أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد زكريا توفيق - نيتشة - 1















المزيد.....

نيتشة - 1


محمد زكريا توفيق

الحوار المتمدن-العدد: 4588 - 2014 / 9 / 29 - 00:32
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



في محراب بانثيون الفكر الغربي، في القرن التاسع عشر، يتصدر المشهد ثلاثة عمالقة، هم: كارل ماركس (1818-83)، سيجماند فرويد (1856-1939) وفريدريك نيتشة (1844-1900).

أفكار ماركس، في إصلاح النظام الاقتصادي والاجتماعي، وفرويد في التحليل النفسي للعقل الباطن والحياة الجنسية للفرد، سادت وتم استيعابها جيدا في القرن العشرين.

لكن أفكار نيتشة المقلقة والمرعبة، ظلت طافية على السطح الواعي للفكر الحديث طول الوقت. تخيل مفكرا يحدثك عن لاشئ سوى أحداث خارج نطاق الممكن والمعقول، أو عن تجارب فريدة نادرة لا تحدث، أو عن لغة لا تسمع، مفرداتها التجربة، والتجربة وحدها.

الآن وبعد وفاته بأكثر من قرن من الزمان، بدأنا ندرك ببطء مدى التغيير الذي سببه نيتشة في فهمنا العميق للعلوم والأخلاق، كما تصورهما وكما تنبأ بهما.

في 15 أكتوبر عام 1844م في روكين، ساكسون، رزق قس بروتستانتي بأول مولود ولد له، فريدريك ويلهيلم نيتشة. العائلة من أصل أرستوقراطي بولندي، أنتجت العديد من رجال الدين. كان من الطبيعي أن ينحو المولود الجديد، عندما يكبر، نفس المنحى. لكن ما حدث هو العكس تماما.

عندما كان فريدريك طفلا عمره 5 سنوات، سقط والده ووقع على رأسه، مما تسبب في وفاته. بعدها بسنة واحدة، انتقلت العائلة إلى نومبرج. كان الطفل الصغير يميل إلى الشعر ويحب الموسيقى. في المدرسة كانوا يسمونه "القس الصغير". في البيت، كان يعيش مع أمه وأخته وجدته وعمتين.

عام 1858م، في سن 14 سنة، حصل نيتشة على منحة دراسية للدراسة في المدرسة الأكاديمية المشهورة بفورتا بالقرب من نومبيرج. هناك، نما عشقه للدراسات الكلاسيكية. تميز في اللغتين، اليونانية واللاتينية، القديمتين. كان مسحورا بأفلاطون، الفيلسوف اليوناني، واسخيليوس، الكاتب المسرحي اليوناني. ومن لا يسحر بهما؟

عندما ترك نيتشة بفورتا عام 1864م، لم تكن قد ظهرت عليه بوادر تنمو عن أفكاره القادمة. قام بشكر أساتذته، وأبدى امتنانه وشكره للرب وللملك. كما يفعل كل الطلبة المؤدبين.

في أكتوبر 1864م، في سن العشرين، التحق نيتشة بجامعة بون لدراسة اللاهوت والفلسفة والفيلولوجي (علم فقه اللغة). لكنه سرعان ما نبذ دراسة اللاهوت.

بين أسباب ذلك في خطاب له أرسله إلى اخته إليزابيث. إذا كنت تبغين السعادة والسلام والهدوء النفسي، إذن عليك بالإيمان. أما إذا كنت تنشدين الحقيقة فعليك بالتساؤل.

في السنة التالية، انتقل إلى ليبزيج لكي يتبع استاذه ريتشل، بعد أن قبل ريتشل وظيفة مدرس بالجامعة. في ليبزيج، في متجر للكتب المستخدمة، اكتشف نيتشة بالصدفة كتاب "العالم كإرادة"، تأليف الفيلسوف الألماني شوبينهاور (1788-1860). كل سطر في الكتاب، مصبوغ بالفكر الإلحادي المعادي للأديان.

