أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نرمين خفاجي - الفخار والخزف ..من الطين ينطق التاريخ والفن والجمال















المزيد.....



الفخار والخزف ..من الطين ينطق التاريخ والفن والجمال


نرمين خفاجي

الحوار المتمدن-العدد: 4578 - 2014 / 9 / 18 - 14:32
المحور: الادب والفن
    


"كان صانع الفخار يستقي بعض موضوعاته في النحت, بإلهام خفي من أنبياء غامضين, يتراءون له في الحلم.. في الليالي التي يغيب فيها القمر, وتصبح أضواء النجوم شحيحة؟! .. فكانت هذه الأعمال بالذات تجيء مشفرة برموز، هي مرجع مباشر لإماطة اللثام, عن ما يريد أن يقول بالضبط في كل أعماله".
(أحمد ضحية –رواية صانع الفخار)
اكتشف المصرى القديم منذ أقدم العصور روح الطمى الذى يجلبه نهر النيل ويراكمه فى واديه الخصيب، بتشكيله وحرقه فى أفران تنضجه وتمنحه الصلابة واللون البنى الغامق ذو الفوهة المحروقة أو البنى بدرجاته، الذى ميز فخار أرض النيل، وميز الحضارات عن بعضها البعض، فأنتج على مر الزمن أوانى وأدوات وبلاطات وتماثيل ذات أشكال بديعة تحمل فوق سطحها نقوشا تمثل بيئته ورموزه الدينية، وتزخر المتاحف فى مصر والعالم بتحف من الفخار المصرى من نقادة بقنا ودير تاسا والبدارى بأسيوط ومرمدة بنى سلامة شمال القاهرة والعمرى بحلوان وغيرها من الأماكن، ومن فرط أهمية الفخار وقدمه تحول لأداة للتأريخ، كما استخدمت شقف الفخار فى التدوين والكتابة وتسمى "أوستراكا"، مما أضاف للفخار بعدا آخر بجانب قيمته الحياتية والجمالية فنقل إلينا بعضا من تفاصيل حياة المصرى القديم الاجتماعية. ولأن الفخار رافق الإنسان فى معيشته اليومية وطقوسه الدينية وحياته فى العالم الآخر كأثاث جنائزى لذلك نسجت حوله أساطير وحكايات، كما دارت حوله أمثال شعبية وأغانى ومواويل، سكنت وجدان وأفكار المصريين، فاستمر بعضها واندثر البعض الآخر، وتطور جزء منها ليصطبغ بصبغة كل عصر عاشه المصريون، ومنها هذه الحكاية التى يتداولها كثير من أهل الحرفة خصوصا أهل الحرفة بفاخورة منطقة مصر القديمة المعروفة بالفسطاط.
"يحكى أن رجلاً كان يعيش مع زوجته عيشة هانئة، ومرضت الزوجة مرضا أعاقها عن الإنجاب، خافت المرأة أن يهجرها زوجها من أجل أن يتزوج من إمرأة أخرى ينجب منها الذكور والإناث، ولما كان الرجل متيما بها وفياً لعشرتها فما كان منه إلا إن قام " بإخصاء " نفسه حتى تطمئن روحها، وتمر الأيام وتشفى الزوجة من مرضها، وصارحت زوجها برغبتها في الإنجاب، فهام الرجل على وجهه حزينا حتى التمس موضعاً بجوار كوخ الشيخ أبو السعود الجارحى بالفسطاط الذى سأله بدوره عن سبب كربه، فروى له الرجل قصته، فما كان من الشيخ إلا أن طلب منه النزول معه إلى سردابه ومكثا بداخله ثلاثة أيام وفى رواية أخرى ثلاثة أسابيع قام فيها الشيخ بصناعة عضو ذكرى من الطين الذي يصنع منه القلل و مسح عليه فأصبح كسابق رجولته وعاد إلى زوجته بفضل بركة الشيخ و سره.
وحتى يومنا هذا تأتي النساء الراغبات في الإنجاب كل ثلاثاء لزيارة ضريح "سيدى أبو الأباريق أبو السعود الجارحى" بالفسطاط معقل صناعة الفخار منذ القدم، وسيدي أبو الأباريق "أبو السعود الجارحي"عاش في القرن ال16، وكان فخرانيا يعطي العهد والأسرار لأصحاب الحرفة، وحرم على النساء العمل بها، وروى عنه أيضا انه كان يمنح النساء تمائم للخصوبة على هيئة عضو ذكرى من الفخار، تناثرت الحكايات عن سيدي أبو السعود، وتلخص الأساطير التي تدور حول كراماته المتعددة تاريخ منطقة مصر القديمة "الفسطاط"، كما أسقط عليه بعضا من فضائل الإله خنوم الفرعونى الذى كان أيضا إلها للخصوبة، حيث كان "خنوم" الإله الكبش الذي اشتق اسمه من فعل "خنم" بمعنى "يخلق" يصور فى النقوش المصرية القديمة على هيئة إنسان له رأس كبش يجلس على عجلة الفخار, ومن الطين يشكل البشر ثم ينفث فيهم أنفاس الحياة, خلطه الطين والماء والروح جعل منه أيضا إلها للخصوبة، وارتباط الفخار بقصة الخلق في الديانة الفرعونية أسبغ القدسية على تلك الحرفة، كذلك في الديانات السماوية خلق الإنسان من الطين، ففى الطين يكمن سر الخلق.
ويروى"عم رمضان صوان" -الذي ورث مهنة الفخراني أبا عن جد كما أورثها لإبنه أيضا بقرية الفخارين بمصر القديمة- عن كرامات سيدي أبو الأباريق: يحكى ان أرباب الحرفة من الفخارين القدامى كانوا يقومون بتشكيل الطين بخلطه بالزيت وليس الماء وبينما كان سيدى أبو الأباريق يجلس على عجلة الفخار ولم يكن لديه زيت لتشكيل الطين بكى وسالت دموعه على الطين وشكل الطين مخلوطا بدموعه ومن بعدها أصبح تشكيل الطين بخلطه بالماء وليس بالزيت.
الفسطاط....مدينة قديمة على حافة النهر
تقع الفسطاط (منطقة مصر القديمة) على الساحل الشرقي للنيل بمدينة القاهرة، وذكر المقريزى في كتابه المواعظ والإعتبار نقلا عن عبد اللطيف البغدادى انه كان يوجد بها " صنم عظيم الخلقة والهيئة متناسب الأعضاء‏,‏ في حجره مولود وعلى رأسه ماجور والجميع من حجر الصوان يقابل تمثال أبي الهول. ‏ويزعم الناس أنه امرأة‏,‏ وأنها سرية أبي الهول‏" ويبدو من وصف التمثال انه لإيزيس التي منحت القدسية والأهمية للمنطقة، وكان النيل قديما يصل حتى حصن بابليون أحد أهم معالم المنطقة مما وفر الطمى اللازم لصناعة الخزف والفخار، ولكونها فاخورة قديمة، ذاع صيت إنتاجها، لذلك أسس بها الفنان الراحل وشيخ الخزافين «سعيد الصدر» سنة 1958مركز الحرف التقليدية ويضم قسماً للخزف.
وقريه الفواخير أو الفخارين بالفسطاط تضم 135 ورشة منها 30 ورشة تم تطويرها وبها أفران حرق بالسولار، ويعمل بها عدد من العائلات من أهل المنطقة يتوارثون الحرفة عن الأباء والأجداد، بالإضافة لعدد من الفنانين الوافدين على المنطقة منذ عقود، ومن أشهر الفخارين بالقرية عم "رمضان صوان" المتخصص في صناعة القلل والأباريق فهو يهتم كما يقول "بالأصالة" لذلك تزخر ورشته بكل ماهو قديم بداية من "الحصالات" الفخارية الصغيرة، وحتى الأباريق والقلل بكل أشكالها وأنواعها، ومنها القلة الكسلانة، قلة نص، قلة عباسية، قلة حرملة، قلة سنبلة، قلة منجه، قلة بشكة، حيث يوجد ما يربو على ال50 نوع للقلة، اندثر معظمها مع التطور وظهور الثلاجة.
أما الإخوان أشرف ومحمد عابدين اللذان ورثا المهنة عن والدهما "محمود عابدين" فقد تخصصا في صناعة ثريات فخار ذات ثقوب على هيئة أشكال زخرفية وبلاطات السيراميك والأطباق والأواني الخزفية المسماه "أوفر جليز" وعليها آيات قرآنية وزخارف تهادت إليهم من الفن الإسلامي، ومن الفنانين التشكليين "عبد الحكيم سيد عبد الحكيم" "وناثان دوس" وله منحوتات ذات طابع حداثى، كما استلهم من الفن القبطي قنيناته ومسارجه ورموزه وطلاسمه السحرية، حيث ارتبط الفخار أيضا بالسحر والعادات والتقاليد حيث كان هناك اعتقاد بأن الطين قبل حرقه وفى أثناء تشكيله على هيئة آنيه يمكن أن تكتب عليه عبارات سحرية ضد بعض الأشخاص، ومتى جف الإناء وأحرق ثبت العمل السحرى واستمر أثره، وكان العمل السحرى يعمل أحيانا على الإناء ثم يلقى ليتفتت في قاع بئر فارغة، ولقد ظلت بعض هذه التقاليد قائمة حتى يومنا هذا، فمازال يقال عند مغادرة أي شخص غير مرغوب فيه لبيت من البيوت إن أهل البيت "كسروا وراه قلة" حتى لا يعود ثانية والقلة هنا كناية عن القلة المسحورة التي كتبت عليها أرصاد (الفن الشعبى والمعتقدات السحرية – سعد الخادم). ومن أشهر ورش الفسطاط ورشة سامى بدوى التى تلفت الأنظار من فرط جمال ألوان بلاطات السيراميك التى تزينها من الخارج، وكان يعمل ضابطا بوزارة الداخلية، ثم ترك العمل بها وتفرغ لفن الخزف خصوصا بلاطات السيراميك، بالإضافة إلى الخزاف الشهير الفنان محمد مندور الذي يبدع ويجدد في أشكال الأواني الخزفية.

