أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - تعدد الزوجات بين فحوى النص، وفوضى اللص.















المزيد.....



تعدد الزوجات بين فحوى النص، وفوضى اللص.


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4617 - 2014 / 10 / 28 - 10:05
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تعدد الزوجات بين فحوى النص، وفوضى اللص.
حضرت مجلسا من المجالس التي جمعتني بثلة من الأصدقاء، ودارت رحى الحديث حول أمور كثيرة الأصداء، وأدلى فيها كل بدلوه، وجر فيها بعض ذيله، وكان مما أثار حفيظتي ما ذكره أحدهم عن زمرة السلفيين المكثرين في الزوجات، والمقلين في الجود بالخيرات. فقال: إنهم يعددون الزوجات رغبة في تكثير نسل العباد، ورهبة من الوقوع في سبة الفساد. كان لهذا الكلام وقع في أذني، وأثر في ذهني، وقد ولج من نوافذ شتى باب عقلي، فاستغربت كيف يكون التعدد مدعاة لادعاء الوقوف على مراد الشرع في الوضع البشري.؟ وكيف يكون التعدد في وضع تعانيه الأمة قربانا لنيل السيادة في الكون الآدمي.؟ أشياء كثيرة تمخضت عنها أسئلة عديدة المبنى، ومديدة المعنى. وهي توقعني في دجنة فكر يستلهم وصله من فصله، ويسترفد عقله الموجه لسلوكه من نصوص وقعت موقع الإجابة الظرفية عن أحداث كان لها أثرها العميق في تحرير الأصول، وتأصيل الفروع، وكأنني به في راهن حاله المرتهن بمخاضات تموج حولها آراء متعاركة بين السلب، والإيجاب، يستعيد تلك الأسباب نفسها بلا اعتبار لواقعه المختلف كما وكيفا عما كان عليه حال الجيل الأول للإسلام. ويستبعد وجود مناخ آخر تتعدد عناوين حقائقه، وتجلياته، وفرضياته، ووتتنوع قيمه الداعية إلى مراجعة نقدية لبعض المواقف الفقهية المتجاوزة لزمنها، والمؤثرة في حاضرنا الممزوج بإشكالات عميقة، تحددها سياقات تتناقض مع ما كان واقعا ضروريا في زمن التنزيل، ثم صار بفعل الصيرورة البشرية تاريخا متجاوزا، لا يمكن اعتبار حركته المتعرجة مناطا لتحقيق تلك القيم التي جاءت الدين من أجل ترسيخ مبادئها العامة، حتى يؤوب رأي الفتوى إلى قواعدها عند احتدام الصراع، واشتداد العراك حول فك روابط الحياة المعقدة بما لمسها من صرعة الحضارة الغالبة، ودهمها من نوازل تتطلب إجابات تستوعب الإنسان في جزئه المرتبط بمادته المستمرة مع بقاء كيانه الجسدي، والمختلف عما كانت به قيمومته في عصور تاريخية تناولها الفقه بتجرد، أو بتحيز. ومن ثم، فإن الحديث عن تعدد الزوجات بين مخاض أوضاع مؤلمة بفواجعها الزاحفة، لن يكون -في سياقه المعرفي- سببا حقيقيا لبقاء نوعنا المحدد ذهنيا بصورة مثالية، يستوعب النظر الفقهي فيها جزءا كبيرا من غور الآراء المقيدة بأحكام معينة، يصير معها المكلف تائها بين سياق يتعالى به التأويل الراغب في إخضاع الحقائق الوجودية لنمط سلوكي محصور بحدود متنافية عن قيم زمننا الحاضر. وهكذا، فإن قضية تعدد الزوجات تفترض منا أن نتحدث عنها بنظرين مختلفين: الأول: ذلك النظر الذي يعتبر التعدد عزيمة، أو رخصة، ولكل واحد منهما محدادته الفقهية، والمنهجية. والثاني: يعتبر التعدد ذريعة لصوغ واقع تحدده أفكار قبلية، تنبني أسسها على نوازع فطرية، أو على غرائر بهيمية، وتتقنع بأقنعة مختلفة الدوافع، والوسائل، والأهداف. ومن هنا، فإنني لن ألتزم بكلا النظرين لاختلاف نتائجهما في القراءة الموضوعية، بل سأعالج القضية بمداخل لها ارتباط بالموضوع من حيثيات أخرى. فأقول:
أولا: لم يكن هذا الموضوع جديدا حتى تثار حوله زوبعة من النزاع المحتد بين الذين قالوا بالإباحة من غير قيد، أو بين الذين قالوا بالمنع عند انعدام الشروط المبينة لحقيقته، بل هو موضوع قديم بقدم العلاقة القائمة بين الذكر والأنثى في المباني الفلسفية البشرية. ولذلك لا يمكن أن يحدده مضمون النصوص الدينية وحدها بلا التفاف حول ما يحوم في دائرته من آراء متناقضة، بل تتفاعل فيه الأعراف والعادات المرتبطة بالأمم، والحضارات، بناء على نظرتها إلى وجود المرأة، وكيانها، والمراد من حضورها دينيا، وثقافيا، واجتماعيا. ومن هنا، فإن إثارة الموضوع في بنائنا المعرفي، وسياقنا الكوني، لم يكن من خارج دائرة المتدينين الملتزمين بتطبيقات الدين عقيدة، وسلوكا، وإنما ارتبط في واقعنا المعاصر بظهور الحركات الإسلامية، وحدوث فجوة فيما بينها وبين الخلفيات الثقافية الأخرى، ثم تراكمت تصوراته في مجرى الأحداث المتعاركة حول الانتماء إلى منظومة فكرية تؤطرها أدبيات تعتمد النص القرآني، والحديثي. وتفهمها وفق مناهج تعتبر فهم الأول وافيا، وكاملا، لا يحتاج معها الإنسان إلى مزيد من التفكير في إنزالها من علوها إلى أرض الوقائع المستحدثة، لعلها تلامس حياة الإنسان المتغيرة في خضم ما هو معترك بين وجوده من أنماط أخرى، لها دور بارز في إيجاد دواعي الاختلاف، والتعدد، والتنوع. لكن الإشكال العميق في القضية، يتجسد عندي في أسئلة عدة، يجوز لنا أن نصوغها كما يلي: بأي محدد يمكن لنا أن ننظر إلى قضية التعدد. هل المحدد ديني.؟ أم نفسي.؟ أم اجتماعي.؟ أم ثقافي.؟
