أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - باسم فرات - الذكرى الحادية والعشرون لخروجي من العراق















المزيد.....

الذكرى الحادية والعشرون لخروجي من العراق


باسم فرات

الحوار المتمدن-العدد: 4601 - 2014 / 10 / 12 - 12:34
المحور: سيرة ذاتية
    


في الثالث والعشرين من نيسان قبل إحدى وعشرين سنة خرجت من العراق في اتجاه الأردن. يومها وَدّعتُ أمي وجدتي وشقيقتي الوحيدة. وكما هي عادة الناس في بلادي، أدلقوا الماء خلفي، وهي عادة أظنها متوارثة منذ القدم. وقبل هذا كنت قد انحنيت على بغداد - مدينتي الأثيرة- مُوَدّعًا، وتمشَّيتُ على ضفة دجلتها. ذهبت إلى أغلب الأماكن القريبة من القلب، وودعت الكثير من أهلي وأقاربي وأصدقائي الذين أبى بعضهم إلاّ أن يوصلني لزقاقنا الضيق في محلة باب السلالمة.

بكيت كثيرًا وأنا أعبر الحدود، ولم أزل متلفتًا حتى غابت الحدود عن النظر، فتلفّتَ القلبُ، على حد تعبير الشريف الرضيّ. وعشتُ أربع سنوات وستة وعشرين يومًا في عَمّان. تقلَّبَتْ أيامي بين شدة ورخاء. وكتبت فيها معظم ديواني الأول (أشدّ الهديل) الذي تكرمت دار ألواح في مدريد التي يديرها الأديبان المبدعان عبد الهادي سعدون ومحسن الرملي، بنشره على نفقتها في عام 1999. كتبت حوالي نصف قصائد ديواني الثاني (خريف المآذن). وكان عام 1995 عامًا جيدًا لي: ففي الأول من تموز كتبت قصيدتي (1 / 3 / 1967) وكان من المفترض أن أعنونها بتاريخ (1/7/1967) لأن هذا اليوم هو يوم ميلاد غالبية العراقيين الذين شهدوا الحروب والتشرد، وعانوا من العنف والتهميش، وهو يوم ميلادي حسب الأوراق الرسمية.

من القصائد التي كتبتها في ذلك العام أيضًا هي (عبرت الحدود مصادفة) ، وحظيت القصيدة الأولى بأول نشر لها في نيسان 1997 في لندن. ومن ثم في أماكن أخرى متعدِّدة منها: مجلة (في الانتظار)، وهي باللغتين العربية والفرنسية في حزيران من العام نفسه، ومجلة (الحركة الشعرية في المكسيك) و غيرها من المجلات عبر الأعوام الثلاثة (1997-1998- 1999). ولم يكن نشرها في جريدة الزمان في تلك الفترة هو الأخير. أما (عبرت الحدود مصادفة) فحظيت بالنشر باللغة الإنجليزية في مجلات عديدة وانطلوجيات شعرية.

حين وصلت نيوزلندا في الحادي والعشرين من آيار 1997 تساءلت بعد فترة من وصولي: ما الذي سأحققه في السنوات العشر القادمة؟ إذ لا يمكن أن أسمح للمنفى أن يسرقني من الكتابة ومواصلتها وتطوير أدواتي الإبداعية وتغذية روافدها بثقافة موسوعية تخرج قصيدتي من أسْرِ تقليديةٍ طالما لازمت الكثير من الشعراء. فكان عام 1998 حاسمًا في حياتي، ففيه تعرفت على الوسط الأدبي في العاصمة النيوزلندية وَلْنِغْتُن، وبدأت مشروعًا ألقى ظلاله على تفكيري ووعيي وكتاباتي وفهمي للحياة وللحقوق والواجبات فيما يخص الوطن والقومية والدين والمذهب والعرق. ولا استطيع منه فكاكًا بحيث اعتبره مرادفًا للشعر، ولا يمكن أن اتحدَّثَ عن الشعر إلاّ وحضر تلقائيًّا، ألا وهو قراءة تاريخ العراق بشكل منهجي، أي قراءة كتاب أو أكثر عن كل فئة لغوية ودينية ومذهبية وقومية وعرقية (إثنية) ومرحلة تاريخية. حيث أولى أبجديات الحب هي المعرفة، وما يربطني بعراقيتي هو انتمائي روحيًّا ومكانيًّا ونسبًا لجميع فئاته اللغوية والقومية والعرقية والعقائدية، وأن تكون اللغة العربية لغتي الأولى والأم، لا تعني نقاء عرقيًّا، إنما أنا خليط من جميع الأقوام التي سكنت بلدي وكونت خصوصيته ومنحت منجزه الحضاري الكثير.
وصلت إلى قناعة أثبتتها الأيام هي أن قراءة تاريخ العراق الحديث لا تكفي للإدلاء برأي فيما يخص البلد وأهله وحقوقهم ومطالبتهم التي علمني هذا التاريخ الممنهج أنها في غالبيتها باطلة وتسيء لحقيقة العراق الذي اتفق المؤرخون والباحثون المختصون في صدر الإسلام وما قبله وما بعده - حتى العصر الحديث - على أنه من تخوم الموصل شمالاً؛ أي من جنوب مدينة ماردين وحتى بلاد عبادان على ساحل البحر جنوبًا. وأن الأنظمة العراقية المتعاقبة نجحت بسياساتها الرعناء من خلق شرخ بين العراقيين، وكمثال لم يتم التطرق إلى نضال ومساهمات الأكراد والتركمان والسريان في نهضة العراق الحديثة ودورهم في مقارعة الظلم والاحتلال البريطاني.