القلة دي شغل ايدينا
والنيل دة فضله علينا
بهذا المقطع كان خالد صوان يدندن وهو يجلس على الدولاب يشكل الطين بمهارة وسرعة على هيئة فازات صغيرة، بينما يجلس بجانبه والده "عم رمضان صوان" الذي قام بعمل كتيب عن قدامى الفخارين من عائلات وأفراد مصنفا عمل كل منهم، وذكر فى هذا الكتيب أهم الفنانين الذين غنوا للقلل. والقلة هى أكثر إناء فخارى ذكر فى الأغاني وأشهرها على الإطلاق الأغنية التى كتب كلماتها الشاعر نجيب سرور:
البحر بيضحك ليه ...وأنا نازلة أدلع أملى القلل
قللنا فخارها قناوى .....بتقول حكاوى وغناوى
ياقلة الذل أنا ناوى ....ما أشرب و لو في الميّه عسل
ومعظم الفنانين والحرفيين بمنطقة الفسطاط بجانب تمكنهم من الحرفة، وامتلاكهم لأسرارها، هم أيضا على دراية فائقة بتاريخها وأهم أعلامها، ولديهم مخزون من الحكايات عن الفخار ينم عن عشق تشكيل الطين وحب الحرفة التى توارثوها على مدار عصور متعاقبة، مع الاهتمام بالتجديد فى الشكل والزخارف، ولأن الفخار قديما كان رفيق درب الإنسان يشاركه فى دقائق حياته اليومية خصوصا فيما يتعلق بالطهي والأكل والشرب والتخزين، لذلك ذكر في أمثال شعبية عديدة مثل "لولا الكاسورة ما كانت الفاخورة"، "ما تعيطوش على فخاركم دة له زى أعماركم"، "مش كل مرة تسلم الجرة"، "اكفى على الخبر ماجور" والماجور إناء فخارى شبه مخروطى يستخدم فى العجن أثناء الخبيز.
وفى فاخورة الفسطاط يصنع الفخار والخزف من الطين الأسوانى أو من الطين التبينى الذى يستخرج من التبين بحلوان، وبعد استخراج الطينة يتم تصفيتها من الشوائب بواسطة "غربال" وتوضع بعدها في الأحواض وتترك من أسبوع لعشرة أيام ثم تجفف الطينة وتوضع فيما يسمى ببيت الطين ثم يقوم عدد من الرجال يطلق عليهم "الدواسين" بتجهيزها للحرفى الذى يقوم بتشكيلها على الدولاب وبعد أن تأخذ القطعة الشكل المطلوب يتم حرقها بعد تجفيفها داخل ما يسمى بالفاخورة. (قدامى الفخارين والمحافظة على الفخار القديم- رمضان صوان)، وبعد حرق المنتج يسمى بالفخار، أما لو تم طليه بعد الحرق بالجليز وحرقه مرة أخرى فأنه يسمى بعد التزجيج والحرق الثانى بالخزف.
وتتميز الأدوات المستخدمة في تشكيل الطين بالبساطة الشديدة وهي:-
• الدولاب: وهو من أقدم الأدوات التي عرفها المصريين، وموجود بكل ورش الفخار لأنه الأداة الرئيسية فى عملية التشكيل، وهو عبارة عن قرصين علوى وسفلى يتصلان ببعضهما من خلال عامود معدنى رفيع ويجلس الفخرانى على مقعد بلا ظهر أمام القرص العلوى ويدير القرص السفلى وهو القرص الأكبر فى الحجم بالقدم فيدير معه القرص العلوى الأصغر والذى توضع عليه كتلة الطين المعدة للتشكيل، ثم تعمل أنامل الفخرانى فى التشكيل أثناء الدوران، وبلمسات الأصابع الماهرة تتحول كتلة الطين إلى آنية مستديرة لها ملامح انسيابية سواء كانت قلة أو غيرها من الأوانى المستديرة.
• الجارود: قطعة معدنية صغيرة بحجم الكف على شكل زاوية قائمة تستخدم فى معالجة الإناء وتنعيمه بعد أن يجف مع ضبط سمكه.
• السادف: قطعة حديد مستوية بها ثقب من الوسط يدخل فيه الحرفي إصبع يده ويستخدم في تسوية شكل الإناء اثناء تشكيله على الدولاب.
• السلاية: هى قطعة من السلك الرفيع أو من الخيط، وتستخدم لفصل الإناء الذى اكتمل تشكيله عن قرص الدولاب لتشكيل الإناء التالى.
ويوجد أشياء أخرى ضرورية تعتبر من أساسيات أى ورشة فخار كالبرميل الذى يوضع فيه الطين ويملاء بالماء ويتم التقليب حتى تمام الذوبان، وحوض ترسيب الطين فى الماء، والغربال الذى عن طريقه يصفى الطين لتخليصه من الشوائب، والمصطبة التى يعجن عليها الطين ليصبح أكثر ليونة وتجانس، بالإضافة إلى أدوات الحفر وفرش الرسم.
أما عن الأفران فى قرية الفخارين بالفسطاط فهى أفران حديثة مصنعة تعمل بالسولار.
وهناك أسرار للحرفة، ولكل حرفي وفنان بصمته الخاصة ليس فقط في الشكل والألوان ولكن في تكنيك الصناعة أيضا.


