أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين محمود التلاوي - إلى أين قادتني القطة؟؟!! (2)















المزيد.....


إلى أين قادتني القطة؟؟!! (2)


حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)


الحوار المتمدن-العدد: 4624 - 2014 / 11 / 4 - 19:37
المحور: الادب والفن
    


4

وقفت ألهث بشدة، وقد ارتكنت على سور جامعة عين شمس بمرفقي الأيمن بينما وضعت يدي اليسرى على صدري، وكأنني أحاول أن أثبته في مكانه. ولا ريب أن مشهدي أثار انتباه الكثيرين، ولكنني لم أشغل بالي وقتها بأن أعرف الكيفية التي ظهرت لهم بها فجأة من العدم. ولكنني أعتقد أنهم رأوني أجري، ثم أتوقف وأنا ألهث...
هذا مجرد اعتقاد لم أتأكد من صحته ليومنا هذا.
ولكن رغم مشهدي الملفت للنظر، لم يتقدم أحد ليسألني عما بي...!
هدأ لهاثي، ولم أكن أعرف ماذا أفعل، بل إني تفكيري لم يكن قد صفا بعد، ولم يكن انفعالي قد هدأ من المواجهة التي لم يمر عليها سوى دقائق...
دقائق بمقاييس الزمن العادي.
وبينما كنت أقف في مكاني، أخذت سيارة تسير ببطء في محاذاة الرصيف حيث أقف، وارتفع من داخلها صوت نسائي يقول في لهجة شبه آمرة: "اركب". لم أعبأ بالنداء، فقد تخيلت أنه موجه لشخص آخر، لكن رأس امرأة أطل من نافذة المقعد المجاور لمقعد السائق، ونظرت لي، وهي تقول: "اركب".
كانت امرأة في حوالي أواخر الأربعينات أو أوائل الخمسينات من العمر ترتدي نظارة شمسية تلتهم نصف وجهها، وإن بدت على قدر كبير من الجمال. كذلك، بدا الإطار العام لشكلها مألوفا لعيني، لكن صوتها كان غريبا بالنسبة لأذني.
تجاهلتها، وأنا أنوي الذهاب إلى مسجد النور القريب؛ لكي أستريح قليلا قبل أن أبدأ رحلة العودة إلى منزلي في السادس من أكتوبر.
العودة إلى العالم الحقيقي، إن جاز التعبير.
لكنها لم تترك لي الخيار، وقالت في لهجة شبه غاضبة كما لو أنها لاحظت تملصي: "اركب، وإلا أهم جايين ورايا يمسكوك"، ثم أكملت في لهجة تحذيرية شبه هامسة: "جوه السجن ديتك رغيف حواوشي مسموم يجيب أجلك". ثم أشارت بإصبعها داعية إياي لركوب السيارة التي كانت شديدة الفخامة مع لونها الرمادي وزجاجها نصف المعتم.
صراحةً لم أجد بدا من أن أركب السيارة...
يكفيني الموقف الغامض الذي أنا فيه...
لست في حاجة إلى مطاردات أمنية...
كنت في قمة الإرهاق النفسي؛ فركبت السيارة على مضض.
ولما ركبتها شعرت بالفارق الكبير بين مظهر السيارة من الخارج، ومظهرها من الداخل.
كانت من الخارج شديدة الفخامة، أما من الداخل فقد كانت... رهيبة الفخامة...!
كان بها من التجهيزات ما لا أعتقد أنه موجود بالأساس.
وما لفت انتباهي أن حرف S بالإنجليزية كان يملأ كل مكان تقريبا في السيارة.
والغريب أن المرأة كانت تبدو صاحبة السيارة فعلا.. فلماذا تقود بنفسها دون سائق؟! لا أعتقد أنها تعجز عن استقدام سائق يريحها من عناء القيادة.