لا يمكن لمن يقرأ تاريخ العراق القديم أن يكون أكثر دقة وصوابًا من قارئ تاريخ العراق الحديث، فكلاهما تنقصهما ثقافة الآخر. يكفي أن تقرأ كتبًا عن كل فئة فيه كما ذكرت أعلاه ومما خُطّ بأيدي هذه الفئات أو مما تُرجم من قبلهم للعربية، لتقع على حقيقة مفادها: أن الحركات القومية غير العربية ليست أفضل ولا أنزه من الحركة القومية العربية التي تتربع على أكبر ميراث كتابي فيه وصاحبة المسؤولية الكبرى فيما حدث من خراب. وتكاد تقف بعض الفئات القومية الأخرى فقيرة حدّ العدم من ميراث كتابي لها ومن ضمير تواجدها -وأعني الشعراء-، فقد دلّتني قراءاتي وتأملي لتاريخ المنطقة والكثير من الشعوب أن الشعراء يقال لهم ضمير الأمة، لأنهم أفضل دليل على تواجد فئة ما في هذه المنطقة من عدمه.

ليس من المعقول لفئة قومية أو عرقية أن تدَّعي وجودًا عريقًا في مدينة أو أقليم أو منطقة ما وتكون صادقة مستدلة على إشارات رحّالة وبعض الأحداث التاريخية المبهمة إن لم تُعزِّز هذا الادعاء بوجود عشرات الشعراء ممن كتبوا بلغتها قبل قرون طويلة، ومئات الشعراء قبل القرن العشرين بعقود عديدة. فضلاً عن الأدباء والتراث الكتابي والأسر العلمية والدينية والسياسية والعسكرية، والتي تُشكّل أكثر من نصف السكان في تلك المنطقة وبكثرتها ومنجزها تفرض لغتها وثقافتها، فمن يكتب بلغة أخرى إنما هو أقلية، والأكثرية في منطقة أو مدينة ما لا يكتبون عادة إلاّ بلغتهم. ومن هنا أرى دور الشاعر وأهميته للشعوب، وأني لمحظوظ في بلدي بمَن كتبوا أولى القصائد وبلغات عديدة جعلتني وأنا أكتب بالعربية- لغتي الأولى ولغة أجدادي-، كأنما أكتب بجميع لغات العراق بل والمنطقة، وأني انتمي لجميع هذه القوميات بلا استثناء. بل فخور بهذا العدد الكبير من غير العرب عرقًا أثروا الثقافة العربية بما أنجزوه ومازالوا. فتحية لكل هؤلاء قديمًا وحديثًا.