قصة حياة إناء مصنع بطريقة "أوفر حليز"
يروى محمد عابدين (صاحب ورشة بالفسطاط) الذى ورث المهنة عن والده قصة إحدى القطع الخزفية الجميلة التي صنعت بطريقة "الأوفر جليز" والتى تنفرد ورشتهم بإنتاجها:-
فى البدء كان هذا الإناء بودرة من الطين الأسوانى تم نقعها فى الماء وبعد جفافها بدأت عملية العجن الجيد للطين حتى أصبحت العجينة متجانسة تماما، يعقب العجن التشكيل على الدولاب بعد تشكيل الطين ياخذ الإناء شكله الحالى ويترك ليجف ثم يحرق في الفرن فى درجة حرارة لا تقل عن 700 درجة مئوية، وهذه هى المرحلة الأولى ويسمى الفخار فى هذه المرحلة بالبسكويت. المرحلة الثانية تسمى التجليز أو التزجيج وفيها يلون الإناء بالبطانة البيضاء وهى عبارة عن أكسيد أبيض من الجليز ثم يحرق مرة أخرى في درجة حرارة تتراوح بين 950: 1000 درجة مئوية. المرحلة الثالثة تسمى الأوفر جليز وفيها يتم رسم الزخارف على الإناء ثم يحرق مرة ثالثة.
هناك بعض الأواني التى لا تشكل على الدولاب إنما تضاف إليها الصودا فتصبح سائلة إلى حد ما وتصب في قوالب من الجبس وتترك لتجف ثم تحرق بعدها الحرقة الأولى وتمر بكل المراحل السابقة.
أشرف عابدين يرى أن دخول الفنانين واندماجهم مع الحرفيين التقليديين بمنطقة الفسطاط قد أضاف لهم كثيرا، ونقلت عدوى الفن والتجريب إليهم، مما طور كثيرا من المنتج، ولم يعد فقط مجرد وعاء أو طبق وإنما أصبح أيضا قطعة فنية. فمن أهم منتجات الخزف لدى أشرف ومحمد عابدين الأطباق الخزفية المستنسخ عليها أعمال الفنان عادل السيوى، وهناك أيضا عناصر زخرفية مقطرة من الفن الإسلامى بكل عصوره ومدارسه من العراق إلى الشام ومصر ومن الأندلس إلى تركيا وإيران فخرجت مصفاه ناطقة بألوانها الزاهية على الأطباق والأواني والبلاطات الخزفية وأهمها الكتابات العربية خصوصا الخط الكوفى، وخط النسخ، والأوراق النباتية والأزهار كاللوتس وزهرة اللالا المستوحاة من زخارف السيراميك العثمانية وهى ترمز إلى كلمة "الله"، وتحمل أطباق أخرى أشكالا حيوانية لطيور وأسماك محورة يرفرف عليها تأثيرا ساسانيا، كما لم تنس ورش مصر القديمة التى تشبه متحفا كبيرا للزخارف الإسلامية، الفن الفرعونى، فهناك قطع عليها مناظر من الفن الفرعونى لملوك أو آلهة فرعونية كالقطة أو كتابات هيروغليفية ورموز فرعونية كعين حورس.
أما الفن والتأثير القبطى فقد انفردت به ورشة "ناثان دوس" الذى يعيد إنتاج قنينات "مار مينا" الفخارية بأشكال وأحجام مختلفة مع دمج القبطى بالفرعونى فبعض قنيناته منقوش عليها عين حورس، والبعض الآخر عليها النقش التقليدى "لمار مينا" بين الجملين وحروف قبطية تمثل اسم القديس، كما أعاد إنتاج المسارج الفخارية القبطية بلمسات جديدة دمج فيها ملامح وجه أخناتون على واجهة المسرجة. وقد وقع ناثان أسيراً للوجوه المصرية، فنحتها على الطين وبعد حرقها فى الفرن خرجت هائمة على وجوهها وكأنها فرت من المقابر الفرعونية والجداريات القبطية لتستقر فى الطين بملامح جديدة تحمل بداخلها بذرة القدم مختلطة بالحداثة. ويغلب على إنتاج ناثان الفخارى بشكل عام مسحة القدم، فمعظم القطع توحى بانها خارجة للتو من حفائر المدن المصرية القديمة حتى القطع الحداثية بدت وكأنها تعبر عن الإمتداد بين التاريخ والواقع أو كأنها قطعت رحلة طويلة منذ عصور ما قبل التاريخ حتى يومنا هذا دون أن تبلى أو تهرم وأخذت فى رحلتها الطويلة من كل عصر ملامحه المميزة فولدت من جديد فرعونية قبطية مصرية خالصة.

