أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - إرنست ماندل - ليون تروتسكي: دراسة في دينامية فكره















المزيد.....



ليون تروتسكي: دراسة في دينامية فكره


إرنست ماندل

الحوار المتمدن-العدد: 5345 - 2016 / 11 / 16 - 09:30
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


تعريب: هدى حوا
المقدمة
واجهت الحركة العمالية الاشتراكية في بداية القرن العشرين مشاكل ناشئة عن عقدين من النمو المطرد. هذا النمو كان بنفسه مرتبطا بتطور الاقتصاد الرأسمالي في عصر الإمبريالية. فقد ضمن الشيء الكثير للعمال فيما يخص مستوى المعيشة، وشروط الحياة والعمل، والحريات السياسية والنقابية. وفوق كل شيء خلق شعورا هائلا بالثقة بالنفس والإيمان بتقدم لا يقاوم على ما يبدو في اتجاه الإشتراكية، في اتجاه المجتمع اللا طبقي. لكن لم يكن هناك أي وضوح حول الطريق التي سيأتي عبرها ذلك المجتمع الإشتراكي.

لقد ظن العديد أنه سينشأ عن أزمة اقتصادية بالغة الخطورة، "أزمة انهيار" للنظام. ورأى الآخرون أنه متعلق بحرب "قادمة". وتصور آخرون بأن البرجوازية يمكن أن تطرح على بساط البحث المكتسبات الديموقراطية الرئيسية للطبقة العاملة –وقبل كل شيء حق الاقتراع العام- عندما تصل إلى نقطة تضع عندها تلك المكاسب الاشتراكية-الديموقراطية على مرأى من الاستيلاء على السلطة السياسية (التي يتم مماثلتها بشكل عام مع كسب الأكثرية المطلقة في البرلمان). وبمواجهة هذا "الانقلاب" الرجعي، سترد الحركة العمالية بوسائل ثورية.

لكن هذه الافتراضات انحصر نقاشها في أوساط ضيقة نسبيا، وقلما انطرحت في الهيئات الحزبية الكبيرة مثل المؤتمرات القومية أو العالمية. ولعبت دورا بسيطا في تشكّل وعي الجماهير الواسعة. ولم ترتبط بتحليل منظم للتغيرات البنيوية التي أحدثتها الإمبريالية في طريقة عمل النظام الرأسمالي نفسه. حتى أنها كانت أقل ارتباطا من ذلك بالممارسة اليومية للأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الجماهيرية وللنقابات، تلك الممارسة التي تمحورت على وجه الحصر تقريبا حول التحضير للحملات الانتخابية والنضال من أجل الأجور ومطالب أخرى اقتصادية وسياسية مباشرة للطبقة العاملة (الحقوق الدستورية الشاملة في البلدان كبلجيكا والنمسا).

على أساس هذه الخلفية، علينا أن نفهم تأشير ما يسمى بالنقاش "التحريفي" الذي أطلقه كتاب برنشتاين متطلبات الإشتراكية ومهام الاشتراكية-الديموقراطية. لقد عبر برنشتاين عما أحس به غريزيا العديد من الكوادر والقيادات الاشتراكية-الديموقراطية: أي، أن الفكر النظري للحركة ورؤياها على المدى البعيد لم يكونا متوافقين مع واقع الممارسة اليومية. وحاول برنشتاين حل التناقض بتحريف النظرية والمنظورات بعيدة المدى من خلال عقلنة الممارسة الموجودة. أما الاتجاه السائد للقيادة فقد سعى للحفاظ على الوضع القائم مع كل تناقضاته: كل من الممارسة اليومية الإصلاحية والمنظور الثوري المبهم المرتبط بنظرية ما حول "الانهيار" النهائي.

إنه من الواضح، على أساس رؤيا لاحقة للأحداث، أن ما يسمى بالماركسية الوسطية (كاوتسكي وآدلر)، من بين الاتجاهات الرئيسية الثلاثة في الحركة العمالية ما قبل الحرب، كان لديه أقل إمكانية للبقاء. فهيمنة هذا الاتجاه تعتمد على مدى تمكنه من الحفاظ على التوازن المضطرب بين نظام إمبريالي يتجه نحو الأزمة والحرب، وطبقة عاملة تنمو قوة وثقة بالنفس –أي دون أن تخل الأزمة بالتوازن، ودون أن يتحدى الأسياد الإمبرياليون الحركة العمالية على نحو حاسم، ودون أن تتحدى الطبقة العاملة على نحو حاسم الرأسمالية، ودون قبول سياسي بالتعاون الطبقي وتبرير نظري له كوسيلتين لتجنب الاصطدام المقبل. إنها سلسلة من الشروط غير الواقعية، إذا قيّض لها أن تكون.

من جهة أخرى، يمكن للمؤيدين التحريفيين لبرنشتاين وميلران أن يأملوا بكسب الهيمنة، لكن فقط إذا لم تصل تناقضات النظام المتنامية إلى نقطة الانفجار وتَقُم بتجذير قطاعات هامة من الطبقة العاملة. بكلام آخر، فقط بحال لم تنشب في الحياة الواقعية الحروب أو الثورات. وفقط في مثل هذه الظروف يمكن أن يقبل أكثرية العمال بفكرة التحول التدريجي للرأسمالية –عبر ممارسة إصلاحية طويلة تترافق مع مكاسب حقيقية مستمرة- كفكرة أفضل، وأقل خطورة، وكطريقة عملية أكثر نحو تغيير النظام الاجتماعي.

إن الحرب بين روسيا القيصرية واليابان، ومن ثمة الثورة الروسية الأولى التي جرت في أعقابها، قد وضعت الحركة العمالية والطبقة العاملة فجأة أمام واقعتين أساسيتين لقرننا حاولت تحريفية برنشتاين تجنبهما. لقد أصبحت الحروب والثورات إمكانيات واقعية لا حلم يقضة لمتجذرين مصابين بجنون الإضطهاد. ومع المواجهة الأولى لثورة حية منذ كومونة باريز قبل 35 سنة، إنضاف جواب ثالث للسؤال "إلى أين يتجه الإشتراكيون؟"، إنه جواب مختلف عن جواب كل من الجبريين الماركسيين التقليديين على طراز كاوتسكي ، والتحريفيين البرينشتاينيين.

كانت التنوعات الرئيسية للجواب الثالت هذا كل من بلشفية لينين (كانت محصورة في البداية فقط بروسيا)، ونظرية روزا لوكسمبرغ حول الإضرابات الجماهيرية السياسية، ونظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة. ومع ذلك، كان هناك ضرورة لتجربة جديدة أكثر صدما –تجرية الحرب العالمية الأولى وثورة أكتوبر الروسية المنتصرة وهزيمة الثورة الألمانية في نوفمبر 1918- يناير 1919 – لكيما تتركب هذه التنوعات في برنامج جديد ومفهوم استراتيجي جديد كما عبرت عنهما وثائق المؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الشيوعية.

لقد قدم تروتسكي دون شك مساهمة جوهرية في هذه الخطوة العملاقة إلى الأمام في الفكر والممارسة الماركسيين، وهذا الكتاب مكرس لاستعراض ملخص ومنظم لتلك المساهمة. فبينما وجدت هذه المساهمة العديد من عناصرها في كتابات تروتسكي الباكرة - وبالأخص في عمله الرائع في شبابه نتائج وتوقعات الذي يضع الدروس الرئسية التي استخلصها في تجربة 1905- أصبحت تلك العناصر فيما بعد أكثر تعقيدا وارتباطا بعضها بالبعض الآخر مع كل مرحلة هامة في تطور تروتسكي الثقافي والسياسي. ومن المراحل الرئيسية البارزة في السيرورة تلك: قراره بالإنظمام إلى الحزب البلشفي عام 1917، ودوره في ثورة أكتوبر، ومفوضات السلام في بريست ليتوفسك، وبناء الجيش الأحمر والأممية الشيوعية، ونضاله ضد صعود البروقراطية في الإتحاد السوفياتي وانحطاط الكومنترن، ونضاله ضد صعود الفاشية والحرب، ونضاله من أجل الأممية الرابعة. وفي كل هذه المراحل المتلاحقة تمت إعادة فحص وإغناء وتطوير لسمات مهمة تخطت النظرية الموجودة سابقا بكثير، بينما اندمجت في الوقت نفسه في النظرية الماركسية بطريقة عززت من تماسكها الداخلي ووحدتها الكلية.

وعند استعراضنا لمساهمات تروتسكي في تطوير الفكر الماركسي، سنكتشف فيها لا أقل من محاولة لتقديم تفسير متماسك لجميع الإتجاهات الأساسية لعصرنا، محاولة لتفسير القرن العشرين. وبالتالي فإننا سنقوم بتوضيح فكر تروتسكي في ترتيبه المنطقي أكثر منه في ترتيبه الزمني: خاصة وأننا لا نقوم بكتابة سيرة لحياته، بل فقط بتحليل أفكاره المتميزة.

إننا لا نؤمن بإن هناك شيئا ما كإنسان عبقري معصوم عن الخطأ، ولا بالطبع حزب سياسي أو لجنة مركزية أو قيادة لحزب معصومة عن الخطأ. لقد كان لتروتسكي أخطاؤه، وسنشير إلى بعضها في مسار تحليلنا. ولكن كحالة المفكرين الكبار الآخرين وبالأخص الثوريين الآخرين، فإن أخطاءه كانت بدورها مصادر لمعرفة وبراهين عن منزلة رفيعة. ورغم أنه ليس لدينا أية نية لكتابة سيرة قديس، فنحن مقتنعون حتى أكثر مما كنا حين بدأنا نضالنا السياسي من أجل الماركسية الثورية منذ أربعين سنة، بأن مقام تروتسكي لن يتوقف عن الإرتفاع مع مرور الزمن.


--------------------------------------------------------------------------------
الفصل الأول

الثورات الإشتراكية في البلدان المتخلفة
نظرت الماركسية التقليدية عموما إلى البلدان المتخلفة نسبيا –بلدان جنوب وشرق أوروبا، وأكثر من ذلك بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية- على ضوء مقولة ماركس المعروفة جدا: إن البلدان الأكثر تقدما تظهر للبلدان الأكثر تخلفا صورة تطورها المستقبلي كمن ينظر في المرآة وقاد ذلك إلى الاستنتاج بأن الثورات الاشتراكية ستحدث أولا في البلدان الأكثر تطورا وستأخذ البروليتاريا السلطة هناك قبل أن يكون بمستطاعها أن تفعل الأمر نفسه في البلدان الأكثر تخلفا بفترة من الزمن. وأُعتبر أنه في الحالة الأخيرة – ودون أن ينطبق الأمر حصرا على البلدان شبه المستعمرة، بل ينطبق على روسيا وإسبانيا أيضا- ستحدث "ثورات ديموقراطية" ستؤدي إلى الجمهورية الديموقراطية البرجوازية دون أن تكون تكرارا مماثلا للثورات الديموقراطية البرجوازية الكلاسيكية، عندئذ فقط ستبدأ الحركة العمالية بتجميع القوة الضرورية، بالاعتماد على التطور السريع للرأسمال، لتقوم بتحدي البرجوازية الحاكمة من أجل السلطة السياسية.

إن أي ماركسي لم يجادل الفرضية الأساسية التي ينطوي عليها هذا الطرح، أي أن المهام الموضوعية الملقاة على عاتق هذه الثورات في البلدان المتخلفة ستكون شبيهة –إن لم تكن مطابقة- للمهام التي واجهتها الثورات البرجوازية الديموقراطية الكلاسيكية وهي: إسقاط الحكم المطلق والملكي، وضمان الحريات الديموقراطية والحقوق الدستورية العالمية، وحرية تطور أحزاب سياسية ونقابات؛ إقتلاع بقايا المؤسسات الإقطاعية وشبه الإقطاعية في الزراعة والقانون الضريبي، وبالأخص مسألة الريع الأرضي والملكيات الكبيرة الخاصة بطبقة النبلاء؛ توحيد السوق الداخلية (هذه المهمة بالإضافة إلى الثورة الزراعية ينظر إليها كشرط مسبق من أجل تطور سريع للصناعة وتحديث فعلي للبلاد)؛ الحد من شروط التبعية للرأسمال الأجنبي (وفي الحالات التي لا يوجد فيها حتى استقلال شكلي ستكون هذه المهمة رقم واحد)؛ وإيجاد حل لمشكلة الأقليات القومية الموجودة داخل حدود الدولة المحددة تاريخيا.

لكن كانت هناك خلافات عديدة بين الماركسيين على الطريق لحل تلك المهام، رغم اتفاقهم على أن تلك هي المهام الملحة والفورية التي ستعالجها الثورة –وليس مثلا القيام الفوري بتأميم شامل للصناعة.

إلاّ أن هذا التعريف بمهام الثورة المقبلة ارتبط بشكل عام بتوجه ميكانيكي ضيق حيال المشاكل السياسية المتداخلة. وقادت طريقة التفكير تلك إلى جملة من النتائج التي من المفترض أن تتبع بشكل مباشر ومنطقي المقدمة المبيّنة أعلاه: فمن المهام الديموقراطية البرجوازية للثورة المقبلة تمّ الإستنتاج أن طابعها أيضا ديموقراطي برجوازي، ومن طابعها الديموقراطي البرجوازي أُستخلص أنه من غير الممكن الحلول محل البرجوازية وأحزابها في قيادة الثورة، ومن استحالة عزل البرجوازية تدفقت تكتيكات الحزب البروليتاري (الاشتراكي الديموقراطي حسب ما كانت تجري تسميته في ذلك الوقت) الذي بينما يدافع من جهة عن مطالب محددة للطبقة العاملة كيوم عمل من ثماني ساعات أو الحق في الإضراب وفي تشكيل نقابات، يمتنع بحذر من جهة أخرى عن القيام بنشاطات مبالغ بها من الممكن أن تخيف البرجوازية وتدفعها إلى معسكر الثورة المضادة وبالتالي تحكم علة الثورة بالفشل المؤكد.

تعرض هذا التوجه الميكانيكي المذكور، الذي مثّله أوضح تمثيل أبو الماركسية الروسية بليخانوف، إلى هجوم متزايد من قبل الماركسيين الروس والبولنديين ومن بعض الماركسيين الألمان خلال ثورة 1905 وبعدها مباشرة. وقد تم التذكير بأن ماركس نفسه شكك سنة 1848 بقدرة البرجوازية الألمانية على قيادة ثورة برجوازية أصيلة. أليست تلك القدرة محدودة أكثر بكثير بعد ستين عاما؟ أولم يكن وجود القيادة البرجوازية الصغيرة اليعقوبية في مكان البرجوازية على رأس العملية الثورية شرطا مسبقا للانتصار، حتى خلال الثورة الفرنسية العظيمة عام 1789؟ ومن كان المرادف لليعقوبيين الفرنسيين في روسيا وبولندا واسبانيا؟ بالطبع ليس السياسيون البرجوازيون التقليديون الليبراليون المتحفظون جدا والأكثر من مترددين في وضع المتاريس فكيف في قيادة عصيان مسلح.

لقد رفع هذه الاعتراضات مفكرون مختلفون كبارفوس وكاوتسكي، ولينين وروزا لوكسمبرغ، وفرانز ميهريغ وتروتسكي. إلاّ أن تروتسكي أضاف ثلاثة اعتبارات بنيوية، مبديا نفاذ بصيرة مدهشا في صلب طبيعة الاقتصاد والمجتمع بالبلدان الرأسمالية المتخلفة نسبيا.

فأشار أولا إلى أنه بوجود التأثير النسبي للرأسمال الأجنبي، إتجهت البروليتاريا لأن تكون أقوى نسبيا من "البرجوازية الوطنية"، وذلك لأنها كانت مستخدمة في آن معا من قبل الرأسماليين الوطني والأجنبي. أما البرجوازية فكانت مدركة من جهتها لعلاقات القوى الاجتماعية والسياسية غير المؤاتية، ولهذا السبب الموضوعي أصبحت بحالة من الرعب المميت من خطر الثورة. واستنتج تروتسكي بأنه أمر تافه أن تضع البروليتاريا قيودا ذاتية على مطالبها خوفا من أن تنتقل البرجوازية إلى معسكر الثورة المضادة، لأن الرأسماليين سيفعلون ذلك في أي حال، بغض النظر عن تكتيكات البروليتاريا، بسبب علاقات القوى المحددة التي تتحكم بالتطور السياسي للبلد.

ثانيا، إن طريقة إرتباط الملاكين الكبار بالرأسمال في ظروف القرن العشرين كانت مختلفة تماما عن حالها في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر وحتى النصف الأول من القرن التاسع عشر. أصبح هؤلاء الملاكون الآن متداخلين بشدة مع الرأسمال من خلال التسليف والبنوك والربا والملكية المشتركة. هذا، وبما أن أعدادا هامة من البرجوازية قد امتلكت أراضي زراعية، فإن إصلاحا زراعيا جذريا –ولن نقول ثورة زراعية، ثورة جاكية( حديثة- سيشكل ضربة مباشرة للمصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقة البرجوازية. فإن أي هجوم على الملاكين العقاريين سيثير تحديا للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بشكل عام، وبمعنى آخر أنه سيبعث شبح الاشتراكية. وبالتالي، فالبرجوازية في هذه البلدان المتخلفة نسبيا لن يكون لديها لا المقدرة ولا الإرادة للقيام بإصلاح زراعي جذري. وهذا يحكم على أي ثورة تبقى تحت قيادة البرجوازية في تلك البلدان بالفشل المؤكد.

وأخيرا، فإنه أمر لا يُجادل فيه، بحكم الثقل الهائل للرأسمال الأجنبي (ولاسيما الرأسمال الخاص ببريطانيا وألمانيا وفرنسا وايطاليا وهولندا وبلجيكا والنمسا، وبدرجة أقل الولايات المتحدة واليابان) والتفوق الكبير للصناعة الأجنبية، ما إذا كان هناك متسع باق في السوق العالمية في عصر الإمبريالية لتطوير صناعة رأسمالية كاملة في بلدان كروسيا وبولندا وتركيا دون الكلام على البرازيل والهند والصين. ويبدو أنه لا يوجد إمكانية لتصنيع كامل وتحديث يتناولان تلك البلدان إذا ما بقيت داخل إطار الرأسمالية، هذا الإطار الذي يفرض في عصر الامبريالية ضغطا متزايدا من الرأسمال الأجنبي ومن منافسة البضائع المصنعة في البلدان الرأسمالية المتقدمة. إن عدم وجود ثورة زراعية جذرية والخضوع لسوق عالمية تحت السيطرة الأجنبية أمران يلتقيان ليحدا بشدة، أو الأحرى ليفشلا، أي محاولة لتصنيع جذري للبلد. فروسيا وتركيا والبرازيل والصين والهند لن تكرر الطريق الرأسمالي ذاته الذي سلكته كل من ألمانيا وإيطاليا والنامسا وحتى اليابان، لأنه لم يعد هناك مكان لقوى صناعية كبيرة جديدة في السوق الرأسمالي العالمي.

وكما عبّر عن ذلك تروتسكي بقوله: "إن عدم التساوي، هذا القانون العام للسيرورة التاريخية، يظهر بشكل أكثر حدة وتعقيدا بصدد مصير البلدان المتخلفة. إن الثقافة المتخلفة لتلك البلدان تُجبَر تحت الضغط المتزايد للحاجة الخارجية على القيام بقفزات. ويخرج من قانون عدم التساوي العالمي هذا قانون آخر سنسميه، لفقدان تسمية أفظل، قانون التطور المركب –الذي نعني به تلاقي مرحلتين مختلفتين، وجمع خطوات منفصلة، وتمازج أشكال قديمة مع أشكال أكثر حداثة"[1].

وبينما قام لينين، تحت ضغط سجاله مع الشعبويين، بالتركيز في كتابه تطور الرأسمالية في روسيا على ما هو "كلاسيكي" و"عضوي" في هذا التطور الرأسمالي، شدد تروتسكي، بالعكس من ذلك، على طابع هذا التطور الفريد: ففي الوقت الذي كان لا يزال فيه التطور العضوي للرأسمالية الروسية في مراحله الجنينية، حيث لم تظهر إلاّ بشكل طفيف طبقة من العمال الحرفيين والرأسماليين الصغار في الصناعات الخفيفة، كانت تقوم الدولة الروسية بالإشتراك مع الرأسمال الأجنبي بتطعيم الاقتصاد الروسي المتخلف بعدد من الصناعات الثقيلة وكذلك بتجميع أكثرية المأجورين. إنه لا غنى عن فهم هذا الجمع بين أشكال مختلفة وأشكال حديثة جدا للتطور الإقتصادي لإدراك ما حدث في روسيا، وبخاصة في عامي 1905 و1917.

لقد وافق لينين وروزا لوكسمبرغ (وأيضا كاوتسكي وفرانز ميهرينغ) مع تروتسكي على السببين الأول والثاني اللذين يبينان لماذا البرجوازية غير مؤهلة لقيادة ثورة منتصرة في روسيا. غير أن لينين خالف تروتسكي بصدد السبب الثالث وترددت روزا لوكسمبرغ (وأيضا كاوتسكي) في شرح موقفها.

كان لهذا الخلاف أثر سياسي هام. فبالنسبة للينين كانت المهمة عزل البرجوازية المعادية بشكل كامن للثورة عن قيادة السيرورة الثورية وإبدالها بقوى اجتماعية وسياسية أخرى باستطاعتها أن تلعب دورا مماثلا لما قام به اليعقوبيون في الثورة الفرنسية. غير أن هذه القوى الثورية، بينما تقوم باستبدال، لا بل وبتحطيم البرجوازية سياسيا، ستقوم أيضا بفتح الطريق أمام تطور رأسمالي في روسيا. ولن تكون الرأسمالية تلك مبنية على أساس شبيه بالنموذج الزراعي البروسي بل مبنية على أساس النموذج الزراعي الأمريكي (حيث توفر الأعداد الضخمة من المزارعين المستقلين سوقا داخلية كبيرة للبضائع الصناعية)، الذي سيجبر الصناعة الروسية على المنافسة على صعيد السوق العالمي حيث أصبح المكان مزدحما جدا.

أما فيما يخص الممارسة السياسية، فهذا يتطلب قيادة (حكومة) ثورية يشترك فيها حزب الطبقة العاملة بتحالف مع حزب فلاحين ثوري: تلك هي المقولة الشهيرة "لدكتاتورية ديموقراطية للعمال والفلاحين" التي تختلف عن ديكتاتورية البروليتاريا ودكتاتورية البرجوازية. هذا، وستكون للدولة المنبثقة عن تلك الديكتاتورية (أو الحكومة الثورية) دولة برجوازية، والإقتصاد المنبثق عن الثورة المنتصرة اقتصادا رأسماليا: "فالثورة لا يمكنها أن تقفز عن المرحلة الرأسمالية"[2].

إن فكر بارفوس الخصب لكن غير المنظم لم ترضه هذه الطريقة في التفكير. وقد أشار إلى أنه لم يتمكن الفلاحون عبر التاريخ الحديث من إنشاء أحزابهم السياسية الممركزة الخاصة بهم. وما اصطلح عموما على اعتباره أحزابا فلاحية كان في الحقيقة أحزابا برجوازية (أحزاب انتليجنسيا الريفية والتجار) تنال أصوات الفلاحين الإنتخابية لكن تخون مصالحهم الإجتماعية الخاصة بعد عملية التصويت مباشرة. واعتبر بارفوس أن حكومة الإشتراكيين الديموقراطيين وحدها يمكنها أن تقود الثورة بنجاح وتنهي العمل كما فعل اليعقوبيون في فرنسا. ولكنه مثل لينين وبعكس تروتسكي رأى أن هكذا حكومة ستبقى ضمن إطار الدولة البرجوازية الديموقراطية والنظام الإقتصادي الرأسمالي: كان النمودج هنا أول حكومة عمالية تشكلت في أستراليا.