ثانيا: إذا اعتبرنا الموضوع دينيا محضا، فإننا سننظر إليه من خلال النص المؤسس، وهو القرآن الكريم، والسنة النبوية المحمدية. ومن هذا المنطلق، فإننا إذا تأملنا أفياء النص القرآني، وتجلياته، وحاولنا أن نستلهم منه القيم الموضوعية لمفهوم التعدد، فلا محالة، ستدهمنا في عملية الحفر حقائق قوية، لا معدى عن النظر إليها، ولا مرمى لنا دون الوقوف عندها، وإلا كان فهمنا للحاضر مرتبطا بسياقات تاريخية لها مسوغاتها النظرية، ونتائجها العملية، مع عدم الاندماج في أتون الثورة الفكرية والعلمية التي اضطررنا للعيش معها طوعا، أو كرها، وفق نظم ثقافية متباينة عما كان لنا أصالة، تتبنى قيما لها بعد كوني، وإنساني، وتتعدى إطارها الجغرافي، والحضاري، لكي تحصر حركتنا ضمن نسقها الأقوى، والأغلب. ومن هنا، فإن النص المؤصل في القرآن الكريم لأصل التعدد في الزوجات، إذا جردناه من سياقاته القيمية، والأخلاقية، فإنه لن يدفع بنا إلا إلى قبول رأي تتضمنه دائرة مغلقة بالتأويلات البشرية المتناقضة، تلتزمها بنية نفسية لها ارتباط بمجال زماني، ومكاني، لا تتعداه إلى مكونات أخرى لها علاقة بالموضوع مطابقة، أو ضمنا، أو التزاما. لكننا إذا نظرنا إلى القضية دلاليا، ثم وضعناها في مسارها التاريخي، وحاولنا أن نكشف لنا ما عن فيها من إدراك، وفهم، فإننا سنجد القرآن الكريم قد تعرض لهذه المسألة في إطار خاص، ابتدأه الله عز وجل بنداء الناس إلى قيمة التقوى، ثم ذكَّر بعد ذلك بأن الناس قد خلقوا من نفس واحدة، انبث منها ما بين أمداء الكون الفسيحة من خلائق آدمية، وفي ذلك إيحاء إلى وحدة الأصل المفضي إلى نفي التعدد في الجنس المسبب لوجود النوع البشري، ثم خلص في ترتيب نسقي إلى قضية اليتامى، بعلاقة التناسب بين الوحدات المكونة لفضاءات النص المنفتح على لازم الوجود الإنساني، على اعتبار اليتيم نتاج علاقة بين زوجين يجمعها ميثاق غليظ، يفقد فيه اليتيم أباه دون بلوغه مرحلة الحلم، والنضج، ثم يخلد إلى أمه الأرملة التي تفتقر إلى قوامة زوج يعولها، ويسوسها. وهنا تحدث في المجتمع قضية إجتماعية تحتاج إلى رعاية خاصة، وتتطلب إيجاد حلول تحد من استفحال ضررها على سلامة الكائن العاقل في الكون. ورعايتها إما أن تكون مبدأ جماعيا "إلزاميا"، ويتجسد ذلك في مؤسسات الدولة التي تكفل اليتيم، وترعاه نفسيا، وثقافيا، واجتماعيا. وإما أن يكون مبدأ فرديا "التزاميا"، ويتجلى ذلك في قاعدة الحضانة للصغير، أو الكفالة التي تلتزم بحق التبني وتوابعها الأخلاقية، أو في الزواج بتلك الأرملة التي صارت بحكم العادة البشرية موضع حاجة، وفاقة. وإذا كان الزواج بالأرملة حلا من الحلول المناسبة للقضاء على جاحة الأبناء إلى قيمة الأبوة وعنايتها ورعايتها الضرورية، فإنه يجوز للقادر المطيق للزواج أن يتزوجها بشروط: الأول: إقامة العدل في القسم بينها وبين ضرتها الأولى، أو ضراتها. والثاني: عدم الإضرار بنفسه، فيسوء حاله، ويتم بذلك عوله. (وهذا مما لم يذكره الفقهاء تحريرا، وإن تضمنه النص.) والثالث: عدم الزيادة على أربع. (وهو مفهوم العدد في رأي) والرابع: أن لا تقدم الأمة على الحرة. (وهو مما أضافه الفقهاء إلى مضمون النص.) وحقا، إذا نظرنا إلى النص القرآني نظرة إنسانية متعالية عن الانحدارات الفكرية التي لازمت قصة التنزيل، والتأصيل، والتفريع، فإننا سنخلص إلى مقصد تعرض فيه القرآن الكريم لقضية أخلاقية تحتاج إلى علاج منفعل مع خصوصيات الإنسان البشرية، واحتياجاته الطبعية، ثم جاء بمقتضى ما يضمن معالجتها، وإيجاد الحلول المناسبة لها. ولكنَّ ذلك ليس على إطلاقه، بل مع توافر الدواعي، وإزالة الموانع، وحضور حاضنات السبب، حتى تتحق العلة، وبذلك يكون النص قد أدى وظيفته الإنسانية، والأخلاقية. وبهذا الفهم يمكن لنا أن نعتبر التعدد مباحا في ظروف معينة، لها حدودها، وشروطها، والتزاماتها النفسية، والاخلاقية، وهي تتطلب في مقصد غايتها أن تخلق فضاء تتماسك به الأسرة في بعدها البشري، وتتوحد في دائرتها كل مكوناتها، من غير إلغاء لدور فرد من أفرادها، وإقصاء لرأي تبعا لرأي تكون الغلبة فيه للأقوى سيادة. ومن ثم، فإن فهم القرآن الكريم، لا يمكن أن يتم إلا بفهم أهدافه، ومقاصده، ووعي كل بنياته المؤسسة لكليتاته الفاعلة، لا المنفعلة، والمحددة، لا المحدودة، والمؤيدة لتوجيهاته في ماهية الإنسان، والكون. وما دمنا لم نسع إلى اعتبار النصوص التأسيسية وحدة متكاملة الغايات، تقتضى تأسيس الماهويات، لا تأطيرها في ماهية خارجية ترسم حقيقتها، فإننا سنختزل النصوص ضمن جزئيات ضيقة، ومن خلالها نُخضع القرآن الكريم لعوامل أخرى، لها ظروف خاصة في نشأتها، وتكوينها، بل سيكون النص تخريبا، لا تأسيسا، وتجزيئا، لا توحيدا. ولا شك أن تحديد مضمون النص في جزئية من جزئياته، من غير مراعاة للمقاصد التي تدل عليها الألفاظ، والرموز، والإشارات، مما يسبب الاختلاف المضر بكينونته، وصيرورته. ويقتضي ذلك أن تتغلب تلك الأقوال القوية في بعدها النفسي والعاطفي عن الآراء المستمدة لمراميها من محض حركة العقل الذي تعرف به المناطات، والمقاصد.