سمير الجندى ..حالة وجد صوفى
مدارس الفخار والخزف المصرية عديدة وتتميز بالإنسيابية والبساطة المعبقة برموز دينية وسحرية وفنية تراكمت منذ أزمنة عتيقة، ومن أهم الفنانين المصريين الذين امتلكوا أسرار ومفاتيح الطين والألوان والتزجيج وأبدعوا فيها الفنان سمير الجندى الذى تتلمذ على يد الفنان "سعيد الصدر" أحد رواد فن الخزف، ورشة الفنان سمير الجندى بشارع السودان بالدقى مليئة بكنوز الفخار، من أوانى وفازات وأطباق وعرائس، تنطق بمشوار ابداعي طويل مع الطين والخزف والألوان، ومعرفة عميقة بمكنونات الزخارف الإسلامية بمختلف أنواعها وعصورها. ويشبه "الجندى" العلاقة مع الطين بتشكيله وتطويعه واستنطاقه بحالات الوجد الصوفى التى تخلق حالة من الصفاء الروحى، فالإبداع فى حد ذاته حالة صوفية. ومن المعروف تاريخيا إرتباط طوائف الحرفيين بالطرق الصوفية، فقد استمدت التنظيمات الحرفية من الطرق الصوفية شعائرها وتقاليدها وأفكارها الروحية، فالطائفة الحرفية نظام إدارى له طابع اقتصادى، بينما الطريقة الصوفية تهدف إلى الإشباع الروحى، وكانت الصلات بين النظامين تقوم على مستويات مختلفة، فكان معظم الناس ينتمون إلى النظامين معا، وأسهمت طوائف الحرف ومنها الفخارين فى الاحتفالات العامة والخاصة، فكانت كل طائفة تشترك فى المواكب بعربة تحمل نموذجا من صناعتها، وكان أبرز هذه الاحتفالات موكب المحمل، ووصلة الحج، واحتفال الرؤية (رؤية هلال شهر رمضان)، ووفاء النيل.(الحركة العمالية فى مصر – رؤوف عباس). لذلك كان من الطبيعى أن يكون من ضمن إنتاج ورشة الفنان سمير الجندى تماثيل ملونة للدراويش المولوية فى رقصتهم الصوفية وللاعب التنورة وهو فى حالة حركة بتنورته الملونة، ولأن الفخار كان رفيق درب البشر من الميلاد حتى الوفاة، لذلك لم تقتصر صناعته على مجرد تلبية احتياجات الإنسان من توفير الأوانى للمأكل والمشرب والتخزين، وانما تعدت الوظيفة لتدخل إلى حيز العمل الفنى، وأبرز أثر على ذلك شبابيك القلل التى اشتهرت بها مصر وتميزت بالتنوع الفنى ويوجد العديد منها فى المتاحف، والتى تكاد تنطق من فرط حيوية وجمال أشكالها، فهى تشبه الدانتيللا الرقيقة وهى عبارة عن ثقوب تكون تصميمات هندسية أو تحتوى على أشكال أخرى منها حيوان فى حالة حركة أو طائر أو سمكة او أزهار دقيقة، وقد خرجت شبابيك القلل من مكامنها التاريخية لتسكن برقة ورفق فوق ملابس عرائس مولد ورشة سمير الجندى الخزفية بأشكالها الهندسية الدقيقة، وشبابيك القلل التى تشبه الدانتيللا كانت تفصل بين عنق القلة وبدنها ووظيفتها تصفية الماء أثناء الشرب، أما الآن فشباك القلة عبارة عن بضعة ثقوب واسعة.
وتعد ورشة الجندى مخزنا ملونا للتراث والعادات المصرية، فهناك قلل وأباريق السبوع وبعض الأواني الصغيرة عليها أبيات من أوبريت الليلة الكبيرة، وللقلل فى الورشة مكان متميز حيث اتخذت أشكالا وألوانا مختلفة، يليق بمكانتها فى التراث المصرى. أيضا احتلت الوجوه النوبية ذات الملامح الطيبة والجميلة مكانها على الأطباق الخزفية، المناظر الريفية والرموز الشعبية الواقية من الحسد "كالخميسة" والعين والمعوذات، الأيات القرآنية بخطوط مختلفة أبرزها الخط الكوفى زينت العديد من الأطباق والفازات الكبيرة بألوان زاهية، كما خرج الطاووس كعنصر زخرفي يرمز للأبدية فى الفن القبطى ليتجسد وهو فى حالة حركة بأشكال وأحجام مختلفة محفورا عليه بعض الزخارف الإسلامية. ولم تقتصر أعمال الجندى على التقليد بل هناك ابداعات نهلت من القديم وتشبعت به وخرجت إلينا بثوب جديد يحمل معان تمس الروح، ومنها إناء فخارى كبير له شكل قديم يلتصق به على الجانبين أوان أخرى صغيرة فى أمومة حانية.
ويعمل بورشة الفنان سمير الجندى ما يربو على العشرين حرفى من أمهر الحرفيين منهم "عم صلاح" من منطقة الفخارين بمصر القديمة، ويجلس على الدولاب لتشكيل الطين بمهارة فائقة، وعلى البنا ويعمل بالورشة منذ 30 سنة وتخصص فى عمل التماثيل الفخارية الصغيرة الملونة التى تمثل المهن والشخصيات المصرية كبائع وبائعة الخضار، والشيخ والقسيس، والفقى وبائع الترمس، وغيرهم.
هناك ايضا من عمل بالخزف في ليبيا فنقل إلى الورشة زخارف المغرب العربي التى تزاوجت مع الفخار المصرى فأنتجت قللاً مصرية مزخرفة بزخارف مغربية وهى عبارة عن صفوف متراصة فوق بعضها البعض من الوحدات النباتية ويغلب عليها اللون الأخضر الفاتح.
وتنتج الورشة بالإضافة إلى أعمال الفنان سمير الجندى والأطباق والأواني والتماثيل بلاطات سيراميك مستوحاه من السيراميك العثمانى (سيراميك كوتاهية وإزنك الشهير) والذى يغلب عليه اللون الأبيض المزخرف بالأزرق. ولم يخلو المكان من الأقداح والأطباق التى تحمل زخارف فرعونية وكتابات هيروغليفية، كل هذا التنوع فى الإنتاج جعل من هذه الورشة مستودعاً للفن والزخارف المعبقة بالنفحات الصوفية والقادمة من العصور المختلفة.
الفخار فى مختلف ربوع مصر
تنتشر مدارس الخزف والفخار فى مختلف ربوع مصر من الدلتا إلى الصعيد، ومن أبرز فواخير منطقة الدلتا، فاخورة كفر الصارم ومنشية مبارك بمحافظة الغربية والإنتاج هناك من القلل والأباريق والأزيار والطواجن، والقرميد المستخدم فى أسقف وأفاريز المبانى، وفواخير سمنود بمحافظة الغربية التى يصل عددها إلى 80 فاخورة، وتشتهر بالقلل خصوصا القلة المشربية ذات الأذنين والقلة أم مدنة ذات الرقبة الطويلة، ومن أهم وأشهر فواخير محافظة المنوفية قرية جريس:-
قرية جريس
تقع قرية جريس بمحافظة المنوفية على فرع رشيد، وتبعد عن القاهرة نحو 40 كيلو مترا شمالا، وتبعد نحو 7 كيلو مترات عن أشمون، وكانت قديما ميناءاً تجاريا تجرى به المراكب النيلية المحملة بفخار جريس الذى كان يصدر إلى القرى والمدن الأخرى عبر النهر العظيم، وقد أهل النيل بمياهه الوفيرة وطميه الأسمر جريس لتكون فاخورة ذات إنتاج وفير منذ القدم، فالقرية عبارة عن ورشة فخار كبيرة، ومعظم أهلها يعملون فى هذه الحرفة، ويتوارثونها عبر الأجيال منذ عصور قديمة، وتشتهر بصناعة الأطباق والقلل والأباريق والأزيار وأصص الزرع ، باستخدام الدولاب التقليدى الذى يدار بالقدم، وافران حرق توقد بمخلفات الزراعة كالحطب وقش الرز وأعواد القطن الجافة.
ومن المحافظات الأخرى التى لايزال يوجد بها بعض الفواخير محافظة الفيوم فى قرية قحافة، والعجمين، وكوم أوشيم، بالإضافة إلى مدرسة إيفيلين بوريه بقرية تونس، وإيفلين بوريه فنانة سويسرية جاءت إلى مصر فى ستينات القرن الماضى بعد أن درست الخزف والفخار بجنيف، ووقعت أسيرة عشق للقرية والطين وأطفال الريف المصرى، واختارت قرية تونس – مركز يوسف الصديق - بالفيوم لتبنى بيتا ريفيا بسيطا من الطين والخشب والفخار، وعلى جزء منه أنشأت مدرسة لتعليم أبناء القرية فنون صناعة الخزف والفخار، وقد بدأت بتعليم الأطفال، الذين أصبح العديد منهم فنانين يقومون بتعليم الحرفة لآخرين، وسرعان ما أصبحت "تونس"، من أشهر القرى المنتجة للخزف والفخار. ويشارك خزافوها فى المعارض المختلفة بأعمالهم.
ومع الإتجاه جنوبا مع نهر النيل نصل إلى أسيوط حيث فواخير منفلوط وديروط التى تنتج الطبل والطواجن والمنقد والأزيار والقواديس والمواجير (موسوعة الحرف التقليدية ج2).

