أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سعيد بودبوز - اللغة العربية بين العالمية والعلمية















المزيد.....

اللغة العربية بين العالمية والعلمية


سعيد بودبوز

الحوار المتمدن-العدد: 4603 - 2014 / 10 / 14 - 09:27
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


لماذا لا تكون اللغة العربية عالمية؟.
لـكي تجيب "اللغة" على هذا السؤال، ينبغي أن تكون لغةً للشاعر والشارع معاً؛ أن تكون ذات مرونة عالية، وقدرة كبيرة على المناورات في كل الاتجاهات؛ أن تكون قادرة على الصعود إلى الصعيد العالمي، بما يساوي قدرتها على النزول إلى مستوى العامي. ينبغي أن تنتصر على بعض اللغات التي تنافسها على مستوى العالم، وتنتصر على اللهجات العامية التي تسحب الأيام والأزقة من تحت قدميها. وقد يكون بلوغ قمة العالم أسهل من بلوغ أعماق الزقاق، بقدر ما يصعب على العامية أن ترقى من قاع الشارع إلى قمة الشاعر.
إن المرونة التي تجعل اللغة قادرة على تخطي الحدود الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، هي نفس المرونة التي تجعل "التفكير"، بهذه اللغة أو تلك، يتحدى (ويتخطى) مختلف المفاهيم والنظريات والظواهر المعقدة. ولكي نغوص في هذا الموضوع بشيء من الدقة، لا بد أن نقرر بداية بأن اللغة العربية (الفصحى) هي لغة "التوحيد". ويمكننا أن نتابع سلسلة طويلة من المفردات التي تنحدر من سلالة هذه المقولة، أي مقولة "التوحيد"؛ توحيد الخالق تبارك وتعالى، والأمة، والكلمات. بهذا نكون قد أشرنا إلى ثلاثة مباحث، وهي: الثيولوجيا والأنثروبولوجيا، والفيلولوجيا.
وإذا كانت العربية الفصحى لغة التوحيد بهذا المفهوم، فلابد أن تكون في صراع مع "الانفصال"، أي "الإلحاد" باعتباره "انفصالا" عن الخالق، والاستقلال السياسي باعتباره انفصالا لجزء من الأمة عن الكل، ونشوء العاميات باعتباره استقلالا لسانياً، وهكذا. كباحث سيميائي، أرى أن فعل التحدث باللغة العربية هو فعل حكائي قبل أن يكون خطابيا؛ وإذا استعرنا تعبيرا لسانيا قد نقول أن هذه اللغة "إخبارية" أكثر منها "إنشائية"، بمعنى أن المتحدث باللغة العربية الفصحى، يقوم بفعل مزدوج في الآن ذاته؛ يخاطبـ(ك)، و يحكي عنـ (ها) أسطورة بإمكاننا أن نطلق عليها "العودة" كعنوان دلالي.
إن هذا الفعل "الحكائي" يتم إدغامه لا شعورياً في الفعل "الخطابي". وينبغي أن نميز هنا بدقة بين المتحدث والكاتب. لأن الأول يستطيع (وفي كل بلد عربي) أن يتحدث بعاميته، لكن الثاني نادرا جدا ما يتيسر له ذلك. وبهذا تصبح مناسبة "التحدث" أكثر إثارة للاستفهام من وجهة النظر العلمية. إذا سمعتك تتحدث بالعامية المغربية مثلا، فقد أسألك: "ماذا تقصد؟"، لكن من العبث أن أسألك: "لماذا تتحدث بهذه اللغة؟". والعكس قد يكون صحيحا، أي إذا قرأت لك نصا باللغة العربية الفصيحة، فمن العبث أن أسألك: "لماذا تكتب بالفصحى؟"، بل ومن الوارد أن أسألك: "لماذا تكتب بالعامية؟". إذن، لابد من التمييز أولا بين "التحدث" و"الكتابة" لكي نصل بالقارئ إلى عمق الفكرة.
