما يحوم حوله، فإننا سنُخلص إلى حقيقة قيمة هذه الروح المرفهة بين جسم يطير بهمة باطنه نحو شرف المعالي، ويحلق بقوة جناحي ذاته نحو أطراف العوالي. وحينئذ يكون سلب الأشياء العارضة عنه كمالا في حقيقته، لا نقصا فيه كما يعن لمن حدده برسمه، لا بماهيته، لأن وجوده في بعض المعاني عين عدمه في طبيعته، وفقده للصفات لا دليل فيه على نفي ذاته. والعدم عند من أدرك روح الأشياء معنى، وكل معنى وجود في المبنى. والناس لا يتفاضلون إلا في المقدار الذي به يفجرون من الراكد حركة، ومن النائم فكرة. وإذا كان الرجوع إلى الوراء همة للانطلاق نحو الآمال المحددة، فإن قيود الذات غير واقعة في آسار الجوارح المصفدة، بل في غبن العاجز عن درك العلو في كل مقام تهفو إليه روحه المجردة. ولله در من قال:
إن يسلب القوم العدا ملـــــــــــــــــكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلو *** عه لم تسلم القلب الضلوع
وهكذا، فإن النفس بمقدار قوة نَفَس العقل الأتم، والقلب بمقدار وهج الروح الأعم، ومن استقوى بعلمه المحدود بأعيان الأشياء، جاء منه الفعل ظاهرا، لا مستترا في الأحشاء، وفاض منه الفعل بما يساوي رسوم إرادته في الأحناء. ومتى كانت الإرادة كشفا للمرامات، أو نيلا للمقامات، زال الحجاب عن سر الأقوال، وغدا التمييز قاعدة الجري على حزونة الأفعال.
3- إذا كان سر الإنسان في همة باطنه المجردة، فهو في منأى عن مشاكلة غيره من الحيوانات المتعاركة على الوجود بأنظار محددة. وسواء في ذلك ما كان خارجا عن دائرة آدميته، وصار بعريه عن لباسه وضيعا بين فلوات عزمته، أو كان قاصرا عن إدراك سر بشريته، فلم يأت منه إلا ما يجعله قائما في عرض ذمته، لا في جوهر علته. ومن ثم، فإن الناس في كبد الحياة أنواع، وفي نكد اللذات أوضاع. فمن كان غرابا بين أطلال نظره، عاش طول أمده بين صخب حفره، ولن يلم إلا بالجيف في وضره، ومن كان فيلا في جزع جسمه، فلن يبرح ملق دسمه، ولن يعز بين أعين صغار قومه، ومن كان خنفساء في دنس ذله، صرف عن أبواب أكله، وإذا ما غفل البواب عن عقاله، جاء متلمسا فضل المطاعم بأغلاله، ومن كان عنكبوتا بين حبائل سيره، فقد حفر غوائله في مسيره، ومن كان حية بين حِمى دُوره، فقد اغتصب سعي غيره، ومن كان صقرا في عزم همه، فقد أنف منه المراد عن صيد فاقد حياته، ومن كان أسدا في منزع همته، فلن يجثم على المنكوب من طرائد موته. فكيف يعيش هذا الكائن الذي ابتدع صورته من خداع أغاليط الأفكار.؟ لو كان متلبسا بأحد طباع هذه الحيوانات المختلفة الأوطار، فإنه قد تجرد مما هو قائم به أصالة، لا حيلة بين الأكوار. فلا ضرر إذا اختلف الناس فيما يعشقون طِلاب وافره، فمن جهز مهر غاياته بفناء لذات غابره، كان الإقدام لديه منجاة من خفر ذماره. فأين الخلل فيما نبحث عنه بين بحر الأقدار، ونحن عرايا من الأنوار.؟ لو كان شوق الإنسان موقوفا على قدر أمنيته، لما نال من حظوظه إلا ما يحزره من أعطيته، لكن حكمة الاسم، والصفة في الحقيقة، لا يفصح عنهما إلا من أوغل بما في ذمته من وجع القريحة، وأوضع بما في كسبه من خوف على فوت الوديعة. وإذ ذاك، فليس قبيحا بين عينيه ما كان به وجود المرارة، ولا جميلا ما وجدت به في العدم الحلاوة، فكلاهما سواء في الطراوة. فنواله من وجود الشيء في غوره، لا بين أعراض وفره. ولله در من قال:
