أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مناف الحمد - ليبرالية رورتي (مفاهيم يجب أن تصحح وتحفظات)















المزيد.....


ليبرالية رورتي (مفاهيم يجب أن تصحح وتحفظات)


مناف الحمد

الحوار المتمدن-العدد: 4623 - 2014 / 11 / 3 - 06:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لفهم ليبرالية رورتي يجب فهم تقلبات اليسار في أمريكا ،ويجب الأخذ بالاعتبار حياته ومحطاتها ،فقد ولد رورتي لوالدين مواليين للحزب الشيوعي حتى عام 1932 ، ثم انشقا عنه عندما أدركا مدى سيطرة موسكو عليه، ومع ذلك ظلّا ينظران إلى نفسيهما كمثقفين يساريين لأسباب متنوعة أهمها شغهما بالديمقراطية والاشتراكية .
وجدّ رورتي لوالدته كان رجل دين انجيلي حارب عبادة الجشع ؛وهو ما يجعل له متات صلة بمبدأ العدالة الاجتماعية التي يطالب بها اليسار .
الخطر الأكبر الذي كان يحيق بالديمقراطية الليبرالية الامريكية الإصلاحية -بنظر رورتي- كان ستالين وعصاباته الشيوعية .
كان رورتي متمسكاً بالتزامه الليبرالي الإصلاحي اليساري، وبلا شيوعيته رغم أن غير الشيوعي آنذاك كان يوصف بالرجعي ،وقد اعتبر رورتي والت وايتمان شاعراً للمجتمع الليبرالي الديمقراطي وجون ديوي نبياً له ، وهو مجتمع لا طا ئفي ولا طبقي المجتمع الذي دفع اليساريون الامريكيون القرن العشرين كله محاولين أن يجسّدوه ، وهو مجتمع كان بطله ديوي الذي كان هاجسه الأساسي إنجاز وعد الديمقراطية.
وكان رورتي ك ديوي يحتقر الايمان بالتشاؤم الذي كان موضة تلك الأيام واعتبر أن السياسيين اليساريين يجب أن يعملوا باتجاه تأسيس أنواع من التشريعات والسياسات الاجتماعية التي تعمل على تخفيف البؤس البشري وتقليص الفجة بين الغني والفقير ولا تشجع الجشع لفاحشي الثراء .
وفي سبيل ذلك يجب نبذ التنظير والعودة إلى تقليد السياسات الليبرالية اليسارية الإصلاحية التي ينضمّ فيها المثقفون إلى العمال من أجل إحداث تغيير اجتماعي يسهل التعامل مع مشاكل العرقية وعدم المساواة الاقتصادية والبؤس .
وعلى عكس ما يظن من أن رورتي كان عدواً لليسار الأمريكي في فترة من حياته فقد كان يشيد بفعالية اليسارخلال النيو ديل الذي تصرف أثناءه اليسار بفعالية وبسياسات أمل رورتي أن يراها تزدهر من جديد، ولكن المحافظين ساهموا في تشويه معنى الليبرالية حتى بات بعض السياسيين يخجلون من وصف أنفسهم بالليبراليين .
أما اليسار الذي ناصبه رورتي العداء فهو اليسار الثقافي الذين يفسر ما حدث من جعل الليبرالية وصفاً مخجلاً فهم وارثو اليسار من المثقفين الأكاديميين والذين يعتبرهم كارثة وهم المتسببون في ما حصل؛ لأنهم أولوا اهتمامه الأكبر للدوافع الجنسية الخفية ومشاكل العرقية والمثلية وأهملوا قضايا الطبقية الاقتصادية وهو ما يجعل رورتي يصرخ بوجه زملائه اليساريين الأكاديميين " أيها المغفلون إنه الاقتصاد" .
فاليسار الثقافي متهم عند رورتي بالتخلي عن برامج محددة للإصلاح التشريعي والسياسي وبالفشل في الوصول الى عقد تحالف مع العاملين والفقراء .
ولهذا طالبهم أن يتوقفوا عن النشاط في النظرية وأن يحاولوا نبذ عاداتهم الفلسفية القديمة و إحياء ما تبقى من فخر الأمريكيين بكونهم أمريكيين .
