أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعود قبيلات - في «مليح» صرتُ ماركسيّاً*















المزيد.....

في «مليح» صرتُ ماركسيّاً*


سعود قبيلات

الحوار المتمدن-العدد: 4578 - 2014 / 9 / 18 - 10:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




المكان الأثير إلى نفسي دائماً هو مليح.. بالتأكيد؛ ففيها نشأتُ، وترعرعتُ، وبدأتُ بالتعرّف على ذاتي وعلى محيطي (محيطي في القرية نفسها وفي ما هو أبعد منها وأوسع). وفيها أقمتُ علاقة جيّدة مع الطبيعة (بالإجمال ومع كلّ مفردةٍ مِنْ مفرداتها على حدة)، وتعلَّمتُ إلى حدٍّ ما أنْ أتصرَّف كجزءٍ مِنْ تلك المفردات باعتبار ذلك هو الطريق الأقصر والأسلم لمقاربة الحياة بدلاً مِنْ مقاربة صورتها في أذهاننا. وكنتُ، يوميّاً، أمشي لمسافاتٍ طويلة، متعرِّفاً على الأماكن المختلفة، وعلى النباتات والحيوانات (الأليفة والبريَّة)، وعلى تعرّجات الأودية وتكوّرات الجبال ونتوءآتها، ورافقتُ الحصَّادين والغمَّارين واللقَّاطين والرجَّادين والرعاة والصيَّادين (بالأحرى، القنَّاصين) وسُراة الليل والساهرين على البيادر، وكثيراً ما راقبتُ شروق الشمس وغروبها بأناة وتأمّل.
وإنَّ أذنيَّ لا تزالان ممتلئتين بأصوات ثغاء الأغنام والإيقاع الحثيث لأقدامها وهي عائدة إلى حظائرها في الأماسي بينما يتصاعد مِنْ أنحاء مختلفة من القرية دخان الطوابين، وكذا ضجيج أقدام الأبقار «المقيببة» (الهاربة مِنْ لسع الحشرات في عزّ حرّ الصيف)، ونهيق الحمير، وصهيل الخيل، ونباح الكلاب الأليفة، وعواء الكلاب الضالَّة الأشبه بالعويل، وصياح الديكة، وهديل الحمام، وزقزقة العصافير، ونقيق الضفادع، وصخب الطبيعة في الشتاء، ونشيدها العظيم في الربيع (حيث تتَّحدُ أصوات الكائنات فائقة الثراء وعميقة المغزى، في سيمفونيَّة واحدة، مع روائح العشب الفاتنة وألوانه البديعة)، ومناداة الناس بعضهم البعض.. رجالاً ونساءً.. صغاراً وكباراً، عبر مسافاتٍ طويلة أو قصيرة (فدائماً كانت الأصوات في القرية عالية.. وحتَّى الهمس كان مسموعاً، والأسرار مكشوفة، والقلوب تُفصح عن مكنوناتها بسهولة)، والأحاديث المتقطِّعة الرتيبة للرجال المسنّين في سهراتهم الطويلة.. (كانت طويلة إلى حدّ أنَّها كانت تنتهي غالباً في الثامنة مساءً أو التاسعة مساءً على الأكثر)، وكانت تتخلّلها مساحات طويلة من الصمت الممزوج بالألفة والطمأنينة لا يقطعها سوى تبادل الساهرين، بتكرارٍ عجيب، تحيَّة المساء، مِنْ حينٍ لحين، أو قول أحدهم، مخاطباً ربَّه، بصوتٍ عالٍ: يا لطيف.. يا لطيف أنت اللطيف. وعندما ينفضّ الساهرون في النهاية، يمضي كلٌّ منهم إلى فراشه مباشرة، ويخلد إلى النوم سريعاً ليستيقظ مِنْ جديد في الصباح الباكر.
وما زالتْ تضجّ في أذنيَّ قصص الجنّ والغيلان والسحرة والأماكن «المسكونة» المرعبة، وصخب الأولاد وهم يلعبون في الليالي المقمرة.. وما زالت تمرّ في بالي، على نحوٍ ساحر، أصداءٌ مِنْ قصص غراميَّات الشباب والفتيات التي كانت تثير الخيال.
وأتذكّرُ دائماً بهجة الأعراس: أصوات الحداء الجماعيّ الشجيَّة، واستعراضات الفتيات والفتيان الساذجة والمكشوفة أمام بعضهم البعض، وطراد الخيل في السهل الفسيح الذي كان يقع في الجزء الجنوبيّ الغربيّ من القرية القديمة قبل امتداد أبنيتها إليه، وقنص رؤوس ذبائح القِرى في مباراة مثيرة بين أمهر الرماة مِنْ رجال القرية ومِنْ ضيوفها (تُقام هذه الفقرة، عادةً، في اليوم الأخير مِنْ أيَّام العرس الثلاثة أو الأربعة الحافلة)، وأذكر كذلك الطقوس الحافلة لليلة الحنّاء، والفاردة.