تعجبت في داخلي من هذه الأفكار التي جذبت اهتمامي بعيدا عن الموقف الحالي الذي أنا فيه، وعن السؤال الأساسي المفترض أن أوجهه، وهو: "إنت مين؟؟!!".
كان الجواب ضحكة طويلة ممطوطة حملت من السخرية والمفاجأة أكثر مما لم أستطع تحمله، فسألتها في حنق: "بتضحكي ليه؟ إنت مين؟ ومين دول الناس اللي ورايا؟! وبيجروا ورايا ليه؟!".
هدأت المرأة من نوبة الضحك، وراحت تسعل سعالا خفيفا، ثم قالت، وهي لا تزال تغالب الضحك: "أصلك مش عارف أنا مين!!". ثم مالت نحوه، وقالت في صوت خفيض تفوح منه الخطورة: "حد ينسى "صوفي"؟!".
صوفي؟؟!
مدام صوفي؟؟!
"يااااااااااااه... أيوه... انت "صوفي"؟؟!"، انطلق مني هذا الهتاف دون وعي، وأتبعته بقولي: "وأنا بأقول الشبه ده مش غريب عليا...! وكمان حرف S اللي مالي العربية ده".
وفجأة، فطنت لصعوبة الموقف، فتساءلت في هلع: "بس أنا إيه اللي حطتني معاكي في خانة واحدة؟!".
أرجعت رأسها للوراء وهي تطلق ضحكة منفلتة متجاهلة سؤالي، وقالت: "ما حدش بينسى "صوفي" أبدا"..!
وانطلقت بالسيارة فجأة، فاصطدمت بظهر مقعدي، ولكنني تمالكت نفسي، ورحت أتأمل الطريق غير راغب حتى في تبادل الكلام...
كان وضعا عجيبا...
يفترض أنني أموت رغبة في معرفة حقيقة الموقف... بل في الواقع أموت هلعا لمعرفة ما الذي يجري...!
لمعرفة ما الذي أنا فيه...
ولكنني التزمت الصمت بشكل أثار دهشتي أنا نفسي...
فجأة، شعرت أنني غير راغب في الكلام...
وكأن المفاجآت المتوالية هذه قد قضت على كل فضول لدي، بعد أن كادت أن تقضي عليّ أنا نفسي...
لكنها هي من بدأ الكلام.
تكلمت، فانتفضت بقوة، لدرجة أنني لا أذكر ماذا قالت، وكل الذي أذكره أنها بترت عبارتها مطلقة الضحكة نفسها، وهي تقول ساخرة: "طيب ما تنط من الشباك أحسن؟!".
عندها لم أستطع تمالك أعصابي، فرفعت إصبعي محذرا، وقد ارتسمت على وجههي ملامح الغضب الشديد: "أنا ما أسمحلكيش إنك تكلميني بالطريقة دي.. إنت إيه اللي حدفك عليا أصلا؟!".
قالت في هدوء وهي تنظر إلى الطريق غير عابئة بثورتي: "أنا مقدرة حالتك النفسية، عشان كده مش حارد عليك"، ثم تابعت بعد فترة صمت: "وعلى فكرة، أنا كنت لسه حاتكلم انت اللي اتنفضت فجأة كده، كأن لمسك عفريت!".
ويبدو أن الدعابة أعجبتها فراحت تضحك في انطلاق، لكنني التزمت الصمت هذه المرة، وقد لانت ملامحي، وكبحت كل رغبة في تمزيق شعرها الأشقر ونثره فوق مقاعد السيارة. وانتظرت حتى هدأت ضحكاتها، ثم قلت: "لو تكرمتي بقى يا مدام "صوفي"... ممكن تقولي لي إيه الحكاية؟!".
فعادت إلى هدوئها، وقالت وهي تنظر أمامها للطريق: "إنت قلت لي "مدام صوفي"، صح؟!"، ثم تابعت دون أن تنتظر الإجابة — وهي لم تكن تنتظرها في كل الأحوال: "يبقى إنت عارف أنا مين"...!