من محطات حياته ومن تقلبات اليسار التي عاصرها وكان له مواقف متباينة منها يمكن سبر غور ليبراليته التي يساعد أيضاً على فهمها التصنيف الثلاثي الذي وضعه لثلاثة نماذج من المفكرين يمثل كل نموذج منهم تصوراً خاصاً لمفهوم الحقوق الإنسانية :
نموذج يمثله دونالد دوركين ، وهم الذين يطلق عليهم رورتي تسمية القطب الإطلاقي الذي يعتقد بمفهوم للحقوق الإنسانية اللاتاريخية.
والثاني قطب مستقل يمثله كل من ديوي وجون راولز.
أما الثالث فهو صنف مجتمعي يرفض المندرجون تحته النزعة الفردية العقلانية الأنوارية وفكرة الحقوق ، ويمددون هذا الرفض على عكس الصنف الثاني إلى الشك في المؤسسات والثقافة الخاصة بالدول الديمقراطية ويمثلهم روبير بيلا والسدائيرماكنتاير وساندل وآخرون .
الصنف الذي ينتمي اليه رورتي وهو الصنف الثاني وسط بين الليبرالي والمجتمعي ، وهو صنف يعتبر أن واجب الدولة يقتصر على إتاحة الفرص، وتقديم أفضل الشروط للجميع وصياغة كل فرد للغته النهائية ، وفي الوقت نفسه يعثر فيه على النزعة المركزية العرقية التي أسيء فهمها لدى رورتي والتي تقوم على اعتبار أن الليبرالية نتاج تقليد ديمقراطي ليبرالي يحتوي على تصور للخير ضمن ما تؤكده الاخلاق الليبرالية. وبتفصيل أكثر المركزية العرقية عبارة عن ولاء.
مركزية رورتي العرقية محلية تنبع من اهتمامه ببناء مجد امريكي جديد ،وهو مجد يسعى إليه ويدعو إليه رغم أنه يبدو خارج الذوق العام على الأقل بين المثقفين الاكاديميين ، ولكنه مقتنع أن الامة لا يمكن أن تصلح نفسها بدون ان تفخر بنفسها ، ما لم تملك هوية تبتهج بها وتحيا لأجلها ، وهوسعي للمجد ليس غير منسجم مع الامل بإنجاز يوتوبيا ليبرالية عالمية كوزموبوليتانية ؛لأنه ولوكان محتملاً أن يأخذ شكل غطرسة قومية عدوانية لكن غالباً ما تأخذ شكل توق للحياة لمثل أمة ، وهي الكفيلة بنظره ببعث السياسات الإصلاحية.
وفي رده على الصنف الثاني يدافع رورتي عن مجتمعية راولز ويناصب مجتمعية ساندل العداء ، فساندل الذي يعتبر السياسات الليبرالية ناقصة ؛لأنها يجب أن تستند إلى نظرية فلسفية ناقصة عن الطبيعة يستند هو إلى تفسير فلسفي للذات البشرية ،ويضع الفلسفة قبل السياسة أما رورتي فهو يعتبر أن الفلاسفة الديمقراطيين الليبراليين يدافعون عن السياسات الديمقراطية بوضع السياسات أولاً وتفصيل فلسفة على قياسها ،ويقول إن نظرية راولز في العدالة تاريخانية وليست شمولية وهو لا يفترض تفسيرا فلسفيا للذات البشرية كما يفترض ساندل لأن الذات لدى رورتي ليس لها نواة ولا توجد ذات حقيقية يجب على الإنسان ان يسعى لإيقاظها أو اكتشافها .
يرى رورتي الذات ك عديمة المركز كاحتمال تاريخي على طول الطريق.
هذه هي الذات البشرية إنها مجرد شبكة من الاعتقادات والرغبات والعواطف ولا شيء خلفها لا ركائز خلف السمات هذه الشبكة من خلق المجتمع فلا يملك الناس سوى ما تتم تنشئتهم عليه .
وفي حين اعتبر البعض هذا التفسير للذات تبريراً لاستعباد المجتمع الروحي للناس ،فإن رورتي يدافع عن مفهومه هذا بقوله إن الناس يخلقون أنفسهم من خلال إعادة نسج هذه الشبكة من الاعتقادات والرغبات.
