أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (66)















المزيد.....

منزلنا الريفي (66)


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4627 - 2014 / 11 / 8 - 01:16
المحور: الادب والفن
    


- أهدي هذه العمل إلى صديقتي الغالية زينة رخاوي

ولد الدكالي سنة 1960. كانت الفكرة التي تخطر على باله حتى عهد قريب أنه كان من الممكن أن يوجد، وكان من الممكن ألا يوجد، فمن ملايين الحيوانات المنوية، سينبثق ذلك الأنا، يا لها من صدفة غريبة ! بينما سيحكم بالعدم على ملايين من الحيوانات المنوية التي كان من الممكن أن تكون أنا، أية عدالة هاته ؟؟ كان الدكالي ذاك الشاب المثقف، يطرح هذا السؤال لحظة الغضب، لأنه نادم على وجوده، فهو لم يخير فيه، بل فرض عليه، كما أنه نادم في حالة وجود أنا آخر محله، كونه لن يخرج من هذه البوتقة، إنها القلق من عالم يفوقنا قدرة وتمكينا، ناهيك عن مجتمع روضنا، فحولنا إلى عبيد لا يفكرون. لم يستفد الدكالي من اللقاح في طفولته، وكم مرة أصيب بالسعال الديكي ولم يمت، ناهيك عن الحمى وكل ضروب الأمراض، لقد حكم عليه أن يوجد، وأن يواجه قسوة العالم، مات العديد من إخوته من جراء الأمراض والأوبئة التي كانت تضرب العالم القروي كالطاعون والجذري والسعال الديكي والسعار...زيادة على الفيضانات والفقر والجوع والبؤس وانعدام المأوى والجفاف...كانت هذه الظواهر الفظيعة تؤدي إلى حصد العشرات من الموتى، تحكي الرواية الشفهية أنه في زمن الجوع كان البشر يأكلون بعضهم البعض، بل منهم من حفر قبور الموتى بحثا عن الجثث لتناولها، وتنقيبا عن الأكفان لارتدائها ...في طفولته، كان الدكالي يرافق أمه إلى المقبرة لزيارة الموتى، أو طلبا للشفاء من مرض ألم به، والذي لفته هو عدد القبور المبعثرة، منها ما هو مثقوب، ومنها ما محفور...ربما يرجع ذلك إلى زمن الجوع ...لماذا لا يكون زمننا نحن ؟ ألسنا جائعين مثل أولائك القرويين الذي هدهم المرض والسغب ؟ يمضغ الدكالي كسرة خبز حافية. نعم إنهم جائعون نظرا لفقدانهم كسرة خبز، لكن لم تكن لديهم الجرأة على الثورة ضد مستبديهم، أما نحن ألسنا جائعين إلى الحرية والعدالة و المواطنة؟ هم أكلوا بعضهم البعض بعد أن نهشتم الطبيعة بأسنانها الحادة، وامتص الجبابرة الطغاة دماءهم، لكن نحن لا ينبغي أن نأكل بعضنا كما فعل أولائك، بل علينا أن نأكل هؤلاء المستبدين لكي نشيد الحرية على أنقاضهم .يتجول الدكالي بين القبور، تلتمع خنائنه على أنفه مشكلة خيطا طويلا كشريط البؤس الطافح على وجهه، يبتعد عن أمه، ويتسلق شجرة (الجبوج)، فيتلوى عليها كأفعى مجلجلة، يطلق صفيرا مجلجلا يخرج المقبرة من صمتها : (أمي أنت هنا أم هنااااااااك)، يلمس مؤخرته، يشعر أنه فقد الإحساس بها، ينظر، ثم يعاود النظر، فيتأكد أنه جالس فوق صخرة سميكة وليس جالسا فوق شجرة ملساء : ( هذا أنا ذاك الذي كنت أجلس على تلك الشجرة الملساء منذ 26 عاما، لم أر فيها النور أبدا، منذ تلك الزيارة والموت يسكن كياني، قدري هو أنني وجدت في هذا العالم، دخلت إلى المدرسة عام 1966، كنت من الطليعة القروية التي دخلت إلى المدرسة، اعتقدت أنني سأغير حياتي، وإذا بي أخيب، فرغم حصولي على الإجازة عام 1983، فإنني لم أحصل على عمل، فعدت إلى الريف أتسكع كمتشرد باحث عن الخبز، وبين الفينة والأخرى كنت أعمل، لكن ذلك العمل بالكاد يكفيني، لقد كنت أدخن وأثمل تعبيرا عن حنقي من الوضع البئيس في مجتمعي، مللت من التفاوت الطبقي الحاد، فهاجرت هذا الوطن الراكد ).
