أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز الحلقة الثامنة















المزيد.....

العجوز الحلقة الثامنة


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4603 - 2014 / 10 / 14 - 15:04
المحور: الادب والفن
    



..........................
صاحت زهرة:
- إنه صبيّ!
ابتهلت جميلة دون أن تصدق أذنيها. نعم، إنه صبيّ! بعد كل ذلك الانتظار، ذلك الصبر، تلك الأحلام! لم يكن ممكنًا إلا العيش مع حلم الحصول على ولد، وها هو هنا. أحقًا هو هنا؟ تساءلت جميلة: ألا تكذب، زهرة؟ ألا تخبئ عني الحقيقة؟
- قولي لي إنها بنت، يا زهرة، فلم أعد آمل في شيء خارق للعادة، في ما كنا نحلم أمس. كل هذا لي سيان اليوم.
اقتربت زهرة وكلها انفعال:
- لا تكن في عقلك موجة، يا جميلة!
رفعت الوليد من قدميه لترى الأم أنه الولد المرتجى، والصغير يصرخ أمام فظاعة الحياة، وهو من جاء الآن إلى الحياة.
- انظري إلى هذه الأجراس بين فخذيه، يا لظرافتها، أليس كذلك؟ كأنها أجراس مُنَمْنَمَة لكنيسة. انظري جيدًا! هل أكذب؟ إنه رجل صغير! افرحي من كل قلبك، يا جميلة! لقد تم نَذْرُكِ أخيرًا، وستتحقق كل أماني حياتك!
جمعت جميلة يديها على صدرها، قرب قلبها، وبقيت تغمض عينيها. أزمانها لن تعيها الذكريات، فكرت في زَهْوٍ وَخُيَلاء. فجأة، هزت زغرودة كل كِيانها. فتحت عينيها، ورأت أشباحًا في الحجرة. طرق أذنيها كلام غامض، وتحركت في رأسها كائنات ما ورائية: أفواه تُفتح وتُغلق، وعيون تُضيء وتُعتم، وجباه تتغضن وتَمْلُس. خلية نحل تغلي. إلى ما لا نهاية. ثم جاء غواص الجميل، غدا ولدًا كبيرًا. رأته، وهو ينبثق من نهر الشهوة، فأحضر إبريقًا مليئًا بالماء، وصبه على رأس الوليد، وزهرة تغسله بلين.
.......................

لقد تمنت حاميًا، فكان لها! لقد تمنت مدافعًا، فكان لها! حياتها الحلوة تستحق ذلك، حياتها، حياتهم!

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
تمامٌ كلُّ شيء قل لي
ليكون الفَرَحُ لي

كانوا يعتقدون أن السعادة خالدة! خدعتهم البراءة! حتى وهم كبار كانوا صغارًا لا يخشون أن يكونوا وحيدين.
سأكشف لك عن سر، قالت العجوز للدجاجة، ميلاد طفل لا يعني أن كل ما حلمنا به قد تحقق، سيضطر إلى السفر في يوم ما، وإذا بالعزلة تسكن عندنا. اهتز عنق الطائر. نعم، وحدي أتعذب، أنا وحدي... أين هم الذين جئت بهم إلى الوجود والذين أحببتهم؟ ذهبوا كلهم إن لم يقتلهم رجال الحاكم، فنادي جبرائيل معي، هو المكلف بقول الأسرار، ليعلن عن عودتهم، ويُعلم العالم أجمع بتعاستي، أكبر تعاسة!
ستكونين أُمًا خلال عدة أيام، وجدة فيما بعد، وإن لم يقتلك البرابرة، ستصبحين عجوزًا، مثلي، لا حول لها ولا قوة! نعم، ستصبحين عجوزًا وحيدة، فتفهمين أنه لم يكن خطأي إذا ما ولدتُ لأعطي الريح، وستذرفين دمعتين، واحدة عليّ، وواحدة على واحدة من بناتي، الواحدة التي بقيت لي!
بل العكس هو الصحيح، الخطأ خطأها، وكل دموع العالم لن تروي غليل العجائز ضدها، لأنها لم تحم ابنها طفلاً ليحميها رجلاً، ففقدن جنتهن، وحُكم عليهن بالعيش مع ذئابٍ قلوبها بقسوة الصخر، وبرابرةٍ الدمُ ماؤهم والمجازر غذاؤهم. أيها الغالي! يا الغالي على قلبي... أستأهلُ أن يذرفَ الناسُ كثيرًا من الدموع عليّ، وعلى مصيري أذرف كل دموع جسدي لو أشاء، لكني أرفض البكاء. لِنُبْلٍ أو عجرفة، لست أدري. يقولون لحكمة! حكمة فلاحة أنفقت حياتها الطويلة، وهي تكد بلا جدوى.