لا توجد إنسانية أساسية او ذات حقيقية يمكن أن تكون موضوعاً لطموحنا .
يوجد فقط تشكل لحيوان داخل الكائن البشري بواسطةعملية تنشئة اجتماعية.
والخلق الذاتي نوع من الحرية بالتمرد على هذه العملية ، ولكنها حرية ليست موجهة بأي قانون للطبيعة أو العقل .
الحرية الأخلاقية هي إعادة تعريف للعارضية للاحتمالية، أماالعبودية الأعظم فتتألف من الطاعة لقيود لا إنسانية مثل الله او الطبيعة ،وليست عبودية الخضوع لقيود التخاطب المفروضة بواسطة مجتمعاتنا المتنوعة .
ان المحاولة الفلسفية أو الدينية للهروب من عارضية المجتمع هي تحويل للكائن الى آلة مبرمجة .
ان أفراد رورتي الخلاقين يرفضون قيادة من الله او الطبيعة في تمردهم ضد تنشئتهم وبدلاً من ذلك يتعهدون بكتابة قصائدهم الخاصة ،وكل حياة بشرية هي قصيدة .
ليس رورتي ليبراليا أرثوذكسيا لأنه يبحث عن وصف الليبرالية التي من الممكن تكييفها مع رؤى مجتمعية لهيغل وديوي ، فبينما يكون الفيلسوف مدفوعاً بالحاجة إلى راحة ميتافيزيقية للاعتقاد بأن العالم له نظام محسوس معين ، لإيجاد شيء لا تاريخي للتمسك به ، وليس بإلحاح لا يقاوم للمعرفة .
وهو في اعتباره ديوي إحدى أهم مرجعياته الذي بدوره يجد مرجعيته في نظر رورتي لدى هيغل فإنما يفعل ذلك لأن ديوي -الذي بدأ حياته هيغلياً وامتزج الأثر الهيغلي لديه بالأثر الدارويني في موقفه البراغماتي الاداتي- لأن ديوي جعل الليبرالية أكثر جاذبية لدى الفلاسفة اللاما هويين المعاصرين من خلال تفكيك الجوهر الفلسفي لها وتحطيم فكرة الطبيعة المشتركة ولهذا فإن براغماتيته تعتبر دفاعاً فلسفياً عن الليبرالية السياسية ، وهي كفيلة بجعل السياسة الديمقراطية الاجتماعية مقبولة .
وأصالة رورتي في أحد أبعادها تكمن في اعتباره الليبرالية البراغماتية نوعاً مختلفاً من الليبرالية السياسية مؤسسة على فكرة مختلفة عن الحرية.فما ماهية هذه الليبرالية البراغماتية الرورتية؟
إن البراغماتية موقف ذهني لها ارتباط براغماتي بأي شيء يعمل مع ميل لرفض أنواع الأسئلة الضارة والعقيمة التي يرفعها فلاسفة حول لماذا تعمل بعض الممارسات ولا تعمل أخرى .
يبحث البراغماتي عن تحريرنا من الأمل العصابي أن الفلسفة يمكن ان تستحضر بطريقة ما لتأسيس ثقافتنا سياساتنا وحيواتنا الأخلاقية واعتقاداتنا الدينية على أسس فلسفية .
تحريرنا بهذه الطريقة يساعدنا على عيش حيواتنا الأخلاقية بكل إخلاص ، والذي هو الآن مكدّر بشكوكية تنبثق من جهود فاشلة لاكتشاف أسس لطريقة الحياة .
يمتلك البراغماتي حسب رورتي ذوقا "ديوياً" للتجريبية فهو ليس محافظاً ولا ثورياً، لكنه مصلح اجتماعي.
هو ليس محافظاً ؛ لأنه يعتبر التقليد كمجرد تراكم عبر التجربة والخطأ ،عادات معينة ومؤسسات وأفكار تناسب الآن مجتمعنا بشكل جيد ،ولا مبرر لعدم الاستمرار مع وجود توقع معقول ان الإصلاح الاجتماعي يمكن أن يجعل ممارساتنا وأفكارنا تعمل لصالحنا افضل من طرقنا القديمة.