وبالمقابل، فإنَّ نفسي لا تزال تئنّ تحت وطأة الفواجع الكثيرة التي كانت تلمّ بالقرية؛ فكلّ حالة موت فيها كانت فاجعةً للجميع.
وفي «مليح» تعرّفتُ على العالم الخارجيّ؛ فيها تعرَّفتُ على «آرنست همنغواي» وأحببته وأحببتُ أسلوبه في الكتابة عندما قرأتُ له لأوّل مرَّة «لمن تُقرَع الأجراس»، ثمَّ بحثتُ عن بقيَّة كتبه وقرأتها. وما زلتُ أحبّ أنْ أعيد قراءتها.
في «مليح» قرأتُ مذكِّرات آرنستو تشي غيفارا التي كتبها أثناء كفاحه في جبال السيرا مايسترا في كوبا.
في «مليح» أيضاً قرأتُ لمكسيم غوركي، وفيكتور هيجو، ودستويفسكي، وغوغول، والسيَّاب، والبيَّاتي، ونزار قبَّاني، ومعين بسيسو، وأدباء المهجر، والعقّاد، والمازنيّ، ونجيب محفوظ، ومحمود درويش، وسميح القاسم، والمتنبِّي، وأبي نواس، وأبي العلاء المعريّ.
في «مليح» عايشتُ الحروب التي دارتْ مِنْ أجل فلسطين (أو باسمها)، والمشاعر المختلطة حيال استشهاد بعض أبناء القرية.. كان أحدهم صديق طفولتي، وكان لا يزال طفلاً عندما استشهد، وتقدَّستْ فلسطين في وجداني، منذ ذاك، بل أصبحتْ فردوسي المفقود. وكرهتُ «إسرائيل» ورعاتها الإمبرياليين وأتباعهم في المنطقة، وأحببتُ الاتّحاد السوفييتيّ وحركة الثورة العالميَّة، منذ ذاك أيضاً.
باختصار، في «مليح» تشكَّلتْ المعالم الرئيسة لشخصيَّتي، وتأسَّس وعيي (ولا وعيي) ، وفيها انحفرتْ أساسات وجداني وميلي الثقافيّ والفكريّ؛ فيها كتبتُ أشعاري الأولى وقصصي الأولى ورواياتي.. لكنَّني أتلفتها جميعاً في مرحلةٍ لاحقة.. مع الأسف!
في «مليح» تحدَّدت المعالم الرئيسة لخياراتي الفكريَّة والسياسيَّة؛ فأصبحتُ، في مرحلةٍ مبكِّرةٍ مِنْ حياتي، يساريّاً، بل ماركسيّاً على وجه التحديد.. وكان ذلك قبل انتمائي للحزب الشيوعيّ الأردنيّ بسنوات.. بل وقبل التقائي بأيّ شيوعيّ بسنوات.
إنَّ مَنْ صاغني على هذا النحو ونظَّمني في الحركة الشيوعيَّة هو «مليح»، بل إنَّها هي مَنْ دفعني بعد ذلك للبحث عن الشيوعيين (**). وفيها تابعتُ، بحماسةٍ وأمل، أخبار نضالات الشعوب الثائرة، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيَّة، مِنْ أجل التحرّر الوطنيّ والتقدّم والاشتراكيَّة. وإنَّني لأحسّ الآن بأنَّ كلّ ما عشته بعد ذلك ليس سوى عمليَّة مثابِرة ودؤوبة لتعميق ذلك المجرى القديم نفسه الذي انحفر في «مليح».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نُشِر هذا المقال في جريدة «الرأي»، يوم الجمعة 24 أيَّار 2002ضمن ملفٍّ عن المكان الأردنيّ. لكنَّني أجريتُ على صيغته بعض التعديلات المحدودة لغاية النشر هنا.
**أوَّل خليَّة شيوعيَّة في «مليح» كانت في خمسينيَّات القرن الماضي. وقد عُرِفَ مِنْ أعضائها عاملان كانا يعملان في «النقطة الرابعة» الأميركيَّة، في وادي «الوالة» المجاور. وهما: فلاح عطيَّة القبيلات، وقد توفِّي وهو في مقتبل عمره، ومحمَّد أبو عشيبة (لستُ متأكّداً من اسمه الأوَّل). وقد اُعتُقِلا، آنذاك، بتهمة الانتماء للحزب الشيوعيّ الأردنيّ. ولكن، بعد ذلك، حدث انقطاع طويل لوجود الشيوعيين في القرية.