ثمة مسألة آمنتُ بها، نتيجة هذه القراءات مع تنوع الأمكنة والاختلاط بثقافات كثيرة ومتنوعة، هي أن شعوب المنطقة جميعها أصيلة، ليس فيها ما تعدّ غازية أو طارئة على منطقة الشرق الأوسط. لإيماني أن الفئة التي تعيش منذ أكثر من ألف سنة. لا غبار على أصالتها مهما كان تواجدها ضئيلاً وهامشيًّا غير فعّالٍ. وهذا يشمل جميع سُكّان المنطقة والعراق من ضمنها. وكم شعرت بالمرارة وأنا أقرأ يومًا لأحد الأشخاص معتبرًا أن السكان الأصليين في العراق طائفته فقط. كلامًا طالما سمعته شفاهيًّا من بعض الأخوة العراقيين ممن ينتمون لطائفة هذا الكاتب. معتبرًا أن عرب وأكراد وتركمان وشبك العراق هم بقايا غزاة واحتلالات. ومن المفارقات أن هذا الشخص الذي وصمَ أكثر من 96% من العراقيين ببقايا غزاة وهم برأيي سكان أصليون، لم يولد جدّه الأول ضمن حدود العراق الحالية. لكني في الوقت ذاته أرفض وجود أرضٍ عربية وأخرى غير عربية في وطني فهذا تقسيم عنصري إلغائي إقصائي استحواذيّ.

كنتُ محظوظًا أن أعيش في منطقة مليئة بالعراقيين غير الناطقين بالعربية، فمنهم حصلت على كتب مهمة ومميزة وكنا صديقي الشاعر (صباح خطاب) وأنا نلتهمها ونتناقش فيها بحيث إن فات أحدنا شيئاً ينبِّهه حديث صاحبه. مثلما حاولت الحصول على كتب كثيرة من لدن العراقيين القادمين من العراق والأردن ولبنان وسورية، وأكثر مَن أفادني وقدّمَ لي خدمة سأبقى أتذكرها بامتنان بالغ هو صديقي الرائع بشّار ميرزا: هذا العراقي الموصلي كان كرمه معي ينافس كرم أهل الجنوب. والحياة مع عراقيين مختلفين لغويًّا أو عقائديًّا في المنافي، أتاح لي معرفة حقيقة تفكيرهم وما كانوا يعانوه في العراق، مما يجعل الكتابة عنهم أكثر صدقًا ودقة.

في العام نفسه 1998 نشرتُ الكثير من قصائدي في صحف ومجلات بالعربية في عالمنا العربي والمنافي والإنجليزية، وترسخت علاقتي أكثر بالوسط الأدبي بمرور الأيام كما ازدادت معرفتي ووعيي بأهمية قراءة تاريخنا، وأن أبسط محبة نقدمها لتنوعنا هو أن نعرفهم عبر ما يسطِّروه عن أنفسهم ولكن احترامًا للبحث العلمي علينا أن نقارن بين ما تقوله الفئات الأخرى ونتأمل الأحداث والتاريخ. ثم صرتُ لا اشترك بأمسيات مشتركة فقط بل تُخصص لي أمسيات منفردة، أو أن أكون الشاعر الضيف. ومن مزاياها هو منحي مالاً لقاء ذلك واعتراف بحضوري، وهي حالة صحية للغاية تميّز بين الشاعر الاعتيادي والشاعر الجيد الذي يستحق أن يُكَرّم تكريمًا خاصًا حتى وهو يقرأ مع آخرين بمستويات متباينة بعضهم لا يمكن لمجلة أدبية أن تنشر له.

تحدثت في مقالتي (كلنا شعراء) عن ذلك بتفصيل، وهنا سأتحدث عن طموحي وأحلامي وأنا في بداية وصولي لنيوزلندا. لا أنكر أني عانيت الكثير، واجتهدت أكثر وكان إصراري يزداد توقدًا وتوهجًا، وإيماني بأنني يجب أن أتجاوز نفسي وأطور من قدراتي. لم أهن أمام الإساءات فكنت أشعر بالفخر لأنها لم توجه لي من لدن مبدعين حقيقيين. وكانت مساندة الناقد الكبير (حاتم الصكَر) ومازالت دافعًا قويًّا لي للشعور بالمسؤولية، وأما صديقي الشاعر (صباح خطّاب) فلكثرة اهتمامه بي كتبت له يومًا: إنك كنت تحلم بالكثير ولكن صعودك للجبل ومرورك بتجربة قاسية سبع سنوات عجاف في الباكستان استنزفت منك الكثير فصرت ترى في إصراري ونشاطي بأنه نجاح لك. ولا أغفل العديد من الأصدقاء والذين مازالوا ينيرون طريقي بمحبتهم وهم كثر، فلهم جميعًا انحني وأقول إن تصويباتكم ومقترحاتكم وملاحظاتكم لم تكن يومًا وصايا بل النور الذي أخرج كتاباتي أو بعض جملها أو فقراتها من الظلمة.