محافظة قنا
من أهم وأكبر محافظات الصعيد، تحدها شمالاً محافظة سوهاج؛ ومن الجنوب محافظة الأقصر؛ ومن الشرق محافظة البحر الأحمر؛ ومن الغرب محافظة الوادى الجديد، أهلها موقعها على نهر النيل وقربها من جبال البحر الأحمر لصناعة الفخار منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى الآن. حيث يتوافر فيها الطين والماء والهمر الذى يستخرج من جبال البحر الأحمر والجبال المحيطة بالنيل. وكما يحنو النيل على أهل قنا ويمنحهم الطمى الرطب الغنى بالخصوبة والأسرار، يتلقى الإنسان هناك العطية بامتنان، فيشكل الطين، إلى أوانى تعطى مذاقا طيبا للطعام، والبرودة للمياه فى عز صيفها القائظ، والخصوبة التى منحها النيل لمحافظة قنا جعلت منها غوطة غناء ذات شجر وارف كثيف، وجبلت أهلها على الكرم فهم نبت ذلك الطين الأسمر الطيب، أجادوا وأبدعوا وابتدعوا حرفا عديدة على مر العصور، ولازالوا يصدرون إنتاجهم للمحافظات المحيطة والدول الأخرى، امتلاكهم للحرف اليدوية رسخ بداخلهم الإحساس بالإستقرار والإعتداد بالنفس والفخر بمنتجات بلادهم سواء كانت منتجات زراعية من نبت أرضهم الطيبة أو منتجات حرفية من صنع أياديهم الماهرة، ومن صناعة الفخار بقنا اشتهرت القلل القناوى بشكل خاص وتغنى بها سيد درويش من كلمات بديع خيرى:-
مليــــحة قوى ... القلل القنــاوى
رخيـصة قوى ... القلل القنـــاوى
قــرب حــدانا وخد قلتــــــين
خســارة قرشك ... وحيـــاة ولادك
ع اللى ماهواش ... من طيـن بلادك
والقلة الآن مهددة بالإندثار بسبب التطور التكنولوجى واستخدام الثلاجة لتبريد المياه، وربما تصبح فى يوم ما مجرد أثر وذكرى فى الأمثال والأغانى، أو قطعة ديكور فى ركن منزل أنيق، أو فندق سياحى. أو نراها مع مجموعة أخرى من القلل على الصينية النحاسية لترشيح الماء بها وهى مغطاة بغطاء معدنى يشبه نهاية مئذنة الجامع كخلفية فى الأفلام والمسلسلات التاريخية، وتمر القلة فى تصنيعها بثلاثة مراحل هى البدن والرقبة والشباك الأولى والثانية تشكل على الدولاب أما الثالثة وهى الشباك الذى يوضع فى المنطقة التى تتصل فيها الرقبة ببدن القلة، فيشكل منفردا ثم يركب فى حلق القلة وبعد تركيبه يعاد صقل القلة لتأخذ شكلها الإنسيابى الجميل (موسوعة الحرف التقليدية ج2).
ويزخر التراث الغنائى المصرى وخصوصا الصعيدى بنصوص شاعرية رقيقة ذكرت فيها القلة ومنها نص مطلعه:-
ومليتله الجلة من لبن البجر (البقر)
ولا عايز إلا إنتى ياضى الجمر (القمر)
ومليتله الجلة من لبن الجاموس
ولا عايز الجلة ولا لبن الجاموس
ما عايز إلا إنتى يا ضى الفانوس
ومليت له الجلة من لبن الجمال
ولا عايز الجلة ولا لبن الجمال
ما عايز إى إنتى يا ضى الهلال