وبجرأة يقظة تخطى تروتسكي الشاب تناقضات هذه المواقف وعدم تماسكها. وبينما أكد مع لينين على أن الفلاحين سيلعبون دورا مهما في الثورة، فقد أصر، على عدم إمكانية الفلاحين لعب دور سياسي مستقل عن البروليتاريا أو البرجوازية –وبالأخص إبان الثورة. وقد عزا عدم القدرة تلك إلى تشتت الفلاحين وتأرجحهم، كونهم مالكي سلع صغار ومنتجين لها، بين الرأسمال والعمل المأجور. وكنتيجة لعدم تجانسهم الإجتماعي تنحدر شريحتهم الدنيا بشكل متواصل إلى البروليتاريا أو شبه البروليتاريا بينما تنتقل الشريحة العليا إلى رأسمالية ريفية مستغلة للعمل. إن تاريخ جميع الثورات الحديثة والتجارب السياسية منذ انبثاق الرأسمالية الصناعية أكد بشكل تام هذا التحليل. إن التحالف مع ما يسمى بحزب الفلاحين قد هدد دوما بأن يصبح إتلافا مع البرجوازية، وبمعنى آخر أن يتضمن تلك المخاطر ذاتها التي كمنت في التكتيكات التقليدية للمناشفة والتي حاول لينين والبلاشفة تجنبها. (كان هناك بالطبع اتفاق تام بين لينين وتروتسكي حول الحاجة لتجنب تكتل مع البرجوازية "الليبرالية"). وفقط بحال سمحت السيورة الثورية بإحلال السيطرة السياسية للإشتراكية الديموقراطية –الحزب البروليتاري- على الفلاحين، وبتعبئة ومركزة إنتفاضاتهم تحت قيادة طبقية عمالية، فقط عندئذ يمكن التحقيق الكامل للأهداف التاريخية للثورة.

بكلام آخر: إن علاقات القوى الإجتماعية والسياسية التي تميز السيرورة الثورية في البلدان المتخلفة نسبيا[3] تؤدي لأن تنتصر الثورة فقط تحت قيادة اشتراكية بروليتارية. فالدور الذي لعبه اليعقوبيون في الثورة الفرنسية يمكن أن يتم في بلدان روسيا والصين والهند والبرازيل بواسطة حزب الطبقة العاملة فقط.

لقد أظهر تروتسكي، وذلك بعكس لينين وبارفوس، بأنه أمر غير واقعي أن نفترض أن العمال بانتزاعهم لسلطة الدولة سيتمكنون من ممارسة قيود داتية كافية للحد من دفاعهم عن مصالحهم الطبقية الخاصة ومن أجل النضال في سبيل مطالب ديموقراطية وحالية، بينما يبقون في الوقت نفسه على استغلال الرأسماليين لهم. وطلب تروتسكي من هؤلاء (مثل بارفوس ولينين القريبين من موقفه لكن الذين مازالا يرفضان استخلاص النتائج النهائية )، أن يحاولوا فقط تصور هذه الحالة: عندنا طبقة عاملة حققت النصر ليس فقط ضد الملكية بل أيضا ضد القوى السياسية المحافظة بما فيها البرجوازية التي تستغلها مباشرة، هذه الطبقة العاملة إستولت على سلطة الدولة، وأنشأت حكومة ثورية وهي تحكم الدولة إنها مسلحة وفي أوج حالات الثقة بالنفس إجتماعيا وسياسيا. لكن في اليوم التالي ستعود بهدوء إلى المصانع وإلى المؤسسات الصناعية –وأية مؤسسات صناعية كانت هناك ولا تزال في البلدان المتخلفة نسبيا!- وستخضع بخنوع لاستغلال رأسماليين غير مسلحين، وستقبل أن تحكم خارج أبواب المصانع وليس داخلها حيث تعيش الجزء الأكثر مشقة وتعبا في حياتها. وستفعل كل هذا فقط لأن بعض الإيديولوجيين يقولون لها "بأن البلاد ليست ناضجة للإشتراكية". أليس هذا الكبح الذاتي والعقاب الذاتي أمرا غير محتمل تماما بالنسبة لطبقة إجتماعية منتصرة سياسيا؟

كان استنتاج تروتسكي واضحا: لن يكون هناك "مراحل" في الثورات المقبلة في البلدان المتخلفة نسبيا. وإذا ما نجحت البروليتاريا في كسب السيطرة السياسية على الفلاحين . وقيادة العملية الثورية ، عندئذ ستكون الثورة منتصرة. إلاّ أنه في تلك الحالة ستعبر الثورة دون انقطاع، من المهام التقليدية للثورات الديمقراطية البرجوازية الى مهام أساسية فى الثورة الإشتراكية، وأهمها تأميم وسائل الإنتاج التي ما تزال في أيدي الطبقة الرأسمالية. كانت هذه المقولة الأولى والأهم لنظرية الثورة الدائمة كما صاغها تروتسكي باكرا عام 1905–1906.

إن الثورة في روسيا وبلدان مشابهة يمكن أن تنتصر فقط بإنشاء دكتاتورية البروليتاريا التي يدعمها الفلاحون. وهذه الدكتاتورية لن تبقى ضمن حدودالرأسمالية "الوطنية " أو "العالمية"، بل ستبدأ في الحال مهمة بناء المجتمع الإشتراكي.

أما إذا لم تنتزع البروليتاريا القيادة على صعيد عامة الأمة، فعندئذ ستهزم الثورة وستنتصر الثورة المضادة. وبانتصار الثورة المضادة فإن أي أمل حول تصنيع وتحديث كامل للبلد سيبرهن عن طوباويته .

وفي مجرى الحديث يمكن أن يقال أن نقاش تروتسكي حول عدم احتمال البروليتاريا للقيود الذاتية سيتأكد لاحقا في ظروف لم تكن بعد منظورة. فحين استولى البلاشفة على السلطة في ثورة أكتوبر 1917 كانوا مصممين على أن يطبقوا، مرحلة بعد مرحلة، خطة مصاغة باهتمام لتأميم الصناعة والبنوك والمواصلات وتجارة الجملة ، حيث تسبق ذلك فترات للرقابة العمالية يتعلم خلالها العمال كيف يديرون المنشآت قبل الإستيلاء التدريجي عليها. إن هذه الخطة الموضوعة بعناية قد تشتتت، ليس فقط لأن البرجوازية قامت بشن حرب أهلية ضد سلطة السوفيات ، بل والأهم من ذلك لأن العمال الذين هم في أعلى حالات الثقة بالنفس لم يستطيعوا تحمل الإستغلال والتعجرف والقيادة والتخريب المعتمد من جانب الرأسماليين. لقد بدأت حركة عفوية للاستيلاء على المصانع بالإنتشار والتوسع وأظهرت ظروف النضال الطبقي أنه لا يمكن السيطرة عليها بواسطة مخططات ماهرة معدّة سلفا[4].

إن فكرة أن البروليتاريا يمكنها عمليا الاستيلاء على السلطة "قبل" البرجوازية و"عوضا عنها" في البلدان شبه المتخلفة ظهرت بالنسبة للأكثرية الساحقة من الماركسيين الروس وغيرهم كحلم يقظة جامح. وبقيت هذه الحالة حتى بعد إنتفاضة 1905 التي برهن خلالها العمال الروس عن إرادة ثورية وطاقة وشجاعة فائقتين تخطت ما أبداه عمال باريس في أيام الكومونة. لقد أثارت نظرية الثورة الدائمة صدى قليلا خارج الدائرة الصغيرة لأصدقاء وأعوان تروتسكي المقربين. ورغم أنه صحيح أن روزا لوكسمبرغ قد اقتربت من مواقفه، لكن حتى تلك الثورية العظيمة ارتدت عن الاستنتاج المنطقي لتفكيرها ورفضت أن تتقبل القدرة على رؤية دكتاتورية البروليتاريا تدخل سياسات اشتراكية في روسيا.

ولم يقبل لينين بشكل خاص هذا المفهوم. فبينما كان ممحورا نيران نقده على المشروع المنشفي الداعم للبرجوازية في العملية الثورية بشكل نقدي، كان من وقت لآخر يسخر من نظرية الثورة الدائمة. وقد تعلق بفكرة أن لا مفر من مرحلة الثورة البرجوازية الديموقراطية، التي ستؤدي خلالها الثورة الزراعية إلى تطور الرأسمالية، قبل طرح موضوع المرحلة الاشتراكية. وقد عرّف الثورة المقبلة، بشكل صريح وغير غامض، كثورة برجوازية ليس فقط على صعيد الشكل السياسي الذي ستتجه إليه (جمهورية ديموقراطية)، بل وأيضا بسبب مضمونها الاجتماعي الاقتصادي: التطوّر الحر للرأسمالية المعتمدة على مزارعين رأسماليين أحرار. وكانت الغاية من "الديكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين" التي ناضل في سبيلها البلاشفة خلال فترة 1905-1917 هو إيجاد هذه التركيبة المذكورة. لقد تثقف الكادر البلشفي بهذه الروحية، التي ستؤدي في العشرينات وما بعدها إلى فوضى شديدة في صفوف الأحزاب الشيوعية الفتية. وحتى تروتسكي نفسه مال إلى اعتبار روسيا حالة خاصة، وانتظر حتى تجربة الثورة الصينية عام 1927 قبل أن يعمم مقولة الثورة الدائمة لتشمل جميع البلدان المتخلفة نسبيا التي تملك فيها البروليتاريا قوة كافية تجعل من الاستيلاء على السلطة السياسية إمكانية فعلية.

كانت الثورة الروسية في فبراير/شباط 1917 الحدث الذي ساعد لينين وروزا لوكسمبرغ في التغلب على ترددهما في المرحلة السابقة. لقد مالت القيادة البلشفية الأولى لما بعد فبراير/ شباط (كامنيف ومولوتوف وستالين) إلى التمسك بالمعادلات القديمة والنظر بمسألة الإندماج مع المناشفة ودعم الحكومة المؤقتة بشكل نقدي. غير أن لينين، وبدعم حماسي من الطليعة البلشفية العمالية، قام بانعطافة في موضوعات أبريل (نيسان) نحو هدف "كل السلطة للمجالس (السوفيات)" ونحو إنشاء دكتاتورية البروليتاريا. وأصبح إذ ذاك "تروتسكيا" في موضوعة دينامية الثورة الروسية في الوقت نفسه الذي أصبح فيه تروتسكي "لينينيا" بصدد موضوعة التنظيم.

ويبقى صحيحا أن لينين قد استعمل من أجل إقناع رفاقه القدامى بعض المعادلات الغامضة التي سمحت فيما بعد لرجال الصف الثاني أن يدّعوا بأنه كان هناك مرحلتان للثورة الروسية: مرحلة فبراير/شباط 1917 التي أطيحت خلالها الملكية و أنشئت جمهورية ديموقراطية برجوازية، ومرحلة أكتوبر 1917 التي استولت خلالها الطبقة العاملة على السلطة. لكنه أمر في غاية التضليل أن يتم الإستشهاد بمقولات ملتبسة من أجل تدعيم فكرة أن لينين استمر يرفض نظرية الثورة الدائمة.

ولا يمكن، بأي طريقة من الطرق، أن يؤكد أحد بشكل جدّي بأن ثورة فبراير/ شباط قد حققت المهام التاريخية للثورة البرجوازية الديموقراطية وبشكل رئيسي مهمة إصلاح زراعي جذري. ولو تحقق ذلك فعلا لما كان من الممكن أن تنتصر ثورة أكتوبر لأن الطبقة العاملة ستكون إذاك معزولة عن أكثرية الأمة. إن إنتصار أكتوبر كان ممكنا فقط لأنه ليست البرجوازية المنتصرة هي التي يمكن أن توزع الأرض على الفلاحين، بل البروليتاريا المنتصرة بالذات، تماما كما توقع تروتسكي من قبل[5]. وعلى هذه القاعدة المادية الصلبة – وفقط عليها- كان بالإمكان بناء التحالف بين البروليتاريا والفلاحين في الدولة العمالية.

أكثر من ذلك، لا يمكن لأحد أن يعتبر بأن "الدكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين" قد تحققت في روسيا (أو في أي مكان آخر). فالحكومة المؤقتة لم تكن بالطبع شيئا من هذا القبيل، بل كانت تجسيدا لمشروع المناشفة الكلاسيكي حول الاتلاف بين البرجوازية والإشتراكيين الديموقراطيين التوفيقيين. ولم تكن أيضا حكومة أكتوبر أي شيء من ذاك القبيل، بل كانت دكتاتورية البروليتاريا. ولقد برهن التاريخ أن تروتسكي كان على حق على جميع الأوجه بالنسبة للقوى المحركة للثورة الروسية.

و بعد مارس/أبريل(آذار/ نيسان) 1917 لم يكن لينين غامضا بل كان واضحا للغاية على الأقل بالنسبة لمسألتين أساسيتين. فهو لم يتردد ولو للحظة في تحديد هدف البلاشفة – دكتاتورية البروليتاريا وانتزاع البروليتاريا السلطة وخلق دولة عمالية، متبعا خطا مماثلا لتوقعات تروتسكي في عام 1905/1906. وقد أكد بوضوح مواقف تروتسكي القديمة حول العجز التاريخي للبرجوازية الصغيرة الريفية (الفلاحين) كما المدينية عن لعب دور سياسي مستقل عن البرجوازية أو البروليتاريا. إنها مضطرة أن تتبع هذه أو تلك.

وكان الاستنتاج واضحا: أما أن تنتزع البروليتاريا السلطة وتنشأ دولة عمالية متحالفة مع الفلاحين، أو ستنتصر الثورة المضادة. وقد برهن حلم اليقضة غير الممكن عن صحته: يمكن للبروليتاريا أن تقفز فوق مرحلة الثورة البرجوازية وتستولي على السلطة في البلدان المتخلفة نسبيا. وليس بمستطاعها فقط أن تفعل ذلك، بل عليها أن تفعل ذلك خشية أن يبقى البلد غارقا في مستنقع التخلف.


--------------------------------------------------------------------------------
الفصل الثاني

حدود التطور الإشتراكي في البلدان المتخلفة
إذا كان تروتسكي قد اقتصر على توقع إمكانية استيلاء الطبقة العاملة في البلدان المتخلفة نسبيا على السلطة والبدء ببناء مجتمع لا طبقي قبل أن تنبثق صناعة رأسمالية متطورة تماما وقبل أن تستولي البرجوازية الصناعية نفسها على سلطة الدولة، فهو لم يكن ليطور النظرية الماركسية محافظا في الوقت نفسه على التماسك الداخلي للمنهج النظري، بل يكون على العكس قد احدث ثغرة منفرجة داخل هذا المنهج. هذا بالطبع ما اتهمه به المناشفة والإشتراكيون الديموقراطيون التقليديون منذ البداية.

كان مفهوم الاشتراكية عند ماركس مرتبطا بشكل وثيق بفرضية أن الرأسمالية سوف تخلق الظروف المادية والاجتماعية والذاتية لبناء مجتمع لا طبقي. صحيح أنه عندما واجه ماركس الإشتراكيين الروس المتأثرين بالشعبوية لم يرفض فكرة أن البلدان خارج خط التطور التقليدي الأوروبي يمكنها أن "تقفز" فوق المرحلة الرأسمالية بالإعتماد على الملكية المشتركة الريفية وباستعارة التكنولوجيا الصناعية الغربية بطريقة ما حيث تتجنب الثمن الإجتماعي الثقيل الذي على الجماهير تحمله من أجل ثورة صناعية في ظل الرأسمالية. إلاّ أنه اعتبر أن هذه الإمكانية مرهونة بضرورة غياب انقسام طبقي متقدم وملكية خاصة للأرض داخل القرية –أي التطور الرأسمالي الجنيني جدا وحده مع آثاره المفككة الناتجة عن المال واقتصاد السوق. وبما أن هذه الظروف الصعبة لا بد أن تتكرس لكي يصبح هكذا "قفز" واقعيا فلم يكن من المستغرب أن ينبذ فردريك انجلس هذه الفرضية بعد بضع سنوات لكونها، على أي حال، قد تخطتها الأحداث. وفي الحقيقة أنه أمر مشكوك فيه ما إذا كانت هذه الفرضية، في يوم من الأيام، منسجمة مع الواقع.

لقد تم التأكيد مرة تلو الأخرى في مجمل كتابات ماركس على دور "النتائج الحضارية" للرأسمالية في وضع أرضية للاشتراكية. ويربط هذا التأكيد بشكل وثيق بتفحص نقدي لجميع الثورات الإجتماعية السابقة وتحليل الأسباب التي أدت دائما بهذه الثورات إلى احلال طبقة مستغلة جديدة مكان القديمة بدل أن تمهد الطريق أمام مجتمع لا طبقي. وقد شرح ماركس بشكل بيّن هذه الأمور بإرجاعها إلى واقع أن الظروف المادية والاجتماعية لم تكن ناضجة من قبل لمثل هذا المجتمع.

كان برأي ماركس أن الشرط المسبق المادي للاشتراكية هو وجود درجة من تطوّر القوى المنتجة بما يجعل من وجود الطبقات الحاكمة موضوعيا أمرا غير ضروري، أي، بكلام آخر، بما يسمح للمجتمع بتحرير جميع الرجال والنساء من جزء هام من وقت عملهم الذي يوظف في سبيل الحاجة إلى الإنتاج المباشر من أجل حياتهم المادية، وبالتالي التخلص من التقسيم الإجتماعي الأساسي للعمل بين المنتجين المباشرين والإداريين. إن الشرط الاجتماعي المسبق للإشتراكية كان انبثاق طبقة اجتماعية ستتهيأ، من خلال وجودها ونضالها بالذات، لاستبدال جميع أشكال السلوك والحوافز المرتبطة بالملكية الخاصة والتنافس بتعاون وتضامن معين. وفقط المستوى العالي من التطور الصناعي الرأسمالي وانبثاق بروليتاريا صناعية حديثة قوية قد حققا هذين الشرطين.

ومن غير ريب فإن ماركس لم يعلن أبدا بأن الاشتراكية يمكن أن تحدث من خلال "إنهيار نهائي" غامض للنضام حالما تتواجد صناعة رأسمالية كافية وبروليتاريا جيدة التنظيم وقوية بما فيه الكفاية. ولم يؤمن قط بأنه يجب أن ننتظر لكي يأتي هذا اليوم الموعود. إن هكذا جبرية إقتصادية فجة كانت غريبة بشكل عميق عن عقلية الديالكتيكي، الذي كان التغيير الإجتماعي بالنسبة له يفترض مسبقا تفاعل الظروف المادية لكي تجعل من الممكن خلق أشكال من التنظيمات الاجتماعية، والممارسة الثورية للبشر التي تحققها عمليا.

غير أن إمكانية نشاط ثوري حاسم هي بدورها محددة ماديا واقتصاديا واجتماعيا. ولا يمكن أن تنشأ في ظل أي ظروف بغض النظر عن مستوى تطور القوى المنتجة على الصعيدين المادي والبشري. وإن لم تتواجد هذه الشروط ستنبثق عندها من جديد "جميع الأوساخ القديمة"، على حد تعبير ماركس المعبر. أن نؤمن عكس ذلك لا يعني فقط الوقوع في الإرادية الفجة على نمط ماوتسي تونغ وأتباعه الأكثر راديكالية، بل يعني إسقاطا لأجزاء أساسية من فكر ماركس وتحطيما لانسجام هذا الفكر الداخلي.

وقد أكد تروتسكي بشدة، بقدر لينين وروزا لوكسمبرغ إن لم يكن أكثر، على الجانب النشيط والواعي من النضال البروليتاري من أجل الإشتراكية ضد التعاليم الجبرية لبيبل وكاوتسكي وبليخانوف والماركسيين النمساويين. إلاّ أنه لم بفقد رؤية الظروف المادية والاقتصادية التي تفرض قيودا كبيرة على التطبيق الثوري. وقاده ذلك إلى اكتشاف مزدوج وتوقع مزدوج: رغم أنه ممكن، لا بل من المرجح، أن تستولي الطبقة العاملة على السلطة في البلدان المتخلفة نسبيا قبل أن تفعل ذلك في البلدان الأكثر تقدما، إلا أنه ليس من الممكن القيام بالبناء الناجح للاشتراكية في تلك البلدان المتخلفة نسبيا وحدها. إن اندماج هذين التوقعين، كما تم صياغتهما بوضوح في نهاية عام 1906 في نتائج وتوقعات، يتضمن بشكل مسبق كلا من الإنتصارات والمآسي التي ستعيشها الإشتراكية في الجزء الأكبر من القرن العشرين.

إن منطق تفكير تروتسكي لا يمكن أن يغفله عقل شخص "غير منحاز". ولكنه أمر ملفت للنظر أن نلاحظ عدد هؤلاء المفكريين –ليس فقط الكتاب المأجورين القيام بعمل ملفق بل أيضا معلقون ومؤرخون ذو اهتمامات أصيلة الدين يستمرون في إساءة فهم ما قاله تروتسكي حقا. ففي مناسبات لا تحصى قيل بأن هذين الإفتراضين متعارضان بينما الحقيقة أنهما مكملان بشكل واضح بعضهما للبعض الآخر.[6] إنّ جل ما قاله تروتسكي هو أنه تبعا للأسباب نفسها التي تجعل من الأسهل بالنسبة للبروليتارياالروسية مما بالنسبة للبريطانية أو الأمريكية مثلا بأن تستولي على السلطة، فإنه أصعب بما لا يقاس بالنسبة للأولى مما بالنسبة للاخيرتين أن تقوم بخطوات حاسمة إلى الأمام باتجاه المجتمع اللاطبقي.

يمكن تلخيص هذه الأسباب نفسها في معادلة واحدة وهي: الضعف النسبي للبرجوازية وبشكل عام الضعف العام الشامل للحضارة الرأسمالية بأشمل ما في الكلمة من معنى. إنه بسبب هذا الضعف النسبي (قياسا مع البروليتاريا) لا تملك البرجوازية في الشرق لا الشجاعة ولا الإرادة لقيادة ثورة برجوازية حقيقية، وبالتالي تخلي الطريق أمام الطبقة العاملة لأخذ القيادة في النضال من أجل التحرر القومي و التحديث. إنه بسبب الضعف العام للحضارة البرجوازية تترافق مع عملية التحديث والتصنيع اتجاهات إنحلال اجتماعي قوية –لا تستطيع البرجوازية استيعابها أو السيطرة عليها أو تحييدها- تقوم بتثوير الطبقة العاملة وشرائح أخرى من المجتمع. إلاّ أنه وبالضبط لأن الرأسمالية لم تقم بإتمام مهامها التاريخية في البلدان المتخلفة نسبيا تقف بوجه البروليتاريا في السلطة عوائق جمة في طريقها لتحقيق مجتمع لا طبقي فعليا. ففي تلك البلدان لم تخلق الرأسمالية الشروط المسبقة المادية للقضاء السريع على التقسيم الاجتماعي الأساسي للعمل، التقسيم بين هؤلاء الذين ينتجون والآخرين الذين يديرون. وعندما تحاول الطبقة العاملة أن تخلق تلك الشروط بنفسها تصبح النتائج ذاتها "للتراكم الاشتراكي البدائي" عوائق ضخمة أمام بقاء حكم الطبقة العاملة السياسي المباشر.

ومن جهة أخرى، فإن ضعف الحضارة الحديثة –المستوى المنخفض للثقافة والمهارة الثقنية وفقدان الطبقة العاملة والشرائح البرجوازية الصغيرة الدنيا لتجربة الحكم السياسي المباشر- يحد من السياسة الثورية للبروليتاريا المنتصرة إلى دائرة تضيق باستمرار. فعلى صعيد كلا الجانبين الموضوعي والذاتي تقف عوائق لا يمكن تذليلها في طريق البناء الاشتراكي في البلدان المتخلفة.