وهوليس ثورياً ؛لأنه لا يثق بالدعاوى التي تبرر الثورة فقط بإجبار المواطنين على الحكم على مجتمعهم وفقاً لمعايير غريبة عن المجتمع ويجب أن تفرض عليه .
البراغماتي مصلح اجتماعي يجيب عن شكوك حول تبرير طرق حياتنا وثقافتنا السياسية ليس بطلبات سقراطية لمبادئ وتعاريف لكن بطلبات ديوية عن بدائل صلبة وبرامج.
يصف رورتي مشروعه السياسي للإصلاح بأنه محاولة ديوية لخلق اهتمامات متماسكة مع مشاكل يومية لمجتمعه ،هندسة اجتماعية، استبدال للدين التقليدي يقوم به شعراء مبدعون أو حالمون مثل مارتن لوثر كنغ الذين يعطون المجتمع الأمل ولا يقدمون المعرفة الكونية.
بالنسبة لرورتي يجب البحث لدى البراغماتي عن راحة أخلاقية ، عن وسائل تخص ولاءنا للبشر الآخرين .
الفرق بين البراغماتي والأفلاطوني هو السؤال عما يجب التمسك به : الطبيعة أم المجتمع وهي قضية أخلاقية وعلينا ان نفكر بمجتمعنا ك " لنا " أكثر من كونه لل " الطبيعة " ك مشكّل أكثر من كونه موجودا ،وهو تفكير مشتق من إعادة تحديد معنى المجتمع .
إن حسنا بالتماهي مع مجتمعنا أفضل من طموح في غير مكانه باكتشاف نقطة بدء عابرة للتاريخ ، ولذلك يجب التخلص من مفاهيم تقليدية عن الموضوعية ،ويجب فهم العلوم الاجتماعية كاستمرارية للأدب ، كتفسير للناس الآخرين وتوسيع وتعميق حسّنا بالمجتمع .
العقلانية العلمية ليست بحثا عن فهم موضوعي وانما هي نموذج للتضامن البشري ، والأخلاق في الليبرالية البراغماتية الرورتية هي أخلاق مجتمع مشروط تاريخياً، والكرامة البشرية اشتقاق من كرامة مجتمع محدد.
الناس الذين يتماهون مع مجتمع أخلاقياً ، والذين ينظرون إلى أنفسهم كمواطنين أفضل من مستقلين أو أفراد معزولين ،وهم سوف يميلون بالتأكيد للاعتقاد بأنهم يجب ان يحبوا ويخدموا ذلك المجتمع .
لا يستجيب رورتي الليبرالي البراغماتي أبدا لفكرة الواجبات الطبيعية أو الفضيلة الإنسانية ما دامت معتمدة على طموح فلسفي قديم وفاقد للمصداقية لرؤية الكائنات البشرية عارية من كل التراكمات الثقافية والعرفية -فعلى حد تعبيره -لا يوجد شيء للناس ما عدا ما تمّ تنشئتهم عليه فالكائنات البشرية ليست أكثر مما قام مجتمعها بصنعه ، وهذا أحد الأسباب التي يوصف لأجلها بالليبرالي المجتمعي .
فما هو خطأ لدى الفلاسفة الذين يفعلون العكس هو فلسفتهم الما ورائية واعتقادهم أنهم يمكن أن يدعموا دعاواهم بالاحتكام إلى جدالات مؤسسة على أسس صلبة ، وهوما يغاير منحى الليبرالي الساخري وهو الوصف الذي يصف به رورتي نموذجه الليبرالي ويعرفه بأنه الشخص الذي يعرف أنه لا يمكن تبرير أفعال البشر واعتقاداتهم وحيواتهم بالاحتكام إلى أسس عقلانية نهائية .الساخري يعرف جيدا أنه توجد بدائل ، ولا يؤمن بوجود كلمات نهائية .
إنه اقرب الى الواقعية من الآخرين ، وليس كما يتصور خطأ انه المتظاهر بالجهل أو المتهكم على الآخرين.