وهناك قرى عديدة بمحافظة قنا تشتهر بصناعة الفخار ومنها جراجوس وحجازة ودندرة والترامسة والطويرات والمحروسة والدير ونجع الشيخ على، وغيرهم، مما جعل للفخار وجودا طاغيا فى حياة أهلها، حيث ارتبط الفخار هناك بكافة تفاصيل الحياة ففي الزواج كان الفخار قديما ضمن جهاز العروس الذى كان يحوى أوانى الطهى من قدور للتخزين وطواجن وأطباق وسلاطين بالإضافة إلى الزير والقلة كما كان يشارك أيضا في طقوس احتفالات الزواج بالطبلة المصنوعة من الفخار فى ليلة الحنة وليلة الزفاف، وفى الصباحية تأتي الدمية الفخارية التي تحمل الرمان والتي كان يهديها أهل العروس لإبنتهم في الصباحية حتى وقت قريب في صعيد مصر(الأنامل الذهبية –عز الدين نجيب) كما يشارك الفخار في الإحتفال بالميلاد من خلال قلة السبوع إذا ما كان المولود أنثى أو إبريقا إذا ما كان المولود ذكراً، وحتى عندما تفقد الأم جنينها (والذى فقد في شهور الحمل الإولى) فإنها تحتفظ به فى (قلة) بها حنة وذلك عقب تجفيف هذا الجنين فى الشمس، حيث يتم وضع ملح وسكر عليه ولفه بشاش أبيض، ثم يتم (نشر) القلة ووضعه فيها وإغلاق القلة عليه بعد جمع جزئيها بالجبس. وحين تحتاج أى أمرأة من القريبات أو الصديقات أو هى نفسها لعملية الإنجاب، فإنها تستعين بتلك القلة التى تحمل الجنين وتقوم بكسرها فى صباح نهار باستخدام جنيه ذهب وزيارة معبد دندرة والدخول فى الممر الضيق وذلك نهاية نفس اليوم. و تنتشر في منازل فقراء مدينة قنا العديد من هذه القلل حتى أن الزائر لتلك الديار غالباً ما يجد قلة أو أثنتين في كل منزل على الأقل. (الفخار الشعبي في مصر– ايمان مهران). وبعد الوفاة يضع العديد من الناس الأزيار والقلل على الطرقات لبل ظمأ المارة كصدقة جارية على أرواح المتوفين. وتشتهر قرى قنا بإنتاج البلاص الذي لا يزال يستخدم فى صناعة "المش" وفى تخزين العسل والبلح، كما تنتج معظم القرى أوانى الطهى كالطواجن بأحجام وأشكال مختلفة، وقواديس أبراج الحمام والأزيار، وبعض القرى طورت من إنتاجها الذى وصل إلى مصاف العمل الفنى ومنها:-
جراجوس
وهى احدى قرى محافظة قنا مركز قوص بصعيد مصر، وتبعد عن القاهرة بنحو 645 كيلو متر جنوبا. وكان عام 1945 من الأعوام الفارقة فى تاريخ جراجوس، حيث قام بعض الرهبان اليسوعيين بزيارة القرية، لمساعدة أهلها فى تعلم حرف أخرى بجانب الزراعة، وفى 1954 قام الراهب استيفان دي مونجولوفييه بإنشاء مصنع خزف جراجوس، وعلى حوائط المصنع نجد صور المعماري الشهير المهندس حسن فتحي الذى وضع التصميم المعمارى له، وهو عبارة عن مبنى له قباب . وروعى فى تصميمه وظيفة كل حجرة، فالمكان الذى يوضع به الفخار ليجف قبل الحرق، صمم ليكون درجة حرارته أقل من الأماكن الاخرى بالمصنع ليضمن الجفاف البطيء للفخار.
ويصنع فخار جراجوس من الطين الأسوانى الغنى بأكسيد الحديد مما يكسب الطينة لونها الأحمر، ويمر بعدة مراحل أثناء التصنيع أولها تجهيز الطين بغربلتها في حوض ماء لمدة 20 يوما، بعدها تترك الطينة لتجف لمدة 3 شهور، ثم تنقل إلى المصطبة داخل الورشة (والمصطبة عبارة عن بناء خرساني يرتفع عن الأرض حوالي متر واحد وعرضه متر وطوله حوالى ثلاثة أمتار، وعليها تدعك الطينة لتصبح أكثر طراوة وليونة)، ثم تقسم إلى مربعات يصل وزن كل منها إلى 25 كيلوجراما، ثم يبدأ العمل بها، ويتم تدليكها باليد لمدة ساعة حتى تصبح متجانسة وقابلة للتشكيل، بعدها توضع على الدولاب لتشكيلها، أما الأوانى غير المستديرة فهناك قوالب مصنوعة من الجبس تصب فيها الطينة لعمل أواني مستطيلة أو مربعة.
"عم فواز سيدهم سيفين" أحد أقدم العاملين بالمصنع يجلس على الدولاب لتشكيل الطين ويحكى عن تاريخ المصنع الذى أسسه الرهبان اليسوعيين وبه ثلاثة دواليب ببدال ذات تصميم فرنسى. بينما يجلس أخوه"عم مترى" على طاولة ويديه تعمل بمهارة في أحد الأطباق المستطيلة الجافة والتى لم تحرق بعد، فهي تحتاج بعض الصقل وضبط للسمك والتخلص من الزوائد، وهذا النوع من الأطباق ذات الشكل المستطيل لا يتم تشكيله على الدولاب بل يصب فى القوالب، أما عم "عبد المسيح فهمى" فيقوم بنحت تماثيل صغيرة من الطين للعائلة المقدسة فى المغارة "المزود" ومعها الجمال والنخيل وغيرها من مكونات مغارة ميلاد السيد المسيح. ويعتمد إنتاج جراجوس على الفن الشعبى المستلهم من مفردات الريف والحياة فى الصعيد بعاداتها وتقاليدها، فهناك تمثال الطبال، والزمار، والفلاح والشادوف، والعربية الكارو، وتمثال آخر يمثل الماشطة التى تزين العروس، وتماثيل أخرى فرعونية، أما أشهر إنتاج المصنع على الإطلاق فهى الأطباق التى تحمل زخارف مستوحاه من الفن القبطى وتتميز ببساطتها ورقتها فهناك أطباق عليها السمكة وهى رمز مسيحى أصيل وأطباق أخرى عليها طائر، أو شكل نباتى، ويغلب على خزف جراجوس اللونين الأزرق الفاتح والأخضر الفاتح كما انه يكون ممهورا على قاعدته بكلمة "جراجوس" بالعربية والفرنسية.
والأدوات المستخدمة فى صناعة الخزف بمصنع جراجوس هى نفس الأدوات المستخدمة فى ورش مصر بالمحافظات الأخرى هناك فقط بعض الإختلاف فى المسميات فمثلا السادف يسمى بجراجوس الشاطوف.