وإذا ما انقضت صروف الليالي *** فسواء ليل الأسى والسرور
وليس ذلك منه قصورا في نيل إدراكها، إذ الأشياء موجودة في ملكوت روحها، ومحصورة في دوح معناها، وأشباه الحيوانات يرونها في وشي أجسادها. فكما تقطف الزهرة بيد كارهها، كما ينظر إليها بعين عاشقها، فمن ودعها بعدما أشبع منها نظره بوفائه، وأوقد لها سراجا في أحشائه، ليس كمن جناها تعللا عن برحائه، ثم تاه عنها بين سودائه. فالأشياء حين تكون في وضع ظاهرها بهرجة، تسبي العقول بما هو قائم فيها من زخرفة، ولكنها حين تكون معنى في حد الروح الأسمى، يرتمي في حضنها قراء حكاية الأقدمين من فوح حبات الرمل الأحمى. فلم ننبطح على مَن الكمأة بمقل عمياء، ولم يعن لنا أن نلثم الطين الذي أنبتها بين البيداء.؟ وكيف لا نبكي عند الصخر، وهو خال من الأثر.؟ فالنعيم ليس فيما تخرص كرمَه صولتنا، بل فيما تكبر به الحقائق بين مضاء بصيرتنا, ولو لم تستوعبه عصي حِداق أبصارنا. وإذا ما أدركنا ذلك وصلا في خمولنا، أو عن لنا أن نحس به فصلا في وصولنا، فإننا سنركب في أحشاء بوائقه متن الأهوال، ونتجشم في غصص لواعجه مريء الأحوال، ثم نسير، والحر لا يُغير، ولا أمل في فرحة، ولا شوق في رغبة. فما استعجلك منها فهو الزلفى، وما استبقاك فيها فهو العقبى، وسواء معها قصر الزمن، أو طوله المقيم، فكلاهما في وطن الروح سر جسيم. ولله در القائل:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا *** فصعب العلا في الصعب، والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة *** ولا بد دون الشهد من إبر النحل .
4- إذا كانت العزيمة بمقدار جلد الهمة الهائلة، فإن الحازم لا يفل سيفه دواهي المراحل الغائلة، فلو قضى عمره في طلاب المطالب، ولم يدرك منها سوى بلالة غسق المناكب، فإن ما فرط منه لن يبقي له الدهر مندما عليه، ولو تجاوز في ذلك حدود سعيه، وانتهى به عهد الأجل، وهو ما زال يسير بشرة العجل، فحسبه أنه مشى بين القرب والنوى بنيه الوصال، وكل ماش وإن لم يبلغ بركضه حياض الاتصال، فما رآه من معسولٍ بين غوائل الطريق، قد يكون نسمة عشق في روح الشفيق، يقطف زهرها، ويجني ثمرها، ولا يضيره بعدُ ما لقي الفؤاد من تمزق، ولا ما هوى الجسد من تفرق. ومن لم يجتز بحدوه على غيطان ذلك السبيل، ولم يعرج بنوقه على ديار أولئك القبيل، فكيف يحكي عن منبعج الطريق، وهو لم يدن من مخاوف الرفيق.؟ أم كيف ينثر من كنانته سر الأخبية، وهو لم يبرح بعد طلل الأندية.؟ لو حكى عنها بما يتخيله من نص فحواها، لما كان بالمصدق في حشو دعواها. وهنا تختلف الإرادات في صوغ النهايات، وتتعدد العزائم في نية البدايات. فالذين تحسروا على فوات صفو الأوقات، لم ينهلوا من فيض نسيم الطرقات، فلو مروا بين عصف الرياح على معاهد الأسرار، لما كان الثعلبان راهبا بين معابد الأبرار. لكن دعي النسبة في رواية الأخبار، لم يستفتح بين ظمأ الهواجر مغاليق ربوع الأخيار، ولم تنقدح نار حزمه بين وبال معاقل الأشرار. وما ادعى دعي سيرا بين فدفد فسيحة أنواؤه، إلا حين لم يلكز مطيته بين أمدائه، ولم يلغب بمهجته بين أفيائه. ولولا ما في سهر العشاق من محن الوصال، لصار كل غر يحاكي شمائل الرجال. وهل العشق سوى سكر الذات بغمد عيون المعشوق.؟ وهل العز إلا شرب لغبوق المنية على شعف العزم الموثوق.؟ فالسائرون قد وصلوا إلى بساط الآفاق، وإن لم يصلوا إلى شهد الأزراق، فما هم بأعجز ممن نال الوصل بلا عتاب، ولم يكن ممن أهدى بدنة روحه في الطلاب، بل القدر أقعدهم عن شرة الأنظار الغلاب. ومن أناخ به همه بين ثغور الافتراق، فعذره أوكد ممن اخترق بلا احتراق. فلو وددت أن يكون ما أنت فيه من متعة الحياض دليلا على نشوة النوال، فقد فاتك ما فيك من همة تفري ودج الحقائق بهمة الصوال، فأنت تقيم في الذات حصن الذهول عند أولى البروق، وفي الشهوة المحلاة بغرم الأوجاع سعار الفتوق. فالقوة في عزة ذاتك، وفي صون قلبك، وفي قرب روحك، وما عداها من اخضرار الثغور بالهباء، فهو الطل الذي يغري العطشان عند ضن السماء، أو هو النور للساري بين محاق القمر عن السناء، أو هو القصر المنيف للغريب بين الرمال المزدلفة بالعناء، بل هو السهو بين دواهي المكان، والغرة بين خدور الزمان. ولله در من قال:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه *** وأيقن أننا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما *** نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
5- إذا كانت همم العظماء لا يفل عزمتها طول المشاعب، فإن ما يشعر به السائر نحو موطن روحه من صفاء المشارب، لا يساويه في لذته ما يحصل له من أنسه، إذ اللذات بين غوره لا في حدسه. فلو غاب عنه في غربته جلاء معقله، وأدركه الإيحاش في غول مجهله، فما ذاك إلا مما يغري وجده في طلبه، وهل طلبه إلا في جنان قلبه.؟ فلو امتلأ منه غدير الود بمنى الخلان، وانفطر منه نبع الأمل بين سبق الرهان، لما فر من بدو إلى حضر، ومن واد إلى نهر، لكنه في غربته لا يستوحش ظلمة الأحزان، بل يتملى بالأماسي ولو عز الخل بين الأكوان. فأنسه في عمق رُوحه، لا فيما يفارقه إذا تنكب عن رَوْحه. فلو امتلأت جمرات زفرته بأنفاس غيره، فأين نفس همته بين عقبات دهره.؟ فالهمم العالية لا تسلك طرقا يضج فيها صخب الاغتلام بين الأسمار، بل حفت طرقها بخطر الأوزار، وصُرت آلامها بين متع الأوكار. وراحلتها في صوت نص جوهرها، لا في ضعفها المسند إلى قوة فص بهرجها. فلا غرابة إذا أوضع بين المجاهل بذمة عهده، وليس له في جسده سوى مسكة وكده، لكي يخلق من الغربة كون حياته، ومن الانفراد لغز لذاته. فما الذي يضير القوي إذا لم يوقن أحد بقوته.؟ وما الذي يهين الهمم إذا حرد الذليل بهوان فوته.؟ بل الحكيم من حصر شدته في لمة باطنه، لا في متعة لسانه، وإلا صار مجللا بعلل الأوضار الفاسدة، ومكللا بسهام الأنظار الكاسدة. والبائس من حطم آفاق الكون بين عينيه، وجعل مطرح نظره بين أطناب عصب ساقيه. وهل تستقيم الساق إذا كانت خوارة بين يدي بِطيش سفيه غرير.؟ وهل يرتشف رحيق العهد من وغد خؤون حقير.؟ لن يستريح جرمه، ولن يستقيم ظله، ولو عاند ما في القدر من قضاء، وخالف ما في الكون من غباء. فقصارى جهد الهمم العالية أن تتوه بين الفيافي، حتى لا تتوهم الوصل في مقام التجافي. ففي درج المنازل دماء الحكماء، ومن شرب نخبها من العلماء، كتب على صخرة الوجود كراس أدبه، ودون على شفق الليالي سراه بين رنين طربه.