ثالثا: إذا ألممنا بالمقاصد الكبرى من عملية الزواج في القرآن الكريم، فإننا سنظفر بمقاصد عامة، تتحقق في مثلها سعادة الأسر على اختلاف بنياتها التكوينية. وذلك ما يحدده القرآن حين جعل الهدف من الزواج الديني (لا البيولوجي) السكن النفسي، والروحي، والتكافؤ، والتكامل، ووظف لذلك وسائل المودة، والرحمة، والمعاشرة بالمعروف. وتلك وظائف وجودية تسلتزمها الحياة في كون متعِب بهمومه، وغمومه، ويستدعيها نمو الكائن البشري بين مدار جسده، وروحه، وتطوره بين طاقات وجوده، وحياته. ويبدو لنا واضحا من خلال السيرة البشرية حرص الإنسان على نفوره من الغربة، لاسيما إذا كانت مرضية، لا الوجودية، (الغربة الأنطولوجية) بل نفوره من كل شيء لا يلبي حاجياته ورغباته في كينونته، وصيرورته. وقد لا يتحقق له ذلك إلا في إطار جماعي يزيل عنه أورام الوجع الجسدي بين أمداء الكون المادي، ويدفع عنه غائلة التوحد بين قمقم نفسه الضيقة الاستشرافات، والتطلعات. ولا أخال النص الإلهي قد جاء في حقيقته إلا من أجل تحقيق هذا الهدف الأسمى الغاية، حتى تكون مكونات المجتمع متماسكة، ومتسامحة، يُحدث الانسجام فيما بينها تآلفا معنويا، وتآخيا وضعيا. وذلك مما لا يمكن وجوده إلا في ظل دائرة جماعية تتوحد بها السبل نحو تحقيق الهدف الإنساني للحياة. ومن ثم، فإننا إذا اعتبرنا الإنسان كائنا اجتماعيا، أو جماعيا، فإننا لم نخرج بهذا عن مقاصد القرآن التي أسست لهذه الوحدة المشتركة المتكاثرة بين بني الإنسان، مهما اختلفت مناهج التعامل مع كونيات الأشياء المتحدة الروح، والمختلفة الأوضاع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا تدبرنا أهداف الزواج من ناحية النظر إلى أهدافه الفقهية، فإننا سنجد في سطوحه العليا مجموعة مقاصد، منها: أنه حصن من الفساد بالاستعفاف، أو سبب لتكثير النسل بالاستولاد، أو غاية لمباهاة الأمم بكثرة الأنسام. وذلك في حدود النظر المعرفي، مما يجعل مؤسسة الزواج سببا عرضيا، لا غاية في ذاتها، ولا هدفا في وجودها. وهذا مخالف لنص القرآن الذي جعلها معيارا لقيمة ذاتية حقيقية تتحقق بها الوحدة النفسية والاجتماعية للإنسان المكلف في حدود طاقته البشرية. وعلى افتراض وجود هذه الغايات في نظر المشرع بالبرهانين السمعي، أو العقلي، فإن وجود الأهداف في الصياغة المنطقية، لا تتحدد ذاتيا إلا بقدر مشاركتها في إيجاد ذلك الكل المبتغى وجوده بين الأعيان المنفعلة مع النص قبولا، أو رفضا. ومن ثم، فما هو دور الاستعفاف بالزواج في كلية الوجود الإنساني.؟ وما هو وظيفة الاستكثار من السواد في كلية الاجتماع البشري.؟ وما هو قيمة المباهاة في حماية بيضة النوع الآدمي.؟ لوحاولنا أن نجيب عن هذه الأسئلة باعتبار محور الغايات المقصودة وضعا في الفلسفات الدينية، فإننا سنصل لزاما إلى حقيقة الكل الموجود في العلم الحصولي بماهيته المركبة لذات الإنسان القائمة بكينونتها المستقلة عن غيرها من الكائنات المتعددة بين المملكات الحيوانية. وذلك على اعتبار الإنسان حيوانا ناطقا، يختلف عن غيره بإدراكه العقلي للأشياء المطلوبة، أو المكروهة. ومن خلال هذا التقدير لقيمته في الحضور الذهني قوة، أو فعلا، ننفذ إلى استجلاء حقيقته بين أفراد الوجود، والكون، والحياة، والطبيعة. وهذه الأشياء -في اعتباري- وحدة متكاملة في ماهيتها الروحية المكونة لذواتها المستقلة، لا تستغنى فيها كلية عن غيرها من الكليات الجامعة لحقائقها المتعددة. وإلا انعدم الكل (على اعتبار الكل هو الجُماع الناظم للكليات) بانخرام جزئية من جزئياته، وانبثاث كلية عن كلياته. ولذا، فإن تعليل فرضية التعدد باستعفاف الإنسان عن الأمور العرضية الطارئة على جوهر حقيقة الالتزام الديني، هو اقتضاب لجوهر الذات في بعد من أبعادها المختلفة في تحصيلها موضوعيا، أو منهجيا. بل وجود الزوجة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، مما يستلزم في البناء المنطقي قيام العفة بذات الزوج يقينا، لا ظنا، لكون الاعتقاد أسمى من الممارسة في الفكر الديني، ثم ينشأ عنه السلوك في وحدة الذات مع الموضوعات المتآلفة بالرغبة، أو بالرهبة. وذلك في أسلوب القرآن غير مضمون النتيجة نظرا، ولا سلوكا. إذ العفة بعد روحي، وقلبي، وعقلي، قبل أن يكون علامة على النفس المتشوفة إلى الأشياء المستحدثة بنظرة غير مستقرة. وإن لم ندرك المفاهيم القرآنية بهذه المنطلقات المقعِّدة لمسيرة العلاقة فيما بين جوهر الإنسان الباطني، وعالمه العرضي الخارجي، فإننا نحدد الموجود البشري ببعده النفسي المقابل للجسدي فيه، وبالطين