وبينما رأى بعض نقاد رورتي في هذا الوصف نسبوية عدمية فقد كان رورتي يرد عليهم بأنه مدرك ان عبء النسبوية عبء كبير، ولكن اتهامه بالنسبوية موجه من قبل الذين لا يزالون يتمسكون باعتقا د يفيد أن ثمة أسساً عقلانية نظرية صلبة أو ينبغي أن توجد ، ويقول إننا سنكون أفضل حالاً إذا تنازلنا عن كل الحديث عن النسبوية والموضوعية والواقعية وغيرها وإذا تنازلنا عن فكرة أن النزول إلى العمق في كل الكائنات البشرية يفضي في نهاية الطريق للعثور على أساس حقيقي يمكن أن يخدم في تبرير اعتقاداتنا الليبرالية ، فرورتي يعتبر الأفلاطونية أكبر اعدائه والكانتية كذلك؛ لأن هاتين الفلسفتين صنعتا التمييزات الفلسفية (مظهر- جوهر ، مادة عقل ،مصنوع - موجود ، ذهني- محسوس ......الخ) والتي كانت هواجس الفلاسفة لفترة طويلة ،ويدعو زملاءه الفلاسفة إلى التنازل عن هذه التمييزات ، وأن يأتوا إلى ثقافة ما بعد فلسفية حيث يحول الانتباه إلى نقاش للآمال الاجتماعية أكثر من معرفة ما هو موجود هناك وهو يقول إنه يحمل تراث ديوي الذي يعتبره بطله الفلسفي الذي سبقه الى طرح شبيه ويقدم رورتي آلية تساعد في تنفيذ دعوته هي إعادة الوصف للمفاهيم .
أما التاريخانية التي يمجدها والتي جعلته يثني على راولز؛ لأن نظريته في العدالة تعالج موضوعات متنوعة تتعلق بقضايا معقدة مثل الحقوق القانون الدستور، ولأن راولز –حسب رورتي- قد تطور في آخر عمره وأصبح اكثر تاريخانية واقل كانتية فهي التي تجعله يؤكد ان انبثاق الليبرالية في الغرب حدث سعيد ، صدفة تاريخية وفي الوقت نفسه تجعله يرفض كل السرديات الكبرى التي تقترح أنه يوجد قدر في النصر النهائي للحرية الليبرالية ولذلك ظل ينتقد هابرماس ؛ لأنه ظل يتوق لشيء ما مثل أسس كانتية ودعاوى شرعية كونية ، ويحثه على إعادة الوصف ، فنحن لا نحتاج -بحسب رورتي - إلى عمل نظري حول طبيعة واساس الليبرالية ، وبدلاً من ذلك علينا أن نركز على كيفية تحسين المؤسسات التي توجد في المجتمعات الليبرالية ،وإذا طرحت عليه أسئلة من قبيل ما الذي يعد قسوة واذلالاً ؟ هل يوجد معيار لتحديد الاشكال المقبولة وغير المقبولة للإذلال ؟ ماذا نفعل لحماية الخطاب الحر عندما يحمي نوعاً من خطاب الكراهية الذي يتسبب في الإذلال ؟ فإنه يجيب أنها أسئلة غير هامة ، وهي لا تساعد في شيء وبالنسبة للساخري الليبرالي لا يوجد احتياطي نظري للاعتقاد أن القسوة مرعبة، ولا يوجد جواب على سؤال " كيف نقرر متى نصارع الظلم ومتى نكرس انفسنا لمشاريع خاصة ؟ أو سؤال متى يمكن للمرء أن يفضل أعضاء عائلته أو مجتمعه على الكائنات البشرية ؟
إن أي شخص يعتقد أنه توجد أجوبة نظرية لهذه الأسئلة لا يزال في قلبه ميتافيزيقا أو ميثولوجيا لا يزال يعتقد بترتيب خلف الزمن يحدد نقطة وجود الانسان .
أن روايات ديكنز والصحف فعالة أكثر في جعل الناس يفعلون شيئا حول بشاعة الظلم الاجتماعي أكثر من آثار أكاديمية لفلاسفة مفتونين بالتنظير الذي كان مهماً عندما كانت الليبرالية تخطو الى الوجود لكن ذلك الوقت قد مرّ .
رورتي منسجم جدا مع نظرة يعزوها لهيغل وديوي ، وهي أن المبادئ الأخلاقية الكونية مفيدة فقط بقدر ما تكون ثمرة لتطور تاريخي لمجتمع خاص .