نشرت في جميع المجلات الأدبية في نيوزلندا باستثناء واحدة، كما نشرتُ في مجلات إنجليزية في كل من بريطانيا والولايات المتحدة وأُستراليا وكتب عني الكثير في هذه البلدان. وحاولت الموازنة بين النشر بالعربية والإنجليزية. مؤمنًا أن النشر الحقيقي في مجلات ورقية أدبية متخصصة. لأن الشعر الجيد لا يمكن نشره إلاّ في مجلات لها تاريخها وعراقتها ومكانتها كما هي الأقلام العراقية والكرمل ومشارف الفلسطينيتين وشعر المصرية وشعر النيوزلندية ومجلة أدنبره ريفيو وغيرها من المجلات الرصينة في العالم. وهي شواهد على فرز الطالح من الصالح في الإبداع، ويوازيها دراسات وآراء كبار الشعراء والنقّاد بمنجز هذا الشاعر وذاك. وهذا رأي شخصيّ للغاية لا يتعارض مطلقًا مع مَن يرى نقيضه.

ماذا أنجزت خلال إحدى وعشرين سنة منفى؟
اعترف أولاً أن ما أنجزته هو شيء يسير ولا يضاهي ما أنجزه شعراء غيري.، حسبي أني تلميذ أتعلم من الجميع، وما فعلته وأفعله ما هو إلَّا محاولات كي لا أتراخى واستكين للدعة والغرور والكسل. ومع ذلك حين استعرض هذه السنوات أجد نفسي نشرتُ ستّة كتب من الشعر بالعربية. وثلاثة كتب شعرٍ بالإنجليزية وواحد بالأسبانية مع كتاب رحلات (مسافر مقيم) فاز بجائزة ابن بطوطة للعام 2013-2014 وكتاب سيرة عنوانه (دموع الكتابة.. مقالات في السيرة) ومجموعة من المقالات عن العراق والعروبة كهوية ثقافية صنعتها شعوب المنطقة، هي أشبه للبحوث. وبين يدي الآن أكثر من كتاب ربما انتهي من بعضها نهاية هذا العام. وكما أسلفت أعلاه فالنشر الورقي وفي المجلات المتخصصة يعد بالنسبة لي في غاية الأهمية كي لا يختلط الحابل بالنابل، فنشرت عشرات المرات في هذه المجلات وبأكثر من لغة وبلد. كما تم اختياري في عدد لا بأس به من الأنطلوجيات وبأكثر من لغة أيضًا. وهناك أربعة كتب عني ما بين حوارات ودراسات. كما كتب عن تجربتي الشعرية المتواضعة ما يقارب من مئتي شاعر وناقد وباحث، أشعر بامتنان كبير لهم جميعًا فبفضل كتاباتهم زاد وعيي بمسؤولية الكتابة وتجاوز ذاتي. والتمس العذر منهم جميعًا فمن الصعب تدوين أسمائهم كاملة.

ثمة جوائز غير مرئية يحصل عليها الشاعر في مشواره. سأذكر حالتين على سبيل المثال الأولى هي حين كتب لي صديق كان يعيش في لندن يخبرني أن مجلة أدنبره ريفيو تنوي إصدار عدد خاص عن الثقافة العراقية، وسألني إمكانية إرسال قصيدة أو أكثر لي. مما يؤسف لم أسأله لماذا راسلني وهل راسل غيري. حين ظهر العدد للوجود اكتشفت أن قسم الشعر تم اختيار ثلاثة شعراء فقط هم عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وكاتب هذه السطور.

وكنتُ أظنُّ أنَّني سأجد أضعاف هذا العدد من الشعراء. لا يعني هذا أنني الأفضل، بل أؤمن أن الكثير من الاختيارات لا يمكن أن تكون دقيقة، حيث الشعر العراقي مليء بالشعراء المهمين، أكبر وأصغر سنًّا مني وتجاربهم تستحق الإشادة والاهتمام والترجمة والنشر، وهي مفخرة للشعر العراقي والعربي. وما أنا إلاّ أحد مئات الشعراء، إن لم يكن الآلاف كما ذكرت ذلك لحضور أول أمسية لي في نيوزلندا في الثاني من حزيران 1998.
الحالة الثانية: جاءني شخص من عمّان على موقع التواصل الاجتماعي - وهو سعيد للغاية على حد تعبيره -لأنه وجدني، فقد كان يبحث عني منذ أن قرأ لي في مجلة الكرمل. فاستغربت وقلت له : ولكني لم أنشر في الكرمل، فأردف قائلاً : ألستَ باسم فرات وعنوان قصيدتك (عناق لا يقطعه سوى القصف)؟ ، أجبته نعم، فأخبرني أنه قرأها منشورة في مجلة الكرمل عام 2004 علمًا أن القصيدة منشورة سابقًا في جريدة القدس العربي و في ديواني الثاني (خريف المآذن) .

