أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز الحلقة الرابعة والعِشرون















المزيد.....

العجوز الحلقة الرابعة والعِشرون


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4621 - 2014 / 11 / 1 - 13:52
المحور: الادب والفن
    



الليل، الليل دومًا وأبدًا، هذا المخمل، هذا الخضم، هذا الفضاء اللانهائي.
الموت، التوقف، الفضاء النهائي.
نهاية الوقت.
غناءُ صَرَّارِ الليل. صراخُ بوم. جذلُ الشقاء.
الكون. إلهام الرعب.
الكون الأعمى.
الحياة تحيا في نظرته.
الحياة تغرق في صمت السواد.
اليأس.
وصَرَّارُ الليلِ هذا الذي يستجوب الصمت...
أصدت خطوات صهباء والجندي والصرير، وَنَعَبَ البوم في الصمت الصارخ. غادر غراب عشه، وهو يصفق بجناحيه. هذا الجَمَثْتُ الداكنُ هو الأمل! أرادت صهباء قطع المسافة الخيالية التي تفصلها عنه للوصول إلى الأمل. هذا الجَمَثْتُ المحترقُ المتساقطُ، بينا هي تتساقط في الليل. ارتعشت ارتعاش الورق، واهتزت اهتزاز الأغصان بين أصابع الريح. قهقهت، فتضخم زعيق الغراب قليلاً قليلاً حتى حاكى زعيق الهالكين في الجحيم.
عادت العجائز الاثنتا عشرة من الفضاء اللانهائي، وتبعثرن هنا وهناك، ليصحن بصوت خفيض:
- قهقهت صهباء كما لو كانت تقهقه أمام مشنوقين، فالشر يقهقه بفمها، ليغادر الشر جسدها، ولتقع أحداث أقل ما يقال عنها فاجعة! بانتظار ذلك، ستمتزج هذه القهقهات البهيمية بالزمن في اكتمال دورته الأخيرة، وعما قليل، سيكون ميلاد قاتل جديد نراه بأم أعيننا. عما قليل، سيُسمع نواح الروابي القاحلة على إيقاع جوقة أفواهنا المثقلة بدم سنينا المنصرمة، ورقصة أجسادنا المتحجرة في أثواب حدادنا. عند ذلك، سيكون موعدنا مع من لم نعد بانتظاره. عند ذلك، سينتهي الوقت، سينتهي بالفعل، وسيموت العالم، سيموت تمامًا.
استعدت ساذجة للذهاب، فحاول عندليب إبقاءها، إلا أنها حالت دون ذلك.
- ستبحث عني أمي، قالت، وكذلك جدتي وأختي. إذا ما تأخرت، حصل شيء ليس في الحسبان.
صهباء، ويدها بيد جنديها، كانت تركض في نفس الدرب الذي استعارته أمها لما حَبِلت بها: درب الملعونين. مضت أمام الهامات العجوزة، المبعثرة هنا وهناك، الساكنة، كالشواهد الحجرية. عليها أن تستهلك سقوطها، عليها أن تعوم في المِرَّة، عليها أن تقضم الحنظل. توقفت مُوَاجِهَةً الجندي، وكلاهما بقي مسمرًا في معدنٍ مِنَ الصَّمْتِ الثقيل. تقدمت منه خطوة، وهي تخلع ثيابها السوداء قطعةً قطعةً، فما هي فاعلة على وجه التحديد؟ هل هي على وشك التحرر حقًا؟ دفع دينها للخطيئة؟ محو اللطخة المخزية؟ أم لقحها لقح البشر؟ وأي بشر! تعرت، وإذا بها تمثال عاج، الوجه شنيع، والجسد مليح، في غاية الملاحة، فأحست بالمداعبة الدامسة لثديها، وأثقلتها النظرات المسالمة لجندي بصدد الهجوم. أحست بتلك الشرارات السوداء لحب ضائع، وهي تنبجس من أعماق روحها، فاتحةً الطريق للمغامرة...
وثب، وقلبها. دفن وجهها في صدره، وغاص فيها كعلق. مص الندى، ونشق الأعماق. لعق اللهب الداكن، الطرف المر للثدي. التقى دمل اليأس، وفجره. لعق الدمل النتن، عصارة الأيام الذبيحة! نشق مستقبلاً غامضًا لا تخشاه تلك القامات السوداء المزروعة هنا وهناك. مستقبل غامض. ملتبس. غامض. لا علاقة له بغوامض اللغة. عندئذ، تركتهما العجائز الاثنتا عشرة عاريين أمام هذا المستقبل الغامض، قبل أن تتحقق النبوءة، واختفين، كما أتين، في الفضاء اللانهائي.