المقابل للمادي فيه، ثم تغيب عنا أبعاد أخرى بها قوام وجوده وصلا، أو فصلا. ومن هنا، فإن العفة على هذا الاعتبار، ليست بعدا استثنائيا لجوهر الإنسان المتكون من مفردات فطرية متعددة، يحصرها الالتزام الديني في مسار الإرادة التكليفية التي تتميز بها الأشياء قبولا، أو رفضا. لكن إذا ما غلبت على جوهره سمة نفسية لها لزوم محوري في مكونات ذاته، (كسمة الشبقية مثلا) فإنه ولو تزوج بالمآت من الغيد الحسان، لن يكون عفيفا، ولا طاهرا. بل الأدهى في المعنى الأصلي للقضية، أن الرغبة في الزوجة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، نزوع نفسي مترع بالتطرف في تأثيم الصورة ذهنيا، أو عاطفيا، يغلب عليه عدم الثقة بالذات المتعاركة مع صيغ الموجودات ببراهين ذابلة العلاقة، ثم اجتزاء حضورها في عالم الكسب الحسي بين معارك قضيب الذكورية، واعتبارها ضعيفة الأطروحة بين لجج مجاله الفكري التنظيري المقابل للجانب السلوكي العملي فيه. وهذا مما يتنافى مع نص القرآن الذي قرر في الأزل أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأنه جبله على حب الحق، والخير، والحب، والجمال. ولذا، لا أراني متعديا لطور الحقيقة إذا قلت: إن الراغب في الزوجة الثانية، لا يُظهر إلا مكنون عدم استواء نظرته إلى علاقته القائمة مع الجزء المكمل لوحدته الجماعية. لأن استحواذ فكرة الخوف من أنثى الطبيعة، هو استدراج ذهني مستبطن للرغبة الجنسية المغلفة بمسوغات نفسية، أو دينية. ولا شك، أن ما يعظم رسمه في أذهاننا، هو ما يخلب عقولنا، ويسلب سلوكنا. فلوغلبت على المعدِّد ضرورة أخلاق العفة الباطنية، لما تمسك بظواهر الأشياء إدراكا منه لمفهوم العفة (ويقابلها الزهد، وغيرها من المفاهيم المحملة بالحلال، والمباح، والجائز.) في الموجودات المتنوعة. ومن هنا، فإن العفة تكون بوجود الموجود ظاهرا، أو باطنا، وعدمه حسا، أو معنى، وكلاهما يحددان دليل تعينات الأخلاق في تصورات الإنسان الذهنية، ويبينان ضعف قدرته على تجاوز بدهيات الاختلاف الجامد عند مناطات الأنا المستبد على مراتب الأشياء بإحاطة أحادية النظرة، مهما كانت ماهيتها مختلفة الإدراك لكنهها وجوبا، أو جوازا. وإذا افترضنا أن التعدد يحقق لنا مفهوم الكثرة البشرية في وحدة دينية معينة، فإن الكثرة ليست مرغوبة في الحقيقة العينية للنص القرآني، بل هي مذمومة في كثير من الآيات المحررة لمدارات الأكثرية، بل القرآن الكريم تحدث عن هذه الكثرة بأنها لم تغن في كثير من المواقف بفائدة، وأنها في إيمانها مشركة، وأنها تكره الحق بقوة، وأن طاعتها مفسدة. وهنا، يمكن لنا أن نتساءل: هل يريد القرآن خلق مجتمع متكاثر في وحدة صورته الخارجية، تكون قوة وفرته التناسلية غاية حقيقية مرادة من وجوده.؟ أم القرآن يريد تأسيس حقيقة النوع الإنساني المختلف عن السواد الأكثر بقيمه، وسلوكه.؟ لو قصرنا دليل القرآن عند مفهوم الكثرة بلا قيد منطقي، فإننا قد جردناه من إرادته إيجاد نوع بشري يكون أمة بوحده في الماهية، والصورة، تجتمع فيه لطائف الصفات الإلهية على ما فيها من جمال، وكمال. وإذا نفينا عنه هذا المبتغى في علمه الحضوري القائم في كليات مفاهيمه، فإننا سنخلق بمعانينا الذهنية كثرة غير نوعية في كيفها الإنساني، تعتمد على شدة بطشها، لا على قوة روحها. وذلك مما يتجاوز في مكشوف إدراكه مفاهيم القرآن الروحية، بل يعرض النص المقدس لمحدود تأويلات المدنس، فيصير القرآن هادما، لا بانيا. وذلك ما آل إليه أمر الأمة حين حرفت مقاصد القرآن في مفاهيمه الكلية، وأقامت مآدب دسمة النواح على رسمه. وإذا اعتبرنا التعدد سبيلا لتحقق صورة الكثرة المفضية إلى المباهاة، والمفاخرة، فإننا قد تحولنا من الإنسان النوعي إلى الإنسان الجماعي، من غير تحديد لأسس البدايات، وغايات النهايات. لأن الإنسان النوعي كلي في تعيينه، والإنسان الجماعي جزئي في تصوره. فما هو المقصود بالإنسان في "دراما" الوجود المختال بالقوة المغتصبة للأضعف.؟ هل هو الدليل الكامل على جمال الله في صنعه.؟ أم هو حجة على قوة كلي متعاظم بألوهية الكون.؟ لو حاولنا أن نتجاوز الإنسان في انفراده، لكي نصل إلى حقيقة الجماعة، من غير أن نمر بمسلمة هذه الحلقة التي تعتبر نواة طبعية، فإننا نؤسس لكون جماعي بلا ملامح مدركة في الحقيقة الروحية، ونبني سقف المجتمع بلا عمد الأفراد المتميزين في كونهم الفيزيائي، والكيميائي، والفسيولوجي. فالجماعة لا تستقيم إلا بأفرادها، وأفرادها لا وجود لهم إلا بخصائصهم النفسية والوجدانية والاجتماعية المكونة لاختلافهم عن السواد الأدهم.