نظرت بين قدميّ، وقلت في صوت متكسر النبرات: "لو اللي بافكر فيه صح، يبقى أنا في ورطة حقيقية".
نظرت إلي نظرة خاطفة، وقالت: "اللي بتفكر فيه صح يا عينيا. إنت شغال معايا...".
هنا صحت في هلع قائلا: "أنا...؟!! أنا عضو في شبكة آداب؟!".
******

5
قالت المدعوة "صوفي" في لهجة شبه ساخرة: "ودي عرفتها لوحدك بقى؟!".
رحت أردد الكلمة الأكثر تكرارا على شفتي هذا اليوم، وهي "مستحيل"...!
رددتها آلاف المرات...
قلتها في ذهني ملايين المرات...
أحسستها مليارات المرات...
عضو في شبكة للأعمال المنافية للآداب....!
أكرر: مستحيل...!
قالت وهي تواصل الانطلاق بالسيارة في شارع الخليفة المأمون: "يا بني إيه اللي جرى لك؟؟! إنت كنت كويس...! معرفش... من ساعة ما ورطت ابن الست المفترية دي في الحبوب وإنت مش على بعضك"...!
هنا كانت قدرتي على ضبط نفسي قد تلاشت، فأمسكت بيدها على مقود السيارة، وصحت في هياج: "وقفي هنا... وقفي هنا...!".
راحت السيارة تسير في مسار متعرج على الطريق؛ مما كان يعني خطورة شاملة على حياتنا وحياة راكبي السيارات الأخرى؛ فاضطرت إلى إيقافها، وهي تصيح في ذعر ممزوج بالغضب: "بتعمل إيه يا مجنون؟!" تارة، و"حاضر حاوقف!" تارة أخرى.
واستقرت السيارة على جانب الطريق، ونظرت لي في غضب، وكادت تصرخ، لولا أن رأت ملامح الجنون على وجهي؛ فنظرت إليّ بلطف مصطنع، وهي تقول: "اهدا بس، عشان نعرف نتكلم".
أمسكت يدها اليمنى، ولويت معصمها حتى كدت أن أكسره، فمالت وهي تتأوه وتكتم صرخاتها، ثم ضغطت على أسنانها، وقالت من بينها: "سيبني بدل ما تدفع التمن حياتك".
لم ترهبني كلماتها...
لم أشعر بالخوف الذي شعرته عندما هددتني قبل أن أستقل السيارة...
لم أشعر بالخوف الذي شعرته في منزل... منزلنا...
أو ذلك الذي كان منزلنا...
كان كل ما يسيطر عليّ وقتها هو أن أعرف من أنا...
أن أعرف ماهية الحلقة الجهنمية التي دخلت فيها... كيف دخلت فيها؟؟!
ما الذي أوصلني إلى هنا؟!
كل هذه الأسئلة جعلتني أشدد الضغط على معصمها حتى كدت أكسره وأنا أمسك يدها اليسرى نفسها لأمنعها من أي رد فعل، لولا أن قالت في استعطاف: "سيبني وأنا أقول لك"...!
لكنني شددت الضغط، وقلت لها في لهجة وحشية: "لأ... مش حسيبك غير لما تقولي!".
فقالت في اللهجة نفسها: "طيب وحاتكلم إزاي وإنت ماسكني كده؟!".
رددت بالوحشية والهياج نفسيهما: "زي ما انتي بتتكلمي دلوقت".
ويبدو أنها أيقنت أنني لن أفلتها، وأيقنت أنه لا سبيل لأحد أن يرانا خلف الزجاج نصف المعتم الذي يغلف السيارة؛ بخاصة أنها أوقفت السيارة في مساحة مفتوحة لا تشكل فيها السيارة أية عقبة أمام حركة المرور في الشارع المكتظ. لذا، بدأت تتكلم.