وإلى جانب هذه التضييقات الناشئة عن ماضي التخلف وحاضره يجب أن يُضاف واقع أقوى، وهو أنه لا يمكن أخذ البلدان المتخلفة نسبيا بمعزل عن صيغة إقحامها الخاصة في السوق الرأسمالية العالمية، أي بمعزل عن العالم ككل. بالطبع سيكون من التفريط القول بأن تروتسكي، حتى قبل عام 1914، قد وضع جميع الحجج التي استخدمها في منتصف العشرينات ضد نظرية تحقيق "الإشتراكية في بلد واحد". إلاّ أنه من الواضح من خلال العديد من كتاباته عام 1905/1906، وأيضا كتاباته خلال الحرب العالمية الأولى، بأنه كان مدركا للتغيرات، التي أحدثها إنبثاق الامبريالية، في العلاقة المتبادلة بين الأمم المتخلفة والمتطورة، وللدينامية الهائلة للامبريالية في كلا الحقلين: الاقتصادي ومضاعفاته الاجتماعية المختلفة، والسياسي ونتائجه العسكرية.

وحتى و لو كان بمقدور طبقة عاملة في بلد معين قلب سلطة الدولة شبه الاقطاعية أو البرجوازية فهي لن تستطيع أن تتخلص من ضغط الرأسمالية العالمية الموجه على ثلاثة مستويات: أولا، سيبقى هذا الضغط موجودا في مجاله العسكري-السياسي. فالرأسمالية لن تتوقف عن محاولاتها لإعادة الاستيلاء على ذاك الجزء من العالم الذي لم يعد بإمكانها انتزاع فائض القيمة فيه (أي الاستثمار ومراكمة رأسمال) كنتيجة لانتصار ثورات اشتراكية. فهي تتجه بطبيعتها إلى التوسع والتوسع إلى أن تشمل العالم أجمع. وعندما يتم ردها على أعقابها فإنها لا تستسلم للحالة الراهنة، وفي أحسن الأحوال يمكن أن تضطر إلى القبول المؤقت بالهدنة غير المستقرة. ويتضمن الضغط العسكري-السياسي تهديدات بحرب وإعادة سيطرة، ومحاولات تدمير، ودعم حروب أهلية أو شنها. وهذا ما يفرض على الثورات الاشتراكية المنتصرة الحاجة التي لا مفر منها إلى حماية ذاتية عسكرية، أي إلى إنشاء قوات مسلحة قوية وتمتينها. إن الكلفة الاقتصادية لهكذا منشآت عسكرية تكون أكبر كلما كان البلد نسبيا أكثر تخلفا وفقرا. ويمكن أن تصبح التكلفة السياسية والايديولوجية والمعنوية (وهو أمر ليس بالضرورة حتميا لكنه كامن) عائقا فظيعا أمام انبثاق مجتمع لا طبقي فعليا.

أما الشكل الثاني من الضغط فهو ذو طابع اقتصادي مباشر. إن تخلف البلدان، التي انتصرت فيها الثورات الاشتراكية أولا، أخضعها لضغط متواصل من البضائع الأرخص ثمنا والتكنولوجيا الأكثر تقدما في السوق الرأسمالية العالمية. ومن غير ريب أن تلك الدول يمكن أن تدافع عن نفسها عبر ضمان احتكار الدولة للتجارة الخارجية، وهو مكمل لا غنى عنه لتشريك وسائل الإنتاج (ولو حتى في أشكالها الدنيا: التأميم). وبهذه الطريقة تضمن تلك الدول بأن التطور الاقتصادي لمجتمعات ما بعد الرأسمالية لن يتحكم به قانون القيمة، أي أن الإمبريالية لن تفرض نمط تطو يلائم مصالحها الخاصة. لكن هكذا دفاعا ذاتيا لا يعني أن النتائج الجانبية غير المباشرة لضغط السوق العالمية يمكن أن تُلغى نهائيا في الاقتصادات المشرَّكة أو أن هذا الضغط قد يختفي بشكل كامل.

فلأن السوق الرأسمالية العالمية تستفيد بشكل هائل من التقسيم العالمي للعمل، ستبقى محافظة، لفترة غير محددة من الزمن، على مستوى انتاجية عمل أعلى. وبالتالي سيفترض على الاقتصادات المشرّكة، حتى بظل أكثر الظروف مؤاتاة لسلطة عمالية أصيلة في الدولة والاقتصاد، ان تدمج بين كل من المهام لإعادة البناء الإجتماعي على أسس المساواة والأخوة والتضامن بين الكادحين ومهام المنافسة مع النظام الاجتماعي الغريب المدفوع حسب طبيعته في اتجاه نمو فوضوي مشوش متقطع لكن في الوقت نفسه نمو انفجاري. إن إعادة البناء الاجتماعي ستكون مندمجة مع "التراكم الاشتراكي البدائي" ومن ثم يتبعه "تراكم اشتراكي موسع" – مع كل ما يرافق ذلك من قيود صعبة لا مفر منها يفرضها هذا الاندماج على إعادة البناء الاجتماعي نفسها. إن البضائع الرخيصة والتنولوجيا الأكثر تقدما للرأسمالية ستبدو أقوى بكثير، كعائق أمام "بناء الاشتراكية في بلد واحد"، من الجيوش الامبريالية القوية وبحريتها وطيرانها.

أما الشكل الثالث للضغط فهو اجتماعي بسيكولوجي يتأتى عن الشكلين الأولين. فبينما يعتمد بشكل أولي انبثاق المجتمع الاشتراكي على عدد محدد من الشروط المسبقة، يدفع بهذا الإنبثاق أيضا، وبالقوة نفسها، تحول راديكالي في البسيكولوجيا والعادات وطرق التفكير والحوافز والممارسات اليومية للمرأة والرجل العاديين – بكلام آخر ثورة ثقافية عملاقة (وهي عبارة صدف أن استعملها تروتسكي قبل ماوتسي تونغ بأربعين سنة). ومن الضرورة بمكان، من أجل تحقيق هذه التغيرات الراديكالية، خلق جو مؤات يتصف بتطور القوى المنتجة وارتفاع مستوى المعيشة وإرضاء الحاجات المادية الأساسية وارتفاع "الأجر الإجتماعي" نسبة للأجور الفردية (أي تلبية اجتماعية مباشرة لعدد من الحاجات المتزايدة باستقلال عن الجهود الإنتاجية للفرد). وهذا لن يكون في نظام مبني على المكافأة والعقاب الفردي (أرباح وخسائر محسوبة بالمال والبضاعة) والحوافز الفردية، بل من خلال إيمان متزايد في قدرة التعاون والتضامن الاجتماعي على تلبية الحاجات المادية الأساسية بطريقة متساوية- وهذا شرط مسبق لا غنى عنه إذا كان لا بد من استبدال الكدح المتواصل للقرون الوسطى من أجل الاغتناء الذاتي والتوسع الذاتي بالتعاون والتضامن الأخوي كأساس للممارسة اليومية للأكثرية الساحقة من الرجال والنساء. (أن يكون ذلك ممكنا وغير طوباوي قد برهنه واقع أن الاتجاه نحو الاغتناء الفردي هو ذاته ليس جزءا من الطبيعة الإنسانية بل نتاج ظروف اقتصادية اجتماعية محددة- نشوء الإنتاج السلعي واقتصاد السوق. إن هذه الظروف محددة تاريخيا وهي لم تتعايش مع الإنسانية لمئات الألوف من السنين وبذا لن تستمر إلى الأبد).

مع ذلك، طالما أن ظروفا اقتصادية اجتماعية أخرى تسود الجزء الأكبر من العالم الذي لا يمكن للاقتصادات المشرّكة أن تنعزل عنه، وطالما أن أجزاء من البلدان الرأسمالية على الأقل تتمتع بمستوى معيشة أعلى، على قاعدة تقدمها التاريخي في التطور الصناعي ومعدل إنتاجية عملها، وطالما أن ذاك المستوى المعيشي الأعلى مرتبط بنمط استهلاك لا يفضي إلى انبثاق "الإنسان الإشتراكي"، سيبقى هناك ضغط قوي يدفع باتجاه تقليد هكذا أنماط داخل الاقتصادات المشركة واتباعها مع كل ما يترتب على ذلك من اختلال بسيكولوجي واجتماعي وسياسي واقتصادي.

وعلى افتراض أن الثورات الاشتراكية لا تستطيع تحويل البلدان المتخلفة نسبيا إلى مجتمعات اشتراكية متطورة بشكل كامل، هل يعني ذلك أن البروليتارياالمنتصرة وحزبها القائد لا يملكان اختيارا آخر إلاّ القيام ببعض المغامرات المتهورة (حرب ثورية لتوسيع الثورة الإشتراكية على الصعيد العالمي) وإلاّ لا مفر من فقدانهما السلطة؟ وعلى العكس من ذلك، فما كان بعض الأحيان يُنسب إلى تروتسكي[7] لم يكن موقفه في يوم من الأيام. فبينما لم يكن هذا التساؤل مطروحا بحيثياته العملية قبل أن يستولي البلاشفة على السلطة فعليا في ثورة أكتوبر، بدأ يظهر بتزايد كنقطة انقسام أساسية بين الشيوعيين في أوائل العشرينات. وكان جواب تروتسكي قاطعا: على البروليتاريا المنتصرة أن تقوم بأي عمل ممكن للبقاء في السلطة ومنع إعادة الرأسمالية ولكن باستعمالها فقط لوسائل وسياسات تتلائم مع هدف بناء مجتمع لا طبقي، وتكون قادرة على تقريب المجتمع من هدفه المرتجى بدل أن تبعده عنه. إن هذا لا يعني فقط بأن الدولة العمالية يجب أن تحافظ على قدراتها في الدفاع العسكري الذاتي وأن تستغل التناقضات بين الحكومات البرجوازية باستعمالها لجميع أشكال المناورات الديبلوماسية المتلائمة مع صعود الثقة بالنفس والقدرة على النضال للبروليتاريا العمالية، بل يعني أيضا تطويرا مضطردا لاقتصاد البلد القومي الذي أسقطت فيه الرأسمالية، وتطويره بطريقة تؤدي إلى تقوية ثقل البروليتاريا في المجتمع: عددا ومهارة ومستوى ثقافيا ووعيا سياسيا وقدرة على إدارة الإقتصاد والدولة.

إن هذا لم يكن قطيعة طوباوية مع الماركسية، بل افتتاحا لفصل جديد من النظرية والممارسة الماركسيتين. فما هي المهام الملقاة على عاتق الثورات المنتصرة التي تبقى بشكل مؤقت معزولة عن البيئة الرأسمالية العدائية؟ هل عليها أن تحاول الحصول على فترة استراحة لحين تقدم جديد للثورة الاشتراكية في أماكن أخرى؟ ما العمل خلال فترة الإستراحة القصيرة تلك؟ كان تروتسكي شديد الإدراك للتضييقات الاقتصادية والإجتماعية والسياسية التي تحد من الاختيارات الموضوعة أمام هكذا بروليتاريا منتصرة. إن التخلي الطوعي عن السلطة لعدو طبقي هو فعل خيانة، بينما محاولة تحقيق بناء المجتمع اللاطبقي ضمن حدود قومية ضيقة سيكون أملا كاذبا طوباويا رجعيا، يحمل عواقب كارثية. وبين هذين الحدين المتطرفين بقي هناك العديد من الإختيارات، رغم ما قد تتضمنه من تقييدات إضافية. وبالطبع أنه ليست الاقتصادية الجبرية الحتمية هي التي جعلت من الستالينية النتيجة التي لا يمكن تلافيها للظروف المادية التي حكمت روسيا في العشرينات.

كان من الممكن أن تؤدي أشكال بديلة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى علاقات مختلفة للقوى الاجتماعية داخل الاتحاد السوفياتي –علاقات كان من الممكن أن تجعل من الستالينية أمرا غير ممكن. وأكثر من ذلك، لو أن الأممية الشيوعية تبنت استراتيجية وتكتيكات مختلفة بدل أن تصبح معتمدة أكثر وأكثر على التكتل الستاليني في الحزب الشيوعي السوفياتي، وهو الممثل السياسي للبيروقراطية السوفياتية، كان سيؤدي ذلك إلى إيجاد إطار عالمي مختلف جوهريا لاحياء الثورة الروسية – من خلال مضاعفاته الحاسمة على التطور الداخلي لهذه الثورة. إذاك فلا هزيمة الثورة الصينية الثانية ولا انتصار هتلر ولا الإندفاع الأعمى للبشري نحو الحرب العالمية الثانية كانت ستحدد مسبقا في أوائل العشرينات أي بعد موت لينين.

بكلام آخر، إن توقع تروتسكي حول عدم قدرة البلدان المتخلفة نسبيا على "بناء الاشتراكية" بقواها الذاتية الخاصة لم يكن بأي طريقة من الطرق وقوعا في تلك الجبرية الاقتصادية العقيمة والميكانيكية التي على العكس كان عليه أن يحطمها في صياغته لنظرية الثورة الدائمة. كانت نظرية، على العكس من ذلك، تعتمد على التطبيق الجريء نفسه لقانون التطور المركب وغير المتساوي على الصعيد العالمي. إن البروليتاريا المنتصرة بإسقاطها للرأسمالية في أضعف نقاطها في بلد مهم كروسيا ستخل بتوازن القوى السياسية والاجتماعية على الصعيد العالمي بطريقة تعطي فيها دفعا قويا للغاية لسيرورة الثورة الاشتراكية العالمية. وهي بالتالي سترفع إلى مستوى أرقى، وتضع في إطار جغرافي أوسع، اختبار القوى الحاسم بين طبقات اجتماعية متنافرة نشطة وواعية –البرجوازية من ناحية، والبروليتاريا مع جميع الشرائح المستغلة والمضطهدة في المجتمع من ناحية أخرى. إن الثورة الإشتراكية ستبدأ على الصعيد القومي وتنتشر عالميا، وستنتهي أما بالإنتصار أو بتلقي ضربة على المدى الطويل على الصعيد العالم ككل.

لقد لعبت النتائج السلبية "للاشتراكية في بلد واحد" وللانحطاط البيروقراطي للكومنترن وخضوعه لمصالح البيروقراطية السوفياتية الخاصة، لعبت دورا أساسيا في الحاق هزائم حاسمة بالطبقة العاملة العالمية، وبالتالي في اضعاف آلية الدفاع عن الإتحاد السوفياتي أيضا.

هل يمكن إذن أن يقال بأن الثوراث الاشتراكية في البلدان المتخلفة نسبيا تمثل موضوعيا –في غياب انتصار سريع للثورة العالمية- طريقا لا رأسماليا لتصنيع وتحديث البلدان التي انسد فيها الطريق الرأسمالي؟ هذا صحيح، بمعنى من المعاني، ويقدم تبريرا إضافيا لهذه الثورات (لكنه لا يبرر بأي طريقة من الطرق حكم البيروقراطية هناك والجرائم التي ارتكبتها البيروقراطية ضد كادحي بلدها وكادحي البلدان الأخرى). لقد رفض تروتسكي بوضوح فكرة أن شعوب هذه البلدان عليها أن تنتظر لكي يصنع عمال البلدان المتقدمة ثورتهم وإلاّ ستضطر إلى الوقوف في منتصف الريق بين الرأسمالية والاشتراكية[8]. يمكن لتلك الشعوب أن تحقق تقدما هائلا، وهذا ما حصل بالفعل، حتى ولو لم يكن بإمكانها وحدها بناء اشتراكية بثورة معممة.

إلاّ أن عزلة الثورة في البلدان المتخلفة نسبيا ليست بقدر محتوم. إن هذه العزلة مرتبطة بشكل وثيق بالتأثيرات المتناقضة التي أحدثتها الإنتصارات الأولى للثورة على الحركة العمالية العالمية. وقد ضاعفت نتائج هكذا عزلة هذه التأثيرات عبر نشوء أشكال محددة من السلطة السياسية في تلك البلدان. وفقط بحال تفحصنا جميع تلك العناصر في تداخلها يمكن أن نفهم ما حصل في الواقع –فهل يمكننا أن نتغلب على شتى الأفكار التي تعتبر بأن الأمور يجب أن تسير على ذاك الطريق، وذاك الطريق فقط.


--------------------------------------------------------------------------------

الفصل الثالث

الثورة العالمية
بسبب علاقة القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الفريدة بدا لتروتسكي أن بروليتاريا البلدان المتخلفة نسبيا قد يكون بمقدورها الاستيلاء على السلطة قبل بروليتاريا البلدان الأكثر تقدما وقبل أن تتمكن البرجوازية في تلك البلدان المتخلفة نسبيا من ممارسة سلطة الدولة بشكل كامل. ولكن، ولأسباب التخلف النسبي نفسها، فلإن البروليتاريا المنتصرة في هذه البلدان لن تستطيع بقواها الخاصة المحدودة بناء مجتمع اشتراكي (لا طبقي) متطور بشكل كامل. إنها تملك الفرصة التاريخية لبدء سيرورة واقعية للثورة العالمية: مد الثورة الاشتراكية إلى البلدان الصناعية الأكثر تقدما، التي بالتلاقي مع الثورات المنتصرة السابقة يمكن أن تملك الوسائل الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للقيام بقفزة حاسمة نحو المجتمع الاشتراكي.

بكلام آخر، إنه من الميكانيكية والاحادية في التفكير بمكان، وبالتالي خطأ جزئي على الأقل، أن يطرح السؤال كما فعل الماركسيون التقليديون كالتالي: هل أن روسيا "ناضجة للاشتراكية"؟ إن التناول الصحيح كان بتفحص ما إذا كان العالم ناضجا للاشتراكية، وكيف أن وجود روسيا الواقعي والمتناقض في ذلك العالم أطلق العنان لدينامية ثورية ذات حدين: داخلي وعالمي.

وبهذه الطريقة فإن التناقض الذي يبدو موجودا في الخطوتين الأوليين من المناقشة –لماذا الإستيلاء على السلطة ما دامت لا تسمح بتحقيق الهدف التاريخي؟ –يحل ديالكتيكيا.

وعلى عكس الخرافة التي باتت تضمحل ببطء،فإن هذا التوجه الأساسي لم يكن بأي معنى من المعاني خاصا "بالتروتسكية". لقد كان أمرا مشتركا بشكل واسع بين جميع اليساريين الماركسيين قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها وبعدها. فقد صاغ بارفوس، ضمن حدود مفهومة للحكومة الاشتراكية الديموقراطية في روسيا، الفكرة ذاتها بتشدد أكبر مما فعله تروتسكي. وشاركت روزا لوكسمبورغ في الفكرة بشكل واسع في فترة ما بين 1905-1914 وما لبث أن دعمتها بشكل أكثر علانية بين سنتي 1917 و1918، بينما كان لينين والقادة البلاشفة أكثر جهرا بها بعد سنة 1914 وبالأخص عام 1917. ويكفي الرجوع إلى كتاب لينين هل سيحتفظ البلاشفة بسلطة الدولة؟ (عام 1917)، وكتاب بوخارين "من إسقاط القيصرية إلى إسقاط البرجوازية" (عام 1918). وحتى كاوتسكي ومهرينغ، وعلى الأقل تحت ضغط الحماس الذي خلقته ثورة 1905 الروسية، فقد عبّر بطريقة مماثلة إن لم تكن مطابقة. فقط الانحدار الهائل للثقافة الماركسية التقليدية –وهي عملية مرتبطة بالإصلاحية والستالينية وعقود من الهزائم والتراجعات في حركة الطبقة العاملة – تمكن من أن تزيل هذه الافتراضات البديهية من وعي العمال المتقدمين، ويجعلها تبدو كقضية شرف لتيار "عصبوي" يدعى "التروتسكية".

هذا، ولم يعرّف تروتسكي أبدا الثورة العالمية كحدث واحد مفاجئ وعنيف –"ثورة متزامنة" في جميع بلدان العالم أو على الأقل أهمها. بل على العكس كانت الثورة العالمية بالنسبة له، بشكل بارز، عملية واقعية وشيكة الحدوث متأتية من التناقضات الداخلية للرأسمالية العالمية (كل من النظام الإمبريالي والمجتمع البرجوازي)، لكنها رأسمالية عالمية مبنية في دول معينة لها سلطات دولة محددة يتوجب على الطبقة العاملة وحلفائها إسقاطها. وبينما أدرك تروتسكي أن التناقض بين مستوى القوى المنتجة وبين بقاء الدولة القومية البرجوازية (أو دولة ما قبل برجوازية تنطوي على قضايا وطنية متفجرة) هو أحد التناقضات الرئيسية للرأسمالية المضمحلة، تجنب، وبشكل صحيح، الإستنتاج أن الدولة القومية الموجودة تفقد أهميتها بشكل متزايد كإطار لنضال اجتماعي وسياسي. بل على العكس، كان الاستنتاج المنطقي بأنه ستتطور أزمات متعاقبة في عدد من الدول القومية، مما سيعطي فرصة متزايدة لانتصار البروليتاريا وطليعتها الثورية. هذه هي الطريقة الواقعية التي ستتقدم من خلالها الثورة العالمية: "…إن الثورة العالمية… هي سلسلة –لكن غير متواصلة- من الثورات القومية التي تنعش الواحدة منها الأخرى بانتصاراتها، وبالمقابل تعاني من هزائمها".

إن مفهوم تروتسكي للثورة العالمية كعملية ملموسة –هذا المفهوم الذي تضمنته الوثائق البرنامجية للمؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الشيوعية (يكون من الأصح تسميته مفهوم تروتسكي-لينين حيث أن لينين قدم مساهمات لا تحصى بينما يكتسب تروتسكي الجدارة التاريخية بصياغته هذا المفهوم لأول مرة)- هو نقطة العقدة التي تشعبت منها مجار مختلفة للتحاليل النظرية المتناسبة مع التحولات الواقعية التي عايشتها الرأسمالية العالمية منذ عام 1905، أو على الأقل منذ الحرب العالمية الأولى.

تستند فكرة الثورة العالمية هذه، بشكل أساسي وواضح، إلى مفهوم كلية الاقتصاد العالمي والنضال الطبقي الخاضع لتطور غير متساو ومركب. ورغم أن تروتسكي لم يستنبط نظرية مفصلة عن الإمبريالية، لكنه، تحت التأثير الكبير لدراسات بارفوس الإقتصادية حول انعطافة القرن، دافع بصمود عن المفهوم المذكور أعلاه منذ سنة 1905 ولغاية وفاته. وهو مشروح ببراعة في نقده لبرنامج الكومنترن عام 1928 بحيث يصعب معه تصور أن ينكر أحد اليوم صحته. ويمكن القول، مع امكانية استثناء مفهوم ماركس حول التحديد الاقتصادي للنضال الطبقي والنضال السياسي، إننا نكاد لا نلقى فكرة خلاقة من مصدر غير برجوازي أصبحت واسعة الاستيعاب بعد نصف قرن كهذه الفكرة الأساسية لتروتسكي –رغم أن حقوق المؤلف في معظم الأحيان غير معترف بها.

إن أي اضطراب جذري في التوازن المؤقت في أحد أجزاء هذا النظام –توازن القوى الطبقية داخل البلد، التوازن بين القوى الإمبريالية، التوازن بين الإمبريالية ومستعمراتها حتى في الحالات الفردية، توازن تطور الإنتاج والسوق، التوازن بين تراكم رأس المال وازدياد حجم فائض القيمة؛ أو على أرضية أخرى مختلفة تماما: التوازن بين الحركة الجماهيرية والجهاز البيروقراطي المحافظ الذي يسيطر عادة على تلك الحركة ويوجهها بشكل اعتيادي- إن أي اضطراب جذري في أحد تلك التوازنات يكون له مضاعفاته في أي مكان آخر داخل هذا النظام. وسيؤدي ذلك إلى إثارة موجات صادمة من الممكن أن تعجّل في العملية الثورية في عدد غير منظور من البلدان. ومن التجارب الأخيرة الصارخة في هذا المجال يمكن أن نعطي مثلين: (أ) التفاعل بين نضالات التحرر الوطني في أنغولا والموزمبيق وغينيا بيساو، وإسقاط الدكتاتورية البرتغالية، ومنح استقلال المستعمرات البرتغالية السابقة، وامتداد النضال التحرري الأنغولي والموزمبيقي إلى زمبابوي، وامتداد النضال البرتغالي إلى اسبانيا. (ب) تأثير الركود الاقتصادي المعمم لسنوات 74-1975 على تسريع العملية الثورية في إيران.