رابعا: إذا تجاوزنا بعض المسوغات التي سوغ بها الفقهاء قضية تعدد الزوجات تجسيدا لسلطة الذكورية، ومن بعدهم سار على دربهم أتباع الحركات الدينية في وطننا الإسلامي، فإننا سنعرج على بعض القضايا المرتبطة بهذه القضية من عدة نواح واجبة الورود:
أ‌- لو افترضنا أن التعدد مرتبط بالعدل فيما بين الزوجات، وسلمنا أن العدل متعذر ولو مع الحرص عليه، وأن المسؤولية الزوجية تحدد في جزء من الشعور العرضي، لا في تجرده الوجداني الكلي، فإن السؤال الذي يجوز لنا أن نطرحه هنا بلا مواربة، هل العدل مقتصر على العلاقة الجنسية والنفقة على العيال كما زعم الفقهاء.؟ لو تم قصره على هذين العنصرين بالدلالة الوضعية، فإننا نخالف بذلك نص القرآن الذي جعل موضوع العدل ضرورة مستغرقة لوجود الأفراد، والجماعات، بل جعل العدل أقوى ما يطلب كسبه في رسوخ العلاقات الاجتماعية المختلفة المبادئ، والوسائل، والأهداف. ولذا، لو قلنا بوجوب تحقيق العدل في أمر غريزي مرتبط بتبعات عقد شرعي تتآلف به العلاقة الزوجية، ويقتضي وجوب النفقة على الزوج بالإلزام، والوطء للفراش فيما بينهما بالالتزام، فإننا قد ألغينا دليل العدل في جزء كبير من مركبات الإنسان المتعلقة بوجوده ضمن حقيقته الروحية المتعالية عن مطالب جسده. ومن ثم، فإن ضرورة حصول العدل المادي في صورة تعدد الزوجات، ليس هو الغاية القصوى من مقاصد النص المؤسس لحقيقته، ولا الهدف الذي من أجله وجد الإنسان في ماهيته، بل المراد هو العدل المقتضي -بعموم معناه- كيفية تلك الصفة في كنهها بلا تجزيء، وإلا كان الإنسان عادلا في جزء صغير من مركب ذاته، وجائرا في جزء كبير من مشاعره، وعواطفه. وإذا فقدت قيمة العدل توحدها في علاقة الذات مع جوهرها، وعرضها، فإن الزوجة في كبرى معانيها الإنسانية، لن تكون محلا للاحترام المبذول جناحاه بلا تكييف نفسي، مهما كان الاغتلام بها شهوة دينية ثابتة، أو نزوة غريزية عارضة، وبذلك تكون متاعا رخيصا، وفراشا وطيئا. فكيف يمكن اعتبار المرأة وسادة فارغة، وهي لا يستحق في بيت الزوجية إلا الجماع، والأكل.؟ لا أخال مقاصد القرآن الكريم تسعى إلى تأسيس هذه النظرة المحتقرة للعلاقات الإنسانية المتنائية عن مقتضى ثقافة البطن، والفرج، أو أنها ترسم لدينا انطباعا مترعا بتنقيص هذا الجزء الذي لا يستقيم كُلُّ الأسرة إلا بعمديهما، وركنيهما. وهنا يمكن لنا أن ننجر إلى سؤال آخر: هل دور الزوج في بناء الأسرة، هو توليد الأبكار بالمضاجعة، وتسويد الأرض برؤوس البشر.؟ لو كان هذا دورا رئيسا للإنسان في المعنى الروحي الإلهي، لكان أقرب إلى عالم الحيوانات المفترسة من واقع البشر. فكيف أفرغ الإنسان من محتواه بمقتضى هذه الآراء الفقهية، ثم صار منكاحا، مزواجا.؟ إنني لا أرى شيئا في المنظومة الفقهية التقليدية أتفه من هذه النظرية المحطمة لكيان المرأة المعنوي، والمدمرة لقيم الارتباط الروحي بها، والمعبدة لوسائل استغلالها، واستعبادها، واحتقارها. ولولا حطام هذه الأفكار المستعرة جمراتها بالذكورة، والفحولة، لما كان للدعارة الفعلية معنى في أوطاننا الإسلامية، بل من هشيم أجسادها النتنة، نشأت الدعارة المعنوية التي أهانت الكرامة الإنسانية. ولذا، فإن وقاء الإنسان من طرو مادة الانحراف الأخلاقي بين آرائه، ومغارسة بذور العفة بين أمدائه، ومحاربة فلول العنوسة بين نسائه، لا يتم عن طريق التعدد بين الزوجات، بل ببناء العلاقات الإنسانية –كما كان نوعها- على دعائم التقدير، والاحترام. وما دمنا ننظر إلى هذه المحرمات المقدسة بعين مستعلية، فإننا سننجر اعتباطا إلى غيابات دائرة ضيقة، تنظر إلى الرجل بنظرة الفحولة العظيمة، وتزعم أن الأنثى خلقت للرجل قنية، وجسدا، وأن تاريخها لن يكتب إلا بين سبحات الذكر المستحرة نيران شبقه بقوة، وشدة.