تلألأت في عيني ساذجة دموع شفافة، وأرادت تركه، لا الهرب منه. بين الذهاب والبقاء، اختارت البقاء. بين أهلها. لكن عندليب سقط على قدميها، وجذبها إليه. التف الجندي الصغير على نفسه في مَهْبِلِ صهباء، ونسي المرأة التي فقدها ليشرب بظمأ قلق الطُمَأنينة من أديمها ودنس النقاوة. تأثر بكل الشهوات غير المشبعة، ونشق ملح انتصاره. تأوهت، وهي تفكر أنها تعيش كابوسًا بالأحرى، وأن اللقاء بنفسها ليس هذا. بينا هو يفكر في جسد الجليد المستعر هذا، والذي يصهر فيه شفتيه. أَنَّت... وأَنَّت... أيها البطل، يا بطلي! أنا التي هِيَ ابنةُ اغتصابٍ شاخَ في دمي. ها أنا ذا، فينوس القرن العشرين! بين ذراعيك! مكاني الحقيقي! اشرب من كل الينابيع التي تتفجر فيّ! التهمني! اقضمني كعظمة! اسحقني! فتتني! هكذا تعيد جسدي إليّ، فأحسه، وهو يختلج، وينفتح، قبل أن أنهي هذه الحركة النَّحِسة التي ستحررني من دمامتي المقيتة! وهناك، في المكان الأقدم عهدًا، توسل عندليب إلى العاشقة الصغيرة، وداوم على البكاء عند قدميها. سيفقدها عما قريب، سيفقدها عما قريب إلى الأبد. باختيارها البقاء، اختارت ساذجة العزلة دونما تشاء. لحظة عصيبة، لحظة رهيبة. ستفقده عما قريب إلى الأبد. ستكون العزلة قسمتها ونصيبها. عزلتها مع روحها خاصة. وكيلا تكون أبدًا وحيدة في جسدها، كيلا تكون أبدًا مغطاة بالطين، كيلا تتخبط أبدًا في القذارة، كيلا تحتفظ أبدًا بالمذاق المر، كيلا تبكي أبدًا خلال ليالٍ وليال... أشارت صهباء إلى امرأة محجبة خرجت من وراء الجذوع اليابسة، وتقدمت بخطوات ثابتة، وبيدها حبل. ربطت الحبل حول عنق الجندي، وشدت. صاحت ساذجة: الوداع! وذهبت. راكضة. فجأة، أوقفتها صرخات الجندي المختنقة. رأت أختها، وهي بصدد خنق الرجل، والمرأة الأخرى تقدم لها يد المعونة. في السماء، السحاب في غليان... إلا أنه قاوم كعقرب، دافع عن نفسه كتنين. لم يكن يريد الموت، ليس هكذا على الأقل، لم يكن يريد اللحاق بخطيبته. بما أنه التقى صهباء، ها هو يحرص على الحياة. نهض الجندي على حين غفلة، ومن حولهم، غدا الليل يمامة، والحجر قربهم عقابًا. حاول التخلص من الحبل، وهو يبذل جهدًا أخيرًا، وهو يقوم بآخر محاولة للبقاء على قيد الحياة، وسقط ساكنًا دون حراك. وصلت فرقة عسكرية، فقفزت ساذجة أمام أفرادها، كيلا يُسترعى انتباههم إلى ما يحصل. استنطقوها، ثم تركوها تذهب. لما عادت إلى مكان الجريمة، لم تجد أحدًا. اختفت الجثة، وكذلك المرأتان.
عند عودتها إلى البيت، وجدت ساذجة أختها البكر وكذلك تلك المرأة الغريبة بانتظارها قرب النول.
- هذا نحن، قالت صهباء لتطمئنها. هذه وفاء، ابنة إيمان.
- آه! هذه وفاء، قالت ساذجة باستغراب.
خلعت وفاء حجابها، وقبّلت ساذجة، وروح ساذجة يحاصرها ما شاهدته. كيف تخلصتا من الجثة؟ ولماذا هذه الجريمة؟ لماذا الآن؟ لماذا وفاء؟ لماذا صهباء؟ تكلمت وفاء بصراحة موضحةً أنها كانت تريد أن تقوم بشيء من أجل الفرنسيات منذ زمن طويل، لذكرى أبيها، مِقدام، وليغفرن لجدها ما كان قد فعله فيهن. كل هذا بعيد، ومع ذلك... وبما أن صهباء كانت بحاجة إلى عون، فلم تتردد.
- دبرتِ الخُطّة أنتِ، يا صهباء؟ سألت ساذجة.
- لم أعد أحتمل، كان عليّ أن أفعل شيئَا، أجابت صهباء.