أقرضه سحلوت 10 آلاف درهم، لكنه وقع معه عقدا يتم بموجبه استرداد سحلوت ضعف هذا المبلغ، فسحلوت لا يمكن أن يقرض دون مقابل، بل عليه أن يغتنم هذه الفرصة الذهبية. ركب الدكالي الطائرة أول مرة في حياته، شعر بتميزه عن القرويين، فهؤلاء مازالوا في الأرض، بينما هو الآن في السماء، لم يتخيل يوما أنه سيطير بجسده في السماء، بل فقط روحه، وذلك حينما تنفصل عن الجسد، فتهاجر صوب السماء، لم يكن يدري : هل استشعر هذا التحليق عندما أخبرهم المعلم بذلك ؟ لكنه الآن، وهو في الطائرة بجسده وروحه يستشعر هذا التميز. حط في صحراء جرداء رفقة مجموعة من المغاربة الذين حرقوا هويتهم ووطنهم من أجل الوصول إلى الجنة الأوروبية، كانت تلك الصحراء هي ليبيا، فرغم الثروات البترولية، فإن الفقر والغبار سمتان ظلتا عالقتين في ذهن الدكالي، لقد تحول مليون ليبي يتاجر بالبشر في مخافر جماعية بإذن من العقيد الليبي معمر القذافي، يحكي الدكالي : ( لقد قضينا ثمانية أشهر عالقين بأيدي تلك العصابات، جردونا من أموالنا، وحينما نسألهم عن الوقت الذي نلتحق فيه بالضفة الأخرى، يقولون لنا أن البحر هائج، أو يقولون لنا أن حرس الحدود الإيطاليين كثفوا من رقابتهم على السفن العابرة للمتوسط ). مل الدكالي من وجوده هناك، ونضب ماله، فراح يفكر في العودة. بعث رسالتين إلى سحلوت، يطلب منه تزويده بالمال، فالمهربون طلبوا منهم زيادة في الثمن، ذلك أن مسار الرحلة الذي كان مقررا تم إلغاؤه، فصارت الرحلة عبر مرحلتين، الأولى من ليبيا إلى تونس، والثانية من تونس إلى صقليا، لم يستجب سحلوت إلى الرسالتين، يظهر أنه في ذلك الوقت كان منهمكا بغسل مايوات أسياده، أو يقتات فتاتهم. عاد إلى الوطن كمن رمته أياد شيطانية فوق الصبار، فما هرب منه، عاد إليه، نفس الوجود المكدرة ها هو يراها الآن، ونفس الأرض الجرداء تتبدى أمامه. لا شيء تغير غير أنه أصبح يكره نفسه أكثر من ذي قبل. الصخرة الصفراء التي تركها قبل الرحلة صارت الآن جد متقيحة، فكان يجلس فوقها كل مساء ككاسر يلعق قيحها. لعن نفسه وربه ودينه وماضيه وأسرته، أمسى دون قيم كجدار متآكل، تمنى أن يكون في سجن أرضي بدل أن يكون في هذه الأرض المتصحرة، إنها سجن السجون، في هذه الصحراء عرف معنى أن يكون ريفيا، وعرف معنى أن يكون برانيا مهمشا، ممسوخا ومعدوما وفاقدا لأبجديات الحياة. في الجامعة قرر أن يكون وجوديا، لكنه عرف أن الوعي بالوجود هو يأس ومعاناة وقلق، فجرب أن يكون ماركسيا، لكنه تأفف من عبادة الزعيم، فهو لا يعبد الله كفكرة، وما فتئ يساجل إياه، فما بالك بزعيم بشري ادعى أنه صنم لا يموت. خلص في النهاية أن يعيش حرا، بدون قيم، مستفهما، متسائلا. لا يؤطره مذهب، ولا يحده مسلك ... المهم هو أن تعيش، أن تقاوم، أن ترفض، ألا تخضع، أن تشك، وتشكك، أن تهدم وتحطم، فالإنسان ليس في النهاية سوى حطام.
صار الدكالي كاسرا، يحلق فوق الصخرة، كان ينام جوارها، فأمست مثل أمه، يراقب الغادي والرائح، كما كان يتحرش بالراعيات، كم مرة ضاجع إحداهن في سكون الصخرة المطبق، ومن حين لآخر كان يعود إلى منزلهم المهجور، والشعور الذي انتابه على الدوام هو أن ذاته مهجورة تعاني الاغتراب والابتعاد، ولا أحد يتذوق نورها، ونسمة الحياة الكامنة في كيانها. لا شيء سوى السكون الذي يخترقه من حين لآخر نعيق البوم .
ذات فجر عاد من صخرته، ووجد عبوش نائمة في منزلهم المهجور، بينما أولادها مرميون على الحصير المهترئ، ركلها بعنف، في حين رمى أبناءها ككرة متدحرجة. طفا كوحش مفترس في فمه الشر، وفي أنفه رائحة البراز، وعلى عينيه نقرات كاسر لا يعرف الرحمة . طلقت عبوش وجرت وراءها سربا من (البز)، فحكم عليها الدكالي ألا تدخل إلى المنزل أبدا ...

عبد الله عنتار / واد زم - المغرب / 07 نونبر 2014



#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منزلنا الريفي (65)
- منزلنا الريفي (64)
- منزلنا الريفي (63)
- حلمة الأثر
- منزلنا الريفي (62)
- منزلنا الريفي (61)
- منزلنا الريفي (60)
- شمس الخريف
- كئيب الروح والحياة
- منزلنا الريفي (59)
- زهرة الناي
- منزلنا الريفي (58)
- منزلنا الريفي (57)
- رحلة إلى فضالات ...غبن يرتدي معطف الاستحمار
- منزلنا الريفي (56)
- رحلة إلى بوزنيقة ...رحلة بين أحضان الرعاع
- على شاطئ الموت
- دموعي من دموع غايا *
- أحلامي المقصوصة - قصيدة شاعر كرزازي مجهول
- منزلنا الريفي (55)


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (66)