إن هكذا توجّها يبتعد كل البعد عن التعميم المبسط، بل هو يحتاج إلى تحليل مفصل للاقتصاد العالمي وتقلباته ولطريقة ارتباط كل بلد رأسمالي محدد داخله واندماجه، ولاختلاف تاثير هذه التقلبات نسبة إلى خصوصية كل بلد، ولعلاقة القوى التاريخية بين الراسمال والعمل (وطبقات اجتماعية أخرى) في كل بلد، وللعوامل التي تدخل في أي جيشان مفاجئ في تلك العلاقة، وللأشكال المحددة للحياة السياسية والنضال داخل كل من تلك البلدان في مرحلة التطور التاريخية المعينة –وهي أشكال تعتمد على جميع العوامل التي ذكرت سابقا- وللشكل المحدد للحركة العمالية القومية: أجزائها المكونة وديناميتها وعلاقاتها بالنضال الطبقي العالمي، و…الخ. لقد طبق تروتسكي بطريقة بارعة هكذا تحليلا على عدد محدد من البلدان من مثل روسيا القيصرية وبريطانيا في منتصف العشرينات والمانيا في اواخر العشرينات واوائل الثلاثين وفرنسا واسبانيا في منتصف الثلاثينات وحتى بعض المساهمات الاكثر تواضعا، من مثل الولايات المتحدة في الثلاثينات، تبقى مساهمات أخاذة في عمق رؤياها وفي دمجها (للمجرد والملموس)، العام والخاص، التاريخي والحالي، وفي تملكها للماضي وتبصرها بالمستقبل.

ويتلازم بشكل وثيق مع مفهوم العالم الرأسمالي ككل عضوي لكن مركب، مفهوم الانحدار التاريخي للعالم الرأسمالي بدءا من الحرب العالمية الأولى. ويمكننا بشكل عام تلخيص هذا المفهوم في الأفق العالمي والتاريخي التالي: لقد ارتدت، منذ الحرب العالمية الأولى، الوظائف الحضارية (التقدمية) لنمط الانتاج الرأسمالي أمام اتجاهاته البربرية والانكفائية، وتحولت قوى الإنتاج التي حررتها الرأسمالية نفسها بشكل دوري إلى قوى مدمرة ذات سلطة ومضامين مروعة أكثر وأكثر. فحربان عالميتان والفاشية والخطر النووي هي خلاصة ذلك الاتجاه التاريخي العكسي.

لقد تم بالأخص رؤية الحرب العالمية الأولى كحد فاصل –ليس فقط من قبل تروتسكي وروزا لوكسمبورغ، بل أيضا من قبل لينين وجميع الاشتراكيين اليساريين (الأمميين) لذاك العصر. واليوم أكثر من أي وقت مضى يجب اعتبار آرائهم صائبة تماما. يكفي أن نشير إلى وجه واحد من هذا التردي التاريخي. فرغم أن لائحة حافلة بالجرائم قد ارتكبت من دون شك في حروب السيطرة الاستعمارية في القرن التاسع عشر –هذا دون الكلام على الإبادة المنظمة للأمريكيين الشماليين والأرجنتينيين وغيرهم من الهنود، وزيادة التسلح التي سبقت حتما الحرب العالمية الأولى (وبالطبع فإن الحرب غير ممكنة دون هذه الزيادة)-، إلاّ أنه يبدو واضحا أن الحرب العالمية الأولى سجلت تغيرا نوعيا حاسما في هذا المجال. إن الصعود الهائل للعنف، وعسكرة المجتمع، والحد من الحرية الفردية، والشوفينية والعنصرية المرتبطة بالحرب، كل تلك الظواهر قد مدّت عبر العالم عددا من الاتجاهات أكثر قباحة نوعيا بكثير مما وجد في المجتمع البرجوازي منذ نشأته. ومن ذلك الحين بات العالم يعيش مع تلك الظواهر. وبهذا المعنى فإن جميع الكوارث التي أصابت البشرية منذ ذلك الحين –هتلر، وستالين، وأوشويتز، وهيروشيما، والسباق الدائم على التسلح، والمجاعة في منطقة ما يسمى بالعالم الثالث، وخطر الابادة النووية- تجد مصدرها المباشر في الحرب العالمية الأولى، بينما ترتبط جذورها الأعمق بالطبع بالطبيعة ذاتها للتوسع الرأسمالي والمنافسة.

كان تروتسكي الأكثر بروزا بين الأمميين الذين، برؤيتهم الواضحة لهذا المفترق، شجبوا الحرب الامبريالية منذ يومها الأول: فهو الذي صاغ البيان الشهير لمؤتمر زيمرفالد، التجمع العالمي الأول للاشتراكيين المناوئين للحرب. إن هجومهم العنيف ضد "الاشتراكيين الوطنيين" –هؤلاء الاشتراكيين الذين انتقلوا إلى معسكر الدفاع عن الحرب العالمية بحجة "الدفاع الوطني"- قد حثّه بشكل خاص واقع أن أي تزامن للحركة العالمية مع الأشكال الأكثر تطرفا للانحطاط الرأسمالي سيزيل كل أمل بنتيجة إيجابية للأزمة العالمية. وحتى الإشتراكي المعتدل نسبيا، جون جوريس، أعلن بشكل واضح عشية الحرب في خطاباته المشهورة لمؤتمر باسل للأممية الاشتراكية أنه إذا ما أسقطت الرأسمالية البشرية بشكل إجرامي في هكذا مجازر حيث ستفنى الملايين من الأرواح وتتحطم النتائج المادية والأخلاقية لعصور من الحضارة، سيكون من واجب الحركة العمالية تحويل الاستياء والنقمة اللذين ستخلقهما الحرب عاجلا أو آجلا، إلى رافعة ضخمة من أجل قلب ثوري للرأسمالية. وقد لخّص لينين فيما بعد هذا التوجه ذاته في معادلته المشهورة: حولوا الحرب الامبريالية إلى حرب أهلية (من أجل استلام الطبقة العاملة السلطة). إن معارضة الماركسيين الثوريين الصبورة للحروب الإمبريالية والاستعمارية، بوصفها جرائم فظيعة ضد البشرية لا تمنعهم من اعتبارها في الوقت نفسه التعبير المتطرف لأزمة الرأسمالية التي من الممكن أن تؤدي إلى ثورة عالمية.[9]

إن مفهوم عصر الانحدار التاريخي لنمط الإنتاج الرأسمالي لا يتطابق بالضرورة مع انحدار مطلق للقوى المنتجة (أي الإنتاج المادي بما يتضمنه من عدد الطبقة العاملة ومهارتها). إن ذلك لم يكن صحيحا أيضا في حالة الانحدار التاريخي لنمط الانتاج الإقطاعي. لكن تروتسكي لم يكن دائما واضحا حول هذه المسألة –خاصة في الفقرة المشهورة من البرنامج الإنتقالي لعام 1938 التي تنص بشكل بيّن على عكس ذلك. لكننا يمكن أن نعتبر أن هذا المقطع كان وصفا لما حصل عمليا بين عامي 1914 و1939 –عندما كان ذلك الانحدار واقعا لا يمكن إنكاره- أكثر منه توقعا طويل الأمد للمستقبل[10]. وفي تحليلاته التاريخية الأكثر اكتمالا، خاصة في تقريره إلى المؤتمر الثالث للكومنترن عام 1921 وفي نقده لبرنامج الكومنترن عام 1928، يعلن تروتسكي موقفه بطريقة أكمل وأصح[11]. إن لهذه المسألة النظرية المهمة عددا من المضامين الأساسية. فإذا كان هناك انحدار مطلق مستقيم للقوى المنتجة المادية والبشرية يبدأ من الحرب العالمية الأولى ويمتد إلى حقبة غير محددة من الزمن، عندئذ ستكون فرص الثورة العالمية والاشتراكية العالمية أقل وأقل مؤاتاة بعد خسارة المعارك المهمة الأولى، وستكون الشروط المسبقة للاشتراكية العالمية قد تدهورت باستمرار. ولغبطتنا، لقد دلّ التاريخ أن الأمور كانت عكس ذلك[12]. إن تروتسكي نفسه كان متحضرا لقبول حكم التاريخ هذا.

ويتلازم بشكل وثيق مع مفهوم العملية الواقعية للثورة العمالية مفهوم الدورة المستقلة نسبيا للطراع الطبقي[13] -أي بكلام آخر، البناء التدريجي لقوة الطبقة العاملة ونضاليتها وثقتها بنفسها ووعيها الطبقي الذي يؤدي إلى انفجارات ضخمة كالإضرابات الجماهيرية السياسية، والإضرابات العامة، وحتى العصيانات المسلحة،أي إلى أزمات ثورية بكل ما في الكلمة من معنى. هنا أيضا، نمتلك تأكيدا صارخا على الطريقة الخلاقة التي تطورت فيها النظرية الماركسية من قبل ماركسيي القرن العشرين العظام.

إن ماركس نفسه قد ربط بشكل تام بين الثورة البروليتارية والأزمات الإقتصادية الناتجة عن فيض انتاج. وبينما كان هذا الربط صحيحا في عصر الرأسمالية ما قبل الإمبريالية، أصبحت العلاقة الدقيقة أشد تعقيدا بكثير في ظل الإمبريالية وفي عصر انحدار الرأسمالية (وحتى في ذلك الحين، لا يمكن لأحد أن يقلل من العلاقة بين الدورة الإقتصادية ودورة النضال الطبقي دون أن يفترق عمليا عن الماركسية). إنه من الضرورة بمكان في تحديد هذه العلاقة أن يُصار إلى تحليل مفصل للإنتفاضات المتتالية ولمفترقات النضال الطبقي في القرن العشرين في أهم قطاعات الطبقة العاملة العالمية. إن تروتسكي لم يقم أبدا بهكذا تحليل، لكن تتواجد أهم عناصر هذا التحليل في معظم كتاباته الظرفية حول النضال الطبقي في روسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا واسبانيا والصين وبلدان أخرى.

وأيضا حول مفهوم الدورة المستقلة نسبيا للنضال الطبقي، نجد مثلا جديدا لافتراق تروتسكي الحاسم عن أي من أشكال الجبرية الاقتصادية الميكانيكية. فقد رفض بشكل قاطع فكرة أنه كلما ساءت حالة الطبقة العاملة (مستوى معيشي أقل ومآسٍ أكبر) كلما أصبحت فرصة الثورة (العالمية) أكبر، وبالتالي فقد هاجم بشدة أخطاء الكومنترن اليسارية المتطرفة في سنوات 1920-1921، كما في سنوات 1929-1934. وأشار إلى أن انتفاضات النضال الطبقي تترافق بشكل عام مع التغيرات المفاجئة في المناخ الإقتصادي (الانتقال من أزمة إلى تحسن أومن ازدهار إلى أزمة) أكثر مما مع مراحل الأزمة الحادة والبطالة. والسبب واضح: إن البطالة الواسعة تضعف الطبقة العاملة على الأقل من جهة قدرتها الاقتصادية على التعبئة. وفقط في ظل ظروف تجذر سياسي قصوى وتوتر وضعف حاد لسلطة الطبقة الرأسمالية ووجود حزب جماهيري ثوري قوي (كما كانت الحال في ألمانيا عام 1923، والأرجح أنها المثل الوحيد من نوعه لغاية الآن)، فقط آنذاك يمكن أن يترافق نمو فرص الثورة مع البطالة الواسعة.

يرتبط مفهوم الدورة المستقلة نسبيا للصراع الطبقي، من خلال عدد من الحلقات الوسيطة، بمفهوم السيرورة النامية بشكل ملموس للثورة العالمية. أولا، إنها تعني أنه حتى في عصر الانحدار الرأسمالي ليست الثورة ممكنة بشكل دائم في كل بلد رأسمالي. وعلى العكس إن هكذا إمكانيات تتجلى فقط بشكل دوري : فقط عندما تتطابق أزمة عامة للمجتمع البرجوازي وأزمة متنامية للدولة البرجوازية (أي قدرة البرجوازية على الحكم) مع تجذر متنام وتعميم للنضالات الطبيقية العمالية وصعود سريع للوعي الطبقي العمالي. إن حدوث هذا الأمر بالفعل في بلد معين ليس مسألة تخمين بل تحليل ملموس للواقع الملموس. وقد حذا تروتسكي حذو لينين فاعتبر بين القوى المثيرة للأزمة الثورية مظاهر متنوعة كالمصاعب الاقتصادية والأزمات المالية وأزمات سياسية وأزمات عسكرية (هزائم حرب، حروب المستعمرات، مقاومة جماهيرية لحروب أو تحضيرات حرب) وحتى نتائج الإنتخابات بظل ظروف محددة.

هذا ويتضمن أيضا مفهوم الطابع الدوري للأزمات الثورية فكرة ديمومتها القصيرة نسبيا، وبالتالي أهمية الدور الحاسم لمبادرة الحزب الثوري في إنهاء هذه المرحلة من الإستقطاب الحاد لقوى طبقية متضادة باتجاه انتصار الثورة، وبالتالي أيضا إمكانية الوصول إلى نتيجة مغايرة –إستقرار ولو مؤقت للنظام الرأسمالي. لقد وسع تروتسكي هذه الفكرة في دروس أكتوبر وفي المجلد الثاني من تاريخ الثورة الروسية. إن هذه الفكرة تبدو كخط أحمر في مجمل تحاليله لإنتفاضات ملموسة للصراع الطبقي في بلدان محددة.

وترتبط بهذا المفهوم، لدى تروتسكي، فكرة أنه فقط ظروف استثنائية تجعل من الممكن بالنسبة للطبقة العاملة بأكملها، أو تقريبا بأكملها، أن تتغلب على تنافرها الداخلي. هذا يعني أن شرائح بروليتارية مختلفة تدخل وتخرج من النضال في أوقات مختلفة، وتقاتل بزخم مختلف ولأوقات زمنية مختلفة. ومن الواضح أن جميع هذه العوامل الاجتماعية -البسيكولوجية- تضع عوائق كبيرة أمام الهجمة العامة على النظام البرجوازي.

ونجد هنا تأكيدا حديثا لقانون التطور المركب وغير المتساوي، طريقة تروتسكي الرئيسية في تطبيق الديالكتيك بالنسبة لفهم الواقع المعاصر وكيفية تغييره. فلقد وضع تروتسكي التحليل الأكثر صفاء بالنسبة للخصوصية القومية للبنية الإجتماعية، والتناقضات الطبقية، والنضالات الطبقية في كل بلد رأسمالي قام بدراسته. وربط هذا التحليل باستمرار وفي آن معا مكانة البلد ضمن عامل النظام الرأسمالي العالمي، والنتائج المترتبة على انتصار –أو هزيمة- الثورة في هذا البلد بالنسبة للنظام ككل.

إن هذا الدمج يبرز فكرتين عامتين متقاربتين: أولا، أن النضال الطبقي يمكنه، في أوضاع محددة وبلدان محددة، أن يعجّل في حدوث تحول حاسم في الوضع العالمي (انه من الصعب الإنكار اليوم أن تروتسكي كان محقا بشكل بيّن في تطبيقاته المتتالية لهذا التقدير على كل من روسيا 1917، ألمانيا 1918،1923، 1930-1933، الصين 25-1927، فرنسا 34-1937، إسبانيا 36-1937). ثانيا، إن أوضاعا قومية محددة من النضج الشديد للتغيير الثوري ليست فقط فعل خصوصية قومية، بل أيضا، وبالأخص، فعل خصوصية نمط اقحام كل بلد في الاقتصاد العالمي والسياسات العالمية.

بكلام آخر، إن سيرورة الثورة العالمية تملك في الوقت نفسه، إلى جانب كونها تسلسلا للصراعات الطبقية "القومية"التي تصل إلى نقطة الانفجار، وحدة عضوية خاصة بها، ليست الا الجانب الآخر من الوحدة العضوية للسوق الرأسمالية العالمية. ومن هذه الوحدة تنبثق النزعة العالمية المتنامية للقوى المنتجة ولنشاطات الرأسمال، وبالتالي أيضا للنضال الطبقي . إن هذه النزعة العالمية المتنامية للصراع الطبقي –التي لا تعني التوحيد الميكانيكي والتواقت التام – تقود ليس فقط إلى حروب عالمية، بل أيضا إلى ثورات عالمية (أي ثورات تمتد بسرعة من بلد إلى آخر) وإلى ثورات مضادة عالمية وحروب أهلية عالمية.

هكذا، فإن أممية تروتسكي المتماسكة لم يكن لها جذورها فقط في النفور السياسي الأخلاقي من الوطنية والتعاون الطبقي الذي تخلقه بالضرورة. إنها أيضا استتبعت منطقيا فهمه للميل نحو تدويل(*) القوى المنتجة والصراع الطبقي: لقد عبرت عن إقتناعه العميق بأن التناقض المتفجر بين بقاء الدولة القومية والدينامية العالمية للقوى المنتجة (وهو أحد المصادر الأصيلة للحرب العالمية والفاشية وكل المخاطر التي تهدد الحضارة الحديثة) يمكن التغلب عليه فقط من خلال نضال البروليتاريا من أجل الثورة العالمية والفيدرالية العالمية للجمهوريات الإشتراكية. وبالطبع لا يمكن أن تتولد الفدرالية العالمية بواسطة البرجوازية التي يربطها دفاعها عم ملكيتها الخاصة بالتنافس الدائم.

عندما توقع تروتسكي، وذلك بعد بارفوس وقبل روزا لوكسومبورغ بقليل، بأن الثورة الروسية ستمتد إلى الغرب وأولا إلى ألمانيا، لم يكن ينطلق من الوحي، بل من تحليل ما سيكون تأثير ثورة اشتراكية منتصرة على الطبقة العاملة التي تملك أعلى معدل لمستوى الوعي الطبقي، وتواجه أجهزة دولة برجوازية أقل مرونة (لأنها لم تكن لغاية ذلك الوقت برجوازية بصفاء). إن نضج المنافسة الامبريالية قد مركزعددا كبيرا من التناقضات داخل ذلك البلد، الذي وإن كان قياديا في منظور الحركة العمالية المنظمة، إلاّ أنه لا يمكن أن يصبح القوة الامبريالية القائدة.

ويمكننا أن نضاعف عدد الأمثلة التي تظهر أن السيرورة الملموسة للثورة العالمية كما رآها تروتسكي هي في الوقت نفسه سلسلة من الثورات "القومية" وسلسلة متفاعلة مع مصادر عالمية ومضاعفات عالمية. لكن بمعزل عن التحليل النظري، هناك أيضا الدليل التجريبي. فإذا كان هناك من يشك بحقيقة (وواقعية‍) مفهوم تروتسكي، فما عليه إلاّ أن يتأمل القائمة التالية من الأزمات الثورية التي حصلت بعد ثورة روسيا 1905: بروسيا 1906-1909، الصين 1911، المكسيك 10-1917، النهوض الإيرلندي 1916، روسيا 1917، ألمانيا 1918، النمسا 1918، فنلندا 1918، بولندا 18-1919، بافاريا 1919، إيطاليا 19-1920، ألمانيا 1923، الصين 25-1927، إندونيسيا 1929، الهند الصينية 1930، إسبانيا 31-34-36-1937، فرنسا 1936، إيطاليا 43-1948، يوغوزلافيا 41-1945، اليونان 44-1945، الهند الصينية 45-1954، اندونيسيا 45-1948، الصين 47-1949، الجزائر 54-1962، بوليفيا 1952، كوبا 56-1962، أنغولا 62-1967، فرنسا ماي 1968، شيلي 70-1973، موزمبيق 73-1975، البرتغال 74-1975، أثيوبيا 1974، إيران 1978…إن هذه اللائحة بعيدة عن أن تكون كاملة، ويجب أن تلحق بها على الأقل بدايات الثورة السياسية في البلدان العمالية المبقرطة: جمهورية ألمانيا الديموقراطية 1953، بولندا 1956، هنغاريا 1956، تشيكوسلوفاكيا 67-1969. فهل هناك من أي شك بأن الثورة العالمية هي حقيقة أساسية في قرننا، وفي أننا نعيش في عصر الثورة الدائمة.


--------------------------------------------------------------------------------
الفصل الرابع

البروليتاريا وقياداتها
إن الثورة الروسية قد قامت وانتصرت. وأطلقت العنان لسلسلة عالمية من الثورات في أوروبا الوسطى كان أهمها الثورة الألمانية في نوفمبر/(تشرين الثاني) 1918. إلا‍ أن الثورة الألمانية هزمت، وبقيت الثورة الروسية معزولة في بلد متخلف محاط بأجواء امبريالية معادية. كيف يمكن، بمنطلقات ماركسية، تفسير الظاهرة المتناقضة المتمثلة بأن البروليتاريا الروسية الأضعف موضوعيا قد انتصرت، بينما البروليتاريا الألمانية الأقوى موضوعيا قد سحقتها في النهاية الثورة المضادة (أولا بشكل محدود سنوات 1919 و1921 و1923، ومن ثم بأعنف طريقة ممكنة من خلال استيلاء النازيين على السلطة)؟

هناك طريقتان، مختلفتان بشكل أساسي، للرد على هذا السؤال. فبالنسبة لتيار كاوتسكي-باور التقليدي الاقتصادي الجبري "كانت موازين القوى غير مؤاتية إطلاقا بالنسبة للبروليتاريا" في عامي 1918 و1919، وحتى أكثر من ذلك في السنوات التي تلت، حيث كانت البرجوازية ما تزال قوية جدا لم تضعف هزيمة الحرب من جهاز دولتها بما فيه الكفاية. وبشكل خاص، فقد آل الدعم الذي تلقته هذه البرجوازية من قوى "الحلفاء" إلى اعتبار أن الثورة الاشتراكية ستكون مغامرة لا أمل فيها محكوما عليها بالحصار الاقتصادي والجوع. وكانت الطبقات الوسطى بشكل أساسي محافظة تميل بالإجماع تقريبا لمعارضة الثورة، بينما لم تكن الطبقة العاملة نفسها منظمة بما فيه الكفاية ، لا بل كانت منقسمة وليس لديها خبرة في النضال الثوري لكي تتحمل مهمة إعادة البناء الإشتراكي بشيء من النجاح.

وفي نسخة "يسارية" خاصة لهذا المفهوم الجبري (ويكون من الأصح القول يسارية كاذبة)، تم رؤية الطبقة العاملة الألمانية، على الأقل بمعظمها، "كأرستقراطية عمالية" لها جذور عالمية أفسدتها الأرباح الفائضة الإمبريالية، وبالتالي (مع استثناء أقلية محرومة وقطاعات هامشية كالعاطلين عن العمل) فإنها اشتراكية-وطنية ومحافظة وإصلاحية وليست ميالة على الإطلاق إلى الانجرار في الثورة.