وليتها ما تكلمت...!
قالت صوفي: "إنت بدأت معايا لما كنت طالب...!".
سألتها في استغراب حقيقي: "إزاي يعني؟!".
صاحت في حنق: "خلليني أخلص عشان تسيب إيدي!".
هنا سكت، فتابعت قائلة: "كنت طالب فاشل من يومك... جاي الكلية عشان تلعب وتهيص ولا مذاكرة ولا نيلة".
كانت ملامحي أكبر دليل على ذهولي، ولكنني رغم كل شيء لم أفلت يدها التي كانت تحاول أن تحركها حركة خفيفة لتفلتها أو تريحها.
واصلت رواية الحكاية — حكايتي أنا — قائلة: "ومن أول أسبوع "طارق" الديلر بتاعنا في الجامعة حط عينه عليك".
قلت متسائلا وأنا أعقد حاجبيّ: "ديلر؟! إنتم مخدرات وللا آداب؟!".
ابتسمت في سخرية وقالت: "الاتنين يا حبيب ماما"...!
لانت يداي على معصمها ويدها، فسحبتهما بسرعة، ولكنها لم تفعل أي شيء أكثر من أنها راحت تفرك معصمها بيدها اليسرى، وتقول في سخط: "حيوان...!".
جذبتها من شعرها الأشقر في حركة مفاجئة فمال رأسها لأسفل في حركة حادة قرقعت لها رقبتها وطارت نظارتها الشمسية فوق عجلة القيادة، ثم سقطت على أرضية السيارة، وقلت لها في لهجة باردة لست أدري للآن كيف صدرت مني: "كلمة واحدة تانية مش على مزاجي، حاقتلك".
أيقنت من لهجتي أنني جاد في تهديدي، فقالت في خوف كتمه كبرياؤها: "طيب سيبني أكمل".
تركت رأسها، فعدلت من وضع شعرها وهندامها في المرآة الداخلية للسيارة، ثم قالت: ""طارق" حطك على أول طريق الإدمان عن طريق السجاير، اللي أصلا إنت كنت بتشربها، لكن كانت سجايره محشية بانجو".
"بعد كده، اتعلمت الحقن، ولما الإدمان اتمكن منك وسقطت في سنة تانية، أهلك دخلوك مصحة علاجية، وهناك... اتعالجت وطلعت... طبعا فضلت سنتين بعيد عن الكلية، وأهلك فارضين عليك رقابة رهيبة، ولكن في النهاية رجعت الكلية تاني".
وأمسكت بعلبة سجائر نسائية، وأخرجت منها سيجارة وأنا أتابعها بكل حذر خشية أية حركة غدر، فلاحظت ذلك، وقالت لي: "ما تخافش"، ثم أخذت نفسا عميقا من السيجارة وأخرجته بسرعة، وأرجعت رأسها للوراء وهي تنظر أمامها للطريق، قبل أن تتابع قائلة: "طارق" سابك خالص طول المدة دي، وإنت ما اتكلمتش عنه بعد ما هددك، وأنا غطيت عليه باتصالاتي... المهم إن العملية اتلمت".
وأخذت نفسا آخر من السيجارة، وواصلت الحكاية: "من نفسك إنت اتصلت بـ"طارق"، وطلبت منه يجيب لك السم الهاري ده..."، ثم نفثت دخان السيجارة، وهزت رأسها بلا معنى ثم قالت: "جاب لك المخدرات...".
هنا قاطعتها متسائلا: "هو "طارق" ده إيه؟؟! عميد الجامعة؟!".
ضحكت في سخرية، وأجابت: "لأ... موظف إداري هناك اتعرف عليك من شئون الطلبة، وحس بخبرته إنك صيد كويس... وطد علاقته معاك بعيد عن الدراسة... وهوب... وقعت يا روحي". ثم أخذت نفسا جديدا من السيجارة، وقالت: "أكمل لك بقى".