من هنا، يقول نيتشة، ومع كل سطر، اسمع صرخة الاستنكار والانكار والاستسلام للإنسان البائس. لقد رأيت في الكتاب، مرآة تعكس صور مرعبة للعالم وللحياة نفسها وحياتي وروحي، صور واضحة كل الوضوح.

بالنسبة لشوبنهاور، وكذلك الفيلسوف العظيم كانط قبله، هناك فرق أساسي بين العالم كما يبدو لنا خلال حواسنا (فينومينا)، والعالم على حقيقته (نومينا). العالم الظاهري، هو مجرد واجهة أو تعبير عن الحقيقة، وليس الحيقة نفسها.

مياه المحيط تبدو لنا زرقاء، لأن السماء الزرقاء تعكس لونها على سطحها. لكن في الحقيقة، مياه المحيط ليست زرقاء. والسماء زرقاء بسبب انكسارات الضوء في الغلاف الجوي. خارج الغلاف الجوي، السماء سوداء كالكحل. الحقيقة شئ مختلف عن ما تدركه حواسنا.

لكن ماهي الحقيقة؟ الحقيقة هي في نظر شوبنهاور قوة خفية أسماها "الإرادة" أو "القدرة". الإرادة هنا، ليست الإرادة الإلهية، ولكن لها نفس المفعول. بمعني آخر، هي "الإرادة الإلهية" بدون إله. هناك إرادة وراء حركة الكواكب. كذلك، وراء حركة جسدي الظاهرة، توجد ارادتي ورغبتي.

هذه الإرادة، خارجة عن عالم الزمان والمكان. إنها ليست شئ فيزيائي بالمرة. لكنها وراء كل الأشياء الثابتة والمتحركة في هذا الكون. هذه الإرادة، الغير فيزيائية، والتي توجد خارج نطاق الزمن والمكان، هي البديل للإله في نظر شوبينهاور.

لكن هذه الإرادة، هي سبب كل هذا الشقاء والمعاناة. لأن الإرادة لا تكتفي ولا تقنع، ولا حدود لطمعها وجشعها. دائما تطلب المزيد. (إننا هنا نلاحظ صدى تعاليم جوتاما بوذا).

لهذا نحن محكوم علينا بملاحقة لا تنتهي، لرغبات لا تنتهي مستحيلة. نحن في الواقع، نقوم بمواصلة النفخ في فقاعة صابون، لكي نجعلها أكبر حجما، بقدر الإمكان، ونحن نعرف مسبقا أنها سوف تنفجر في النهاية إلى لاشئ.

الرغبات التي لا تتحقق، والجهود اليائسة، وخيبة الأمل التي يسوقها القدر، وأخطاء الحياة، وزيادة المعاناة، والموت في النهاية. هذا، عند شوبينهاور، يعني اليأس، والاستسلام حتى نستطيع تحمل الحياة بقدر الإمكان.

لكن نيتشة، رفض الاستسلام لليأس، ورفض نظرة شوبينهاور الحزينة والتي سمي بسببها فيلسوف التشاؤم. رفض نيتشة أيضا فكرة إن الكون يدار بإرادة عمياء، لا هدف لها ولا معنى. كان يقول، إذا كان شوبينهاور يدعو للتقشف والزهد ورفض الحياة، فأنا سوف أدعو إلى العكس وتأكيد الحياة.

في عام 1867م، دعي نيتشة لأداء الخدمة العسكرية في سلاح المدفعية بالجيش البروسي (جزء من ألمانيا حاليا). أثناء الخدمة، سقط من على صهوة جواده وأصيب قفصه الصدري بجروح بالغة.

منذ طفولة نيتشة، وهو معتل الصحة، كانت تسوء صحته مع الوقت. أثناء مرضه، بدأ يفكر في طبيعة الحياة الأكاديمية وفقه اللغة موضوع تخصصه.

في عام 1867م، كتب يقول إن عالم فقه اللغة يبعده عن مشاكل الحياة الملحة. وإن الحياة الأكاديمية، تقضي على غريزته في الدفاع عن النفس، وتجعله يدافع فقط عن الكتب والمخطوطات. إذن فلتسقط الحياة الأكاديمية. كل الكتابات عديمة الجدوى إن لم تحفذ على فعل شئ ما ياسع على الحياة.

