أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شادي كسحو - عذراء الكلمات تأملات في الشذرة والكتابة الشذرية















المزيد.....

عذراء الكلمات تأملات في الشذرة والكتابة الشذرية


شادي كسحو

الحوار المتمدن-العدد: 4609 - 2014 / 10 / 20 - 20:37
المحور: الادب والفن
    



1
أي كتابة هي الشذرة؟ أية بدعة؟ أي هول وأي اختلاط وأية لعنة؟ إنها موضع التناقض، حكم على جميع الأشياء، "معرفة وتهكم، غزل وهزل وجدل"، إنها موطن الحقيقة وموئل الشك والخطأ والمخاتلة، إقلاع في المطلق وغرق في بهاء العدم، إنها مجد الكتابة وحثالتها.
2
حالات، رؤى، مواقف، وإحالات ذاتية وأسطورية وتاريخية، تتراتب جميعاً وتتناسق في شريط لغوي مكثف هو أقرب ما يكون إلى خيوط الذهب، كأن الشذرة مختصر للكون. المحسوس مبثوث في بهاء المجرد، والمجرد مشبوك بطين المحسوس، وتدخل إلى الشذرة كأنك تدخل إلى مغارة علي بابا، مدخلها صغير وخفي أما حين تلج إليها فإن ثرواتٍ وكنوزاً جديدة تتكشف أمام عيونك المندهشة، كلما توغلت في متاهاتها حيث يظل عمقها لا مرئياً...
إذ أقول: شذرة، فأنا لا أشير إلى طريقة في التحبير أو التعبير أو التبرير، أشير إلى فضاء وإلى حالات بدئية وإلى بكارات فكرية، أشير إلى علاقة بالعالم ليست ملاطفة أو مداعبة أو مهادنة، وإنما هي اغتصابٌ وانبثاقٌ وانعتاق.
وإذ أقول: شذرة، أقول كتابةً توسع حدود رؤيتنا، كتابة تفصح وتبوح بكل ما نشعر به، دون أن نقدر على التعبير عنه.
وإذ أقول: شذرة، أشير إلى طموح الكتابة نحو المستحيل، وتوق الكلمات إلى تقمص اللغة حتى الخلود، أشير إليها وكأنها أحد أكفان لحظات الحياة الصغيرة، حين لا يخطر ببال الحياة أنها ستتحول من أسئلة وأمزجة وحالات، إلى معانٍ وأفكار ومدلولات.
وإذ أقول: شذرة أخيراً، أشير إلى مجموعة من المجانين، أشير إلى أبي حيان التوحيدي، أشير إلى باسكال وشليغل وبودلير ونيتشه وجينيه وبلانشو وسيوران. فالشذرة بنت هذه العائلة تحديداً.