لم أرد، فواصلت هي الحديث قائلة: "الأول.. "طارق" شك فيك وافتكرك عامل له فخ، فاتصل بيا وقلت له يتقل... المهم... في الآخر رجعت تاني لطريق السم الهاري ده"، ثم غمزت بعينها اليمنى في إشارة ذات معنى وهي تقول: "ولكن من سكة تانية!!".
"سكة تانية؟!"
قفز السؤال من أعماقي إلى شفتي، فأجابت قائلة: "أهلك كانوا مانعين عنك الفلوس، فما كانش قدامك حل غير إنك تدخل في دايرة الترويج... تروج مخدرات بتمن اللي إنت بتشربه"، ومطت شفتيها وهي تواصل: "صفقة شفتها كويسة".
قلت في مرارة: "كويسة؟!".
قالت في إصرار: "آه... كويسة... لما نلاقي مروج زيك مش بيكلفني حاجة... مش دي حاجة كويسة؟!" ثم هزت يدها الممسكة بالسيجارة، وقالت وهي تأخذ نفسا أخيرا قبل أن تلقي بالسيجارة في طفاية السيارة، وتطلق الدخان في الهواء: "كان لازم ندور على شريحة جديدة نروج في وسطها... فظهرت أنا في الصورة... مدام "صوفي"!". صمتت لفترة قصيرة بعد هذه الكلمة، قبل أن تتابع دون انتظار أي تعليق مني: "فكرت إني كنت عايزة دم جديد في الشبكة بتاعتي... شارع السباق؟؟ فاكره..؟؟!."!
رنت هذه الكلمة في ذهني...
شارع السابق...
كنت أعرف اسم مدام "صوفي" من أيام الجامعة، وأعرف أنها تدير شبكة للأعمال المنافية للآداب في شارع السباق الواقع في تلك المنطقة المختلطة بين مصر الجديدة ومنشية البكري وكوبري القبة.
كنت أتعجب من أنه لم يلق القبض عليها طالما الكل يعرفها، ولكنها قدمت لي الإجابة في حديثها السابق عندما قالت إنها باتصالاتها غطت على المدعو "طارق".
أخرجني من شرودي في أفكاري صوتها وهي تقول: "فكرت أدفعك وسط بنات الجامعة... وفعلا... عملت أنا لعبة كده.. فوقع شوية بنات منهم في الإدمان... وكان تمن المخدرات بتاعتهم إنهم يدخلوا الشبكة بتاعتي".
والتقطت سيجارة أخرى أشعلتها، وهي تقول: "آدي كل الحكاية يا سيدي!!".
راحت عبارتها الأخيرة تتردد في نفسي...
تقتلني...
آدي كل الحكاية يا سيدي...!
كل الحكاية....
أنا....
تاجر مخدرات وعضو في شبكة آداب...!
وتجمعت سحب الغضب والثورة في نفسي لتخرج على شكل صفعة قوية على خدها الأيسر رن صداها في فراغ السيارة، فشهقت في ذهول، ولم أدر بنفسي إلا وأنا أمسك برأسها وأضربها في عجلة القيادة...
أضرب وأضرب..
وكلامها يتردد في أذني...
" إنت شغال معايا"...
وأضرب...
وصراخها يتعالى...
"شارع السباق؟؟ فاكره..؟؟!."
وأضرب...
لمحت مجموعة من الناس تندفع نحو السيارة على صوت الصراخ، ففتحت الباب...
لكنني لم أر الطريق...
ومرة أخرى رأيت العدم الأبيض...
والقطة اللعينة...
أراهم يقتربون من الزجاج الأمامي للسيارة...
بينما أرى العدم من زجاج نافذة المقعد الذي أجلس عليه...
ودون أدنى تفكير...
قفزت وسط العدم...
للحظة، شعرت أن السقوط سيدوم إلى الأبد...