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
سُخامٌ كلُّ شيء قل لي
ليكون الهَرْجُ لك

أتغنين؟ مأساتي تجعل الملائكة تغني! سأقول لكِ، انتظري... لكِ صوت جميل لحكاية جميلة حزينة... لا، لن أبكي هذه المرة، لماذا لا أريد البكاء؟... لأني لا أستطيع الضحك! هكذا. تعملين إشارة برأسك لأنك فهمت، أيتها الأم الصغيرة المسكينة التي سيقطعونها إربًا، ثم سيلقون بها في دمها على الحجارة...
زفرت زفرة عميقة، وتلفتت حولها: بعض لطخات من العتمة الفضية هنا وهناك كانت تسمح لعينيها بتمييز ما حولها من حزم القش والأخشاب النخرة، المجرفة الصدئة، المحراث المكسور، المناجل المعقوفة، و، أبعد، حطام أخرى لزمن قديم جدًا، جنحت. أيها الغالي! يا الغالي على قلبي...
غير أن الحظيرة أضاءت، واخترق ضوء الحصاد حتى أقصى زاوية، هتفت أصوات الفرح، وتنادت وامتزجت، أصوات رجال، أصوات نساء أيضًا وأطفال. الكل سعيد، الكل يحسب عدد الحزم، الأكداس التي حملها الحمار على ظهره والتي تتراكم وتعلو بتؤدة. عَامَ الغبارُ في أشعة الشمس، أشعة تقطع الحظيرة الآن، لها رائحة الحرارة، التوت، القش المقطوع، القمح المسحوق، قمح يتراكم في المكان المعد له أمس، وتحت ضربات مدقات الرجال يُفصل عن سنابله، ويُسمع رطم المدقات وزفرات العمال. انبهرت العينان للضوء الآتي من الخارج، فلم تميزا غير خيالات تقوم وتقعد على دفعات، وهي ترفع حزم الذهب، وكان الذهب في كل مكان. في كل مكان كان الذهب. كان الذهب. الذهب كان. الذهب. الذهب. كان الذهب.
كان من الصعب على العجوز معرفة تلك الخيالات التي تسكنها، تحيا فيها، تتكلم معها. ومع ذلك، كان لكل خيال اسم، اسمه، وكانت لكل خيال حكاية، حكايته. هي نفسها كان لها مكان فيها. بعد الآن كل شيء يختلط، ويذهبُ حُلُمُها ذهاب الزمان على مر الأيام. الشهور تمر والأعوام والقرون، وهي هَهُنا، ترى الزمان يمضي في أحلامها...
زفرة جديدة، أكثر عمقًا، وقامت بصعوبة، وهي تتحسر. ابتهلت: رحمتك، يا الله! شفقتك! غفرانك! هكذا كان دومًا معها عندما كانت تجد نفسها وحيدة مقابل عسر الحاضر في حقيقته، واستحالة عجن الوجود بيديها. محراث مكسور لابنة الأرض كان محنة وبلاء. كلمت نفسها، العتمة، وربما شبح غواص الجميل الذي بقي طفلاً بعد جفاف نهر الشهوة. بعد ذلك، راحت تنادي بصوت خفيض، تبتهل، تنادي وتنادي. نادت أبناءها وأبناء أبنائها واحدًا واحدًا باسمهم أو باسمهم المستعار. وهي تسمعها تبتهل دون أن تتعب، وتلمحها تخلط المقدس والمدنس، أبدت العجوز ذات أمارات الحجر غيظها:

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
لم تعد الغالي
فليأخذك الشيطان معه!