إن التوجه الآخر المعاكس يشير إلى العديد من الأمور التاريخية غير الصحيحة التي يتضمنها الطرح آنف الذكر. إنه بكل بساطة ليس صحيحا أن أكثرية العمال الألمان كانوا "محافظين" و"غير منظمين" و"غير ميالين نحو الاشتراكية" في فترة 1918-1922. فعلى العكس كان مستوى تنظيمهم مرتفعا جدا، ورغبتهم قوية جدا في اقتراب الاشتراكية، لدرجة أن قياديي الحزب الاشتراكي الديموقراطي الاصلاحي استطاعوا تحويلهم عن البناء الفوري لسلطة سوفياتية فقط عبر محايلة وخداع واعيين: بإعلانهم أن الثورة الاشتراكية قد انتصرت وأن تشريك الاقتصاد قد تحقق. وبرغم هذه المناورات الخيانية، نقل أكثرية العمال المنظمين ولاءهم بسرعة من قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى التنظيم الوسطي، الحزب الاشتراكي الديموقراطي إلى التنظيم الوسطي، الحزب الاشتراكي الديموقراطي الموحد، الذي كان معروفا آنذاك بارتباطه الفكري بدكتاتورية البروليتاريا، والذي انتقلت أكثرية أعضائه بدورها إلى الأممية الشيوعية في شتاء 1920-1921. وهناك بعض الدلالات، رغم أن الأمر قابل للجدل، على أن أكثرية العمال النقابيين قد انتقلوا إلى الشيوعية خلال أزمة سنة 1923[14].

وليس صحيحا أيضا أن البرجوازية وجهاز دولتها كانا عامي 1918 و1919 أقوى من أن تسقطهما طبقة عاملة جيدة التنظيم. وحقيقة الأمر أن ضعف البرجوازية كان واضحا للغاية حيث أنها بقيت دون أي نشاط كليا خلال الأسابيع الأولى من الثورة، واضعة جميع آمالها في قياديي الحزب الاشتراكي الديموقراطي: إيبرت وستشيمان ونوسك. كانت تأمل أن يقوم هؤلاء من الجناح اليميني للاشتراكيين الديموقراطيين بخداع العمال من أجل بناء الجمهورية البرجوازية بدل الاستيلاء على السلطة، وأن يكونوا راغبين في بناء جيش قمعي جديد من القوى الامبراطورية المنحلة. لقد برهنت هذه الحسابات عن صحتها. وستظهر الأحداث اللاحقة بوضوح أن الرأسمالية الكبيرة قد اتجهت لهذا الحل، ليس من موقع القوة بل من موقع الضعف المفرط. كانت البرجوازية حتما لا تفضل أن تقوم حكومة الاشتراكيين-الديموقراطيين ببناء الجمهورية. وبالفعل عملت كل ما في وسعها للخلاص من ذلك "الشر الأهون" بأسرع وقت ممكن: أولا بوسائل برلمانية (بين سنتي 1920 و1923، وبين 1923-1928، بفاصل زمني بسيط في صيف وخريف 1923)، ومن ثم بعد عام 1930 بطريقة أعنف، وفي النهاية بشكل إرهابي مكشوف.

أما الفكرة القائلة بأن "الحلفاء" كانوا سينظمون تجويع ألمانيا بنجاح، فهي أيضا بعيدة عن أن تكون صحيحة. فثورة اشتراكية ناجحة في ذلك البلد، تحدث بعد انتصار الثورة الروسية، كانت ستخلق دون شك كتلة جغرافية تضم النمسا وهنغاريا وايطاليا والأرجح كذلك بولندا[15]. وكما أشار لينين في رسالته إلى العمال الألمان، لم يكن هناك أي سبب اقتصادي أو جغرلفي يمنع هذه الكتلة الاقتصادية الضخمة من الإكتفاء الذاتي في إنتاج الغداء وتوزيعه –خاصة بوجود الصناعة والمهارة الألمانية المساعدة على مكننة الزراعة الروسية. والحقيقة أن امتداد الثورة، أو على الأقل قوتها الجاذبة وسط العمال الفرنسيين والبريطانيين، كانت ستجعل من سعي قوى الحرب العالمية الأولى المنتصرة لحصار طويل الأمد للثورات أمرا مستحيلا سياسيا. إنه من المرجح أيضا أن العمال الأوروبيين كانوا سيظهرون مقدرة على التضحية مماثلة لمقدرة العمال الروس، أو مثل الفيتناميين مؤخرا، شرط أن يكونوا مقتنعين بشرعية قضيتهم.

إذا، في الواقع ليس هناك أي تفسير "موضوعي" بحت ومباشر لفشل الثورة الألمانية في الفترة التي تلت الحرب مباشرة. وليس هناك أي سبب لاعتبار أن فرص النجاح التي حصلت عامي 1920 و1923 –والفرصة الأخيرة مع الصعود الكامن للجبهة العمالية الموحدة ضد الفاشية في 1930 و1933- كانت "موضوعيا" محكوما عليه بالفشل. إن سر هذه الهزائم لا يكمن في أعماق القوى المنتجة ولا في الأساس المباشر التحتي للبنى الطبقية ولموازين القوى الطبقية في المجتمع الألماني، بل يقع على مستوى مختلف تماما للعلاقة بين الطبقة العاملة وقيادتها، وميزان القوى بين الاتجاهات المختلفة داخل الطبقة العاملة المنظمة، والعلاقة المتبادلة بين مستويات معينة من الوعي الطبقي والدور الواعي للقيادة الثورية من جهة، ومن جهة أخرى، تراكم أنواع معينة من التجارب النضالية.

ومن المؤكد أن أي ماركسي لا يمكن أن ينكر أن لجميع هذه العوامل الذاتية جذورا موضوعية، في التحليل الأخير، أي جذورا مستقلة عن القوة النسبية والنشاطات الواعية والتدخل الصحيح للطليعة الثورية وأخطائها. لكن بينما يتضمن تفسير موضوعي لهذا العامل الذاتي بشكل حاسم، ما يمكن أن يفعله ويغيره العمال المتقدمون والماركسيون في حالة معينة، يعرّف بشكل اعتيادي ما يسمى بالعامل الموضوعي في التاريخ بطريقة تنفي إمكانية تغيير هؤلاء له.

كان تروتسكي معدّا لفهم هذا النوع من المسائل. وبالفعل، إنه لشيء ملفت للنظر أن يكون الممثلون الثوريون الأساسيون الثلاثة للماركسية الذين إنبثقوا في مرحلة ما قبل سنة 1914، لينين وتروتسكي وروزا لوكسومبورغ، وكذلك أيضا المنظر الثوري الأساسي لمرحلة ما بعد الحرب أنطونيو غرامشي، قد تناولوا جميعا بشكل غريزي تطور الماركسية لتكيفها مع العصر الامبريالي من كلا جانبي المشكلة. وقد فعلوا ذلك من خلال وصولهم التدريجي إلى فهم السيرورة الواقعية للثورة الاشتراكية في القرن العشرين (الثورة الروسية والثورة العالمية)، ومن خلال إظهارهم المتزايد للشروط المسبقة الذاتية لانتصار الثورة الاشتراكية، التي بالكاد جاء على ذكرها الماركسيون "التقليديون" لمرحلة ما قبل سنة 1905. إن هؤلاء الأربعة جميعا قد سجلوا خطوة كبيرة حقا إلى الأمام في التحليل الماركسي في محاولتهم إبراز الإشكال الماركسي المتمثل بالعامل الذاتي في الصراع الطبقي والثورة.

كان دور تروتسكي تنبؤيا في هذا المجال. فباكرا، منذ سنة 1905/1906، وقبل لينين وروزا لوكسمبورغ بكثير، رأى المسالة مرة أخرى على أساس قانون التطور المركب وغير المتساوي. ولم تكن الفرضية الأساسية التي تضمنها كتاب نتائج وتوقعات، وهي أن البروليتاريا يمكنها أن تستلم السلطة في البلدان الأقل تطورا نسبيا –مثل روسيا-قبل ان تفعل ذلك في البلدان المتطورة صناعيا، متعلقة فقط بفهم واضح لكون علاقة القوى بين الطبقة العاملة (المتحالفة مع الفلاحين) والبرجوازية، كانت دون شك مؤاتية للفئة الأولى في بلد مثل روسيا أكثر مما في ألمانيا أو بريطانيا (بسبب الضعف المتزايد للبرجوازية وعزلتها الإجتماعية-[16]، بل إنها انطوت أيضا على بعد ثان. فرغم أن الطبقة العاملة كانت بشكل واضح أقوى بكثير في ألمانيا منها في روسيا، إلاّ أن الدور الاجتماعي المحافظ الذي تبديه قيادتها التقليدية فجأة في اللحظة الحاسمة[17] يسلب منها المقدرة على انتزاع السلطة في لحظة معينة.

لكن تروتسكي لم يوضّح أسباب هذا التطور المركب وغير المتساوي للحركة العمالية- واقع أن أقوى طبقة عاملة وأقوى منظمة للطبقة العاملة يمكن أن تجتمع مع تجربة غير كافية لأنواع مختلفة من النضال الطبقي ومع قيادة محافظة بشكل جوهري. وبالفعل رغم أنه شجب النزعة المحافظة لقيادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي عام 1907 في موضوعة تحت عنوان حول الاشتراكية الديموقراطية الألمانية[18]، لكنه تجاوب، في نهاية المطاف، مع انعطافة الحركة الثورية في روسيا، بدخوله في مناورات ملتبسة مع "الماركسيين الوسطيين" في الحزب الاشتراكي-الديموقراطي، مسجلا إذاك تراجعا جزئيا عن نفاذ بصيرته الهائلة عام 1905/1906. كانت روزا لوكسمبورغ دون شك المفكرة الأساسية التي احتفظت بتحليل ماركسي واضح لهذه المسائل في الفترة ما بين 1910-1914، بينما احتل لينين موقعا وسطا بين تروتسكي ولوكسومبورغ.

وفقط ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وخاصة مع انتصار ثورة أكتوبر والنضال من أجل بناء الأممية الشيوعية، طوّر تروتسكي وبتعاون وثيق مع المنظرين الأساسيين في الكومنتيرن، نظرية أكثر جلاء عن العلاقة الديالكتيكية بين الطبقة العاملة وقيادتها، وبين الحركة العمالية المنظمة وبيروقراطيتها. وقد اتخذت هذه النظرية شكلها النهائي في كتاباته في فترة 1930-1940.

إن نهوض البروليتاريا يحدث ضمن شروط اجتماعية واقتصادية مختلفة تماما عن تلك التي تسبق نهوض البرجوازية. فبينما كانت الأخيرة القوة المهيمنة اقتصاديا قبل استيلائها على سلطة الدولة بحقبة من الزمن، وبينما كانت تسيطر على معظم الثروة الاجتماعية عندما كانت لا تزال مضطهدة سياسيا، فإن الطبقة العاملة تبقى دون ثروة مادية وبسلطة اقتصادية بسيطة نسبيا بعد زمن من خلقها لمنظمات يعد أعضاؤها بالملايين تبدأ بمد يديها نحو الاستيلاء على السلطة. وبالتالي فإنه من المستحيل على الطبقة العاملة أن تنال سيطرة إيديولوجية وثقافية بظل الدولة البرجوازية، بينما كان من الممكن تماما بالنسبة للبرجوازية أن تحتل هكذا سيطرة بظل ملكية مطلقة شبه إقطاعية. إن الأكثرية الكبرى من المثقفين والأيديولوجيين الذين تحولوا نحو البرجوازية الثورية كانوا تحت هيمنة الأيديولوجية البرجوازية، أمّا المثقفون والإيديولوجيون الذي ينتقلون إلى الحركة العمالية المنظمة على أثر صعود عنيف لها، هم بأكثريتهم ما زالوا مشربين بأفكار برجوازية صغيرة، إذ لم يكن بأيديولوجية برجوازية مباشرة. وأن دوافعهم وهي على الأقل غامضة –ذات طابع نفعي، بالأخص احتلال مواقع برلمانية، تلعب دورا مهما في هذه العملية. وبطريقة مماثلة، ستزداد مقدرة البرجوازية على المناورات السياسية بشكل عام وتجاه البروليتاريا بشكل خاص[19]، مع ازدياد تطور الدولة والحضارة الرأسماليتين.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الصعود ذاته لتنظيمات جماهيرية للطبقة العاملة مع ما يرافقه من إحتلال مراكز مهمة في مؤسسات الدولة البرجوازية-الديموقراطية (البرلمان، والادارة المدينية والمنطقية، والشركات العامة، الخ.)، سيلعب دوره كرافعة هائلة في انخراط التنظيمات في المجتمع البرجوازي، عبر القدرة الفردية على الصعود الاجتماعي. إلاّ أن "مؤسسات الدولة البرجوازية ليست هي التي تتحول من خلال دخول ممثلي العمال في شرائحها العليا، لا بل فإن ممثلي العمال هؤلاء هم الذين تحولوا في المظهر والعقلية والدوافع والمصلحة المادية". ويستنتج تروتسكي بأن القيادة تتجه لفصل نفسها عن الطبقة العاملة، وتصبح "ملهمة" من قبل الطبقة الحاكمة (العملية نفسها كان لها تأثيرها على قيادة البرجوازية عندما كانت ضعيفة جدا للقتال من أجل السلطة السياسية –مثلا- في القرن السادس عشر في بريطانيا وفي القرن السابع عشر في فرنسا).

إن هذه العملية قد تضاعفت بقوة من خلال الاندفاعة الجديدة لتقسيم العمل الوظيفي داخل منظمات الطبقة العاملة. طالما بقيت هذه المنظمات صغيرة نسبيا، فإن العمال يستطيعون أن يتدبروا أمورهم بسهولة، ويعينون القادة فقط على أساس نظام مناوبة صارم. ولكن ما أن تتضخم وتصبح مثقلة الحجم –يتحقق تطور حتمي لهدف المنظمات الجماهيرية والتضامن الجماهيري حتى على مستوى نقابي صرف- حتى يبدأ عندها إداريون محترفون بالظهور وسط تلك المنظمات.

ويميل الجهاز الضخم لموظفي الطبقة العاملة، المنحدر أساسيا من الطبقة داتها وجزئيا فقط من الإنتليجنسيا البرجوازية الصغيرة، إلى تحديد هويته بالترابط مع المنظمة بذاتها وإلى فقدان رؤية واقع أن المنظمة ليست هدفا بذاتها بل وسيلة للوصول إلى إنعتاق الطبقة العاملة وبناء مجتمع بلا طبقات. ويتخذ إذاك الدفاع عن المنظمة تحت طائلة أي ثمن، حتى ولو كان هذا الثمن التضحية بمصالح سياسية ومادية ومعنوية واضحة جدا للطبقة، المركز الأول في عقلية الجهاز[20]. ان هذا التغيير في الرؤيا والدوافع، بترافق مع امتيازات مادية ومراكز في الجهاز العمالي –وفي حالات كثيرة مع امتيازات يحصلون عليها في جهاز الدولة البرجوازية الديموقراطية- يدل على ظهور شريحة اجتماعية جديدة هي البيروقراطية العمالية.

إن الوظيفة السياسية والاجتماعية الأساسية للبيروقراطية هي استبدال محاولات الصراع الطبقي العنيد بالتوفيق الطبقي والتعاون الطبقي، على أمل تجنب اختبار حاسم للقوى بين الطبقات الإجتماعية، وللدفاع عن مكاسب تم تحقيقها، رغم أنها مكاسب متواضعة للعمال تشكل من وجهة نظر البيروقراطية مكاسب جوهرية هذه البيروقراطية العمالية هي بجوهرها محافظة ومعارضة للثورة التي "تهدّد المنظمة". إن المعادلة المشهورة لفريدريك تيبرت، زعيم الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني وأول رئيس لجمهورية فايمر: "أكره الثورة كالخطيئة المميتة"، تعبر بأوضح طريقة ممكنة عن عقلية البيروقراطية هذه.

ألم يقبل جمهور العمال –على الأقل في البلدان الامبريالية الأكثر غنى- على العموم هذا التحول؟ أولم يقبلوا القيادة الأكثر اعتدالا التي انبثقت من المنظمات الجماهيرية في مطلع الحرب العالمية الأولى وبعدها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالسهولة التي تبدوا لأول وهلة.

أولا، والأكثر أهمية، أنه لم يكن من السهل للعمال ملاحضة هذه التغيرات التي أخذت مجراها. كان لابد أن تحصل أحداث عنيفة وتقوم تجارب ثورية جديدة قبل أن يدرك مئات الألوف من العمال أن الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية القديمة قد تحولت من قوى سياسية ثورية إلى قوى محافظة بشكل أساسي. وبهذه الطريقة كان لابد أن يظهر بشكل حتمي فاصل زمني بين لحظة التغيير الموضوعي لتلك الوظيفة –كحد أقصى في غشت 1914 ومن الممكن في فترة أقرب، كعام 1910، في معظم البلدان الأوروبية- ولحظة إدراك جماهير أوسع لهذه الحالة. لقد استتبع هذا الفاصل الزمني نشوء أحزاب ثورية جديدة بشكل بطيء نسبيا وذلك خلال فترة تجاوزت العقد من الزمن. وهذا التأخير بدوره جعل من هزيمة الموجة الثورية لفترة ما بعد الحرب مسألة حتمية.

زيادة على ذلك، فإن الطبقة العاملة في الأوقات "الإعتيادية" بعيدة عن أن تكون متجانسة وبعيدة عن أن تكون منظمة بمجموعها. وهذا الأمر يقود إلى حالة متناقضة: إنه بالضبط عندما تندلع أزمة ثورية أساسية أي عندما يواجه العمال النتائج العملية لسياسات القيادة الاشتراكية-الديموقراطية القائمة على التوفيق الطبقي والتعاون الطبقي والمؤيدة بشكل فعّال للرأسمالية، عند ذلك بالضبط يمكن أن تنفصل شرائح مهمة متقدمة ومنظّمة سابقا من الطبقة العاملة عن الإصلاحية، لكن تبدأ عند ذلك أيضا الشرائح غير المتمرسة سياسيا وغير المنظمة من الطبقة العاملة تتنظم لأول مرة وتندفع أفواجا إلى ذلك الحزب الذي بدا من قبل كأكبر حزب عمالي، وبالتالي تميل إلى تقوية الاشتراكية الديموقراطية من اليمين عندما تكون في الوقت ذاته تضعف من اليسار.

وأخيرا، انه لا يمكن إنكار أن ملايين العمال الأوروبيين قد انفصلوا فعلا عن الإصلاحية خلال فترة الحرب –ليس فقط من خلال اعمال ذات بعد ومدى ثوريين موضوعيا، ولكن أيضا من خلال انضمامهم إلى منظمات بدت لهم بشكل حاسم على يسار الاشتراكية-الديموقراطية

في بعض الأحيان، كان اختيارهم على العموم صحيحا من وجهة نظر سياسية: وينطبق ذلك بشكل أساسي على أولائك الذين إنضموا إلى أحزاب شيوعية جماهيرية أصيلة في العشرينات. ولكن في أحيان أخرى كان الإختيار مبنيا على أساس غموض مأساوي كما كانت الحال مع أولائك الذين انضموا إلى الحزب الشيوعي الفرنسي أو الإسباني عام 1936 أو الحزب الشيوعي الإيطالي في فترة 43-1945 على أساس مماثلة خاطئة بين أحزاب اتجهت أساسيا في خط التعاون الطبقي ذاته للاشتراكية-الديموقراطية الكلاسيكية وبين الثورة الروسية والنضال من أجل الاشتراكية الثورية.

هنا أيضا حصل انفصال زمني بين الوقت الذي تغيرت فيه طبيعة الأحزاب الستالينية والوقت الذي ستصبح فيه قطاعات واسعة من الطبقة العاملة العالمية مدركة لهذا التغير ومهما تكن الحالة، فإن مراجعة موضوعية لما حصل فعلا للطبقة العالملة الغربية في الفترة ما بين 1914 و1939 لا يمكن أن تنضوي تحت معادلات جاهزة و عادية: "كل طبقة اجتماعية (أو كل بلد) تنال القيادة التي تستحق". إن هذا النوع من الإبتذال يمكن أن يروّج فقط بحال تكون طمست النضالات المهمة داخل الحركة العمالية من سجل التاريخ: نضالات تتعلق بمآت الألوف إن لم يكن ملايين الأشخاص وتدور حول مسائل أساسية في الاستراتيجية والتكتيك والسياسة والتنظيم وحتى النظرية البحثة، وتختلف نتائجها بشكل كبير من بلد لآخر ومن عقد لآخر.

لقد وصل تروتسكي غريزيا ورزا لوكسمبورغ بوعي أعم ، لاستنتاج آخر مهم قبل عام 1914. فقد رأيا –وسيتبنى لينين وينظم حججهما بعد غشت/(اب) 1914- إنه رغم معايشة الطبقة العاملة الغربية لنمو مستمر على صعيد القوة التنظيمية والثقة بالنفس والوعي الطبقي غير أنها لم تراكم قبل الحرب العالمية الأولى التجربة الضرورية في النضال في أشكال نضال خاصة –التي يمكن أن تسمح لها بسرعة باستبدال قيادة إصلاحية بأخرى ثورية عندما تستدعي "الظروف الموضوعية" بلإلحاح هكذا تغيير. بالتالي فإن تجارب مثيرة جديدة تتضمن هزائم حثمية ستكون ضرورية لإنبثاق قيادة جديدة. لكن ليست فقط الهزائم والأخطاء هي وحدها ذات قيمة تعليمية، شرط أن تكون الدروس مستنتجة في وقتها، بل الإنتصارات الثورية يمكن أيضا أن تلعب دور المحرك في تطوير وعي الطبقة العاملة وفي انبثاق قيادة جديدة للطبقة العاملة. وإذا كان تروتسكي (إنضم إليه لاحقا البلاشفة) قد آمن بشكل راسخ أن الثورة الروسية المنتصرة ستثير ثورات في الغرب، فذلك يرجع إلى الأسباب الموضوعية التي ذكرت سابقا، وبالأخص الفوضى التي يسببها هكذا انتصار داخل الكلية العضوية للنظام الرأسمالي العالمي . إن وجود دولة عمالية سيدخل (وقد أدخل) بعدا جديدا في النضال الطبقي العالمي باعتبارها انتصارا رغم أنه ما يزال جزئي لكنه سيكون أهم من أي مكسب سابق للحركة العمالية العالمية. لكن تروتسكي كان مقتنعا أيضا بأن العمال الغربيين بمئاتهم المؤلفة وملايينهم، سيستخلصون الإستنتاج الذاتي الضروري من إنتصار الثورة الروسية ، أي أن هذا الإنتصار سيسرع من عملية انفصالهم عن سياسة التعاون الطبقي والتوفيق الطبقي ألف مرة أكثر مما قد يفعله الجدال الكتابي أو النزاع التكتلي السياسي. وفي هذا أيضا لم يكن مخطئا.


--------------------------------------------------------------------------------
الفصل الخامس

مجالس العمال
في المسار المتناقض للتاريخ تصبح الأخطاء غالبا مصادر للمعرفة. فالفكر الثوري يمكن أن يكشف فجأة طريقا جديدة بعد جريانه في زقاق مسدود. وعلى العموم هذا ما حصل لتروتسكي بالنسبة لمسألة تنظيم الطبقة العاملة.

فليس هناك من شيء إيجابي في معارضة تروتسكي العنيدة للمفهوم التنظيمي عند لينين عام 1902/1903، والمحاولات الأخيرة والمتأخرة لرد الاعتبار لهذه المعارضة هي ذات طابع لا تاريخي وعقيم. وبالفعل تظهر اليوم النتائج البعيدة المدى ل "لا بلشفية" تروتسكي في الفترة بين 1903 و1917 بشكل أكثر مأساوية مما بدت عليه في تلك الفترة. فهي قد صعَّبت جذا بالتأكيد من إمكانية كسب الكادرات البلشفية إلى النقاط المهمة من نضاله ضد البيروقراطية في سنوات 23-1928. فلو أن تلك الكادرات قد انتقلت بأكثريتها إلى صف المعارضة اليسارية لأحدث اختلافاً كبيرا في التاريخ العالمي.