في ذلك الوقت، نشر نيتشة عدة مقالات عن الحضارة الإغريقية القديمة. هذه المقالات، لفتت أنظار إدارة جامعة بازل. في العام التالي، 1868م، سألت جامعة بازل البروفيسور ريتشل عما إذا كان الهر نيتشة يصلح لتدريس مادة الفيلولوجي (علم فقه اللغة).

كتب نيتشه يقول: "مع شعور مختلط، وكثير من التملق، قبلت وظيفة مدرس لفقه اللغة القديمة في سن 24 سنة". أساتذته في جامعة ليبزيج، قرروا أن يمنحوه الشهادة بدون الامتحان النهائي. حقا هذا الطالب، يمتلك ذكاء عقليا غير عادي.

في بازل، قام بالتدريس لمدة عشر سنوات. أثناءها، كانت سعادته بالحياة الأكاديمية تفتر يوما بعد يوم. هذا مع تدحدر صحته، أدى في النهاية إلى استقالته عام 1879م وهو في سن 34. ليست هناك حقيقة أصيلة في الحياة الأكاديمية.

كتابه الأول، مولد التراجيديا، ظهر عام 1872م. لم يخدمه، بل تسبب في ابعاده عن المحفل الأكاديمي. التعليق الوحيد عليه، جاء يقول: "أي واحد يكتب مثل هذا العمل، يكون قد أنهى حياته كأستاذ أكاديمي."

من السهل معرفة لماذا؟ لأن الكتاب يدمر التفرقة والفصل التقليدي بين الفلسفة العقلانية والفنون الخلاقة. الكتاب يبين:

1 أصل التراجيديا الإغريقية التراجيدية

2 الفرق بين التفكير العقلاني والإحساس الجمالي.

3 لماذا عالم الجمال في حياة الإنسان شئ أساسي، يعلو على عالم العقلانية.

4 لماذا الثقافة الحديثة مريضة، وكيف يمكن علاجها.

إننا نستخدم من أدوات الثقافة، الاستعارة والحدوتة والعظة والبلاغة والشعر والنثر. لكن نيتشة يستخدمها للتعبير العقلاني. كما إنه يقوم بهز عرش اللغة والشعر، الشعر الذي يشبه أشعار شيللر. ويمهد له بالموسيقى التي تجعل العقل يتقبله.

ديونيسوس، هو إله الخمر عند الإغريق. مفرط في البهجة والسعادة الحسية، بذلك يمثل الإنسان البدائي. أتباعه، ينسون أنفسهم ويعطلون اللغة، وينخرطون في الرقص الشاطح، مثل الزار عند النساء والذكر عند الصوفية. الموسيقى وشرب الخمر حتى الثمالة، هي وسيلتهم، وطلب الوجد والنرفانا هي غايتهم.

إنهم يبغون، كما يقول نيتشة، العودة إلى رحم الوجود والهروب من سجن النفس. ممارسة هذه الطقوس التي وصفها يوريبيديس الكاتب المسرحي الإغريقي بأنها فوضى وتلوث، تسبب الرعب والدهشة لمجتمع الآلهة، هي في نفس الوقت، تحمينا مؤقتا من الإحساس بالعزلة التي لا مهرب منها.

يذكرنا نيتشة بأسطور الملك ميداس، الذي طلب من سيلينوس، رفيق ومعلم الإله ديونيسوس، أن يدله كيف يصل إلى أعلى مراتب السعادة والنجاح. تجهم وجه سيلينوس وصمت عن الكلام برهة. لكن تحت إلحاح الملك ميداس، انفجر سيلينوس ضاحكا، ثم قال له:

"أيها الفاني المسكين، لماذا تجبرني على إخبارك بشئ لن تقدر عليه؟ السعادة التي تطلبها ليست في متناول يديك. وهي أن لا تكون قد ولدت من الأصل، كأنك لم تكن شيئا. لكن أفضل خيار لك بعد ذلك، هو أن تموت في التو واللحظة."