كانت تريد الوشاية بعابد لدى معبوده: لِمَ إذن باعت قوتها للشيطان، بما أنها تقضي طوال وقتها وهي تبتهل وهي تنتظر معجزة أخرى غير معجزة الماضي السعيد، ماضي جميلة؟ في جهنم، في وضعهم هذا الذي هو وضعهم، لم تعد هناك معجزة!
ستكون المعجزة إنسانية، قالت العجوز. من بطوننا، نحن الأمهات، عجائز أو شابات، سنلدها.
جعلت هذه الكلمات تظهر على وجه العجوز ذات أمارات الحجر علامات الفظاظة أكثر من علامات الحنانة:

أيها الغالي! يا الغالي على قلبي
لم تتعلم شيئًا مني
انتظر قليلاً وكل شيء سينتهي

بطنها المتباهى به فيما مضي ها هو بالون مثقوب، وثغرها المشتهى زهرة ناشفة! أيها الغالي! يا الغالي على قلبي... الماضي أين هو؟ الماضي هو شبابك، أيامك الخضراء، الماضي هو أنتِ قبل أن تصبحيك. أنت الآن غريبة عنك، ومع هذا، فلم تكوني يومًا أنت. نعم، أردتُ أن أكون المستقبل، ولكن... ماذا تقول لها لتفهم أن الصبيّ المنتظر في أيامهم لم يعد له وجود، وكل بطون العالم لا تستطيع أن تعد بهذا الحامي المِقدام، فلم يعد هناك شيء للحماية. وفوق هذا، هن عجائز، عجائز جدًا، مصانع "المعجزات" هذه، والشابات بينهن لن يكن قابلات لإعطاء العالم حتى ولا صرصارًا مع كل هذا العُقْم لحياتهن.
- بلى، ستكون المعجزة إنسانية، ألحت العجوز.
ضحكت العجوز ذات أمارات الحجر ضحكة منفرة.
- هل قلتِ إن المعجزة ستكون إنسانية؟ صاحت متهكمة.
- المعجزة حفيدي، "باسل".
- أيتها الخَرِفَة!
- المستقبل مستقبله، أميري.
- أيتها الرعناء!
- مستقبله المعجزة.
- المعجزة كانت شبابك، لآلئك، أيامك الخضراء. كانت جميلة، قبل أن تغدو هذه التي أصبحت الآن، الدميمة، الكريهة، الرهيبة، المروعة ذات الأفكار المروعة. بعد الآن، أنت غريبة عنك.
- أعرف. ولكن في عمري هذا، أيتها الأم الصغيرة، همست العجوز للدجاجة، أي مستقبل ينتظرني، ينتظرنا، نحن، كل العجائز؟
والأخرى ذات أمارات الحجر ثابتة على رأيها، عازمة:
- المعجزة كانت ماضيك السعيد، هذا الماضي السعيد هو مستقبلنا، وسيبقى حتى في قلب الأنقاض!
تركتها العجوز وراءها، في العتمة، بحثًا عن معجزات تعجز إعجاز القرآن. وقبل أن تعود إلى قلب الشمس المحرقة، توقفت على عتبة الحظيرة، وألقت نظرة إلى أقصى مكانٍ أقصى ما تستطيعُ عليه، حتى شجرة جافة، هناك، وسط الحقل. حقل ميت وسط الدنيا! لم يعد لها فيه عَمَق، ولم يكن نهر الشهوة غير أثر، ذكرى. أَسِفَت على عيد التطهير، أَسِفَت على ميلاد غواص الجميل. لم يكن يستطيع أن يفعل شيئًا، هو، ابن الماء، وفي الوقت الحاضر، وهو شيخ، لا يستطيع دومًا أن يفعل شيئًا. أرادت العجائز أن يجلب لهن ماء هذا الماضي السعيد، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا. كل شيء مجدب. كل هذا الحاضر المليء بالشمس والغبار التفَتَ إليها، وبدوره نظر إليها، تحداها. حتى اللحظة، هذا الحاضر هو "المعجزة" الوحيدة الممكنة.


يتبع الحلقة التاسعة



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العجوز الحلقة السابعة
- العجوز الحلقة السادسة
- العجوز الحلقة الخامسة
- العجوز الحلقة الرابعة
- العجوز الحلقة الثالثة
- العجوز الحلقة الثانية
- العجوز الحلقة الأولى
- العجوز مقدمة الطبعة الجزائرية
- العجوز مقدمة الطبعة الفرنسية
- موسى وجولييت النص الكامل نسخة مزيدة ومنقحة
- موسى وجولييت الفصل الرابع والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الخامس والثلاثون والأخير
- موسى وجولييت الفصل الثاني والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الثالث والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الحادي والثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الثلاثون
- موسى وجولييت الفصل الثامن والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل التاسع والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل السابع والعِشرون
- موسى وجولييت الفصل السادس والعِشرون


المزيد.....




- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العجوز الحلقة الثامنة