لقد كان لتروتسكي في البداية، ونستطيع أن نرى ذلك بوضوح، شك غير ناضج في مسألة تنظيم حزبي قوي منفصل عن جمهور الطبقة العاملة بينما ينخرط بشكل وثيق في صفوفها. هكذا تنظيم يكون ضروريا على أرضية برنامجية وسياسية وليس على الإطلاق على أرضية إدارية و"بيروقراطية". ورغم ذلك فإن موقف تروتسكي المبكر جعلته أكثر تحسسا بكثير لأشكال تنظيم الطبقة العاملة غير تلك الأشكال التقليدية للحزب والنقابة، وهما شكلان يضمان عادة أقلية المأجورين. (فقط في بعض البلدان الأصغر، كبلجيكا والنمسا والبلدان الاسكندنافية، دخلت بشكل فعلي الأكثرية الكبرى من المأجورين في النقابات على فترات طويلة من التاريخ الرأسمالي.) وهكذا فهم تروتسكي على الفور المفترق التاريخي الذي مثله انبثاق سوفيات بيترسبورغ في أكتوبر/(تشرين الاول) عام 1905.

وبينما تردد لينين في رؤية أهمية السوفيات، وساورت البلشفيين القائمين مقامه نظرة شك على العموم، رحب تروتسكي بهذا الشكل التنظيمي الجديد كـ"إشارة تلوح بالمستقبل". كان قد توقع بشكل واثق في كتابه نتائج وتوقعات بأن الإمبراطورية الشاسعة بكاملها ستكون مغمورة بالسوفيات خلال الثورة المقبلة. وبجرأة قام بمعارضة الديموقراطية غير المباشرة، أي التمثيل الديموقراطي للبرلمانات التقليدية، بالديموقراطية المباشرة لهذا السوفياتات. ولقد برهن التاريخ أنه كان على صواب حول هذه النقطة.

وبرهن التاريخ حتى على أكثر من ذلك: أن السوفياتات والمجالس العمالية واللجان القاعدية والأدوات الأخرى للديموقراطية المباشرة قد انبثقت خلال القرن العشرين كالشكل الكلاسيكي للتنظيم الذاتي للطبقة العاملة، وعمليا في جميع الحالات التي بدأت فيها ثورة بروليتارية –أي بكلام آخر، ثورة شعبية يشكل المأجورون فيها أكثرية أو أقلية مهمة من المشاركين الفعليين في العملية الثورية. إن المثلين الأخيرين اللذين يقدمان تأكيدا صارخا على هذا القانون التاريخي هما الثورة البرتغالية عام 74-1975 والثورة الإيرانية عام 1979.

لم تكن الأسباب الموضوعية التي تكمن وراء حالة الأمور تلك مفهومة بوضوح بجميع تشعباتها من قبل المشاركين في ثورة 1905 بما فيهم تروتسكي. لقد أدخل ماركس وانجلس معالم نظرية أساسية في هذا المجال من خلال رسالتهما إلى العصبة الشيوعية الألمانية عام 1850، وبالأخص من خلال مراقبتهما لكومونة باريس[21]. ولكنه فقط بعد الثورة الروسية سنة 1917 والثورة الألمانية سنة 1918انبثقت نظرية كاملة التطور حول المجالس العمالية. وقد قدم منظرون شيوعيون مختلفون، بالإضافة إلى لينين وتروتسكي، أمثال غرامشي وبوخارين وكورش (وبطريقة أكثر التباسا وتناقضا ماكس آدلر وبانكوك، اللذين اتجه أحدهما إلى يمين التفكير الماركسي والآخر إلى أقصى اليسار) مساهمات تحليلية في هذا المجال. ولكن تروتسكي يحوز مرة أخرى هنا شرف البدء في خط التفكير هذا. وهو قد صاغ أيضا المفهوم الأساسي للتنظيم الذاتي الذي يلخص هذا التفكير على نحو رائع ويدل بشكل فوري على أننا نواجه ظاهرة عالمية وليس بأي طريقة من الطرق ظاهرة روسية بحتة.

تكمن أحد جذور المشكلة في الميول، التي سبق وناقشناه، نحو إعادة تقسيم جديد للعمل –والتبقرط- داخل المنظمات الجماهيرية للطبقة العاملة. وبالرغم من أنه لزم الجماهير الواسعة من العمال أكثر من عقد لتجميع التجربة الضرورية من أجل إدراك بعض المسائل الأساسية المعنية، لكنه يكون من عدم التقدير المبالغ به لذكاء الشرائح المتقدمة من الطبقة العاملة ولحسها العملي اعتبار أن أحدا من أفرادها لم يكن متنبها لهذه المخاطر. لقد طرح هذه المسألة في مراحل متقدمة عدد من الفوضويين الذين قدموا مساهمات معينة، وهي مساهمات لا يمكن اعتبارها، هنا أكثر مما في أي مكان آخر، إنها جميعا "برجوازية صغيرة" أو "رجعية". وباكرا عام 1898 طرح كاوتسكي نفسه في مقدمة كتاب أصول المسيحية إمكانية تبقرط محافظ للحركة العمالية الجماهيرية شبيه بما عاشته الكنيسة الكاثوليكية عندما أصبحت المسيحية دين دولة.

لكن هذا الإدراك المتنامي –رغم وجوده فقط في أوساط طليعية محدودة- لم يقدم جوابا سريعا لكيفية التغلب على هذه المخاطر. إن الحل الفوضوي- تجمعات أصغر؛ تأكيد أكثر على الإنعتاق الفردي والنشاط الفردي؛ أدارة ذاتية بالمفهوم البرودوني، وكل ذلك يترافق مع خطر الحفاظ على الاقتصاد البضاعي وقانون السوق أو إعادة إدخاله- لم يكن مقنعا على الإطلاق، والأكثر من ذلك أنه لم يكن عمليا. فلقد اتجه التاريخ باتجاه خلق منظمات جماهيرية أكبر وأكبر. وفي البلد الوحيد الذي احتفظ فيه الفوضويون بسيطرة أيديولوجية على الحركة العمالية –إسبانيا، أو بالأحرى قطاعات كاتلونيا وأراغون وليفانت في الحركة العمالية الإسبانية- وقع الاتحاد القومي للشغل- الاتحاد الفوضوي الأيبيري تحت رحمة مشاكل مرتبطة بتنظيم الطبقة العاملة، بما في ذلك الممارسة المأساوية في سنوات 36-1937 للوفاق الطبقي والاشتراك في الحكومة مع البرجوازية.

أما ردّ اللينينيين المزيفين "المتطرف" القائل أنه يمكن تجنب كل خوف وذلك بوجود نفوذ الحزب الثوري "النقي"، فهو أيضا غير جدير بالثقة. يرتكز هذا الردّ على نظرية الحزب المعصوم عن الخطأ، لا بل والأسوء من ذلك القيادة المعصومة عن الخطأ –وهو مبني على شيء من الإيمان وليس على فرضية علمية. بالإضافة إلى ذلك يغيّب هذا الطرح إمكانية تبقرط الحزب الثوري ذاته. فالبرنامج الصحيح لا يضمن سياسات صحيحة في كل مناسبة، خاصة عندما يواجه الحزب منعطفات جديدة غير منظورة في الأحداث، وهي أمر لا مفر منها في الحياة الواقعية. إن النقاشات والصراعات السياسية لا مفر منها داخل الحزب الثوري، بينما لا تقدم أي ضمان لأجوبة صحيحة. وفقط التجربة العملية يمكن أن تعطي البرهان النهائي عمن كان على خطأ ومن كان على صواب. لكن العلاقات مع الطبقة العاملة والصراعات الطبقية العمالية هي بذاتها أرضية اختبار جبارة للنظرية الثورية في الظروف الجديدة والمثيرة للجدل. ويجب أن تتعدى هذه العلاقات، بحكم الضرورة، حدود أعضاء الحزب لتشمل قطاعات هامة من البروليتاريا –أو على الأقل أجزاءها المناضلة والأكثر وعيا. كيف ستنشأ هذه الروابط في الأوقات "الطبيعية" نسبيا؟ كيف ستنمو خلال الأحداث الصاخبة، أو كما تسمى بأكثر دقة، الأزمات الثورية؟

عند هذه النقطة من التحليل تتقاطع دراسة الميول الموضوعية في تصرفات الطبقة العاملة مع البحث عن ضمانات ضد التبقرط والإنحرافات الانتهازية لمنظمات الطبقة العاملة الجماهيرية. لقد رافق منظمات الطبقة العاملة منذ نشوءها ما هو أبعد من الأهداف الفورية لشكل معين للمنظمة، وما يتعدى تلك الأهداف، رافقها ميل طبقي غريزي للتغلب على الخضوع والإستيلاب، أي على القدر المحتوم لأن تملي وجودها قوى غريبة وتسيطر عليه. إن هذا الخضوع هو سمة عامة من أسلوب حياة المأجور: في مسار العمل على مستوى المعمل، وفي إقحامه داخل نمط الإنتاج الرأسمالي ككل، وفي علاقته مع المجتمع البرجوازي كمستهلك وكمواطن وكناخب وكجندي. فمصيره اليومي هو أن يطيع الأوامر ويتبع التعليمات، أمّا أن يقرر مصيره بنفسه فهذا حلمه الكبير.

وبينما يطرح هذا الحلم نفسه في ظل ظروف "طبيعية" بشكل ضبابي وهامشي –أي في اقتصاد رأسمالي يعمل بشكل طبيعي ودولة برجوازية مستقرة بشكل طبيعي-، يتلقى حافزا قويا من كل شكل أعلى للتعبئة والنضال الطبقي العمالي. إن عددا لا يحصى من المراقبين قد لاحظوا شعور الغبطة والفرح وشعور الحرية المكتشفة فجأة الذي يرافق الإضرابات الجماهيرية، على الأقل تلك الإضرابات التي تتسم بحد أدنى من المشاركة الجماهيرية والعفوية. وليس بصدفة أن يصف المشاركون والمعلقون كلاً من إضراب يوليوز/(تموز) 1932 و ماي/(ايار) 1968 في فرنسا، رغم الفارق الزمني بينهما والمتمثل باثنين وثلاثين عاما، أن يصفهما بالمهرجان وبالإحتفال السار. إنه فقط من خلال هكذا نضالات جماهيرية ومن خلال تنظيمها الذاتي تكتسب الطبقة العاملة الإحساس بالقوة الطبقية الهائلة وغير المحدودة وينسجم هذا الشعور مع الواقع الموضوعي. فالواقع يؤكد ما توقعته الأغنية القديمة للطبقة العاملة الألمانية: إن جميع الدواليب تتوقف إذا ما أراد أن يوقفها ذراعها المحرك. إنه فقط بظل هكذا ظروف أيضا يمكن للطبقة العاملة أن تدرك مدى قدرتها على تغيير المجتمع: على إنشاء نموذج اقتصادي آخر، ونموذج آخر للدولة، وتنظيم آخر للعمل، وثقافة أخرى، بشكل مغاير لما تفرضه عليها الرأسمالية.

مع ذلك يجب أن تؤدي هذه النضالات الجماهيرية إلى أشكال أعلى من التنظيم مختلفة عن النقابة: أشكال تشمل العمال المحاربين ككل أكانوا منظمين بشكل دائم أو لم يكونوا، وأشكال متمحورة حول تحقيق النصر في النضال، بغض النظر عن القوة الممولة النسبية للنقابات في البداية، وأشكال بإمكانها أن تنظم مقاومة العمال وتربطها بتضامن هيئات أوسع وأوسع من الشعب: لجان زوجات المضربين وعائلاتهم، ولجان أحياء محلية، وتجمعات عمالية أخرى ولجان مزارعين وأصحاب دكاكين تقدم الغداء والتسليف، وهيئات دفاع ذاتي، وغيره…

إن لجنة منتخبة ديموقراطيا، تكون مسؤولة أمام جمعيات عمومية للمضربين وتوحد المصانع في الإضراب، هي النموذج الكلاسيكي الأولي لهذا الشكل من التنظيم الذاتي[22]. وعندما يشمل هذا مجلس لمندوبي لجان المضربين جزءا واسعا من سكان مدينة أساسية، عندها تبدأ بنيته بتخطي الحاجات المحدودة لنضال "اقتصادي صرف". فهي تنظم المالية، والدفاع الذاتي، والمؤونة الغذائية، والإعلام، والتضامن، والعلاقات العامة (نشرات صحافية وغيره…) والمواصلات. ويمكن أن تصل إلى نقطة تقوم عندها بتنظيم ذاتي للإنتاج في المصانع المحتلة تحت رقابة عمالية. وماذا يعني هذا غير إدارة عامة جديدة في شكلها الجنيني، أي، دولة عمالية مستقبلية مبنية على المجالس العمالية، وهي شكل من الديموقراطية العمالية (إشتراكية) أعلى حتى من أكثر الأشكال تقدما في الديموقراطية البرجوازية؟ إن لجنة الإضراب الأولى التي سارت عمليا على هذا الطريق على المستوى القومي وشكلت نوعا من حالة ما قبل حكومية لها وظائف حكومية محددة، كانت لجنة الإضراب المركزية التي أنشأها العمال الفنلنديون خلال الإضراب العام في أكتوبر/(تشرين الأول) 1905. بالطبع يرتبط انبثاق هذا الشكل الجديد بشكل وثيق بالانحلال الموضوعي لسلطة الدولة البرجوازية وبتنامي القبول الشعبي بشرعية الأدوات الجديدة للسلطة كسلطات حقيقية. بكلام آخر، إنها مرتبطة بدينامية أزمة ثورية أصيلة.

لقد فهم تروتسكي هذا التفاعل الديناميكي للثورة والتنظيم الذاتي قبل أي شخص آخر في الحركة العمالية العالمية وأفضل منه. من هنا جاء تدخله المثير في الجلسة النهائية لسوفيات بتروغراد عام 1905 عندما أمر القوزاقيين، الذين أتوا لحل السوفيات، بالانتظار لغاية إنتهاء الجلسة بشكل رسمي. (وبالفعل أطاع القوزاقيون الأمر، مظهرين بالتالي بطريقتهم الخاصة أنهم شعروا بشكل غريزي بسلطة جديدة ناشئة[23]). إن هذا الفهم قد أعطى أيضا أرباحا إضافية خلال التحضير المباشر لعصيان أكتوبر المسلح: لقد أعلنت في ذاك الوقت أفواج تلو الأخرى من حامية بتروغراد، وبشكل علني، ولاءها للجنة العسكرية الثورية باعتبارها السلطة العليا التي حلت أوامرها محل أوامر القيادة العامة للجيش. وكنتيجة لذلك النجاح السياسي، لم يكلف العصيان المسلح الفعلي أكثر من 15 قتيلا و60 جريحا، وعمليا لم يبق أحد يعترف بشرعية وسلطة الحكومة المؤقتة.

ويوجد هناك بالتأكيد أشكال وسطية عديدة بين لجنة إضراب منتخبة ديموقراطيا ومجلس عمالي متطور بشكل كامل: أحد الأمثلة هو حركة مندوبي الأقسام والرقابة العمالية في بريطانيا التي أنشئت مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى. إن تروتسكي لم يتبنَّ إطلاقا موقفا دوغمائيا بالنسبة لشكل معين، وليس دائما الشكل الخالص، الذي يمكن أن تنبثق منه حالة ازدواجية السلطة في أزمة ثورية. يمكن أن تنبثق ازدواجية السلطة من لجان المصانع كما مالت إليه الحال في ألمانيا عام 1923، أو قد تنبثق من لجان جبهوية موحدة كما أمل تروتسكي أن يحصل في فرنسا فترة 34-1936، وكما حصل فعلا في إسبانيا عام [24]1936. وبقدر ما تتشكل هكذا لجان جبهوية موحدة بشكل ميكانيكي من ممثلين عن منظمات طبقية عمالية كبيرة على أساس قرارات اتخذت بشكل فوقي، وبقدر ما لم تكن منتخبة ولم تكن ممثلة للإضرابات غير المنظمة، ستكون هذه اللجان أشكالا أدنى بشكل واضح في التنظيم الذاتي من مجالس عمالية أصيلة. ولكن، بمقدار ما تنتشر اللجان إلى كل مصنع وحيّ وقرية، وتميل إلى تنظيم وتعبئة أعداد واسعة من الشعب، عندها ستكون أكثر من "إتحاد تنظيمي" بسيط (أو الأسوأ من ذلك "إتحاد بيروقراطي"). إنها خطوة باتجاه سوفياتات أصيلة. إلاّ أن تحولها بشكل فعلي إلى سوفياتات يعتمد على شروط واسعة النطاق ليس أقلها شأنا مسألة علاقات القوى بين الاتجاهات المختلفة في الحركة العمالية ذاتها –بشكل أساسي بين الطليعة والجهاز البيروقراطي.

إن السوفياتات العمالية، كشكل أعلى لوحدة طبقية عمالية وتنظيم ذاتي عمالي، تشير أيضا إلى المدى الفعلي للتعبئة الجماهيرية ولمرونة الشكل التنظيمي وللتغيير النوعي في النشاط الذي باستطاعة الجماهير أن تطوره. وهذا هو فعلا شكل أعلى من الديموقراطية، كما أشار ماركس إلى ذلك في تعليقاته حول كومونة باريس: يبدأ بتحطيم الحواجز بين الناخبين السلبيين والمشاركين النشطين في أعمال الحكومة، أي الحاجز بين الوظائف التشريعية والتنفيذية. وتبدأ هنا جميع عناصر الديموقراطية التمثيلية غير المباشرة تلك، التي هي من خصائص الديموقراطية البرجوازية . والتي تميل إلى غزو المنظمات الجماهيرية المبقرطة وتحد أيضا من الحقوق والنشاطات الذاتية للجماهير، تبدأ بفتح الطريق أمام أعداد متزايدة من عناصر الديموقراطية المباشرة التي هي من خصائص الديموقراطية العمالية. حسب تعريف ماركس، فالاشتراكية هي نظام المنتجين المتحدين . وأن الشكل العادي الذي يمكن من خلاله أن يسير المنتجون شؤونهم هو حيث يتقلص بشكل جذري تقسيم العمل البرجوازي التقليدي (أو بشكل عام، الطبقي)- التقسيم بين هؤلاء الذين يديرون وهؤلاء الذين في أحسن الأحوال عندهم ما يقولونه (أو صوت يضعونه) عن الإداريين دون أن يشاركوا بشكل مباشر في أعمال الحكومة- ويبدأ هذا التقسيم بالاضمحلال.

بالطبع ليس من السهل بالنسبة للطبقة العاملة، المضطهدة والمستغلة والمستلبة في ظل الرأسمالية، أن تقفز بشكل عفوي إلى أعلى شكل من التنظيم الذاتي حتى ولو في ظروف إضراب جماهيري. صحيح أن عددا من التجارب الممهدة ستسهل الخطوة الجبارة إلى الإمام في وعي يتضمنه انبثاق مجالس عمالية أصيلة. لكن ممكن للمرء أن يشك بأن هذه العملية هي ذات طابع عفوي جوهريا. إن الانبثاق الفعلي للمجالس العمالية على المستوى القومي يتطلب على الأرجح تفاعلا معقدا ودقيقا جدا لعدد من العوامل: تجربة متنامية في النضالات الجماهيرية لقطاعات أساسية في الطبقة العاملة، عملية تفاضل داخل الطبقة تؤدي إلى خلق طليعة واسعة من العمال المتقدمين الذين خرجوا باستنتاجات محددة من هذه التجارب، عدم ثقة متنامية وصحيّة من قبل هكذا عمال تجاه الاستراتيجيات الإصلاحية البرلمانية وتجاه سياسات البيروقراطية العمالية بشكل عام، وتقوية الحزب الثوري ونفوذه بين الطليعة العمالية الواسعة.

وبالتالي، رغم أن السوفياتات الأولى قد انبثقت باستقلال عن البلاشفة، لم يعد الأمر صحيحا بالنسبة لنشأتها عام 1917. وتروتسكي نفسه سيبدأ تدريجيا بتعديل مواقفه لفترة 1904-1914 مقتربا أكثر وأكثر لرؤية العلاقة بين التنظيم الذاتي للطبقة (المجالس العمالية) والمنظمة المنفصلة للطليعة الثورية كوحدة ديالكتيكية لضدين وليس كعلاقة استبعاد متبادلة. إن الحزب الطليعي لا يمكن أن يحل محل الطبقة في الاستيلاء على السلطة وممارستها. لكن بدون الحزب الطليعي فإن أدوات التنظيم الذاتي للطبقة العاملة، المتضمنة لمستويات مختلفة لا تحصى من الوعي والنشاط، لن تستولي على السلطة وتمارسها على المدى البعيد. إنه من خلال أدوات التنظيم الذاتي للطبقة العاملة يمكن للحزب الطليعي أن يكسب هيمنة سياسية داخل الطبقة ككل ويقاتل –بأساليب سياسية وليس إدارية- من أجل تكريس وإبقاء هذه الهيمنة. يمكن للحزب أن يفعل ذلك بينما يحترم في الوقت ذاته استقلال المجالس العمالية، وبينما يدافع عن تلك البنية الديموقراطية التي بدونها لن تستمر المجالس كأدوات للسلطة وللعمل الموحد الأقصى للطبقة ككل.

لقد جادل البعض حول أن مفهوم تروتسكي في التنظيم الذاتي للطبقة العاملة، الذي يعني ضمنيا عصيانا جماهيريا مسلحا مدعوما بنشاط من قبل أكثرية البروليتاريا، قد تناقض مع نشاطه في تنظيم "مؤامرة سرية" عشية ثورة أكتوبر[25]. يقفز هذا الاعتراض عن واقع لا يمكن إنكاره، بأن الأكثرية الكبرى من الطبقة العاملة الروسية –بالطبع من سكان المدن- قد عبرت عن نفسها في الانتخابات الحرة المفتوحة بتأييدها لاستيلاء السوفييت على السلطة. وهذه الأكثرية قد ازدادت قوة حتى بانتخابات الجمعية التأسيسية، عندما أيّد ما نسبته إثنان إلى ثلاثة من سكان المدن سلطة السوفيات. لكنه أمر واقعي أيضا أن تدمير بقايا الدولة البرجوازية قد بعث مشاكل تقنية بحتة ومشاكل سياسية أيضا: تطلب ذلك ترابط التعبئة والنشاط الجماهيريين بهيئات متخصصة كالحرس الأحمر (الذي احتل مراكز عصب السلطة، وقام باقتحام قصر الشتاء، الخ). إن كلا الأمرين كانا عنصرين أساسيين من العصيان المسلح، الذي لهذا السبب بالضبط، لا يمكن أن يخفض إلى "مؤامرة سرية" تستعمل النشاطات العلنية للسوفيتات "كغطاء" مناسب. لقد برهن تروتسكي أنه أستاذ في هذا الدمج، وكما مع المشاكل السياسية الاجتماعية والعسكرية للحرب الأهلية فقد ترك لنا هيكلا لنظرية معممة يبقى فريدا في الأدب الماركسي لغاية يومنا هذا.

تحت الضغط الحاد للمجاعة العامة وخطر انحلال القوة الطبقية العمالية –بالمعنى الجسدي والعددي أيضا- أجبرت الحكومة البلشفية في فترة 20-1921 على الحد بشدة من ديموقراطية السوفيات بقمع أحزاب وتشكيلات المعارضة السوفياتية، وإلغاء حق تشكيل تكتلات المعارضة داخل الحزب البلشفي نفسه. لقد دعم تروتسكي بصدق هذه الإجراءات. ويمكننا فقط عبر دراسة تاريخية نقدية مفصلة أن نرى أنه كان من غير الممكن تجنب هذه الإجراءات لحماية دكتاتورية البروليتاريا.

لكن تروتسكي قام بأكثر من دعمه لهذه الإجراءات من وجهة نظر برغماتية. حاول تبريرها نظريا، وذهب بذلك إلى حد قوله بصراحة شديدة أنه في ظروف محددة يجب على الحزب الثوري أن يحل محل الطبقة العاملة في ممارسته للسلطة السياسية. وبالتالي، قام بانقلاب نظري تام متنكرا لكل ما اعتنقه لما يقارب العقدين حول مسألة التنظيم الذاتي للطبقة، معبرا بشكل تام على الانحراف الاستبدالي الذي سبق وعزاه (عن خطأ) إلى لينين في جدالاته سنة 1903/1904.