3
لا وزن للشذرة ولا قافية، ولا موسيقى ولا ديكورات ولا تعتمد في بنيتها على المحسنات البلاغية، ليست مجانية كقصيدة النثر، أو مستودعاً محضاً للصور والاستعارات والأخيلة الشعرية، بل كتلة نثرية مركّزة ومقصودة ومكتفية بذاتها، صغيرة كحبات اللؤلؤ وكبيرة كجبل من الأحجار الكريمة.
4
لا يخضع التفكير فيها لقوانين الفكر المعروفة أو أحكام المنطق السائد، ثورة ضد الميتافيزيقا وتمرد على السرد الكلاسيكي، وكفاح ضد المعنى كنمط "dogma"، ترحال، سَفَر، رؤيا تتخلق في المدهش وتتدفأ على نار التساؤل. انخلاع عن "اللوغوس" وانبتات عن المألوف والسائد والمكرور، وتمرين للذات على التمرئي أمام ذاتها و أمام العالم.
الشاذر، من هذا المنظور لا يرتاد عوالمه وفقاً لأدوات الفهم المعدة مسّبقاً، بل عبر دفقات متلاحقة مفاجئة وقحة وهدامة، فالمسألة بالنسبة إليه ليست أن يكرر المعروف، بل أن يكتشف اللامعروف. إن الشاذر بكلمة واحدة: يفضل القدوم من المستقبل.
5
تتوجه الشذرة صوب موقف مجرد أو محسوس، وتراقب الوجود في تنوعه المطلق، لكن الشذرة ليست مجرد تقنية أو نموذج بلاغي، بل هي بالأحرى ضرب آخر من المعرفة، إنها إحساسات وجودية ومعارف عملية، أو هي بالأحرى وخلافاً للمنهج العلمي الذي يسعى نحو قولبة الحياة، طريقة أخرى في الكتابة، وزاوية ثانية للرؤيا والتفلسف واقعياً، إنها محاولة لاختراق جليد الكلمات الناجزة واكتشاف تدفق الفكر الحي تحته.
6
كل شذرة أصيلة، عبارة عن لقطة، مشهد، حلم مكثف، كل شذرة هي بالتحديد "إلماعة أو إشراقة" تفجر أمامنا و بكثافة خارقة رؤيا تفرض نفسها علينا بقوة لوحة جدارية، لكنها ليست سريعة الزوال كما يعتقد البعض، بل هي نصوص متجذرة بعمق، لها قوة المنارة على الضياء والتنوير وقوة السكين على صناعة النُدب، بحيث قد يزول الدال ويزول المدلول ولكن يبقى الأثر.
7
ليست الشذرة كيساً صغيراً من الكلمات، بل هي حَدث في الوجود ورؤيا للعالم عبر توسط الكلمات. إن الشذرة شأنها شأن كل النصوص الأخرى تخاطبنا بمعناها ومحتواها، إننا لا نبدأ أبداً بالسؤال عن الشكل في الشذرة – فهذا عمل ناقدٍ بائس وهزيل- ولا الشكل هو ما يجعل الشذرة كذلك، إننا نسأل: ماذا تقول الشذرة؟ ونفهم المعنى في الشكل ومن خلال الشكل، فالشذرة ليست مجرد نثر مقتضب أو كلام مكثف، أي أنها ليست "مكاناً" لفكرة أو مجموعة من الأفكار بل هي أفق من الدلالات و أفق من المعاني، إنها نمط وجود وربما وجودات تم نقلها إلى شكل اتخذ طابعاً شذرياً.
8

تموت الشذرة عندما نختار لها أن تكون صدىً لحياة صاحبها، فالشذرة هي في الأصل بلا تاريخ و بلا ماضٍ، إنها بالأحرى هبة اللحظة، أو هي إحساس مفاجئ بالمعنى وإن شئتم باللامعنى، إنها ومضات وأطياف تظهر وتختفي، عبر ظهورات وغيابات مهذبة، لكن هذا النوع من الظهور والتخفي، الحضور والغياب يمنحها قوة مقنعة هي أقوى من كل الأشياء التي تمكث صورتها ولا تتبخر أبداً.
9
كثيراً ما تبدو الشذرة على شكل هلاوس أو اندياحات أو حتى انسلاخات، فالشذرة تكشف النقاب عن البعد الغامض في حياتنا وتُلبس العالم كلماتها لتعبر عن مخاوفنا أو تساؤلاتنا أو أسرار ميلادنا وموتنا، لذلك حتى لو بدت مثخنة بالألم ومثقلة بالتناقض، فهذا لا يشكل سبباً لنفيها والابتعاد عنها، فهي تجوب عبر كلماتها مدناً مسكونة بالعماء والتشظي، وترتاد أجساماً مغمورة بالوجع، لكنها في كل هذا وذاك لا تحكي التناقض بل تحاكيه، إنها بكلمة واحدة: تُحدث انسجاماً من الفوضى، وصمتاً من الصخب، وشكلاً أنيقاً من الألم والعدم. إنها كما كان يقول هرقليطس: انسجام في تضاد كحال القوس والقيثارة.