#سعود_قبيلات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شيوعيّ وتكفيريّ في زنزانةٍ واحدةٍ!
- الشركات النفطيَّة في الثكنات..
- كلمة افتتاح الاجتماع الثاني ل-المجلس المركزيّ لاتِّحاد الشيو ...
- سعود قبيلات -رئيس اتِّحاد الشيوعيين الأردنيين - في حوار مفتو ...
- كلمة افتتاح المؤتمر التأسيسيّ لاتِّحاد الشيوعيين الأردنيين
- استعادة الذات
- معاً مِنْ أجل «اتِّحاد الشيوعيين الأردنيين» على طريق الجبهة ...
- اتِّحادٌ مِنْ طرازٍ جديدٍ
- إلى اليسار دُرْ
- الوحدة.. الوحدة
- شيء عن تجربة اتّحاد الشيوعيين الأردنيين..
- الماغوط .. الشاعر الجميل الأكثر جنوناً
- تلك الغيمة في بنطال تيسير سبول وماياكوفسكي
- الرحلة الروسيَّة
- أفضل مِنْ أن أكون على حق
- مثل كتلة من الرخام العاري
- رسائل حبّ عاملة النحل
- نهايات -رغبويَّة- وبدايات موضوعيَّة
- مهدي عامل ونقد الفكر اليومي
- ماركس والمسألة اليهوديَّة


المزيد.....




- من أجل صورة -سيلفي-.. فيديو يظهر تصرفا خطيرا لأشخاص قرب مجمو ...
- من بينها الإمارات ومصر والأردن.. بيانات من 4 دول عربية وتركي ...
- لافروف: روسيا والصين تعملان على إنشاء طائرات حديثة
- بيسكوف حول هجوم إسرائيل على إيران: ندعو الجميع إلى ضبط النفس ...
- بوتين يمنح يلينا غاغارينا وسام الاستحقاق من الدرجة الثالثة
- ماذا نعرف عن هجوم أصفهان المنسوب لإسرائيل؟
- إزالة الحواجز.. الاتحاد الأوروبي يقترح اتفاقية لتنقل الشباب ...
- الرد والرد المضاد ـ كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟
- -بيلد-: إسرائيل نسقت هجومها على إيران مع الولايات المتحدة
- لحظة تحطم طائرة -تو-22- الحربية في إقليم ستافروبول الروسي


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعود قبيلات - في «مليح» صرتُ ماركسيّاً*