ب‌- تبين لنا أن النظرة الشبقية التي تمرغ نمط الفقه الذكوري بين أوحالها العفنة، لم تترك لنا فراغا نطرح من نوافذه بعض الأسئلة التي تستجلي مناطات النظرة الذهنية لبعض الفقهاء تجاه المرأة. وذلك من قبيل: هل الزواج حق الزوجين على السواء.؟ أم الزوج صاحب الحل والعقد فيه، وتكتفي المرأة فيه بمجرد الإيجاب، والقبول.؟ لو اعتبرنا العقد الشرعي ضمانا للزواج من الابتذال للمرأة المتدينة، فإننا نرى فراغه من بعض الحقائق التي تقام عليه عتبة الأسرة في المجتمع الإسلامي. وإن زعم زاعم بأنه المرجع الذي نؤول إليه عند بروز ظاهرة من الظواهر داخل تركيبة العلاقات الزوجية، فإننا نرى انحرافه عن جزء من الحقيقة، لأن عقد الزواج يضمن حقوقا مادية بنتائجه، لا بذاته. وإلا، فإن عقد الزواج بمعناه الوضعي، من غير الديباجة التي تشير إلى وضع قائم بين الزوج والزوجة بمقتضى الكتاب، والسنة، لا يعتبر وثيقة تتضمن كل الحيثيات التي يمكن أن تطرأ في واقع الأسرة. ومن بين هذه القضايا التي تحدث بعد الزواج، رغبة الزوج في التعدد، هل له الحق في ذلك استقلالا.؟ وهل للزوجة الحق في أن تسمح بذلك اضطرارا.؟ وهل لها كامل الحرية في أن ترفضه اختيارا.؟ لو تضمن عقد الزواج ذلك تحريرا بالنص، لما احتجنا في تأسيس قواعد مدونات الأحوال الشخصية إلى إضافة ضرورة موافقة الزوجة على زواج زوجها بامرأة ثانية، ولما احتاجت جمعيات نسوية في الظرف الراهن إلى المطالبة بحقوق المرأة المهدورة. ولا شك أن ذلك مما يؤكد حقيقة إفراغ العقد من محتواه الحقوقي، واقتصاره على الجزء الميكانيكي في الإنسان المركب من العقل الفقهي التاريخي. ومن هذا القبيل أيضا، حق الزوج في طلب تطليقها من زوجها إذا أصر على الزواج بامرأة ثانية، ولم تفلح معه وسائل منعها إياه من إنفاذ كلامه، ومن ذلك حقها في المطالبة بتطليقها عند عقم الزوج الذي يملك ذلك الحق عند عقمها، ومن ذلك حقها في أن تطلق زوجها إذا تعذرت معه العشرة الجنسية بسبب مرض مزمن لا وقاء منه. ومن ذلك المطالبة بتطليقها إذا لم تستعف بزوجها، ولم تجد فيه الوعاء الواقي من سعار شهوتها. ومنها غير ذلك من القضايا التي لا يسمح قصر هذا المقال لذكرها، وأجيب عنها بما يقتضي بعض حقها في ذلك، إلا أنه لا يتم لها مباشرة ذلك استقلالا، وإنما تطلب طلاق خلعها من حقوقها، وواجباتها، لا من زوجها، كما له الحق في ذلك اتفاقا، أو شقاقا. ولعل عروج المدونات الفقهية على هذه القضايا في نصوصها، لم يكن إلا افتراضا، لكون كثير من هذه المسائل درج الاعتبار لها في الفتيا، أو القضاء، على اشتراطهما ذلك في العقد، وإن لم يشترطا ذلك، عاد الحكم فيها إلى ما هو مشهور ومذكور في الكتب الفقهية. ومن ثم، فإن الفقه الذكوري يؤسس بآلياته لمفهوم مادي في العلاقات الزوجية، ويعتبر الزواج متعة، لا حاجة إنسانية لبناء المجتمع البشري المتحرك وفق نواميس كونية، وطبيعية، تحقق الوجود داخل سياق حياتي، مرتبط ببقاء النوع الإنساني. وهكذا، يصير الجمود على بعض الفقه ضمن أحداث واقعنا الإسلامي دعوة عودة -غير متنورة- إلى سياقات تاريخية تضخم فيها المدنس على المقدس، وتورم فيها شبق الأب على حس الأم، وتغول فيها الذكر على الأنثى. وهنا يسوقنا السؤال إلى مساءلة الفقه في مسيرته التاريخية، هل هو في ذاته حاجة اجتماعية لتدبير شأن الإنسان، والحياة.؟ أم هو قانون إلزامي، لا معدى عن نتائجه التي توصل إليها التأصيل الأول، ثم أغلق دونه الباب لئلا يكون لخلفه فيه دور.؟ لو قلنا بأن الفقه تراث الأقدمين، ويجب علينا الخضوع له بلا تعيين، فإننا سنأتي باب الحياة بعيون عمياء، ولن نطيق بعد ذلك أن نشارك في إيجاد الحلول لأحداث حياتنا التي تحدث تعاقبا، وتتابعا، ومرد ذلك إلى أن الفقه في حدوده تصور صور مفاهيمه، ما هو إلا نتاج بشري لظرف زمني لم يستوعب كل العناوين التي حدثت فيما بعد جمعه، وتحريره، وفي نفس الوقت، يدل على فهوم الإنسان المتعددة للنص الإلهي وفق مجريات حياته، ومعيشته، وظروفه، وسياقاته، ومتى غالينا في ذلك باعتقاد كمال النهاية، أو نفينا عنه كل قيمة اعتبارية، فإننا لن نستفيد منه تلك الأسس النظرية التي اعتمدها الفقهاء في تنزيل النص على النوازل المستجدة، ولا تلك الطرق التي سلكوها في استنباط الأحكام للوقائع المتعددة، ولا تلك الظروف التي واجهوها في التأصيل، والتأثيل. ولهذا، فإن الفقه ولو سعينا إلى تضخيم دوره بإكبار، أو إلى صد قيمته بإنكار، لن يكون في ذاته إلا رافدا معنويا لاكتساب مهارة التفكير في الأصول المؤسسة للمنظومة الدينية، والتدبر لتلك المناهج التي اتبعها في تحرير القضايا، وتدوينها، وتدبيرها، وهو إلى جانب ذلك مظنة لدراسة تاريخ الأمة، وثقافتها، وحضارتها، ومدعاة إلى الاجتهاد، والاستظهار، والاستخراج.