10
كان فولتير يقول: كل ساعة تعكس عبقرية الساعاتي الذي صنعها، وأنا بدوري أقول: كل شذرة تعكس عين الشاذر الذي التقطها...هذه العين الخبيرة التي لا تنتمي إلى الزمن، بقدر ما ينتمي هذا الزمن إليها.
إن الشاذر وفقاً لهذا الفهم يعرف كيف يخلق بعينيه، ويعرف كيف تصبح حركة العين نشاطاً تأملياً قائماً بحد ذاته، كيف تصبح العين شمساً صغيرة تمتد بشعاعها إلى المضاء والمعتم على حدٍ سواء، ويعرف أيضاً كيف يجعل من الرؤيا بالعين ضرباً من النفاذ المتعجرف إلى قلب الأشياء. لقد كتب نيتشه ذات يوم: لعينيّ وميضٌ آخر، إني أخاف أن تُحدث عيناي ثقوباً في السماء.
11
عندما يصبح "الحدث أسرع من المعنى"، فإن الشذرة تستقي معناها من قدرتها على "الإيقاف" إيقاف الزمن و إيقاف الأحداث واللحظات، ففي عالم محكوم بمبدأ الزوال السريع، والاختفاء الجذري للأشياء، تأتي الشذرة لتمارس سلطتها في القبض على المعنى، وكأنها تريد الجمع بين الثابت والعابر، بين الوجود والماهية، بين الذات والموضوع في آن واحد، إنها على وجه التحديد، مصالحة بين الحدث والمعنى في عالم محكوم بالتلاشي والاندثار.
12
لا تبحث الشذرة عن موضوعاتها، إنما تُشكلها. وهكذا فإن الكتابة الشذرية في نظري هي ورطة ومأزق، وقد تكون أهم من قصيدة وأعمق من ملحمة، ولكن ليس لكل إنسان أن يبدع في هذا النمط من الكتابة، فلكي تكون الشذرة كذلك، ينبغي لها التخلص من تلك الكلمات الزائدة التي تُثقل كاهل اللغة وتدفع بحيوية المعنى نحو التباطؤ، على الشذرة بكلمة واحدة: أن تصبح سرباً من البجع الأسود.
13
لكل شذرة عالمها الخاص الذي لا يضاهيها فيه أحد، إنها ليست نتفة من فكر أو هامش على كتاب أو جملة من نص، بل هي الفكر ذاته أثناء لحظة تشكله، أي الأفكار نفسها في حدوسها الخالصة، قبل أن يجتزئها العقل ويجزّها الوعي، وتمطّها الرواية، ويسحبها الشعر إلى زنازين القوافي.
14
مع أن الشذرة قد تبدو مُحبطة لكنها الوحيدة العذراء، عذراء الكلمات، وعذراء المعاني.
15
مع أن الشذرة قد تتسم بالغموض والتناقض، إلا أن هذا يشكل أيضاً جزءاً من غوايتها، فالشذرة تؤسس علاقة مع العالم هي أكثر بساطة وأكثر براءة، من تلك التي يؤسسها العقل مع العالم، إنها تنتمي إلى ما كان يسميه باسكال بـ "الذهن المرهف"، وذلك في مقابل الذهن الحسابي، فهي تبني علاقتها مع العالم قبل بروز السؤال عن أسباب. إنها تتماهى مع اللحظات والأحداث والأشياء إلى درجة تبطل مشروعية البحث عن أسباب، لكن هذا الحد أو القد من المنطق، لا يعني أن الشذرة تدفع بنا نحو اللامنطق، بل يعني أن الشذرة تدفع بنا إلى مساحات في الوجود لا معنى فيها لإعطاء أسباب، أو على الأقل، إلى حيث لا يستنفد فيها منطق السبب، معنى الحياة ذاتها...
هاهنا تصبح الشذرة ضرباً من اللعب، ليس اللعب بمعناه الساذج، بل اللعب بمعناه الانطولوجي، حيث الوجود نفسه هو مجرد لعبة لا تطالها مبادئ العقل والمنطق.

16
شأنها شأن كل الكتابات الجذرية والحالمة، فإن للكتابة الشذرية أعداءها أيضاً، إنهم أولئك المسطحون والمحرومون من النار، من لعنة بروميثيوس، أولئك الذين يخفون غباءهم تحت قناع من العقلانية الباردة.
17
الشذرة: حارسة اللحظات.

18

في عالم بلا يوتوبيا وبلا حكايات كبرى، يصبح كل شيء شذرياً، "الكتابة"، "الجمال"، "الموت"، "الحقيقة"، الشذرة تصبح كل شيء، إنها تصبح شكلاً للوجود في العالم.






#شادي_كسحو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شادي كسحو - عذراء الكلمات تأملات في الشذرة والكتابة الشذرية