واليوم، وبمساعدة إدراكنا لطبيعة الحادث بعد وقوعه، يمكن أن نقول بكل ثقة بأن هذه الصياغات كانت خاطئة نظريا. إن بعض فقرات الإرهاب والشيوعية وخطابات تروتسكي في المؤتمرين التاسع والعاشر للحزب يجب أن ينظر إليها كتبريرات نظرية غير مقبولة لإجراءات عملية راهنة، وليس على الإطلاق كإغتاءات للنظرية الماركسية[26]. يلخص تروتسكي في الثورة المغدورة العملية التاريخية التي إفتتحت في سنة 20/1921 في الجمل اللاذعة التالية، والتي تتقاطع مع بعض كتاباته في سنة 20/1921. "أدى قمع الأحزاب السوفياتية إلى قمع التكتلات. وأدّى قمع التكتلات إلى تماسك البيروقراطية". وأيضا عام 1934 قال بشكل بات: "معنا أصبحت السوفياتات مبقرطة كنتيجة للاحتكار السياسي لحزب واحد أصبح هو نفسه بيروقراطية[27]. وتطرح هذه المعضلة بشكل أساسي سؤالا حول ما إذا كان هناك "طريق ثالث" في مجتمعات ما بعد الرأسمالية بين حكم المجالس العمالية المرتكزة على نظام تعددية الأحزاب وعلى حفز مؤسسي واع لنشاط الطبقة العاملة السياسي من جهة، ومن جهة أخرى، حكم إداري (أكان إرهابيا أو "لطيفا") من قبل البيروقراطية. إن روزا لوكسمبورغ قد رفضت بشكل صريح منذ عام 1918 هذا التوجه[28]. وفي رأينا، أن التاريخ قد أظهر أنها كانت على حق، على الأقل في هذه النقطة من نقدها للبلاشفة (وليس بالتأكيد في جميع النقاط الأخرى). إن معادلة تروتسكي عام 1936 تبدوا وكأنها تشير إلى وصوله لاستنتاج مماثل.

وتم النقاش أيضا بأن نظرية الثورة الدائمة لتروتسكي، التي تبلغ ذروتها في مفهوم أن الطبقة العاملة الضعيفة نسبيا والمتخلفة ثقافيا كان عليها أن تستلم السلطة في روسيا، جعلت تروتسكي معرضا للنوع نفسه من الانحرافات "اليعقوبية" التي ارتاب بوجودها عند لينين في شبابه. وعليه فقد افترض أنه غالى في تقدير النضج السياسي للبروليتاريا الروسية وفي قدرتها على ابقاء مستوى تعبئة سياسية مرتفع لوقت طويل حتى في ظل ظروف غير مؤاتية أبدا. وعندما أظهرت الأحداث أن هذا لم يكن واقعيا، كان عليه أن يميل إلى مفهوم الاستبدال.

إن هذا الجدال ينطوي بشكل واضح على مفارقة تاريخية. فلو أن هذا النقاش له علاقة بالواقع، كان سيدافع إذا تروتسكي في سنة 1906 أو 1917 عن فكرة أن البروليتاريا الروسية بإمكانها أن تمارس السلطة وحدها في روسيا لسنوات عديدة دون أن تمتد الثورة إلى بلدان أخرى. ولكنه وكما هو معروف جيدا، فإن طريقة تفكيره ذهبت في الإتجاه المعاكس تماما: إذ كان هناك ثمة شيء أساء تقديره تروتسكي والبلاشفة الآخرون فهو البطولة والوضوح السياسي للبروليتاريا الروسية، ومقدرتها على المحافظة على مستوى مرتفع من التعبئة خلال الحرب الأهلية.

ومؤخرا، طرحت انتقادات جديدة ضد مفهوم التنظيم الذاتي للطبقة العاملة، وضد فكرة ممارسة سلطة الدولة عبر مجالس عمالية منتخبة ديموقراطيا. وهذه الإنتقادات هي أكثر تعقيدا من الجدالات المبتذلة التي ترجع بأصولها إلى الاشتراكية الديموقراطية (التي تتقارب بشكل عام مع البرجوازية الليبرالية) والستالينية.

لنأخذ أكبر مثل نموذجي، وهو النقد الذي يتضمنه كتاب رودلف باهرو[29]. يتمحور نقاش باهرو بشكل أساسي حول فكرتين: بما أن المجالس العمالية تركز القوى بشكل أساسي في أماكن العمل (المصانع وغيرها) فإنها ما تزال مرتبطة بتقسيم العمل الذي يخلقه المجتمع البرجوازي: إنها مؤسسات تنشأ من الرأسمالية، وهي لذلك لبس بمقدرتها الانتقال الى مجتمع بلا طبقات حقا. وبشكل خاص، فهي لا يمكن أن تتخطى الوعي التخصصي (الجزئي) وان تساعد على انبثاق ذاك الوعي العام الذي يمكن أن يكون فقط نتاج عمل عام وليس عمل خاص.

ما ينطوي عليه هذا الطرح هو الشك –ان لم يكن الرفض- بالفرضية الأساسية للاشتراكية العلمية: أي أن المجتمع اللاطبقي يمكن أن يأتي فقط من خلال انصهار برنامج الماركسية الثورية مع المصالح الاجتماعية (بما في ذلك المادية) لطبقة اجتماعية (قوة اجتماعية) تملك القوة الكافية والمقدرات لتجعل هذا المسعى ممكنا على الصعيد الموضوعي. وإذا لم يكن هناك قناعة بأن الطبقة العاملة بمقدورها أن تحرر نفسها من القيود الفكرية والأخلاقية والبسيكولوجية والثقافية للرأسمالية، حتى في ظروف مؤاتية لأزمة ثورية وانتصار ثوري، إذا لن تكون الاشتراكية إلاّ طوباوية. وبما أنه لا يوجد أي قوة اجتماعية أخرى لها جزء من مقدرة موضوعية وذاتية للبناء الإشتراكي، فعلى المرء أن يعود إلى مستوى التجمع الفردي لكي يجد "موضوعا ثوريا"مناسبا –دون أدنى برهان على أن هكذا تجمعا فرديا سيضم أكثر من أقلية صغيرة في المجتمع. إن الربط المحدد بين القوة الجماهيرية والنشاط الجماهيري وبين القفزات العملاقة في الوعي الفردي، التي أصبحت ممكنة من خلال مجالس العمال والحزب الثوري ونظام تعددية الأحزاب، إن كل هذه الأمور تفتتح طريقا أمام آمال غامضة في تقدم "الوعي العام". وفي غضون ذلك، وبما أنه مازالت مطروحة مسألة من سيتخذ القرارات المعبرة عن المصالح "العامة" وليس "الخاصة"، ستبقى السلطة على اقل احتمال، إن لم يكن حتميا، في أيدي الدولة المبقرطة، ولو كان يقودها نخبة منفتحة بدلاً من موظفي دولة عاديين. إن باهرو لم يفهم البديل بين جهاز دولة مستقل عن جماهير المواطنين وبين هذه المجالس التي تمثل الشكل الوحيد المنتج تاريخيا للحكم والرقابة الذاتيين من قبل الجماهير أنفسها. إن عصبة أقلية من الشيوعيين ليست بالطبع البديل عن رقابة الجماهير حتى ولو كانت تمتلك المستوى الأعلى من "الوعي العام"


--------------------------------------------------------------------------------
الفصل السادس

بناء الأحزاب الجماهيرية الثورية
لطالما برهن تاريخ الفكر البشري، ليس فقط الإجتماعي بل وأيضا العلمي-الطبيعي، بأن الافتقار إلى فهم مسألة معينة قد يكون نقطة بداية أفضل لفهمها الأصح. فواقع أن تروتسكي بقي خمس عشرة سنة تقريبا دون أن يفهم التبرير التاريخي الحقيقي للبلشفية، ساعده بكل تأكيد على إدراك النظرية اللينينية للتنظيم أفضل من معظم البلاشفة الآخرين، وذلك بعد عام 1917. وكما قال لينين نفسه في نوفمبر 1917: "لقد فهم تروتسكي هذا الأمر (استحالة الوحدة مع المناشفة) ومنذ ذلك الوقت لم يعد هناك بلشفي أفضل منه"[30].

وبفهمه للحزب الطليعي الثوري كأداة لا غنى عنها من أجل الاستيلاء على السلطة وممارستها من قبل الطبقة العاملة، وكضرورة من أجل الثورة العالمية والاشتراكية العالمية كتنظيم ذاتي للطبقة، لعب تروتسكي دورا مهما وذلك عام 1918 وبعده، في سعي الأمميين في فترة الحرب لبناء أحزاب جماهيرية ثورية جديدة منفصلة ومستقلة عن الاشتراكية-الديموقراطية القديمة، ولبناء أممية ثورية جديدة: الأممية الشيوعية. إن المؤرخين –وبالأخص المعادين منهم- قد شدّدوا كثيرا على النتائج السلبية "لتفاؤله المفرط". فأشاروا إلى "آماله الخاطئة" حول "الانفجار الفوري" للثورة في ألمانيا أو النمسا خلال النصف الأول من سنة 1918، وأشاروا بشكل خاص إلى تكتيكاته في مفاوضات بريست ليتوفسك السلمية مع الإمبراطوريتين الألمانية والهنغارية-النمساوية[31]. لكننا نستطيع أن ندرك اليوم أن هذه التكتيكات التحريضية لاقت صدى كبيرا بين الطبقة العاملة في برلين وفيينا. وقد لزم جميع تلك المناورات الخيانية من قبل قياديي الاتحاد اليميني في الاشتراكية الديموقراطية لمنع انفجار في كلتا المدينتين في يناير/(كانون الثاني)-فبراير/( شباط)1918[32].

وقد أعطي اهتمام أقل بكثير، من قبل مؤرخي حياة تروتسكي أو مؤرخي تلك الفترة، لدوره الرئيسي في تطوير المفهوم الاستراتيجي لكسب جماهير البلدان الإمبريالية والمستعمرات إلى الشيوعية: المفهوم الاستراتيجي لبناء أحزاب جماهيرية ثورية. لا بل وأعطي اهتمام أقل من ذلك إلى الارتباطات العضوية بين هذا المفهوم الاستراتيجي وموضوعتين أساسيتين في ماركسيته: مفهوم الثورة الدائمة ومفهوم التنظيم الذاتي للطبقة العاملة. وتظهر هذه الارتباطات العضوية بشكل واضح في مساهماته في النقاشات المبكرة في الأممية الشيوعية، وبالأخص تلك المتعلقة بالجبهة الموحدة في فرنسا وألمانيا، وما سمي بـ"نشاط مارس/اذار (1921)" في ألمانيا، والانفصال عن الانحرافات الطفولية في المؤتمر الثالث للكومينترن، والفرص المؤاتية على المدى المتوسط للشيوعية العالمية بعد أن بدأ الاستقرار النسبي للرأسمالية في الغرب. لقد تابعت مساهمات تروتسكي حول الأزمة الألمانية عام 1923، والإضراب العام البريطاني، التقليد نفسه بعد رحيل لينين. وفي نضاله ضد "اليسارية الطفولية للمرحلة الثالثة" وسياسة الجبهات الشعبية التي تلت للكومنترن الستاليني، نجد ما هو، في معنى من المعاني، الدفاع الأعلى عن هذا المفهوم الاستراتيجي.

لقد بدأ تروتسكي، مثل لينين، من رفض أي فكرة تعتبر الثورة الاشتراكية يمكن أن تنتصر في بلد إمبريالي، حيث أكثرية السكان هم المأجورين، طالما أن الشيوعيين يملكون فقط دعم أقلية الطبقة العاملة. إن فكرة الدولة العمالية أو ديكتاتورية البروليتاريا بالذات المبنية على أساس التنظيم الذاتي للطبقة في مجالس عمالية تجعل إمكانية أن تمارس هكذا سلطة دون موافقة الأكثرية الكبرى من الطبقة، لا بل المشاركة النشيطة، من جانبها، أمرا مستحيلا. وبالتالي، فمن الخطأ الاعتقاد أن نضال لينين وتروتسكي من أجل الجبهة العمالية الموحدة (بالأخص في فرنسا وألمانيا –وليس فقط هناك)، أو إلحاحهما القوي بأن على الشيوعيين البريطانيين أن يعملوا في سبيل الانضمام إلى حزب العمل، كان فقط مناورة تكتيكية من أجل إضعاف الاشتراكية-الديموقراطية وتقوية الأحزاب الشيوعية. ورغم أنه لا يمكن التقليل من بعد العمل البنائي للحزب في هذا الصراع، لكن ذلك لم يكن إلاّ جزءا من توجه أوسع بكثير: لكسب أكثرية الطبقة العاملة إلى فكرة الإسقاط الثوري للرأسمالية وبناء سلطة المجالس العمالية (السوفياتات). إن هذه العملية تطول دون شك عددا من الجماهير أكثر بكثير من عدد الراغبين في الانضمام إلى الحزب الشيوعي أثناء ثورة بروليتارية منتصرة وبعدها.

إن استراتيجية كسب أكثرية البروليتاريا إلى الشيوعية، كمعارضة للإصلاحية، في جميع تلك البلدان التي تضم الحركة العمالية المنظمة فيها عددا كبيرا من العمال، تنطوي على مدلولين،يعمل الواحد منهما، إلى حد ما، باستقلال عن الآخر، رغم أنهما مرتبطان أيضا. فمن جهة، هناك مشكلة أساسية هي مشكلة التغلب على نتائج الانقسامات الحزبية السياسية للطبقة العاملة من أجل تمتين قدرتها الكلية للدفاع عن مصالحها الحيوية. (والآن بالطبع، وعكس ما كان يحصل في فترة ما قبل عام 1914، أصبح هذا النوع من الانقسام هو القاعدة وليس الاستثناء –رغم أننا لا يجب أن نقلل من تقدير ثقل اتجاهات النزعة النقابية، والنقابية الفوضوية والنقابية الثورية داخل حركة الطبقة العاملة قبل عام1914). إن الحاجة إلى الوحدة تطرح نفسها بقوة خاصة عندما تكون الطبقة العاملة معرضة لهجوم المدراء والبرجوازية والدولة البرجوازية. ولكنها أيضا يمكن أن تطرح نفسها عندما يظهر أن الفرصة التاريخية ستجعل من الممكن التقدم بمواجهة حاسمة نحو قلب الرأسمالية، وعندما يهدد العجز عن تعبئة قوة الطبقة ككل –وهو بذاته متأت من وجود انقسامات سياسية-بشل إمكانية الإختراق الثوري.

ومن جهة أخرى، هناك مشكلة حقيقية لا تقل صعوبة في جعل ذلك القطاع من الطبقة العاملة الذي لا يزال يتبع القيادة الإصلاحية يقوم بقطيعة مع الأوهام الانتخابية والبرلمانية المترسخة، أي بكلام آخر، تحقيق وحدة عمل الطبقة العاملة في ظل ظروف كهذه لكي تؤدي إلى صعود مهم في معدل الوعي الطبقي للبروليتاريا. فبعد أن أصبح تروتسكي بلشفيا، تخلى عن الوهم العفوي بأن هكذا صعودا في معدل الوعي الطبقي سيكون، بمعنى من المعاني، النتيجة الأوتوماتيكية لازدياد التعبئة الجماهيرية الضخمة –على الأقل ليس صعودا في الوعي يتناسب مع الحاجة إلى بدء المسير الحازم على طريق النضال من أجل السلطة.

ففي سياسة الجبهة الموحدة، الموجزة في المؤتمر الثالث للكومنترن، والتي لعب تروتسكي دورا هاما في تطويرها وإنجازها، يرتبط هذان الوجهان لتلك الاستراتيجية بعضهما بالبعض الآخر بشكل متواصل. إن النضال من أجل الجبهة الموحدة هو نضال من أجل عمل موحد حقيقي لجمهور العمال، الذي لا يمكن أن يتحقق في العديد من الحالات، إن لم يكن في معظمها، حين تكون الطبقة العاملة منقسمة سياسيا دون المشاركة الفعلية للقيادة الإصلاحية. فالإعتقاد بأن مئات الألوف من العمال الذين ليسوا على استعداد للقطيعة مع الاشتراكية-الديموقراطية سيكونون على استعداد للانخراط في تعبئة جماهيرية سياسية باستقلال عن، أو ربما ضد قرارات قياديي حزبهم، يعني التوهم بأن المشكلة التاريخية لفك ارتباط العمال الاشتراكيين الديموقراطيين بالإصلاحية قد ثم حلها.

إلاّ أن النضال من أجل الجبهة الموحدة هو أيضا نضال من أجل خلق ظروف مؤاتية لعدد متزايد من العمال للقيام بقطيعة مع الأوهام الإصلاحية والتدرجية والانتخابية وسياسة المساومة الطبقية والتعاون الطبقي. وإن لم تؤد الجبهة الموحدة إلى تحقيق هذا الهدف، فإنها في أحسن الأحوال ستقود فقط إلى انتصارات جزئية في نضالات دفاعية (وهي أمور ليست غير ذات أهمية)، بينما تبقى دون حلول مشكلة العصر الأساسية: كيف يمكن رفع وعي الطبقة العاملة في البلدان الإمبريالية الصناعية، إلى المستوى الذي يجعلها تدرك ضرورة القتال من أجل سلطة العمال.

وبالتالي، لم تتضمن سياسة الجبهة الموحدة، بالنسبة لكل من لينين وتروتسكي، "ائتلافا أيديولوجيا غير عدواني" مع إصلاحية الاشتراكية الديموقراطية: تخلي الحركة الشيوعية عن مبرر وجودها السياسي، والتخلي عن نقدها المؤكدة صحته، ألوف المرات، للإصلاحية والتدرجية المفلستين تاريخيا. كانت المعادلة الكلاسيكية لسياسة الجبهة الموحدة: السير على حدة والضرب معا. والسير على حدة يعني: المحافظة على الاستقلال السياسي والأيديولوجي وليس تحويل اتفاقات الجبهة الموحدة إلى "برامج مشتركة بعيدة المدى" مائعة، الذي لا يعني، طالما احتفظت الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية بنفوذها الجماهيري، إلاّ الاستسلام للتدرجية والوفاق الطبقي. والضرب معا يعني: رغم وجود الخلافات الأيديولوجية والبرنامجية التي لا تقبل التوفيق، الاتفاق على أعمال مشتركة بأهداف محددة تتلاءم مع مصالح الطبقة ككل ومع المصالح المشتركة للمنظمات المعنية كما تفهمها.

ليس هناك أي شيء مزيف أو ماكيافلي أو غير صادق سياسيا في هكذا سياسة. بل على العكس، عندما تعلن جميع العناصر سابقة الذكر بشكل علني وواضح، لا يمكن لأحد أن يعترض عليها من وجهة نظر الأخلاقية البروليتارية. وليس في ذلك أي محاولة لإخفاء الرفض للمساومة الطبقية والتدرجية الاشتراكية-الديموقراطية، كونها تتناقض مع مصالح الطبقة العاملة، وكونها معادية على نحو قاتل للثورة الاشتراكية، وبالتالي فهي قوة كبيرة مساندة لاستمرار الرأسمالية الآفلة وانحطاط الحضارة بشكل عام. إنه معلن بوضوح، في الوقت نفسه، بأن المصلحة المشتركة للعمال الاشتراكيين الديموقراطيين والشيوعيين في محاربة البطالة أو الفاشية تعني المصلحة المشتركة في الجبهة الموحدة ضد هجمة أصحاب العمل وانقضاض الفاشيين. إنه لمصلحة كل من الاشتراكيين-الديموقراطيين والشيوعيين المشتركة أن يستمر الجدال حول الميزات والمساوئ النسبية للتدرجية والثورة، وأن يستمر النقاش بينهم كعمال مستخدمين بمعاشات كاملة، لا كضحايا البطالة الدائمة المفقرين ومضعفي المعنويات. إنه بالطبع لمصلحتهم المشتركة أن يستمروا في ذلك الجدال في قاعاتهم الشعبية، ومن خلال جرائدهم الحرة، وفي جمعيات عمومية حرة للأعضاء النقابيين، لا في معسكرات تجميع أو زنزانة سجن.

إن هذا هو تناول دياليكتيكي حقيقي لجبهة العمال الموحدة ولمسألة كسب أكثرية الطبقة العاملة لفكرة الثورة الاشتراكية من خلال نشاط وتعبئة جماهيريين (من الممكن أن يترافقا مع عمليات انتخابية، لكن دون أن يخضعا لها بأي طريقة من الطرق). بالتالي، فإن هذا التناول يعلق ثقلا كبيرا على البناء التنظيمي للجبهة الموحدة ولتكتيكات ما يسمى بشعارات حكومية: وهما مسألتان لعبتا دورا كبيرا في نقاشات الكومنترن في العشرينات وأوائل الثلاثينات، وفي المساهمات التي استمر بتقديمها تروتسكي حتى نهاية حياته.

إن الشكل التنظيمي الأكثر تقدما للجبهة العمالية الموحدة هو بكل وضوح الشكل الذي يؤمن تنظيم وحدة العمل على جميع المستويات، بما في ذلك على مستوى المعمل والحي في شكل لجان جبهة موحدة (أو عمل). إن هكذا لجان مُنشأة من قبل جميع المنظمات المشتركة في الجبهة الموحدة، يجب أن تصبح خاضعة أكثر وأكثر لانتخاب وإقالة ديموقراطيين من قبل جمهور العمال أنفسهم –وفي هذه الحالة ستسير بتقدم باتجاه الاقتراب من نموذج مجالس عمالية أصيلة. وبالطبع، يمكن أن تتحول إلى هكذا مجالس من خلال أي تغيير مفاجئ في الظروف الموضوعية (أي حادث يسبب أزمة ثورية).

إن الشكل السياسي الأكثر تقدما لجبهة عمالية موحدة هو أيضا بشكل واضح الشكل الذي يصبح فيه تأسيس حكومة من أحزاب الطبقة العاملة (أو جميع المنظمات الجماهيرية للطبقة العاملة) هدفا مجاهرا به للعمل الطبقي الموحد. في تلك الحالة، فإن الهدف الرئيسي للجبهة الموحدة ككل –أي تربية الطبقة العاملة على حاجة الاستيلاء على السلطة- يكون قد دنا خطوة كبيرة حيث تصبح مسألة السلطة متزاوجة بازدياد مع الأهداف الدفاعية الأصيلة للجبهة الموحدة.

لكن وبما أن الشيوعيين –وبالأخص تروتسكي بعد عام 1917- ليس لديهم أوهام حول رغبة أو مقدرة التدرجيين والاشتراكيين-الديموقراطيين العملية باستلام السلطة وإسقاط الدولة البرجوازية، فإن هكذا شعارات حكومية يجب أن تترافق مع تحذيرات متواصلة حول ما يمكن أن يحدث إذا ما سُمح للاشتراكيين-الديموقراطيين (واليوم الأحزاب الشيوعية الإصلاحية أيضا) باتباع ميلهم وزخمهم الطبيعيين. وبحال لم يحصل ذلك، فإن مجمل هذه الدعاية المركزة على شعارات حكومية، والتي يمكن أن تلعب دورا كبيرا في تثقيف الطبقة العاملة حول أهمية السلطة وحول طبيعة الإصلاحية والتدرجية، يمكن أن تقوي بشكل فعلي الأوهام وسط قطاعات من الحركة الجماهيرية. وللسبب نفسه، تكون الحالة "المثالية" هي الحالة التي يسمح فيها تطور النضال الطبقي والوعي الطبقي العمالي للقوة الدافعة باتجاه التنظيم الذاتي البنيوي العضوي للجبهة الموحدة أن تندمج مع الشعار الحكومي الموحّد: إلى الأمام نحو حكومة عمالية موحدة للاشتراكيين-الديموقراطيين والأحزاب الشيوعية المبنية على قاعدة لجان منتخبة ديموقراطيا، حكومة تطبق سياسة القطيعة مع البرجوازية والمعاداة للرأسمالية، التي تتصورها الجماهير وتعكس حاجاتها وانشغالاتها.