إن الجواب المتواري خلفـ (ية) المتحدث المسؤول (افتراضا) عن سبب تحدثه بهذه اللغة، هو التالي: "إنني أعود إلى الأصل". نعم، ففي الأصل (الزمان الماضي فقط) كنا أمة واحدة. وهنا يكمن جزء كبير من الإشكال، لأن مركز الثقل الجاذبي للغتنا العربية يقبع في الماضي المثالي وحده بوصفه مجداً وانتصاراً . وسوف نرى أن بعض اللغات (الحية) التي انتقلت فيها مراكز الثقل الجاذبي إلى الحاضر، شهدت، في الواقع، انتقالا حضاريا ملموسا من الزمن المثالي إلى الزمن العلمي. إذا كنا سنختلف حول عدد الفئات البشرية التي يستهويها المثالي، فلن نختلف حول عدد الفئات التي يستهويها العلمي. فقبل أن نقول بأن لغة كذا أصبحت عالمية (في الظاهر)، ينبغي أن ندرك بأن العلم لغة عالمية (في الباطن) بمعنى أنه لغة ذات النحو والصرف والمعاني التي لا يختلف حولها اثنان من البشر. وإذا كان الأمر كذلك، فقبل أن نتساءل: لماذا لا تكون اللغة العربية (عالمية)، يجب أن نتساءل: هل تحمل هذه (العربية) لغة عالمية؟
واللغة هنا بمعنى مجموعة من قواعد التواصل الأكثر يومية بين الأفراد والشعوب انطلاقا من حاجياتها الأكثر يومية والأكثر أساسية كذلك. أن تتحدث باللغة العربية الفصحى، يعني أن تستحضر أرواحا لكي تطرد بها أخرى مؤقتا. فدائما يتم استحضار هذه اللغة كتراث في مقابل اليومي، وكدين في مقابل الدنيا، وكخطاب أدبي في مقابل الخطاب العامي. لم يعد (ونادرا ما كان) بإمكان الإنسان أن يتحدث باللغة العربية دون أن يترك علامة استفهام وراءه؛ فهل هو بصدد محاضرة، أم خطبة جمعة، أم نشرة أخبار، أم قصيدة شعر.. الخ؟.
إن اللغة (اللسانية) لا تصبح عالمية اعتمادا على جودتها الذاتية فحسب، فلا ننسى بأن اللغة العربية لم تحقق هذا الانتشار حتى وقد بلغت ذروة الجودة الذاتية إبان العصر الجاهلي، ولكنها انتشرت (وفقط) حين أصبحت لغة القرآن، ونحن جميعا نعرف بأن القرآن الكريم نشر العربية بين جميع من يفهمون لغته الثيولوجية قبل اللسانية ! والدليل على ذلك أن هناك العديد من الشعوب لا يتحثون اللغة العربية أصلا، ولكنهم قرآنيون، بمعنى؛ "مسلمون". وهنا نلاحظ بوضوح أن "اللغة اللسانية" تنتشر اعتمادا على "لغة إنسانية" بالمعنى البراغماتي للكلمة (الذي يشكل المتحد البشري)، حتى وإن تعلق الأمر بالدين. أشير إلى أن تعبير (اللغة الإنسانية) لا أعني به الأدبيات الأخلاقية المعروفة عند الجميع، بل أعني ببساطة مجموعة من القيم والقواعد والمصالح (دينية أو دنيوية) التي تشكل قطبا قادرا على جذب عدة نماذج بشرية. ولقد رأينا بأن لغة العلم قادرة على استقطاب كل النماذج البشرية، أو معظمها على الأقل، باستثناء بعض الشعوب البدائية التي غادرت التاريخ إلى غير رجعة.
من الضرائب التي دفعتها اللغة العربية، أنها بقدر ما تبدو مرتبطة بالمقدس، بقدر ما تبدو بعيدة عن الإنسان (العربي نفسه). وليس غريبا أن تبدو لغة للماضي، لأن جوهر الوعي القدسي، بطبيعته الدينية، ينجذب إلى ما قبل التاريخ، فلا ننسى أن "الجنة"، بوصفها جوهرا للميتافيزيقا، توجد فيما قبل التاريخ. مثلا: متى كان آدم في الجنة؟. الجواب: قبل التاريخ. وأين آل مصيره بعد اقتراف الخطيئة؟. الجواب: هبط إلى التاريخ. إذن، بقدر ما ينفتح وعي الشعوب على "التاريخ"، بقدر ما يصبحون بعيدين عن لغة المقدس عموما، واللغة العربية على وجه الخصوص. فما قمة المستقبل، بالنسبة للإنسان العامي، إلا ذروة للعلوم والخبرات المتراكمة عبر "التاريخ". وما قاع الماضي، بالنسبة للإنسان الديني النموذجي، إلا ذروة للميتافيزيقا المتمثلة في "الجنة". وهكذا، فإن ابتعاد الإنسان العامي، في حياته اليومية، عن اللغة الفصحى لا يعني أنها رخيصة، بل يعني أنها مكلفة، لدرجة أن ما يجنيه من ثقافته اليومية لا يكفي لدفع فاتورتها. ومن هنا ندخل في مشكلة التعليم باللغة العربية.