ومن الفلاسفة الذين يعجب بهم رورتي أيما إعجاب بسبب صلة رحم فكرية تربط بينهما المنظر السياسي لمايكل والتزر؛ لأنه يجادل أن علينا ألا نفكر بعادات ومؤسسات المجتمعات الخاصة كتراكمات عرضية حول نواة عامة لعقلانية أخلاقية كونية ، قانون أخلاقي ترانسندنتالي وبدلا ًمن البحث عن نظرية ديمقراطية وليبرالية معقدة يمكن العثور في الروايات والصحف والمقالات ما يمكن ان ينجز أكثر في تقوية وتحسين المؤسسات الليبرالية من آثار اكاديمية للفلاسفة الليبراليين .
أما الإنسانية لدى الليبرالي البراغماتي فهي التصرف وفق القاعدة الأخلاقية التي تنص على أن كل الناس مخلوقات متساوية واللاإنسانية هي القسوة فمن اللا إنساني في نظر الليبرالي البراغماتي اعتبار أن بعض الكائنات البشرية هم سادة الطبيعة، وأن آخرين عبيد بالطبيعة أو أن بعض الناس مدنيون وآخرين برابرة بشكل لا يمكن إصلاحه ،فحينما ترفع الطبيعة أو الثقافة بشراً فوق آخرين ،أو تبعد مجموعات عن أخرى يصبح من الضروري تقليص الفروق التراتبية الثقافية والطبيعية بين البشر وهنا نعود لنلمح أثر البيئة اليسارية الشغوفة بالعدالة الاجتماعية التي تربى في كنفها.
ويشتق من مفهوم الإنسانية هذا معنى التضامن الذي تعتمد عليه مجتمعات رورتي الليبرالية وهو بديل عن الانسجام الكوني الذي لا معنى له ؛لأن التضامن مع الأقران وتعميق الحس بالتعاطف وبمعاناة الناس الذين يتعرضون لإذلال مؤسساتي ، والذي هو ناتج إنجازات لأدباء ولصحفيين هو المحتوى الحقيقي للتقدم الليبرالي الأخلاقي.
فهم رورتي للتعاطف والتضامن يساعد على تقليل اللقب الاستفزازي الذي أطلقه على نفسه بأنه مركزي عرقي ؛على اعتبار أن التضامن الذي يدعو اليه يبدأ في الوطن الذي هوظاهرة محلية تتمدد بالتدريج .
وقد كان للتضامن مركزية في ليبرالية رورتي ؛لأنه الجواب على السؤال ما البديل الأخلاقي والسياسي الصالح موضوعياً للموضوعية والطبيعة الإنسانية المشتركة التي يعتبرها وهماً يقود إلى الأنظمة الشمولية ويساند الإيديولوجيات الاستبدادية.
وهذا التضامن الذي يمثل البديل هو اتفاق تذاوتي يمتد إلى أقصى ما يمكن ، اتفاق يحققه مجتمع ديمقراطي يفكر فيه كل شخص أن التضامن الإنساني هو الأكثر أهمية فعلياً.
ولكن من الزائف الاعتقاد أن رورتي متفائل بخصوص آفاق أمريكا كمجتمع ليبرالي فالتوجهات الاقتصادية الأخيرة تظهر أن أمريكا تصبح بسرعة مجتمعا طائفياً وطبقياً، وأن الفجوة بين مجموعة صغيرة من فاحشي الثراء وبين مجموعة كبيرة من الفقراء تتفاقم .
اليوتوبيا التي ينادي بها رورتي لا تعنى يوتوبيا بالمعنى الشائع وإنما الشكل الذي تجلى في أوربا والذي ينطوي على مفهوم للحقيقة كشيء يبنى وليس كنزاً موجوداً ثمة ،وما علينا سوى اكتشافه .
وقد تحققت هذه اليوتوبيا في الليبرالية الأمريكية . وفيها يتم قلب معادلة افلاطون التي ينصب فيها الفلاسفة ممثلوا العقل ويقصى الشعراء الذين ينصبون في ليبرالية رورتي كمواطنين مفضلين لأنهم يوظفون كتاباتهم لصالح الحرية الإنسانية.