خامسا: إذا ناقشنا الموضوع من الناحية الدينية، واكتفنا في الموضوع بإيرادات بسيطة، فإننا نرى للمقام ارتباطات بمجالات أخرى، ثقافية، ونفسية، واجتماعية، ولذا سأختصر حدود علمي بها في نقاط:
أ‌- إن مجتمعاتنا الإسلامية تحكمها أنماط وسياقات فكرية تقليدية، لاسيما في موضوع المرأة، وعلاقاتها الوجودية بالأشياء، ويتجسد ذلك في النظر المستبطن للرؤية إلى الرابطة التي تقرن الذكر بالأنثى، سواء في بعدها الديني، أو الثقافي، وتنبني أسسها على الخوف من الآخر، والتوجس منه حذرا، وانتظار العاقبة السيئة في كل لقاء يربط بينهما بدون أسيجة معينة. ولذا، طرحت قضية الحجاب كآلية وقائية للحيلولة عن الوقوع في غيابات الفساد الأخلاقي، وإلى جانبها وضعت وسائل تحمي من حدوث هذا اللقاء المدنس دينيا، واجتماعيا، وقد نالتها الأيدي المحبرة لمداد كلماتها بأحكام استعلائية تستبعد كل المفاهيم الإنسانية والروحية الكامنة وراء نوعي هذا الكائن البشري. لكن الأغرب في هذه العملية التي لم تستوعب تفاصيل الإنسان، ومكوناته الذاتية، والنفسية، والعقلية، أن المجتمعات التي تشددت في حجر هذه المسافة الفاصلة بين الذكر، والأنثى، هي المجتمعات نفسها التي انتشرت فيها أوبئة الانحلال الديني، والتفسخ الأخلاقي. ومرد ذلك إلى تلك النظرة التي تعتبر المرأة شيطانا، أو فتنة، أو متعة، أو قنية، وهي في عمقها النفسي لا تحتمي من خوفها وشكها في ذاتها إلا بهذه المسوغات التي لم تُحدث ذلك المجتمع الموسوم بالفضيلة، بل أنتجت مجتمعا متخلفا عن ركب الحضارة، وبعيدا عن كل المستويات المعرفية، والفكرية، والثقافية، وملتصقا بثقافة الستر المستضمرة للهيام بتلك اللحظة الهاربة من الذات المختنقة بحمى اللذات الممنوعة، مما خلق لدى أمتنا الإسلامية استعدادا ذهنيا لقبول الهزيمة في المجال العلمي، والتكنولوجي، وصيرنا نمجد التاريخ، وأعلامه، ورموزه، ونؤسس لمستقبل حلمنا بأوهام تسيطر طلاسمها على عقولنا، وتستحوذ على مساحات كبيرة تنضح بالتفكير السلبي في واقعنا. وما انكبابنا على موائد الخلاف، والشجار، والصراع، إلا نتيجة ضرورية لعدم قدرتنا على التواصل الإيجابي، مع ذواتنا، ومع غيرنا. وذلك إن لم يكن عاقبة حزينة لسوء تصورنا، وتدبيرنا، فإنه واقع نعيشه حتما بلا نكران، لاسيما لفيف المتدينين منا، والمتصارعين على المجالات الدينية التعبدية في أوطاننا الإسلامية. فما الذي فعله هذا الخوف من الأنثى في حياتنا المنكودة.؟ هل كان زاجرا عن ابتكار وسائل تسويغ الرذيلة بذرائع نترخص بها لاستطابة المحرم علينا بقهر التأويل للنصوص الدينية.؟ هل كان حماية من تردي أوضاعنا.؟ أشياء كثيرة يستلزم الظرف التاريخي الذي نحياه أن نجيب عنها، لكي نكون واثقين من صدقنا مع أنفسنا، ثم لكي نبرح دائرة الفراغ إلى العمل الملامس لنبض ذواتنا، وسرعة حياتنا. ومن ثم، فإن استكثار المتدينين من الزوجات، لن يكون في حقيقته صحوة دينية، أو يقظة معرفية، بل هو الدليل العملي على وجود منطقة فراغ يملأها الظلام المخيف في أذهاننا، وهي نتيجة لازمة لأثر الفقه المستعلي على حقيقتنا في صياغة أذواقنا. وإلا، فإن ما نخشاه من فتن الانحلال الخلقي، هو البرهان نفسه على وجود فضاءات غير محصنة في بواطننا، وهو الرحجان في القول الذي نقول به عند مراجعتنا النقدية لتراثنا، وتاريخنا.
ب‌- وبما أننا قد اقتنعنا بوجود فراغ نفسي وروحي في ذواتنا الفقهية التي تعتمد الأحكام بلا إعمال نظام العقل، فإننا نلمس تجليات ذلك في حياة المتدينين بكثرة تربو عما هو موجود عند كثير ممن لا يعتقدون بدين، ولا يؤمنون بملة. ولاشيء أدل على ذلك من كمون ثقافة الجسد المشتهى عند أتباع الحركات الدينية بقوة، لاسيما زمرة السلفيين من أتباع الفكر التيمي، أو الوهابي، وهم يرون في فراغهم المعرفي والعلمي نجاح حياتهم في تعدد مراتع الزوجات، وتكسب مواقع المتع المادية. ولا غرابة في ذلك، فهؤلاء يعيشون بين طرفين: طرف تدعمه عائدات البترول المستعمل في إرهاق منطق العقل لدى الأمة، وهو لا يألو جهدا في اقتناء بضاعة الفتيات من هنا، أو هناك، إما زواجا، وإما متعة، استغلالا لفقرهن، وجهلهن، وضياعهن، وطرف يعاني من الإقصاء، والتهميش، والحرمان. وتلك أمراض خطيرة، ينشأ عنها جلد الذات، وكره المجتمع. ولا غرابة إذا أنتج ذلك قعودا عن السير مع سرعة الحركة الاجتماعية، والعزوف عن الاندماج في بؤر المجتمع المنفتح على توجهات كثيرة في الفلسفة، والحكمة, والنكوص عن الانسجام مع متغيرات الكون، ومستحداثه. ولا شك أن هذا الجنوح قد كان في صيرورته سببا لتغريد معزوفة الجهل الذي خلف من ورائه مكنونا نفسيا مستعديا بمكبوتاته النازفة بفوضى اللص المستحوذ على محكمة النص، والمستلوي على العقول بأوهام تخلو من الجدوى، والطوبى. ولذا، لا نستغرب احتدام الصراع الباطني في نفسية هؤلاء المتطايرين خوفا أو عشقا للمرأة، لكون تلك الممنوعات المحرمة على الذات فعلا، لا عقلا، تتجسد ظاهريا في التطرف الملازم للتصديقات التي تتحرك بها التصديقات واقعيا.