إن العامل الذي ارتقى باللغة العربية إلى المستوى الذي نعرفه الآن، هو نفس العامل الذي أبعدها عن العامي. وكانت النتيجة أنها، بقدر ما ارتفعت عن السوقي إلى الرسمي، وارتفعت عن العامي إلى العالم (بكسر اللام)، بقدر ما تجاوزتها الحياة اليومية، وتركتها في قلاع الطقوس والمناسبات. لأن العامي أكثر التقاطا لتفاصيل الزمان من العالم أو الرسمي، وهذا يعني أن العامية أكثر مواكبة للتاريخ من الفصحى شئنا أم أبينا. وبناءً على ذلك، فإن التمثيل الثقافي الذي أخذته الفصحى على عاتقها يواجه بعض الصعوبات في التقاط عناصر الإرتباط بين الإنسان العربي وبيئته، لأن بيئة الناطق بهذه اللغة لا يمكن إلا أن تكون محلية، واللغة العربية الفصحى بطبيعتها لا يمكن إلا أن تكون لغة لجميع العرب بغض النظر عن اختلاف بيئاتهم، ولهذا فإن الإنسان الناطق بهذه اللغة لابد أن يدفع ضريبة تماسكها وعبقريتها من خلال بعض تنازلاته- كلما أراد أن يكتب أو يتحدث بها- عن أدق التفاصيل التي تميز طبيعة تجاوبه مع بيئته المختلفة، بشكل أو بآخر، عن غيرها.
إن طالب العلم، في هذه الحالة، يحس دائما بأن هناك مسافة ما بينه وبين ما يدرسه، والسبب في ذلك أنه يقطع بالفعل مسافة ذهنية سيكولوجية لكي يستعمل هذه اللغة (الفصيحة). لذلك أعتقد بأنه لو كان يدرس بلغته اليومية (أو بعبارة أخرى)، لو كانت اللغة العربية لغة يومية، لأصبحت هذه "المسافة" قصيرة جدا حد التلاشي، ولأصبح هناك سرعة ملحوظة في استدعاء ملفاته الثقافية (سرعة التفكير/دقة التحليل). فلعلنا نلاحظ، بخصوص اللغات الحية، تلاشي هذه "المسافة" بين الطلاب وبين ثقافتهم، سواء الأكاديمية، أو الدينية، أو التقنية، أو غير ذلك، فكل شيء يصبح بسيطا، ويتم عرضه بسهولة وبساطة، وأعتقد أنه بمجرد المقارنة بين كتابين؛ واحد غربي وآخر عربي سيتبين للقارئ الفرق، فكثيرا ما يعرض الأول فكرة معقدة بلغة بسيطة، بينما نرى الثاني متعبا في تسلق لغة معقدة من أجل أن يعرض فكرة بسيطة، هذه ملاحظة عامة، وطبعا هناك استثناءات. كل هذا له دور فعال في الارتقاء، أو النزول، باللغة من وإلى قمة العلم والعالم.
لكي يدرس الطالب العربي باللغة العربية الفصحى، عليه أن "يعود" ذهنيا، في كل درس، إلى "الأصل". عليه أن يجمع شظايا انتشاره عبر زمان الحاضر ومكان الحضور، ويعود إلى زمن كثافته، حيث يتعين عليه أن يلعب دور عضو في جسد الكل. ولكن هذا لا يعني ضرورة التخلص من اللغة الفصحى أبدا، فهي صاحبة دور كبير في هذه الحضارة العربية والإسلامية، وأنها تحتاج فقط إلى مجهودات جبارة لكي تمسك بزمام الحياة المعاصرة، رغم ما يذهب إليه بعض الباحثين، أذكر منهم زكريا أوزون [1] الذي هاجم كل شيء في هذه اللغة، وقد كتبت ردا أو تعليقا على بعض ما جاء به [2]. وأيضا قولنا بابتعاد العامي عن لغة المقدس لا يعني ابتعاده عن الدين !. هذا ونضيف أنه بحكم عمومية العامي ووفرته، في مقابل خصوصية الفصيح وندرته، لا يمكن للكائن الفصيح إلا أن ينشغل بمقاومة الانقراض الذي يهدده على يد الكائن العامي. فلم يعد (وقلماكان) الفصيح يقاوم العامي خارج أسوار الطقوس الدينية وغيرها من المناسبات التي يظهر فيها باستحياء ويختفي أمام المارد العامي.