كيف تحمل الحضارة الهيلينية بين طياتها مثل هذه الحقائق المرعبة؟ لكن تأتي المساعدة من إله آخر من آلهة الإغريق، هو أبوللو. أبوللو، إله الشمس والنظام والعقلانية، يمثل الحضارة الإنسانية في أجل صورها.

ديانة أبوللو، تدعو إلى التفاؤل. تطلب الصيغ والصور الجمالية والفهم العقلاني. هي سلاحنا الوحيد للتغلب على اليأس والمستقبل المرعب الذي تنبأ به سيلينوس.

لكي يعيش الإغريق، لابد لهم من الأمل. لذلك، كان عليهم أن يوجدوا هذا الأمل. كيف يجدوه في عالم فاني مصيره للزوال؟ لقد وجدوه أمامهم في الأساطير الإغريقية الساطعة المليئة بالقوة والشجاعة والجمال والقيم النبيلة.

من هذه الأساطير، تعرفوا على أبوللو، وهو إله عظيم يمكن أن يساعدهم في التغلب على يأسهم. توصلوا أيضا إلى فوائد التحكم في الشهوات والعناية بالبدن، ومعرفة النفس، والاعتدال في كل شئ. الوسطية كانت هي طريق الفيلسوف العظيم أرسطو.

لكن ما هو التأثير الجمالي، الناتج من وضع قوى الفن الدايونيسية مع قوى العقلانية والتصور الأبوللية جنبا إلى جنب، بعد أن كانتا منفصلتين؟ أو بمعنى آخر، ما هي العلاقة بين الموسيقى (دايونيسوس) و بين العقل والصورة والتصور (أبوللو)؟

يخبرنا شوبينهاور، بأن الموسيقى تختلف عن باقي الفنون، في كونها ليست نسخة من صورة العالم كما تبدو لنا (فينومينا)، لكنها نسخة من الإرادة، أو الروح التي تسير هذا الكون. نظرية الأوتار في الفيزياء الحديثة تقول، بأن أصل كل شئ هي أوتار صغيرة جدا في حالة عزف مستمر.

لكن، ما العلاقة بين الموسيقى والأسطورة؟ التصور والعالم المرئي والشعور، كلها أشياء تتأثر بشدة بالموسيقى. هذا يعني أن الفن الدايونيسي يؤثر في العالم الأبوللي. الموسيقى تحضنا على استخدام رموز بديهية من عالم دايونيسوس. ثم تعلي من شأن هذه الرموز. الموسيقى تنتج الأسطورة، ومن الأسطورة تتولد التراجيديا.

يصف نيتشة التراجيديا بأنها "صيغة جديدة للوعي الجمالي". النظرة التراجيدية للحياة، ليست مجرد طريقة تفكير لفهم العالم، ولكن طريقة لتصور هذا العالم. الموسيقى وحدها هي سلاحنا الوحيد لهذا التصور.

الروح الدانوسية في الموسيقى، تجعلنا نصل إلى الحقيقة البائسة، وهي إن كل شئ زائل. كل شئ يولد، يجب أن يستعد لمواجهة فنائه. إنها تجبرنا على رؤية الرعب الذي نجد أنفسنا فيه، بدون أن نتحول إلى تماثيل من الملح أو الصخر لمجرد النظر.

فقط عن طريق الموسيقى، يمكنا فهم رسالة سيلينوس إلى الملك ميداس. إذا كانت الأساطير الإغريقية ليس لها تأثير كبير علينا اليوم، فهذا لأننا لا ندركها إلا عن طريق العرض المسرحي بدون موسيقى. الموسيقى التي كانت تصاحبها في الماضي، لم يعد لها وجود اليوم.

هذه النظرة الجمالية للعالم الدايونيسي البدائي، تم كبتها بالحضارة الهيلينية لاحقا، كما يظهر من فلسفة سقراط (469-399 ق م). فسقراط كان يرفض الفنون ويعتبرها تقليد ردئ للحقيقة، وتزوير للحياة نفسها. وكذلك تلميذه أفلاطون (427-347 ق م)، مما تسبب في اختطاف الفلسفة الغربية وجعلها أسيرة للعقلانية وحدها لمدة تزيد عن 2000 سنة.