في بعض استنتاجاته يعطي أسباباً لعدم ترجيحه تحقيق يوتوبيا ليبرالية عالمية ولكن هذا لا يستلزم أن الآمال بتحقيقها يجب أن تهجر ،ولا يعني أن مؤشرات انهيار الليبرالية البراغماتية في أمريكا تبرر التعامل بمنظور التشاؤمية الثقافية بل بالعكس تعزز عارضية الليبرالية الديمقراطية أهمية الوسيط الإنساني للاستمرار في إصلاح وتحسين المؤسسات الليبرالية الديمقراطية لإبقاء الوعد بمجتمع ليبرالي بلا طبقات ولا طوائف حياً.
بالرغم من صعوبة الاعتراض على الكثير مما ينادي به رورتي من مثل العدالة الاجتماعية وبنهاية التمييز العنصري ، ولكنّ تطبيق المعايير البراغماتية الصلبة التي يطبقها على الآخرين يجعل التساؤل عن كيفية الهبوط من بلاغة المناداة بتقليص الفجوة بين الغني والفقير، وتقييد الجشع إلى أرض التنفيذ مشروعاً؛ لأنه لا يعطينا فكرة عن كيفية إنجاز ما ينادي به، ولا عن آلية ملموسة للإصلاحات الليبرالية .
كما إن ما ابتلي به ديوي عانى منه رورتي؛ فهو مشغول بتأنيب أقرانه المثقفين بسبب فشلهم في التعامل مع مشاكل الانسان أكثر من انشغاله بتطوير طرق متماسكة لحلّ هذه المشاكل.
تحفظ آخر على معالجة رورتي للنظرية فهو كما هو واضح فاقد للصبر مع النظرية التي تحاول تبرير الليبرالية بالاحتكام إلى أسس صلبة ،وفي الوقت نفسه لا يعتقد أن التنظير اللا أسسي الما بعد حداثي لليسار الثقافي أفضل بكثير؛ لأنه يفشل في التواصل مع السياسات الواقعية.
ولكن ليس صحيحا أن هاتين الطريقتين من التفكير الأسسية والما بعد حداثية هما كل ما يوكل للنظرية من دور، فلو أخذنا مثال تشريع الرفاه الاجتماعي للنيو ديل التي يعتبرها رورتي مثالاً ناجحاً ،ففي هذه الحالة كان لا بد من مفاوضات حول أسباب الكساد ،ونوعية الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن تساعد في الخروج بالبلد من المأزق وهي مفاوضات نظرية تضمنت نماذج تنافسية حول ما يجب أن يعطى الأولوية في تشكيل أمريكا ،وبهذا المعنى فمن الواضح ان النظرية قامت بدور تقديم برامج عمل متماسكة، وهي ليست نظرية لخبراء تقنية حياديين؛ لأنها تتطلب تحديد الظلم الاجتماعي لتصحيحه مع قدر غير قليل من التحليل النظري والجدال، وإلا فإن الإصلاح الليبرالي يمكن بسهولة أن ينحط إلى فعالية لا عقلية أو بحث عن إصلاحات سريعة ،وبالتالي فالنظرية لا تختزل إلى نوعين -كما يفترض- أسسية، وما بعد حداثية .
التحفظ الثالث يبدوفي تخوفه من نتائج العولمة الاقتصادية على العاملين في أماكن الأجور المنخفضة من دون أن يقدم سبلاً لمواجهة هذه الآثار ،ومن دون أنيفصّل نوعية الإصلاحات التي يجب أن تتخذ، ويغفل عن ضرورة البحث عن تفسير نظري ولو بالحد الأدنى لديناميات العولمة .
التحفظ الأخير حديثه عن أن أعداء السعادة الإنسانية هم الجشع والنفاق والكسل ونصحه بعدم الاستعانة بالفلسفة للتعامل مع هؤلاء الأعداء الواضحين ، ولكن أحدهم قد يسأله باللغة البسيطة التي يفضلها :
إن إعادة الوصف التي تتحدث عنها ليست أكثر من غزل فالجشع ليس سوى ريادة الأعمال الأمريكية، والكسل هو استخدام أوقات الفراغ لكي يبقى الاقتصاد مزدهراً ، وما تدعوه نفاقاً هو نوع من الفطنة التي ساهمت في صنع هذا البلد العظيم ،وعليك أن تفخر بهذه الخصائص التي جعلت ديمقراطيتنا عظيمة و قوية ومرنة.