إذن، فإن التحدث بهذه اللغة نوع من العودة إلى أنواع من الوحدات، منها الظاهرة للعين المجردة، ومنها ما يحتاج إلى تحليل دقيق. لكي يسهل علينا فهم طبيعة "العودة" التي تنشدها اللغة الفصحى، فمن الجدير أن نجري استقراء سريعا لنشوء العاميات. إن نشوء العامية يدل على "التفرع"، إذن فإن الفصحى التي خرجت منها العامية تدل على "التأصل". فلا يمكن للتفرع إلا أن ينتشر في فضاء "الحاضر والحضور" كجسر إلى "المستقبل". ولا يمكن للتأصل إلا أن يتضمن (يحافظ) على عملية معكوسة، فهو إذن "جسر إلى الماضي". وإذا كان الواقع الحضاري للأمة العربية يسير، بطبيعة الحال، نحو "التفرع" كغيرهم من الأمم، فإن الخبر المؤسف عندي أن حظ اللغة العربية، في أن تصبح لغة عالمية يوما، ضعيف جدا. فنحن نرى حتى بعض الحضارات المتقدمة حاليا لم تستطع اللغة اللاتينية مثلا أن تواكبها وتشهد نموها إلى هذا الحد، وإذا أخذنا اللاتينية كمثال نرى أنها خرجت منها عدة لغات مثل الفرنسية التي لم تصبح عالمية، لكنها اقتربت كثيرا. أما الإنجليزية، فإن ظروفها برأيي تختلف كليا عن ظروف العربية. وبلغة دقيقة أقول: لم تصل الإنجليزية إلى المستوى العالمي إلا بعد أن تغلب فيها الخطاب العلمي على "العمق المثالي". وتغلب فيها العامي على الرسمي بشكل مواز، ولذلك أستطاعت أن تظل قريبة من الفرد والمجتمع والثقافة اليومية. أما لغتنا العربية، فما زالت تحكي نفسها.
إن الإنسان العربي الآن لا يتحدث اللغة العربية بشكل مباشر، ولكن من خلال "مؤسسة". قد تكون هذه المؤسسة أكاديمية، أو إعلامية، أو حكومية، المهم أنها لم تعد (وقلما كانت) لغة الفرد والمجتمع. إنه لمن الصعب أن أتصور يوما يتحدث فيه الناس باللغة العربية الفصحى في الشوارع والمنازل. لأن هذا "اليوم" لا يمكن إلا أن يكون ضيفاً وافدا من الماضي، وفي مقولة "الماضي" هذه تندرج عدة مفاهيم، أولها "الوحدة العربية"، ثانيها "توحيد الله تعالى" وثالثها" توحيد "السلطة الأدبية" من خلال فصل رقبة الأديب عن جسد المجتمع الذي لا يمكن إلا أن يكون عاميا. أما الوحدة العربية، فهي قابلة للتحقيق على المستوى الاقتصادي، أما على المستوى الثقافي، فلا بد لنا من التمييز بين "الثقافة العربية الفصيحة" و"الثقافات العربية العامية"، أي حين نقول "الثقافة العربية" بالمطلق، لا يصح كلامنا إلا بالمعنى المجازي، فالواقع يقول بأن هناك "ثقافات عربية" وليس ثقافة واحدة.
(لو تتبعنا نزعة التوحيد إلى حدودها القصوى في أعماق الماضي اللغوي العربي، سنجد أنها، على سبيل المثال، كانت تظهر واضحة حتى في بنية الكلمة، ومن جملة ذلك الألفاظ التي" تقع على الشيء وضده في المعنى "[3]. فما هذا إلا توحيد، ليس بين معنيين فحسب، بل بين "الأضداد" أيضا، وطبعا هناك العديد من المؤلفين تحدثوا عن هذه المسألة[4] ، لكني لا أسوقها الآن من أجل تحليل دقيق لبنية اللغة العربية، وإنما مجرد إشارة سريعة إلى ما يصب في هذا الموضوع).