لذلك لن نتعجب عندما يخبرنا نيتشة بأن وعي الرجل الحديث هو وعي هزيل مريض. الفن قد تحول عندنا إلى مجرد تسلية وإضاعة وقت. محكوم بمفاهيم جوفاء. فقد الروح الدايونيسية، أو أصبحت هذه الروح مكبوتة. هذا الفقد، يبعدنا عن الإلهام الحسي والحقيقة الروحانية التي ينشدها المتصوفون. سيجماند فرويد لديه الكثير لكي يقوله لنا عن موضوع الكبت لاحقا.

ما معنى هذا؟ وجد نيتشة أفضل الأعمال التي تبين أفكاره هي أوبرات صديقة ريتشارد فاجنر (1813-1883م)، مع أفكار شوبينهاور. لكنه رفض هذه الأعمال مؤخرا ومعها فكر شوبينهاور.

في بداية حياته في بازل، كان نيتشة صديقا حميما لفاجنر وزوجته الموهوبة كوسيما. وكانت أول زيارة لهما عام 1869م. وكان نيتشة يعتبر فاجنر شخصية عظيمة، وروح رائعة. يصفه بأنه رجل موهوب، يستحق كل الحب والإعجاب، متحمس لكل المعارف.

لقد أخبره فاجنر، بأن كتاب "ميلاد التراجيديا" هو أفضل الكتب التي قرأها في حياته. وكان نيتشة يعتقد بأن أعمال فاجنر، سوف ينتج عنها ميلاد جديد للثقافة الألمانية. كل هذا كان يناسب طموحات نيتشة.

في البداية كان نيتشة يتوافق ويؤيد مساعي فاجنر في إنشاء المسرح القومي للفنون في بايريوث عام (1870م). وكان يعتقد بأن موسيقى فاجنر الدرامية، هي بعث للعصر الذهبي للفنون الإغريقية، ومنقذ للثقافة الألمانية. لقد وجد في أعمال فاجنر، ما كان يحلم به بالنسبة للفنون والموسيقى.

عندما عرض فاجنر عمله العظيم "خاتم نيوبلونج" في بايرويت في أغسطس عام 1876م، أصيب نيتشة بالفزع. ثم بدأ يفسر ة أعمال فاجنر الموسيقية على إنها تعبير دايونيسي عن النفس. لأنه خلالها كان يسمع صوت الزلازل الأرضية، التي تحطم قيود الثقافة الحديثة. لكنه نيتشة، وليس فاجنر، هو الذي خلق زلازل الفكر الحديث.

مع ظهور أوبرا فاجنر، بارسيفال عام 1877م، جاءت النهاية الكاملة لعلاقة نيتشة بفاجنر. لأن فاجنر في هذا العمل، يمجد المسيحية والرموز الدينية في العالم.

بارسيفال عمل مريض. عمل ديني عن "الكأس المقدس". وهي أصعب أعماله فهما. النص يعتمد على أسطورة مسيحية من القرن الثالث عشر، عن مغامرات فارس بهذا الاسم.

الأوبرا تصور الصراع بين المسيحية والوثنية، بين الخير والشر، بين النور والظلام. لذلك، اعتبرها الفيلسوف نيتشة عملا خبيثا. جعلت "فاجنر" من وجهة نظر "نيتشة"، يسقط في أحضان الفكر الظلامي الديني. بعد أن كان يعتبره رمزا للتحرر والثورة على الظلم والعبودية.

بعد أن كان فاجنر هو البطل المغوار في نظر نيتشة، سقط من عليائه على الأرض، وبات كسيحا عاجزا مكسور الجناح، ذليلا بائسا لا يرجى منه خير أمام الصليب المسيحي. واحر قلباه، لقد صار فاجنر متدينا ورعا. يضع قيودا على العقل والتساؤل. وأصبح مأمورا بالإيمان والامتثال، وإلا.