حجازة
وتتبع مركز قوص بمحافظة قنا ويوجد بها عدة عائلات يعمل معظم أفرادها نساءا ورجالا وأطفالا بصناعة الفخار، ويصنع فخار حجازة من الطينة السوداء المضاف إليها الهمر المستخرج من الجبال بالقرب من وادى النيل بقنا، ويقوم الرجال بتشكيل الطين على الدولاب وبعد تمام التشكيل ترص القطع فى الشمس بعد أن توضع كل قطعة على قاعدة مستديرة من "الجلة" لتجف وبعد الجفاف البطىء فى الشمس تكون قد اكتسبت بعض الصلابة، وهنا تقوم النساء بصقلها ودعكها بأكسيد أحمر مع أضافة مقابض صغيرة لها، بعد عملية الصقل وتركيب المقابض توضع فى فرن بلدى يوقد بمخلفات الزراعة من البوص والحطب. وتنتج حجازة أوانى الطهى من طواجن بأحجام مختلفة وبعد الحرق فى الفرن تكتسب تلك الأوانى الصلابة التى تؤهلها للإستخدام فى الطهى سواء بوضعها داخل الفرن أو فوق الموقد، وداخل فواخير حجازة الأرض مفروشة بطواجن الفخار بلونيه الأسود غير المصقول قبل الحرق والاحمر الذى تم حرقه ووضعه فى صفوف أو أكوم فى منظر بديع يمنح الاحساس بالوفرة والخير والفرح بطمى النيل الذي تم استنطاقه وتطويعه فى خدمة الإنسان، وفى قرية حجازة لا يتم التعامل مع الفخار كمجرد حرفة، بل هو حياة كاملة حيث تتشارك العائلات فى العمل بكافة مراحله من جلب للطين وعجنه وتشكيله وحرقه، فالأطفال ينتشرون بالفاخورة حول أمهاتهم وأبائهم، لذلك ليس من المستغرب أن يتقن منهم من شب عن الطوق الجلوس على الدولاب واستنطاق الطين الذى ألفوه منذ نعومة أظافرهم، بلمسات أصابعهم التى تلقت التدريب المبكر، فأصبحوا وارثين للحرفة حاملين لواء استمرارها.
قرية الدير
قرية الدير هى إحدى قرى مركز قنا بالبر الغربى، على مقربة من الجبل، الجميع هناك لهم سمرة طمى النيل الدافئة، النساء والرجال والأطفال يعملون معا، فى جو يسوده البساطة والكرم والطيبة، أحمد أبو الحمد يجلس على الدولاب بوجهه البشوش يشكل القواديس وبجانبه مصطفى يدعك الطين على المصطبة ويتعاون معهم النساء فى رص الأوانى، وعمل المقابض للجرار بعد جفافها، الفاخورة كلها بنيت من الطين المقوى بالبلاليص والأواني الفخارية المهشمة، وتم تعريشها بالحطب والبوص، الجو بداخلها له طراوة تقى من حرارة الجو بالخارج، والوجوه جميعها تشع بالطيبة والإعتداد بالنفس والفخر بالحرفة.
ويصنع فخار قرية الدير من الطفلة التى يسميها أهل قرية الدير ب"الكولة" وتستخرج من الجبل القريب من القرية، وينقسم العمل فى قرية الدير إلى موسمين، الموسم الأول يبدأ فى شهر أكتوبر ويستمر حتى أول شهر أبريل وفيه يقوم أهل الحرفة باستخراج "الكولة" من الجبل ونقلها إلى القرية ولكل عائلة من عائلات الفخارين هناك مغارة تخصهم، ولا يعتدى أحد على مغارة الغير، وموسم استخراج "الكولة" من الجبل يواكب فصل الشتاء حيث ان انخفاض درجة الحرارة نسبيا عن الصيف يساعد على تحمل عناء العمل بالجبل، ويبدأ التشكيل على الدولاب فى الموسم الآخر الذي يبدأ من شهر أبريل حتى أول شهر أكتوبر ويواكب فصل الصيف، حيث يكون الطقس مناسبا حيث تحتاج صناعة الفخار إلى شمس الصيف القوية لتجف الأوانى وتقوى، وتكتسب الصلابة المطلوبة قبل وضعها فى الفرن، بعد جلب "الكولة" من الجبل، تبدأ عملية التصنيع أولا بنقع "الكولة" فى الماء من الصبح حتى العصر حتى تذوب وتصبح لينة تماما، ثم يتم دهسها بالأقدام لتصبح متجانسة سهلة التشكيل على الدولاب، وبعد تشكيل الأوانى يتم تخزينها داخل غرفة لمدة يومان لتجف ببطء بعدها ترص فى الشمس لمدة أربعة أيام إلى خمسة أيام ثم تحرق فى الفرن لمدة ثلاثة ساعات، وتنتج قرية الدير قواديس أبراج الحمام والبلاص والزير وأصص الزرع. والأفران بقرية الدير توقد بالبوص الذى ينتج من مخلفات الزراعة، وترص المنتجات بكميات وفيرة على أرض القرية أمام كل فاخورة لتعلن الحرفة عن نفسها وعن أهلها الكرام المهرة فى زهو حيث يوجد بالقرية إثنى عشر دولاب تبدأ جميعها فى الدوران مع بداية شهر أبريل.