لولا أنني في النهاية لمست أرضا صلبة، وفي لحظة الملامسة رأيت القطة تختفي..!
أيتها اللعينة...!
وكان السقوط مؤلما لدرجة أنني أغمضت عينيّ من الألم، ولما فتحتهما، وجدتُ نفسي راقدا على أرضية حجرة وبجواري فراش...
كانت حجرة نوم عادية تماما....!
وهنا، فقدت الوعي...
وصدقوني...
كنت شعر بارتياح بالغ في عقلي الباطن لذلك...!
******

6

نمت...
يبدو أنني نمت كثيرا بالفعل...
كانت الحجرة التي وصلت إليها — والتي يعلم الله أنني لم أدخلها قبل هذه اللحظة — مظلمة، وكان عندما وصلت إليها منيرة بضوء الشمس، وهو الأمر الذي استنتجته من اللمحة الخاطفة التي استطعت إدراكها قبل إغمائي.
لكن الاستيقاظ كان شديد القسوة...
فليس كل إنسان يتحمل أن يستيقظ من نوم عميق بشلال من الماء البارد على وجهه وصدره...!
نعم... كانت هذه هي الطريقة التي أيقظتني بها تلك المرأة البدينة القصيرة التي — وللمرة المليون التي أكرر فيها هذه العبارة! — شعرت بأن وجهها مألوفا لديّ..
بالطبع انتفضت كما ينبغي أن يكون الانتفاض في مثل هذه المواقف، وهببت واقفا على قدمي وأنا أنظر إليها في ذعر وذهول....!
كأن شلال الماء قد انسكب فوق غبار الذكريات فلمع من بين الركام هذا الوجه...
هذا الوجه....!
هذا الوجه...؟!
مستحيل.... مستحيل... لن أمل من تكرار تلك الكلمة....
مستحيل...!
ما هو المستحيل؟؟!
أن تكون هذه البشعة هي أرق من عرفت في حياتي...
والحب الأول فيها...!
كانت بدينة للغاية... لا عيب في البدانة ولكن الترهل ممقوت عند الجميع... حتى عند المترهلين أنفسهم..!
كانت تضع في عينيها ذلك المستحضر التجميلي القميء المسمى بـ"الكحل"، والذي جعلها تبدو مثل كاهن فرعوني خبيث يسعى لاستدراج ضحاياه من أبناء مصر الفرعونية ليأخذ مالهم تقربا للآلهة....!
ذلك الشر البادي على ملامحها... ذلك الشر بدا جزءا صميما من شخصيتها وليس بسبب غضب عارض... شر جعلها — مع شكلها العام — وكأنها ذلك الكاهن بعد أن رفض الأهالي إعطاءه المال الذي طلب...!
لم أحاول أن أسأل أين أنا ولا كيف وصلت إلى هذه المرحلة...
كان الأمر أجلى من أية محاولات للفهم؛ إذ أنه من الواضح أنني تزوجت الفتاة التي أحببتها ورأيتها الملاك الأجمل في الحياة... وسارت بنا الحياة حتى وصلنا إلى هذه النقطة التي بدأت تصيح فيها قائلة: "يا راجل عيب عليك... ده الناس رجعت من أشغالها ونامت وصحيت وإنت لسه نايم"، ثم جذبت تلابيب ثيابها هي وتركتها في حركة حادة كناية عن نفاد الصبر، وهي تضيف محركة يدها في إشارات استفهامية: "يا راجل... راجل إيه؟؟! أقول ولية...؟! لأ... ده الولايا بيشتغلوا!!".
ثم ألقت تجاهي الدلو الذي أفرغت منه الماء فوق رأسي، وانصرفت غاضبة وهي تصرخ ضاربة جانبي فخذيها في حسرة وألم: "منك لله... منك لله إنت واللي جوزني ليك.... الله يخرب بيتك يابا...!".
ثم صفقت باب الحجرة خلفها لكنه لم ينغلق تماما....