في نفس الوقت، بدأ نيتشة يبعد نفسه عن تشاؤم فلسفة شوبنهاور. وسيصبح شوبينهاور وفاجنر والمسيحية، مرادفات عند نيتشة، تمثل التمزق والضعف والعدمية ورفض الحياة.

ما يعرف ب"الشفقة" و"التضحية بالنفس" وما شابههما، أصبحت أمور في غاية الخطورة بالنسبة للجنس البشري. لأنها إغراءات. ولكن، إغراءات لأجل ماذا؟ إغراءات للاشئ. هنا الإرادة تعمل ضد الحياة نفسها.

الإنفصال عن فاجنر كان مؤلما غاية الألم بالنسبة لنيتشة. كان يقول إأنني لم أعد أستطيع أن أقضي معه أوقاتا سعيد كما كنا في الماضي. أيام كانت مليئة بالثقة والبهجة والرقي والفكر. لحظات لا يمكن شراؤها بالمال بأي ثمن.

لكنني يجب أن أقف ضد كل شئ مريض داخل نفسي وفكري. بما في ذلك فاجنر وشوبنهاور وكل ما تنتجه الثقافة الحديثة. هذا الإحساس بالعزلة، مع التدهور في صحته، صداع مستمر وعمى متقطع، كان يحتاج إلى الراحة وعلاج بحمامات البخار ورحلات عبر الجبال.

في عام 1875، تعرف نيتشة على صديق موسيقى شاب يدعى هينريتش كوسيهتز، الذي أعطاه اسم الشهرة "بيتر جاست". كان يملي عليه كتاباته، ويساعده في نسخ مؤلفاته.

وللحديث عن نيتش وأعماله بقية، فإلى اللقاء.



#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- امفيتريو، لبلاوتوس
- مرة أخرى، الأزهر وفهم نظرية التطور
- الأخوين ميناكمي، لبلاوتوس 4/4
- الأخوين ميناكمي، لبلاوتوس 4/3
- الرقص الشرقي والكبت الجنسي
- الأخوين ميناكمي، لبلاوتوس 2/4
- الأخوين ميناكمي، لبلاوتوس 1/4
- الأخلاق عند أرسطو، والصداقة عند مونتين
- شيخ الأزهر ونظرية التطور
- هل ينتصر الدين في معركته ضد الإلحاد؟
- جرة الذهب، لبلاوتوس
- الحل الأمني وحده لا يكفي لمحاربة الإرهاب
- سنة سودة ولا أمل في إصلاح ديني
- أرسطو، فكر تحتاجه بلادنا (2)
- أرسطو، فكر تحتاجه بلادنا
- البيت المسكون، لبلاوتوس
- الخديوي إسماعيل المفترى عليه
- الكستيس، ليوريبيديس - هل يمكن أن تفدي الزوجة زوجها بحياتها؟
- نساء طروادة، ليوريبيديس - صرخة ضد الحرب والعبودية
- إفيجينيا، ليوريبيديس - التضحية بالأبناء إرضاء للرب


المزيد.....




- هل قررت قطر إغلاق مكتب حماس في الدوحة؟ المتحدث باسم الخارجية ...
- لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في ...
- القضاء الفرنسي يستدعي مجموعة من النواب الداعمين لفلسطين بتهم ...
- رئيسي من باكستان: إذا هاجمت إسرائيل أراضينا فلن يتبقى منها ش ...
- -تهجرت عام 1948، ولن أتهجر مرة أخرى-
- بعد سلسلة من الزلازل.. استمرار عمليات إزالة الأنقاض في تايوا ...
- الجيش الإسرائيلي ينفي ادعاءات بدفن جثث فلسطينيين في غزة
- علييف: باكو ويريفان أقرب من أي وقت مضى إلى اتفاق السلام
- -تجارة باسم الدين-.. حقوقيات مغربيات ينتقدن تطبيق -الزواج ال ...
- لأول مرة.. الجيش الروسي يدمر نظام صواريخ مضادة للطائرات MIM- ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد زكريا توفيق - نيتشة - 1