إن اللغات التي أصبحت عالمية حققت ذلك من خلال الاكتشافات والاخترعات العلمية التي أصبحت جزء من الفرد والمجتمع والحاضر، إنها في كل مكان؛ في المنازل والشوارع والمؤسسات. أما لغتنا العربية، فهي موجودة في القواميس والمنابر الإعلامية والمناسبات الدينية (و رفوف المكتبة)، فلا يمكنها إذن إلا أن تكون لغة مناسبات. وهذه الحالة لا تؤهلها لمواكبة النمو الاجتماعي، ولا حتى تفاصيل الثقافة الدقيقة لهذا أو ذاك المجتمع، إنما تلتقط مختصرات عامة وملخصات وخلاصات هذه الثقافات لا أكثر. إذن، فهي لغة الإجمال ولم تعد لغةً للتفصيل حين تتحدث عن الإنسان العربي المعاصر.
وإذا كان لنا أن نتعمق في الموضوع قليلا، فإن الإحساس الوحدوي لدى الانسان العربي ليس إحساسا يوميا، ولا مقبولا تفصيليا، وإنما هو إحساس بالواجب الذي لا وجود له إلا في ثقافة التأجيل. فهو مرتبط بالدين، وما الانفصال، في لاشعور العربي، إلا "خطيئة" تنحدر من سلالة الخطيئة الأولى، وهي خطيئة آدم وحواء. فلا تتوقع من العربي أن يصرح بأنه ضد الوحدة العربية، ولا تتوقع من المسلم أن يصرح بأنه ضد الوحدة الإسلامية، حتى وإن كانت جميع أفعاله ضد هذه الوحدة بالذات. وعلى غرار ذلك، يندر أن تجد عربيا يفضل العامية على الفصحى بالقول، ولكنه لا يملك إلا أن يكرس العامية على حساب الفصحى بالفعل، تماما كما يعيش "الشهادة" في الدنيا، وينشد "الغيب" في الآخرة.
بيد أنه، بقليل من التأمل، يظهر لنا بأن السؤال المطروح، في مستهل هذه الورقة، يستمد معناه الكامل من بعده الأفقي فحسب، لكن بالنظر إلى بعده العمودي، فإن النسخة المتواضعة منه يمكن أن تأتي على هذا النحو: لماذا لا تكون هذه اللغة عربية؟. بمعنى بسط سيادتها على مختلف الأقطار العربية، من قاع الشارع إلى قمة الشاعر كما أشرنا سابقا. يجيبنا جان جاك روسو قائلا: "إن الأمة بقدر ما تقرأ وتتعلم تذوب لهجاتها، فلا تبقى في الأخير إلا في شكل رطانة لدى الجمهور الذي يقرأ قليلا ولا يكتب أصلا"[5] و.بناءً على هذا الجواب، نفترض بأن العزوف على القراءة هو المغذي الرئيسي لنمو العاميات التي تقضم اللغة من أطرافها يوما بعد يوم، حتى أصبحنا أخيرا نشاهد مسلسلات مدبلجة باللجهات العامية وغير ذلك. ولكن ما الذي يغذي العزوف على القراءة نفسه؟
ربما هناك من يعتبر هذا السؤال رهيباً وصعبا ومعقداً، وقد يكون على جانب كبير من الصواب، ولكن، مع ذلك، فليس أمام الإنسان الواقعي والموضوعي إلا إن يعيد صياغة هذا السؤال على النحو التالي: هل هناك ما يستحق القراءة؟.
عموما- وإذا ما استثنينا المجلات المحترمة، خاصة بعض المجلات الخليجية ذات العيار الثقيل- يمكن القول بأن دور النشر العربية قد أفلست، كمؤسسات ثقافية، وتحولت إلى تجارة محضة، مما زاد في انتشار الرداءة الخطير الذي لا يقابله سوى العزوف الأخطر على القراءة. لقد أصبح بإمكان دار النشر أن تطبع و تنشر أي شيء، بشرط أن يدفع صاحبه ثمن الطبع، وهذا في الواقع لا يهدد اللغة والثقافة والأدب العربي فحسب، بل يهدد هوية الأمة بالانقراض من خلال الغرق الكارثي في طوفان الرداءة. ينبغي ألا تغيب عنا هذه الحقيقة، فحين نرى إعلانا عن صدور كتاب عربي في هذا الزمان، كثيرا ما نشعر وكأننا قرأناه مرارا وتكرارا، وأنه لا داعي لقراءته مجددا !. وللأسف، يكاد يسود هذا الإحساس.