المشكلة أن ليبرالية رورتي تبدو ستاراً بلاغياً يعتّم نوع التفكير الجدي، والفعل المطلوب للإصلاح الليبرالي الذي يدعو إليه
إنها ليبرالية بدون خطط متماسكة تفصيلية للفعل تميل إلى أن تصبح فارغة تماماً كإصلاحات سريعة بدون تصور كامل عملي .
وكما وصف أحد الفلاسفة حديث جون ديوي عن قضايا اجتماعية وسياسية بأنه موعظة علمانية يمكن وصف ليبرالية رورتي بالوصف نفسه، فقد لخص رايان ليبرالية ديوي التي يعمل رورتي على تنشيطها والتي تبرر وصف ليبرليته -باعتبارها إرثاً لليبرالية ديوي - بالموعظة بالشكل التالي:
ليبرالية ديوي مختلفة، ليبرالية ملتزمة بالتطور ، وتوسيع أذواق البشر وحاجياتهم وهي تركز على الاستقلال الذاتي للفرد وهي تفاؤلية مهتمة بالفرد المهجوس بشكل كامل بعائلته وعمله ومجتمعه المحلي وسياساته، الفرد الذي لم يكره ولم يجرّ جرّاً إلى هذه الاهتمامات كحقول لتجربة ذاتية .
هذه الليبرالية يمكن أن تكون ترياقا ملهماً للييرالية تشريعية قائمة على حقوق، وأداة لشتم الافتتان بالتنظير من قبل نقاد ثقافيين لما بعد الحداثة ، ولكن بدون قسوة براغماتية وبرنامج إصلاح متماسك يمكن بسهولة لهذه الليبرالية ان تنحط الى بلاغة فارغة.
والوصف نفسه يمكن أن ينطبق على ليبرالية رورتي.



#مناف_الحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في البحث عن جذور الإرهاب
- مبادرة الخطيب
- ذكريات من أجل المكاشفة (لهذا الطباق أطروحته)
- داعش والفوات التاريخي
- الاتفاق النووي الإيراني :آفاقه وتحدياته
- لماذا انخفضت نسبة نجاح بشار الأسد ؟
- مقدمة بحث عن الدولة والقبيلة
- الكتل المتصارعة
- أحزاب الأزمات
- لا ديمقراطية بدون فردية
- الموت إحساساً بالذنب
- صديقي (س)
- في ذكرى السابع من نيسان
- لا تستخدموا الإسلام كأداة تسويق واسترضاء للأكثرية
- شبكات الثقة والتحول الديمقراطي
- الطاغية وعنف اللغة
- فتح صفحة جديدة
- أين انتم من الضحية؟
- التشكل الكاذب
- التعسف في التعامل مع النص المطلق


المزيد.....




- وزير الداخلية الفرنسي يزور المغرب لـ-تعميق التعاون- الأمني ب ...
- قطعها بالمنشار قبل دفنها.. تفاصيل جديدة تُكشف عن رجل قتل زوج ...
- فك شفرة بُن إثيوبي يمني يمهد الطريق لمذاق قهوة جديد
- الشرطة الهولندية: عصابات تفجير ماكينات الصرف انتقلت لألمانيا ...
- بعد موجة الانقلابات.. بقاء -إيكواس- مرهون بإصلاحات هيكلية
- هل يحمل فيتامين (د) سر إبطاء شيخوخة الإنسان حقا؟
- وسائل إعلام أوكرانية: انفجارات في مدينتي أوديسا وتشيرنومورسك ...
- الاحتلال يتحدث عن معارك وجه لوجه وسط غزة ويوسع ممر -نتساريم- ...
- كاتب أميركي: القصة الخفية لعدم شن إسرائيل هجوما كبيرا على إي ...
- روسيا تصد أكبر هجوم بالمسيّرات الأوكرانية منذ اندلاع الحرب


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مناف الحمد - ليبرالية رورتي (مفاهيم يجب أن تصحح وتحفظات)