هل خططت لكل هذا؟
أزعمُ أن كلمة (نعم) هي أقرب دقةً للإجابة على السؤال في أعلاه. فمنذ خروجي من العراق – لاسيما وصولي للعاصمة النيوزلندية (وَلْنِغْتُن) - وأنا في سباق مع الزمن خشية أن تمر الأعوام وأجد نفسي لم أفعل شيئًا، أو اكتفي بمنشورات قليلة وربما بكتاب أو كتابين، لا يلتفت لهما أحد. وكنت ومازلت أصرّ على أن النشر الرقمي لأهميته والحرية الكبيرة التي يمنحها للكاتب، لكنه من جهةٍ أخرى يمنح فرصًا متساوية لكُتّاب الدرجة العاشرة مع كُتّاب الدرجة الأولى. ممَّا يولِّد الشعور بالعظمة ونمو النرجسية المفرطة عند غير الموهوبين وأصحاب الكتابة المتواضعة.

من هنا ركّزت على النشر الورقي كتبًا وأنطلوجيات ومجلات وجرائد مع عدم إهمال الرقميّ لأهميته. ولكن كنتُ أخشى أن تمر كتبي مرور الكرام كما نوّهتُ أعلاه، فلا يلتفت لها شعراء ونقاد. ومع كل كتاب تتملكني - قبيل وبعد الإصدار -هواجس القلق والخوف وكأنه أوَّل كتاب لي. مثلما تزداد وطأة المسؤولية مع كل مقالة ودراسة وإشادة بما أنجزه، وأضعها دافعًا علَّني أكون أهلاً لآراء هؤلاء الأساتذة الذين شرفوني بثنائهم. ولست ممن يضع الآراء العدوانية والجارحة والمسيئة تحت قدميه ليتطاول، بل أصرُّ على أن أكون (إنسانًا) حتى مع أصحاب هذه الآراء. كي لا انزلق إلى المهاترات وإلى مستوى وعيهم ودوافعهم.

كان يؤرقني أن تمضي عليّ في بلدان اللجوء والهجرة أكثر من عشر سنوات ولم أنشر عبرها شيئًا يستحق النشر. وأكثر من ست عشرة سنة وليس لي من منجز يُذكر. ويمكن القول إنَّ هذه الحقبة هي مدة الدراسة كاملة في العراق ؛ أي منذ بداية دخول الابتدائية وحتى إنتهاء الدراسة الجامعية الأولية. ولكن مرور عشرين سنة على وصولي لنيوزلندا سيكون مؤلمًا لي لو ليس ثمة تطور في أدواتي الكتابية على مستوى الشعر والنثر معًا وأن البيئة الجديدة لم تمنح وعيي وكتاباتي آفاقًا جديدة أكثر رحابة وإنسانية مما كتبته في العراق والأردن وبداية توطيني في نيوزلندا. وكل هذا سيكون لا قيمة له لو لم يجد له هوى في أفئدة النقاد والشعراء والمثقفين.

وصلتُ نيوزلندا كما أسلفت في الحادي والعشرين من آيار 1997 ووصلت العاصمة ( وَلْنِغْتُن ) في الرابع والعشرين من تموز من العام نفسه. وفي عام 2017 سيكون مضى على وصولي عشرون عامًا، وإن كنت حققت في ضوء سبعة عشر عامًا شيئًا ما ولو متواضعًا؛ فإن الأحلام تكبر مع كل إصدار مثلما تكبر المسؤولية مع كل ثناء وإشادة من أساتذتي الكبار الذين تعلمت منهم حتى ممَّن هو أصغر سنًّا مني. هؤلاء الأساتذة والأصدقاء سأبقى أنظر لهم نظرة امتنان فبفضلهم أولاً وبفضل تنقلي بين بلدان وثقافات عديدة حققت بعضًا من طموحاتي التي لا فضل لي فيها ولا أهمية لها على بساطتها وتواضع تجربتي لولا تجشمهم عناء الكتابة عنها إن كان بشكل رسمي من خلال النشر العام أو من خلال الرسائل والملاحظات والمقترحات بشكل شخصي.