إن صدور الكتاب، في زمننا العربي هذا، أصبح يدل أولا على أن صاحبه ميسورا، لأنه ببساطة استطاع أن يدفع ثمن الطبع. ولكن، مع ذلك، ليت معظمنا يملك وعيا موضوعيا بحيث لا يصدر أحكاما جاهزة بهذا التعميم المخيف.
ورغم كل قوى الرداءة والنشر التجاري، مازلنا نعتقد بأن هناك عباقرة في هذه الأمة قادرون على إنجاز أصعب ما يمكن إنجازه في سبيل النهوض بهذه اللغة وغيرها، لكن المشكلة أن اكتشافهم صعب، ليس صعبا علينا كقراء ومهتمين وباحثين فحسب، بل يصعب عليهم أن يظهروا أيضا. خاصة ونحن في زمن لا يستطيع أحد أن ينشر فيه كتابا إلا إذا كان من عائلة ميسورة، فمن يضمن لنا بأن جميع العقول الكبيرة تنتمي إلى عائلات ميسورة؟. هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ من يضمن لنا بأن جميع الباحثين الميسورين يستحقون أن تعرض كتبهم على رفوف المكتبات؟. هنا أتذكر ما قاله أحد وزراء الثقافة المغربية ذات يوم: "يمكن أن يكون هناك عباقرة رعاة في الجبال". وأنا بدوري أضيف: "يمكن أن يكون هناك عباقرة عراة يفترشون الرمال". ومن المؤكد أن عبقرية البشر لا تجدي نفعا خلف قطيع من البقر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] زكريا أوزون: جناية سيبويه، الرفض التام لما في النحو من أوهام، الطبعة الأولى، تموز 2002.
[2] سعيد بودبوز: زكريا أوزون والنحو العربي، مخطوط منشور رقميا على شبكة الأنترنت.
[3] أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي: الأضداد في كلام العرب، تحقيق: د.عزة حسن. الطبعة الاولى 1963 ط ثانية 1996.
[4] أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي: المرجع السابق- مقدمة، وانظر: فقه اللغة للصاحبي 66؛ وأضداد أبي حاتم السجستاني.
[5] جان جاك روسو: محاولة في أصل اللغات، ترجمة: محمد محجوب، تقديم: عبد السلام المسدي. دار الشؤون الثقافية العامة-بغداد. ص47.



#سعيد_بودبوز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحقيقة والحقيبة
- صلاة العصر
- الحكاية والرواية بين الراوي والروائي
- جواب المقبرة
- الثالوث الدلالي في-روائح مقاهي المكسيك-
- حمار من نوع رونو
- هل توجد ثورة عربية؟
- -مذاهب وشوارب- (قصة قصيرة جدا)
- بين زمانية النهار ومكانية النهر
- سوءة حظه (ق.ق.ج)
- الإياب السردي في -مرايا- سعيد رضواني
- الضحك عقوبة!
- الصَّمْتُ الذي عَبَرَ اللغةَ
- لا (2)
- لا
- يوسف إدريس: بين انصهار الثقافة وانفجار الغريزة
- حكمة نيتشه بين الجبل والعقل (1)
- حوار مع الشاعرة لطيفة الشابي
- الماء والحكاية في -أحلام تمد أصابعها-
- بين الجنس الأدبي والجنس الآدمي (تحليل عنوان -أحلام تمد أصابع ...


المزيد.....




- بيسكوف: نرفض أي مفاوضات مشروطة لحل أزمة أوكرانيا
- في حرب غزة .. كلا الطرفين خاسر - التايمز
- ارتفاع حصيلة ضحايا هجوم -كروكوس- الإرهابي إلى 144
- عالم فلك: مذنب قد تكون به براكين جليدية يتجه نحو الأرض بعد 7 ...
- خبراء البرلمان الألماني: -الناتو- لن يتدخل لحماية قوات فرنسا ...
- وكالة ناسا تعد خريطة تظهر مسار الكسوف الشمسي الكلي في 8 أبري ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 795 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 17 ...
- الأمن الروسي يصطحب الإرهابي فريد شمس الدين إلى شقة سكنها قبل ...
- بروفيسورة هولندية تنظم -وقفة صيام من أجل غزة-
- الخارجية السورية: تزامن العدوان الإسرائيلي وهجوم الإرهابيين ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سعيد بودبوز - اللغة العربية بين العالمية والعلمية