نجع الشيخ على
نجع الشيخ على مركز نقادة بمحافظة قنا يوجد بها حوالى عشرة فواخير تقريبا، جميعها تنتج الأزيار المصنعة بالطين الأسود المضاف إليه رماد الفرن. أما الحصالات وهى ذات شكل شبه قروى وبها فتحة من أعلى تشبه الشق لإدخال النقود المعدنية، والطواجن بأحجامها المختلفة والأطباق فتصنع من الطين الأسود المضاف إليه الطفلة التى يطلق عليها "الهمر" وتستخرج من الجبال المحيطة بوادى النيل، وكباقى فواخير محافظة قنا يشترك النساء والرجال فى صناعة الفخار، الرجال على الدولاب لتشكيل الطين بينما تقوم النساء بصقل المنتج ودعكه بالأكسيد الأحمر بعد جفافه وإضافة المقابض له قبل الحرق، ومن أشهر إنتاج فاخورة نجع الشيخ على البرام المغربى ويتكون من ثلاثة قطع إناء له غطاء وجزء سفلى يستخدم كموقد، ويوجد بالقرية جمعية تعاونية منذ عام 1961 لتسويق المنتجات.
الحرفة مستمرة... ما تعيطوش على فخاركم دة له زى أعماركم
"آدى الزير وآدى غطاه" فهاهى الحرفة على الرغم من الحداثة لازالت تفرض وجودها، وهاهم الحرفيين على الرغم من تناقص أعدادهم بسبب قسوة الحياة لايزالون يحملون لواء الإستمرار، ولازالت منتجات فخارية عديدة تشاركنا الحياة رغم الحداثة والتطور، فالطواجن الفخارية التى تمنح الطعام مذاقا طيبا عادت إلى الكثير من البيوت والمطاعم بجانب الحلل المعدنية، أما البلاص ففى الغالب أنه سيظل رفيقا للفلاحين طالما ظل "المش" أو الجبن القديم على قيد الحياة، وربما فى يوم ما يختفى "الزير" تماما من مكانه تحت اللبلابة الحانية أو الشجرة الوارفة بطرقات القرى والمدن، مهزوماً متقهقراً أمام سطوة الثلاجة "الكولدير"، ولكنها لن تستطيع محوه من الذاكرة الشعبية حيث سيظل يطل علينا من الحواديت والأمثال الشعبية، وستظل أحجار الشيشة الفخارية باقية بالمقاهى تعتلى قمة الشيشة وعلى رأسها جمرات الفحم تأتنس بصوت الكركرة ومسامرة المدخنين، فالفخار يأبى الإندثار بتاريخه العريق الذى يمتد لآلاف السنين، بطينته التى خبأت بداخلها المعتقدات والعادات والتقاليد فكانت ذاكرة حية لعبت دور همزة الوصل بين العصور، فكلما تراكم طمى النيل على ضفاف النهر، سيجذب إليه حتما حرفيين وفنانين جدد لإستجلاء أسراره، فالفخار هو مهنة الأحلام في صراعها التليد مع الصبر على ألم لا حدود له!
(رواية صانع الفخار– أحمد ضحية)





المراجع
1- موسوعة الحرف التقليدية ج2
2- الفن الشعبي والمعتقدات السحرية – سعد الخادم
3- قدامى الفخارين والمحافظة على الفخار القديم- رمضان صوان
4- الفخار الشعبي في مصر– ايمان مهران
5- الأنامل الذهبية –عز الدين نجيب
6- المواعظ والإعتبار المقريزي
7- الحركة العمالية فى مصر – رؤوف عباس
8- أحمد ضحية –رواية صانع الفخار



#نرمين_خفاجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دنيا السبح.. فن ووجاهة ..سحر وأذكار
- الثقافة ..مابين الحقد المسيس وجمع الغنائم
- حائر ما بين العاشر من أمشير والسابع من يوليو
- مدينة الرمل الأحمر المتجمد
- المجد للفاسدين في الأعالي وعلى الثقافة والشعب السلام
- مصر والثقافة فى عصور مختلفة
- اساطير مستحدثة
- انها الحرب
- ظهور العدرا ومواسم الهجرة الى الشمال
- المرأة ما بين حقوق الحيوان وحقوق الانسان
- التراث الشعبي بصمة شعب
- المسرح الفرعونى
- الأقباط والاضطهاد والمواطنة والدستور
- ثورة القاهرة الاولى
- تعاليم السيد جمال الدين فى وجوب اصلاح الدنيا والدين
- منظمة ثورة مصر واجواء الثمانينات
- شعوذات حكام بأمرهم
- الثورة الفرنسية وملحمة الحرافيش
- على هامش الاحتفال بيوم المرأة المصرية ..قراءة فى دفتر احواله ...
- انا وطنى وبنشد وبطنطن


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نرمين خفاجي - الفخار والخزف ..من الطين ينطق التاريخ والفن والجمال