6- إذا كانت همم الحكماء في حومانها تدَوِّم حول عنان المعاني الكبرى، فإن ذمم السفهاء تعرس بمراتع السراب المزمزم على مستشرف الأماني الصغرى، فلا هي ماشية حتى يطويها المدى، ولا هي واقفة حتى يبلها الندى، بل تعشق ما تراه بين نازح نظرها، لا ما تحس به في جاثم باطنها. وقصارى الجهد أن تنال نواطق العشار اغتصابا، لا أن تحوزها بالهمم الحِرار اكتسابا، وهمها في لذتها المنبثة من نزوتها، لا من تلك المنفجرة من نخوتها. فما الذي يجود به حال المكثر إذا اكتنز الصولة في بيدر دوس حريره، واحتوى على وتر علوه من دنو صوت نظيره.؟ وما الذي يضر المقل إذا كان جوده من أنفاسه، لا من نفائس صوامت يده.؟ فكلاهما في عيش العناء، وليس ذا في حق الوفاء، هو ذاك في عين الرجاء، فذاك يعيش على علياء منابته، وذا يعاشر الطحلب بين طين مغارسه، وليس له من شوق سوى ما يفتضه من أكفائه، أو ما يستنشده من ثرى بين فؤاده وأعضائه. ولو أدرك ما في تسفله من سفاسف القصود، وما في تمعر وجهه من نفج عراض القدود، لحن إلى عب سؤر العظماء على خِوان موثق العهود، لكن أنى لسقط توحل بين حفر نزواته أن ينهض بعبء الآهات، وقد حرم ثدي أحرار الأمهات.؟ لو نهض به هوى هذا الرعديد البطين، ففي بطنه مِعي يسلو بدسم غض الحنين. ولولا ما في ضلوعه من نهمة اليمين، لما غنى على فنن الأكابر بصوت هجين، وهو يزور شمم الآباء بقول لعين. ولله در من قال:
عريض البطان جديد الخِوان *** قريب المراث من المرتع
فنصف النهار لكِرياسه *** ونصف لمأكله أجمع
هكذا تكون الهمم رفعا في هيجاء الباني، لا خفضا في غبراء العاني. فمن جعل بغيته من همه آخر نواله، فقد بز همه الداني بلا زمام رواحله. وهل تصح الدعوى بلا سرها الممنون بين مناهله.؟ لو صحت بين وشم أنامله، فهل تصح وصفا بين دني وسائله.؟ لا، فالسر لو اسطاع محبه أن يكون جمرا مكنونا، فلن يشتاق إلى أن يكون ثديا ملبونا. فالسر فيما لا يجلب شرة مديح الغرر، بل في ذم يحمي لطيف الدرر. فلم يخشى الدعي من عتاب يخفضه عن مشتهى الرتب.؟ لو كان قمينا بخلافة المعابد والرحب، لما أسود عارضه عند فجع السلب. فلا غرابة، فليس من رأى رايات الحروب بكبد قضيف، كمن جرى بين الحتوف بقلب شريف. فالمقامات تُبنى بدماء القلق، لا بجفاء الأرق. فهمم الأكابر تبذل نجائب الروح العتاق، ولا تنوي أوبة إلى وثير الحواشي الرقاق، بل تشتاق إلى حلول المسميات في الأسماء، حتى يكون الاتصال وافيا بحق اتحاد الحقائق بين الأحشاء. فلو انفصل الوشي عن الموشى في الآراء، لكان احتيالا من مختال يبغي سلاطة الغباء، فكيف يستر السفيه حاله الخفيض بلسان البكاء.؟ ففي الخفض شرف لمن رأى الثعالب تروغ حول أخربة الأنحاء، والكلاب تبصبص بجلابيب البغاء، والذئاب تجوس بين حضيض الأشلاء، والأسد تفترس الأحزان بين طوالع الأنواء. فلو اعتلى الوغد كالدخان على مئذنة وهمه، لكان للأسف محل إعراب في موقع وصمه. وهل الخفاء إلا عين الظهور عند من وعى سر مراتب الحكماء، وحكم بحكم النبلاء، لا بظن البلهاء، وطيش السفهاء.؟ فالسفيه لا تنشق عنه الأنفاس في حزم يقطع به أهوال المحجوب، ولا يفتق من شروق البطالة سرى الليل الملحوب. فلا عجب إذا مايز الصعب بين ربيع المعاني، وخريف المغاني.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعدد الزوجات بين فحوى النص، وفوضى اللص.
- دموع الجمعة
- رسالة حب إلى أوشو
- تأملات في خلفية داعش


المزيد.....




- البحرية الأمريكية تعلن قيمة تكاليف إحباط هجمات الحوثيين على ...
- الفلبين تُغلق الباب أمام المزيد من القواعد العسكرية الأمريك ...
- لأنهم لم يساعدوه كما ساعدوا إسرائيل.. زيلينسكي غاضب من حلفائ ...
- بالصور: كيف أدت الفيضانات في عُمان إلى مقتل 18 شخصا والتسبب ...
- بلينكن: التصعيد مع إيران ليس في مصلحة الولايات المتحدة أو إس ...
- استطلاع للرأي: 74% من الإسرائيليين يعارضون الهجوم على إيران ...
- -بعهد الأخ محمد بن سلمان المحترم-..الصدر يشيد بسياسات السعود ...
- هل يفجر التهديد الإسرائيلي بالرد على الهجوم الإيراني حربا شا ...
- انطلاق القمة العالمية لطاقة المستقبل
- الشرق الأوسط بعد الهجوم الإيراني: قواعد اشتباك جديدة


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جميل حسين عبدالله - همم الحكماء، وذمم السفهاء