- ما أنت إلا غبية!
- أنت تخطئين، يا ساذجة.
- حمقاء! سيجدون الجثة، وسيمزقونك إرْبًا!
- لن يجدوها، الجثة هنا، في حجرتك.
سارعت ساذجة بالذهاب إلى حجرتها، فوجدت الجندي ممددًا على سريرها، الحبل حول عنقه، وهو يبدو عليه النوم. تعقدت الأمور تعقدًا كبيرًا لا يزعج مع ذلك صهباء على الإطلاق، وها هي تلقي على عاتق أختها مسئولية كل شيء، فندمت ساذجة على صد نفسها عن عندليب. الآن وقد أوقعتها صهباء في أحابيل حادث لن يجلب لها إلا جسيم المتاعب، فكرت أنها كانت على خطأ، وأنه كان من الأفضل الذهاب معه. عندما خرجت من الحجرة، وجدت صهباء وحدها.
- راحت، وفاء، قالت صهباء.
- ولماذا فعلتِ هذا؟ قولي لي، لماذا؟ مع كل المخاطر التي على وشك الوقوع، ألا تفكرين؟
- انظري إليّ جيدًا، يا ساذجة!
- ماذا؟
- لقد تبدلت، لم أعد دميمة كما كنت من قبل.
- حمقاء! أين سنخفي جنديك في الوقت الحاضر؟
فجأة، استقام الجندي خلفهما، وهو يصرخ، ويفك الحبل، ويرميه أعنف رمي قبل أن ينهار، ويغيب عن الوعي. سارعت صهباء برفعه على ركبتيها، وطلبت من أختها إحضار ما تعالج به حَرْقَ عنقه. منذ قليل، كانت تريد قتله، والآن ها هي تريد إسعافه. ليس خوفًا من إلقاء القبض عليها، فصهباء لم تعد تخشى الجنود. أمسكت رأسه كحبيب، ونظفت عنقه، وهي تبكي. شخص يبكي هكذا ما هو إلا عاشق. عاشقة هي. وجهٌ طفليٌّ كهذا الوجه لا بد للمرء من أن يقع فيه عاشقًا. كيف جرؤت؟ كيف استطاعت القيام بفعل كهذا؟ لقد تم تجنب الأسوأ، من حسن الحظ!
- يتنفس، قالت صهباء، وهي تبتسم وتواصل البكاء، يحيا!
لم تقل ساذجة شيئًا، كانت تنظر إلى أختها، وهي تُعنى بضحيتها باكيةً، ولم تقل شيئًا. عاشقة هي، هذا ما يُحَسُّ، هذا ما يُرى. مع ذلك، حبٌ غريبٌ هو. لا يمكن المرء أن يحب جلاده إلا إذا ما تحول إلى ضحية. هكذا تنصهر العواطف، هكذا تنصاع. على الأقل طالما يغلق عينيه. يَقِظًا، يمكنه أن يكون خَطِرًا، هذا الجندي الصغير.
- حاذري، يا صهباء، منه إذا ما استيقظ، من الممكن أن يغدو شيطانًا هذا الملاك.
- لا تقلقي، يا أختي الصغيرة، أنا خطيبته، قال لي.
لم تقل ساذجة شيئًا: أن تحاول قتل أحدهم، فعل كهذا يدفع إلى توبيخ نفسك، على الرغم من كل شيء، تشويش أفكارك...


يتبع الحلقة الخامسة والعِشرون



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العجوز الحلقة الثالثة والعِشرون
- العجوز الحلقة الثانية والعِشرون
- العجوز الحلقة الحادية والعِشرون
- العجوز الحلقة العِشرون
- العجوز الحلقة التاسعة عشرة
- العجوز الحلقة الثامنة عشرة
- العجوز الحلقة السابعة عشرة
- العجوز الحلقة السادسة عشرة
- العجوز الحلقة الخامسة عشرة
- العجوز الحلقة الرابعة عشرة
- العجوز الحلقة الثالثة عشرة
- العجوز الحلقة الثانية عشرة
- العجوز الحلقة الحادية عشرة
- العجوز الحلقة العاشرة
- العجوز الحلقة التاسعة
- العجوز الحلقة الثامنة
- العجوز الحلقة السابعة
- العجوز الحلقة السادسة
- العجوز الحلقة الخامسة
- العجوز الحلقة الرابعة


المزيد.....




- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...
- عبر -المنتدى-.. جمال سليمان مشتاق للدراما السورية ويكشف عمّا ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز الحلقة الرابعة والعِشرون