خاتمة القول
كل ما ذكرته أعلاه يخصني ولا أعني به سواي. فمن اختار العزلة والعزوف عن النشر فهذا حقّه الذي احترمه، ومَن يرى أن الكتابة بشكل يومي هي خلاص له وفيها فائدة كبيرة للغاية فوجهة نظره احترمها بمقدار احترامي لوجهة النظر المعاكسة التي ترى الزهد بالكتابة كما بالنشر أكثر حصافة للكاتب وتنجيه من منزلقات الغزارة. ومَن اعتبر النشر الرقمي أفضل ويتماشى مع العصر ويحررنا من مزاجية المحرر الثقافي في النشر الورقي، ويبعدنا عن "جشع" الناشرين فهو محقّ تمامًا فيما يراه. لكل رؤيته ونظرته للأمور، والجميع على صواب، والذي لم ينشر يومًا في مجلات لها قيمتها العلمية والثقافية لا يعني أنه ليس شاعرًا مهمًا وكاتبًا مبدعًا. أعرف العديد من الشعراء والكُتّاب والباحثين ينشرون على موقع التواصل الاجتماعي، ما يستحق النشر في أرقى المجلات المتخصصة عالميًّا، وبعض هؤلاء أتابعهم وأذهب إلى متصفحاتهم لأقرأ ما فاتني لأهمية ما يكتبون إن كان شعرًا أو مقالات أو بحوثًا.

أهمّ ما تعلمته في حياتي عمومًا وفي الإحدى والعشرين سنة الماضية، هو أن لا أستعير آراء الآخرين، وأن أكتب نفسي، أي أكتب قصيدتي أنا. كذلك فيما يخص القراءة، لم انجذب للمسؤول المؤدلج دينيًّا أو حزبيًّا، كي يوجهني بل كنتُ ومازلت أنصت للإسئلة التي تؤرقني، وعادة ما وجدت الأجوبة تناقض المطروح والمتفشي في اللاوعي الجمعي. وهذا ما جعل نتائج قراءاتي تختلف عما هو سائد فيما يخص فهمي للمواطنة وحقوق الفئات الأقل عددًا. مما أوقعني في إشكالات مع مَن ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا صدى للأوامر الحزبية والمنبرية.



#باسم_فرات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البدايات
- عرض لكتاب ثورة العشرين: قراءة جديدة في ضوء الوثائق التاريخية ...
- قراءة في كتاب الحمس والطُّلْس والحِلَّة للباحث زكريا محمد
- بالمطر أغسل ذاكرتي
- ثلاث قصائد حب
- قراءة في كتاب ينابيع اللغة الأولى لسعيد الغانمي
- ديوان بلوغ النهر
- سُكّان أصليّون ... سكّان طارئون
- تلاميذ ُ هُندوري
- تقريظ باشو
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 7
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 6
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 5
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 4
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 3
- العراق .. الجغرافيا المُغَيّبَة 2
- العراق .. الجغرافيا المغيبة1
- باسم فرات: العنف خلق تراجيديا الإنسان العراقي الضعيف لوقوعه ...
- المستقبلُ وهوَ يقفلُ راجعاً
- البِراق يصلُ الى هيروشيما


المزيد.....




- السعودية.. الديوان الملكي: دخول الملك سلمان إلى المستشفى لإج ...
- الأعنف منذ أسابيع.. إسرائيل تزيد من عمليات القصف بعد توقف ال ...
- الكرملين: الأسلحة الأمريكية لن تغير الوضع على أرض المعركة لص ...
- شمال فرنسا: هل تعتبر الحواجز المائية العائمة فعّالة في منع ق ...
- قائد قوات -أحمد-: وحدات القوات الروسية تحرر مناطق واسعة كل ي ...
- -وول ستريت جورنال-: القوات المسلحة الأوكرانية تعاني من نقص ف ...
- -لا يمكن الثقة بنا-.. هفوة جديدة لبايدن (فيديو)
- الديوان الملكي: دخول العاهل السعودي إلى المستشفى لإجراء فحوص ...
- الدفاع الروسية تنشر مشاهد لنقل دبابة ليوبارد المغتنمة لإصلاح ...
- وزير الخارجية الإيرلندي: نعمل مع دول أوروبية للاعتراف بدولة ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - باسم فرات - الذكرى الحادية والعشرون لخروجي من العراق