لسوء حالته..!
لم أنبس ببنت شفة طيلة هذه المحادثة أحادية الجانب...
كان الذهول يسيطر عليّ ليس بسبب وجودي في موقف غريب؛ إذ كنت قد اعتدت على ذلك. كان الذهول يرجع إلى هذا التغير الحاد في الشخصية.... هي وأنا...!
لم تكن هكذا....!
مطلقا....
تحت أي ظرف من الظروف، لم تكن لتصبح هكذا...
لا ريب أن هناك قوة باطنية شريرة تتحكم فيها... هذا هو المبرر الوحيد... لقد استحوذ عليها جني من أسافل الجن لكي يحيلها هكذا....
أم تراها تعرضت لتجربة كيماوية خارج إطار القانون فأحالتها لما صارت عليه؟؟!
لكن لا بد أن التجارب الكيماوية الخارجة عن القانون باتت في متناول الجميع؛ لأنني — فيما يبدو — قد تعرضت لتجربة مماثلة...!
أم ترانا اثنان غيرنا؟؟!
لا أعتقد (أننا) اثنان غيرنا... نحن هما نحن.... الكائن الحي نفسه... لكن ليس الإنسان نفسه....!
لقد اختلفت... أصبحت إنسانا متبلد الشعور والإحساس... ينام على أرضية غرفة النوم بسروال المنامة والفانلة الداخلية... يستيقظ مع خفافيش الظلام...
كذلك يبدو أنني أعيش في مكان تعافه النفس البشرية وهو ما ظهر في ما استطعت أن ألمحه من شكل الحجرة التي أعيش فيها على الضوء القادم من النافذة الوحيدة في الحجرة...
النافذة التي أكدت ألفاظ السباب المستمرة القادمة منها صحة استنتاجي...
كذلك كانت هناك ملامح طفلين لمحتهما من خلف الباب الموارب...
طفلين من أشباه المشردين...!
لا ريب أنهما طفلاي!!
أو لعلهما (من أطفالي)؛ فالإطار العام للحياة التي أحياها يجعل من مسألة الإنجاب بما يفوق الطاقة أمرا شديد السهولة...
كذلك أنا متعطل عن العمل...
هذا ما فهمته من صراخها بأن "الولايا أفضل مني"...
إلا أن نوعية الكتب الملقاة حول الفراش جعلتني أخمن شيئا...
لكن هذا التخمين جعل قلبي يقفز راغبا في مغادرة صدري إلى الأبد...
هل حقا أنا أعمل بالدجل والشعوذة؟؟!!
******



#حسين_محمود_التلاوي (هاشتاغ)       Hussein_Mahmoud_Talawy#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى أين قادتني القطة؟؟!! (1)
- ليرحل الطاغية... حملة -تطهير- لإسقاط الفساد من حكم مصر...
- شيكاجو الأسواني... -أنا فقط-...
- تنظيم الدولة الإسلامية... ملاحظات فقط
- لصوص
- التعايش في المنطقة العربية... المستحيل بعينه...!
- من يوميات إنسان...
- يوم القبض... مسرحية من مشهد واحد
- قمقم...!!
- الأحواز... ما الأحواز؟؟!! (5)
- الأحواز... ما الأحواز؟؟!! (4)
- الأحواز... ما الأحواز؟؟!! (3)
- الأحواز... ما الأحواز؟؟!! (2)
- الأحواز... ما الأحواز؟؟!! (1)
- 30 يونيو... كنت هناك... وهناك أيضًا...
- هكذا قال لي أبي...
- فلينزع الحجاب... هل حقا الحجاب مرارة؟!
- -وَدِّينِي لماما-
- العرب والمسئولية الأخلاقية عن الفعل... وتداعياته
- الهزيمة كان اسمها فاطمة... عن الإنسان الرخيص


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين محمود التلاوي - إلى أين قادتني القطة؟؟!! (2)