ت‌- إن تحديد كل الانحرافات الأخلاقية بالحيدة عن الدين، والملة، هو نوع من المغالطات المنطقية المعبرة عن تشخيص مقتضب للواقع الممزوج من قيم متعددة. لأن الإنسان مركب في حقيقته من جملة أشياء متجاورة ومتحاورة في ذاته، قد يشكل الدين فيها حلقة من حلقاتها العديدة، لكن لا يمكن له أن يكون كل شيء في بنيته المستعدة لاختلاف الدوافع القابلة للتناقض بين الفكر، والذات، وإلا صار في واقعه ملاكا، لا بشرا. فالفقر، والجهل، والأمية، والتخلف، وأشياء نظيرة لها بالشبه الكامل الوافي، تسبب العنف النفسي، والكره الاجتماعي، وتحدث سلوكيات انتقامية في مواجهة الذات لمحيطها الذاتي، والعرضي، ومن تلك القضايا قضية التعدد التي صارت بها المرأة نصا إيرتوكيا يقتنصه الشبق بين مخامل ستار الدين، أو العهر. وكل ذلك، يبعد السبب الحقيقي من إيجاد عنوان الزوج والزوجة تحت سقف واحد يفترض فيه أن يكون بعيدا عن كل تأثير خارجي، ألا وهو خلق لبنة أسرة متماسكة في كل بناها الكونة لها وجوديا، يبنى عليها أساس المجتمع المحارب لويلات عجزه عن الاستقلال بين الطبيعة المؤثرة فيه، وفي خلفه. ومن ثم، فإن التعدد تعبير جزافي عن كبت نفسي، واجتماعي، وتمرد على أوضاع متردية، وعشوائية، تفتك ببنية الإنسان الذي تمسح بلبوس الدين وأقنعته، حتى يتعالى على واقعه، ويتسامى بتاريخه، لا بما أنتجته يداه من ممتلكات حياته الفكرية، والمعرفية، والعلمية.
ث‌- إذا كانت بعض النسوة المتضمخات بالفكر الديني قد انسقن وراء حَدو هذا الخليط من الرِّعاء، بدعوى رعاية الديانة، وحماية الأمانة، فإن أجزاء كبيرة من عالم النساء المتنورات ذهنا، وفعلا، لا يقبلن واقع التعدد وضعا، أو حقا، وربما يعتبرنه تجديف الراهب الممنوع من ضخ نزيف غلمته الطفولية، بل يشعرن بامتعاض من نظرات المجتمع تجاه المرأة المواقفة على انضمام الزوجة الثانية إلى كنها الأسري، سواء كانت تلك الغمزات والهمزات من الأقارب، أو الأباعد، ويتألمن لحالهن المنكود باستحلال حرمة عقدة حب الامتلاك، والمنهوك بغيرة مستعرة، لا تقبل ذهنيا أن ترى الزوج يشارك فراش الزوجة سواها. وهذا في حدود اعتباري لا يمكن تسوسغ واقعه بالأدبيات الدينية وحدها، ثم نخضع بعد ذلك غرائز النساء لعمليات غسل الدماغ الحر المواقف، حتى يبقى قديس معبد الجنس فوق كرسيه قائما، مزمجرا بالوعيد الأخروي، ومهددا بالطلاق لدى كل إخفاق، بل هو وضع طبعي يجب أن تبقى نتيجته الإنسانية مصونة لدى المرأة في أوطاننا المتعبة بالفتن الطائفية، حتى لا نفقد سر قلاع الأسر، ونتوه بين صبوة المسترخصين للشهوات بمقتضى إدعاءإطلاقية تحرير الفقه الذكوري لأصل القضية. ومن هنا، فإن الأسر التي تتعدد فيها الزوجات، لاسيما في واقعنا المعاصر، لا تتأهل نفسيا لاستقبال الحياة بعنفوان الاتزان، والاعتدال، بل يسبب ذلك أوضاعا نفسية، واجتماعية، لا يدركها إلا من عاش بين دهاليز المحاكم، وهو يرى كيف يصير التعدد تعبا، وعذابا. وبناء على هذا نتساءل، هل جاء القرآن بنصوص تنتج الآلام في الأسر.؟ إن نكد المعيشة الذي تعانيه زوجات المتدينين من ذوي الزوجات المتنوعة، لا يساويه ما تعانيه المرأة المتحررة بإرادة معرفية، أوجبرا للجهل، والفاقة، بل حتى ما يطلق عليهن الفواجر، أو العواهر، لا يعانين من التعاسة المترتبة عن التأويلات المسوغة بالوعد، والوعيد. لأن المرأة المتدينة تبعا لهذه الأنماط المضمِرة لعفة مصطنعة، هي مسيجة في حلة طهارتها المتعالية عن نظام حركة ذاتها بأسيجة عقيمة، ولباسها الأسود الذي تبدو فيه عند ولوجها ظلمته كالغراب الأسحم، يجسد سواد الدنيا بين عينيها، وبين جانبيها، وإن تظاهرت بالتماسك، والترابط. وذلك مما يشهد به الواقع الذي نعيشه مكشوف الصدر للعيان، ونحن نختبر آلامهن، وعذابهن، بل نوقن بوجود أسرار عميقة تحت أسوار بيوتهن الكئيبة، ربما قد تفوق في حدة مشاغبتها للمطلق، ما نراه عند النساء اللائي يعشن من الصباح الباكر إلى المساء المتأخر مستوفزات على كراسي العمل المجهد للجسد، والعقل. وهنا، لن أعدو الحقيقة إذا قلت: إن رفع الحجر عن المرأة المتدينة، لن يتم إلا بتثوير الفقه، وتحديثه، وإدماجه داخل سياق اجتهادات المنظومة القانونية، والحقوقية، حتى نخفف من آلام المرأة، وعذابها، ومأساتها. وإن لم نقم بذلك، فإن أقواما يصرخون إلى جنبنا، ويتعالون عن لازميات الحياة المعقدة، ويرفعون شعارات تحنط الإله، وتدجن المعبد، لا يبرحون دائرة الإجحاف بحقوقهن الطبعية، والكونية، ولا يأنفون عن استعباد المرأة، واعتبارها متاعا، وفراشا، وجسدا.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دموع الجمعة
- رسالة حب إلى أوشو
- تأملات في خلفية داعش


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - تعدد الزوجات بين فحوى النص، وفوضى اللص.