لقد تناول تروتسكي كلاّ من الشكل التنظيمي والهدف السياسي للجبهة الموحدة دون أية روحية قصوية. إن الشكل الأكثر تحبيذا الذي تم إيجازه سابقا ليس بأي حال من الأحوال الشكل الممكن الوحيد لتنظيم الجبهة الموحدة وديناميتها. وهو بشكل خاص ليس الطريق الوحيد الذي يمكن أن تبدأ به الحركة الدافعة للجبهة الموحدة داخل الطبقة العاملة. هذا، وإن بدء هكذا دينامية هو شرط مسبق أساسي، إذا لم يكن حاسما، من أجل أن تتقدم قطاعات واسعة من الجماهير الكادحة نحو الماركسية الثورية، نحو بناء أحزاب جماهيرية ثورية. ويكون من الحماقة الإجرامية بمكان أن يتم التضحية بإمكانية بدء هكذا سيرورة لغاية ظهور الظروف المثالية.

ولهذا إنتهز تروتسكي باستمرار –خلال صراعه من أجل أحزاب جماهيرية ثورية: في الكومنترن لغاية عام 1933، وبعد ذلك، بظل شروط أقل مؤاتاة، في تثقيف النواة الأولى للأممية الرابعة –جميع الفرص مؤاتية وجميع المنافذ التي يمكن أن تسهل الحوار مع القطاعات غير الثورية للطبقة العاملة وترتقي بوعيها خطوة أخرى إلى الأمام وحتى المبادرات الانتخابية "الصرفة" يمكن أن تلعب دورا كهذا، شرط أن تكون متلائمة مع الهدف الواضح، وأن تقدم الجماهير خطوة إلى الأمام وليس إلى الوراء على طريق إدراك الحاجة للاستيلاء على السلطة، وأن تساعد لا أن نعيق بناء الأحزاب الثورية.

ويرتكز هذا التناول، الذي تشبث به تروتسكي بعناد لغاية وفاته، على مفهومين: المفهوم الأول الذي طوره بوضوح، حتى أكثر من لينين، بعد عام 17/1918، والذي نمقه بالأخص خلال العقد الأخير من حياته هو مفهوم الحركة العمالية المنظمة كوحدة عضوية. وقد عزز هذا المفهوم كل من نضاله من أجل تنظيم داثى عمالي (سلطة العمال المبنية على المجالس) ونضاله من أجل الديموقراطية العمالية. وهو اليوم موضوع خلاف أساسي بين أتباعه وبين، ليس فقط التيارات الأيديولوجية المختلفة التي لم تقطع حبل السرة مع الستالينية، بل وأيضا الأعداد المتزايدة من التيارات الإشتراكية-الديموقراطية المتأثرة بالأيديولوجية البرجوازية.

لقد ساعده هذا المفهوم (وساعد أتباعه) على التمييز بين الواقع، الذي لا يمكن إنكاره، بأن الطبقات المعادية تمارس تأثيرا ايديولوجية كبيرا على الحركة العمالية –وان عددا من "الوكلاء" يعملون هناك بدفع مباشر من قطاعات من البرجوازية- وبين فكرة أن النضال بين تيارات تاريخية كبيرة للحركة العمالية هو في الواقع "نضال طبقي بين البرجوازية والطبقة العاملة". غير أن الوقوف عند الاستنتاج الأخير وحده يمكن فقط أن يقود إلى قمع الديموقراطية العمالية الحقيقية والحوار الأيديولوجي: وإلى الاستبدال المتزايد للتميّز السياسي بالقمع الإداري (في حالة الاشتراكيين الديموقراطيين يكون القمع من خلال جهاز الدولة البرجوازية، وفي حالة البيروقراطية يكون القمع من خلال جهاز دولة البلدان العمالية المبقرطة). وفي حالات قصوية يمكن أن يؤدي ذلك أيضا إلى عنف جسدي وقتل أو إبادة جسدية جماعية.

إن قطاعات الطبقة العاملة التي تدعم الاشتراكية-الديموقراطية والفوضوية أو الستالينية هي أجزاء من الطبقة العاملة وليست أجزاء من الطبقة البرجوازية، وذلك بغض النظر عن أصول أفكارها وأوهامها وبغض النظر عن طبيعة القيادة المضللة التي تتبعها. وبدون أن يتم كسب قطاع واسع من الجمهور التابع لتلك التيارات الأيديولوجية السياسية إلى المشروع الثوري، أو على الأقل جعلها تنظر إلى هذا المشروع بحياد إيجابي، بدون ذلك لا يمكن أن يكون هناك ثورة اشتراكية ناجحة في المجتمعات المتقدمة صناعيا. (والحقيقة أنه لا يمكن أن يكون هناك ثورة اشتراكية منتصرة إذا ما بقي أكثرية العمال إصلاحيين، وبالتالي دون الحاجة إلى نضال أيديولوجي مستمر وقاس ضد الإصلاحية).

ولا بد من ملاحظة عابرة، بأن هكذا مفهوما للحركة العمالية كوحدة عضوية يجب أن يبنى على أرضية المفهوم المادي للبروليتاريا كطبقة تضم جميع المأجورين، جميع هؤلاء الذين يضطرون تحت الضغط الاقتصادي إلى بيع قوة عملهم. هذا هو التعريف الكلاسيكي للبروليتاريا الذي نجده في مجمل كتابات ماركس وانجلس وكاوتسكي الشاب وبليخانوف ولينين وتروتسكي الشاب. وفي رأينا أن تروتسكي قد تقلب فيما بعد حول هذه المسألة بطريقة لا يمكن تبريرها. فأحيانا كان يصنف الأجراء ذوي الياقة البيضاء ضمن فئة "البرجوازية الصغيرة الجديدة" –الأمر الذي يقود إلى العديد من التناقضات المتعلقة بهذا المفهوم، بما في ذلك التعريف بالأحزاب العمالية نفسها[33].

إن هذا المفهوم للحركة العمالية المنظمة كوحدة عضوية مرتبطة بالبروليتاريا لا يتناقض بأي طريقة من الطرق مع الفكرة التي دافع عنها تروتسكي بضراوة حول حتمية التمايزات والتجزؤات الداخلية للبروليتاريا. وتعبر هكذا تمايزات عن نفسها في تنوع المنظمات الجماهيرية للطبقة العاملة، وتستمد جذورها من المصالح الفئوية الحالية، بالإضافة إلى كونها ترتبط بمستويات الوعي المختلفة التي لا تتطابق بالضرورة مع تلك المصالح الفئوية. إن تروتسكي لم يؤكد فقط على أن هذه التجزؤات والتمايزات هي أحد الأسباب الجوهرية التي تفرض الحاجة إلى حزب ثوري طليعي، بل وأيضا كان شديد الحذر تجاه هكذا ميول موضوعية كالاندماج المتزايد (لأقسام كبيرة) للبيروقراطية النقابية في الدولة البرجوازية –التي تتماشى مع القوانين الموضوعية لحركة المجتمع البرجوازي في البلدان الإمبريالية كما والبلدان شبه المستعمرة. إلاّ أنه عارض بشدة التعميم المضخم حول أن عمليات التجزؤ والاندماج هذه قد حوّلت أجزاء من الحركة العمالية من الطبقة العاملة إلى طبقة الرأسمالية، وإن هذه الأجراء أصبحت بالتالي غير قادرة على الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة من أي نوع كانت وفي أي زمن.

إن المفهوم الأساسي الثاني الذي يتضمنه تكتيك الجبهة الموحدة هو ذو طابع تربوي. لقد فهم تروتسكي، كما وروزا لوكسمبورغ ولينين، الذي تبقى مساهمته "مرض الطفولية في جناح الشيوعية "اليساري" مصدرا مهما في هذا المجال، بأن الجماهير الواسعة تتعلم من التجربة، وبالأخص التجربة في العمل، أكثر بكثير من الدعاية والتحريض الشفهي أو المطبوع. وبالتالي كان النضال من أجل الجبهة الموحدة في التحليل الأخير نضالا من أجل التجارب في العمل، أكانت تلك التجارب إيجابية أو سلبية، تساعد الجماهير للوصول إلى عدد من الاستنتاجات التي دأب على استخلاصها الماركسيون منذ 1905-1906 أو على الأقل منذ عام 1914، والتي من الصعب على الجماهير الواسعة استخلاصها فقط عبر قراءة المنشورات والتفكير بالتاريخ العالمي. نعني هنا بالأخص الاستنتاجات التالية: بأن الرأسمالية قد تخطت مهمتها الحضارية، وبأن استمرار الرأسمالية في الحياة سيجلب على البشرية أعدادا متزايدة من الكوارث كالحروب العالمية وبطالة فظيعة وديكتاتوريات رجعية دموية، وبأن الرأسمالية لا يمكن أن تزول بخطوات جزئية وتدريجية؛ وبأنها يمكن أن تزول فقط من خلال نشاط جماهيري في لحظات مؤاتية في التاريخ تسمى أزمات ثورية؛ وبأنه في هكذا لحظات تملك الاشتراكية-الديموقراطية وظيفة مهمة في تجنب الثورة بأي ثمن تقريبا، لكونها مقتنعة بعمق (ولها مصلحة مادية) بأن نتيجة هكذا ثورات سيكون أسوأ من الرأسمالية الآفلة (ولأنها تعتقد، وعلى الأقل لدرجة معينة، بإمكانية التغيير التدريجي للنظام)؛ وأنه بالتالي من أجل إنقاذ البشرية من البربرية يكون من الضروري بناء أحزاب جماهيرية ثورية، التي بينما تطبق سياسة أوسع تنظيم ذاتي ووحدة عمل ممكنين للبروليتاريا، ستتحضر ويكون بمقدورها انتهاز فرصة قيادة الطبقة العاملة نحو السلطة خلال هكذا أزمات ثورية.


--------------------------------------------------------------------------------
الفصل السابع

الستالينية
لقد اعتبر الشيوعيون الروس والعالميون على السواء، وذلك قبل ثورة أكتوبر وبعدها، أنه لأمر واقعي أن لا تتمكن الطبقة العاملة من الحفاظ على السلطة في روسيا المتخلفة نسبيا إلاّ إذا جاءت الثورة العالمية لمساعدتها[34]. لكن، كان يُنظر إلى خسارة السلطة على العموم كعودة للرأسمالية، أي عودة للسلطة السياسية والاقتصادية للبورجوازية الروسية. غير أن التاريخ في المقابل اتخذ منحى لم يكن بعد منظورا. وبالفعل كان لهزيمة الموجة الثورية الأولى بعد الحرب نتيجتها بأن فقدت الطبقة العاملة ممارستها المباشرة للسلطة السياسية. غير أن هذه السلطة لم تسقط في أيدي البرجوازية الروسية القديمة والجديدة، بل وقعت في أيدي شريحة اجتماعية ذات امتيازات، هي البيروقراطية السوفياتية، التي انبثقت كنمو سرطاني على جسم الطبقة العاملة الروسية نفسها.

إن للتفسير التاريخي الأساسي لهذا الانعطاف الجديد في التاريخ وجهتين. فواقع أن الانتفاضات الثورية الكبيرة لما بعد الحرب في أوروبا الوسطى –وفي الصين بين عامي 1925 و1927- لم تتوج بانتصار جديد للثورة الاشتراكية قد ترك روسيا السوفياتية معزولة في محيط رأسمالي معاد، وأضعف الطبقة العاملة الروسية، وأضعف الظروف لسلطة سوفياتية على طراز فترة 1917-1920. إلاّ أن الانتفاضات الثورية كانت من القوة الكافية لمنع الإمبريالية العالمية من إعادة الرأسمالية في روسيا. فلقد سمح التوازن العالمي الجديد غير المستقر بين الرأسمالية والقوى المعادية للإمبريالية ببقاء الاتحاد السوفياتي، وإن يكن بشكل شديد الانحراف والانحطاط.

بالإضافة إلى ذلك، فإن انتصار الجيش الأحمر في الحرب الأهلية، والإضعاف الحاسم للبرجوازية الروسية القديمة، وتشتت الفلاحين، وقوة جهاز الدولة الجديد –كل هذه الأمور اجتمعت لتجعل من إعادة ظهور طبقة رأسمالية جديدة تسعى من أجل السلطة، عملية أكثر بطءا وأكثر تناقضا وأضعف مما قد سبق وتصوره كل من لينين وتروتسكي، وذلك رغم أن السياسة الاقتصادية الجديدة للبلاشفة (سياسة النيب) عام 1921 قد سهلت من دون شك هذه العملية. وقد نشأ أيضا عن الإضعاف المتوازي لكل من البروليتاريا الروسية من جهة والبرجوازية الروسية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة من جهة أخرى، توازن مستقر داخل المجتمع السوفياتي، كان واضح تعبير عنه صعود البيروقراطية السوفياتية إلى السلطة الكلية السياسية والاجتماعية.

عندما نقول أن هذه الانعطافة في الأحداث قد جاءت مفاجئة للماركسيين الروس والماركسيين العالميين، لا بد لنا في الوقت نفسه أن نشير إلى أنه قد ظهرت في مرحلة مبكرة نسبيا في تاريخ الفكر الاشتراكي رؤية نظرية لا مكانية انحطاط بيروقراطي لسلطة عمالية (لدولة عمالية) –لدى كاوتسكي في مقدمته المشهورة لكتابه أصول المسيحية (1898)، ولدى بعض المفكرين الفوضويين. وفي أعقاب ثورة أكتوبر، وضعت روزا لوكسمبورغ أولا، ومن ثم أوتو باور، تصورا حول هكذا إمكانية بمقابل ما توقعه المناشفة حول أن عودة الرأسمالية حتمية.

إن ما جعل الإدراك الصحيح والتحليل العلمي لهذه العملية أمرا صعبا للغاية بالنسبة للمعاصرين، وما يجعل تفسيرها حتى اليوم شديد التعقيد بالنسبة للماركسيين، هو الطريقة التي تضافرت فيها هذه العملية مع البنى الاقتصادية والأشكال الاجتماعية التي أنتجتها ثورة أكتوبر الاشتراكية. إن تأميم وساءل الإنتاج،الحضر الدستوري على الامتلاك الخاص لوسائل الإنتاج وعلى الاستغلال الفردي للمأجورين، واحتكار الدولة للتجارة الخارجية، وقمع علاقات الإنتاج الرأسمالية والإنتاج البضاعي المعمم (أي واقع أن الاقتصاد السوفياتي لا يتطور حسب قوانين حركة الرأسمالية التي اكتشفها ماركس[35])، وإمكانية التخطيط طويل المدى، إن جميع مكاسب ثورة أكتوبر هذه بقيت دون أن تمس لغاية يومنا هذا.

غير أن هذه الاستمرارية ليست محدودة فقط في حقل النظام الإقتصادي. فقد استمر قادة البيروقراطية، الذين تعاقبوا من ستالين إلى مالينكوف إلى خروتشوف وبريجنيف، بإظهار أنفسهم الورثة الشرعيين للينين. وتبقى الماركسية العقيدة الرسمية للدولة. وما زال يعلن عن بناء المجتمع الشيوعي اللاطبقي كالهدف الرسمي لسياسة الحكومة. وما زال الحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي يدعى الحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي. ورغم أنه تم حل الأممية الشيوعية بشكل رسمي عام 1943، فإن "الحركة الشيوعية العالمية"، الخليفة اللاشرعية للأممية، ما زالت تحفظ رابطا قويا بين الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي والحكومة السوفياتية من جهة وبين قطاعات هامة من الحركة العمالية العالمية من جهة أخرى.

ولجميع تلك الأسباب، حاول الماركسيون الثوريون الروس، وبالدرجة الأولى تروتسكي، أن يشرحوا طبيعة العملية المعادية للثورة التي تطورت في الاتحاد السوفياتي منذ أوائل العشرينات، على ضوء حادث تاريخي مواز بشكل واضح: الترميدور، الذي أشار إلى نقطة الانعطاف للثورة الفرنسية الكبرى.

وقد كان الترميدور الروسي ثورة مضادة حقيقية، كنظيره الفرنسي. ولكن بدل أن يؤدي إلى إعادة سلطة الطبقة الحاكمة ما قبل الثورة (الأرستقراطية شبه إقطاعية في فرنسا، الرأسماليون ومالكو الأراضي فر روسيا)، احتفظ الترميدور إلى هذا الحد أو ذاك بالمكاسب الاقتصادية-الإجتماعية الأساسية للثورة. كان، إذا أمكن القول، ثورة مضادة سياسية داخل الثورة- وهذا لا يعني أن نتائجها محصورة في نطاق البناء الفوقي الاجتماعي. وكما في السيرورة الفرنسية البادئة من الترميدور، من خلال البونابرتية والإمبراطورية النابولنيونية، والمفضية إلى إعادة ملكية بوربون عام 1815، فإن الثورة المضادة في روسيا كان لها تأثير خطير في الحقل الاجتماعي-الاقتصادي أيضا، لكن دون أن تؤدي إلى إعادة علاقات الملكية والإنتاج ما قبل الثورة.

إن فكرة سلطة السوفيات تنطوي على مفهوم جهاز دولة ضعيف غير مكلف التسيير. وكانت تلك الفكرة إحدى حجج ماركس الأساسية في دفاعه عن دكتاتورية البروليتاريا، مستلهما إياها من تتبعه لتجربة كومونة باريس. وقد أكد لينين عليها بشدة في الدولة والثورة، وهي إحدى أكثر المساهمات تأييدا لمبادئ "الحرية" سبق وصاغها ماركسي معترف به. فمن وجهة نظر النظرية الماركسية العامة، تتناسب قوة الدولة مع ثقل التناقضات الاجتماعية. وبالتالي، لا يجب أن يظهر في دولة الأكثرية الكبرى، التي تسعى لمنع الأقلية الأصغر نسبيا من الاستيلاء على السلطة من جديد، المستوى من التضخم أو العنف القمعي الذي يميز دولة في خدمة أقلية أصغر نسبيا، تدافع عن استغلال الطبقة الحاكمة واضطهادها للأكثرية الكبرى[36].

ولكن بينما يكون هذا التفكير مناسبا لدكتاتورية البروليتاريا في بلدان صناعية متقدمة، ونحن متأكدون تماما بأن هذا الأمر ستتأكد صحته في الممارسة، فإن تطبيقه على روسيا السوفياتية تضمن عددا من العيوب الهامة.

أولا، إن "الأكثرية الكبرى" التي يشير إليها لينين باستمرار في الدولة والثورة ليست البروليتاريا، وليست أية قوة اجتماعية متجانسة نسبيا. لا بل إنها تتألف من العمال والفلاحين (أو بطريقة أكثر دقة: العمال، وأشباه البروليتاريا الريفيين، والفلاحين الفقراء، وتلك الشرائح من الفلاحين المتوسطين الذين لا يدخلون بشكل أساسي في استغلال العمل المأجور): بكلام آخر تتألف من تكتل غير متجانس لطبقات اجتماعية متعددة لا تتطابق بأية طريقة من الطرق مصالحها الحالية والتاريخية. ورغم أن البلاشفة، ابتداء من لينين، علقوا أهمية كبيرة على حاجة الحفاظ على تحالف طويل الأمد بين هذه الطبقات، ثبت لاحقا أنه من الطوباوية الاعتقاد أن هذا يمكن أن يحدث دون انتهاك، جزئي على الأقل، لمصالح أحد مكونات تلك الكتلة أو بعضها أو جميعها[37]. جاءت بالتالي الحاجة إلى وسيط ليحل التنازع بين هذه المصالح المتضاربة. وفي ظل ظروف ندرة البضائع الاستهلاكية والفقر المعمم، قام هذا الوسيط –البيروقراطية السوفياتية- بانتزاع ثمن متزايد مقابل خدماته، في شكل امتيازات مادية. إن حالة الحصن المحاصر الذي وجد الاتحاد السوفياتي نفسه فيه بين الحربين العالميتين قد عملت بكل تأكيد في خدمة تلك السيرورة.

ثانيا، تفترض بشكل مسبق فكرة جهاز دولة ضعيف وغير مكلف بأن يكون بمقدور الطبقة العاملة –مع حلفائها- ممارسة أعداد كبيرة من وظائف الدولة التقليدية في نطاق السوفياتات (المجالس العمالية). لكن يفترض هذا بدوره، بشكل مسبق، شروطا موضوعية وذاتية مؤاتية لهكذا توسيع تدريجي للإدارة الذاتية من قبل الطبقة العاملة. وفي روسيا السوفياتية نشأت خلال سنوات الحرب الأهلية الثلاث والنضال ضد التدخل الأجنبي ظروف لم تكن مؤاتية أبدا لنمو الديموقراطية السوفياتية (الحكم الذاتي الجماعي).

كانت الطبقة العاملة مضعفة عدديا وجسديا. وقد أزيحت عن النشاط السياسي ليس فقط بسبب الغياب المخيب للأمل للثورة العالمية، بل والأهم من ذلك، تحت ضغط الحاجة والبؤس المادي. فلأنها كانت ذات مستوى من المهارة والثقافة متدن نسبيا، اضطرت للاعتماد إلى حد متفاوت على التقنيين والمهرة البرجوازيين الصغار. أما أعضاء الطبقة الأكثر وعيا ونشاطا سياسيا فقد أهلكت الحرب معظمهم أو تم استيعابهم من قبل الدولة والجهاز العسكري. إن جميع تلك العوامل أثّرت بقوة على التضخم المتنامي للسلطة واحتكارها المتزايد من قبل البيروقراطية. فالعمال لم يطردوا من السوفياتات، لقد تركوها بشكل تدريجي.

وبشكل تدريجي نشأت البيروقراطيةالسوفياتية في المجتمع الروسي ما بعد الثورة من خلال إندماج عدد من العناصر: بقايا قوية من جهاز الدولة القيصري القديم –كما أشار لينين بأسف- تحطمت وتشتتت إلى درجة أقل مما تم افتراضه بشكل أولي؛ وتجمع إداري يتألف من مدراء مهنيين "لوحدات اقتصادية" (مصانع، مؤسسات الدولة التجارية، مؤسسات الدولة للنقل والاتصالات، الخ)، ازداد عددهم بقفزات ووثبات عندما تم تسريع التصنيع عام 1928، وموظفو جهاز الدولة السوفياتية الجديدة (بما في ذلك الجهاز العسكري) الذين، بحال عدم تداخلهم مع المجموعتين سابقتي الذكر، نشأوا من الطبقة العاملة والمثقفين البرجوازيين الصغار وارتفعوا فوقهم؛ وجهاز الحزب نفسه (بما في ذلك، على الأقل، الشرائح العليا من جهاز النقابات). إن صعود البيروقراطية السوفياتية إلى وضع شريحة حاكمة صلبة وذات امتيازات، متشبثة باحتكار السلطة السياسية والاجتماعية –وهي عملية اتخذت شكلها من خلال إنشاء الديكتاتورية الستالينية-، يعبّر عن اندماج هذه المكونات في شريحة اجتماعية واحدة، وان تكن غير متجانسة، لكنها واعية لمصالحها الاجتماعية الجماعية الخاصة.

لقد أدرك لينين، في مرحلة مبكرة، خطر الانحطاط البيروقراطي للاتحاد السوفياتي –وذلك فبل سنتين من تروتسكي، وتقريبا في الوقت نفسه الذي كانت فيه المعارضة العمالية، المتمحورة حول القيادي العمالي البلشفي القديم شلايبنيكوف، تعلن عن شكوك مماثلة. وباكرا، منذ عام 1921، عرّف لينين الدولة الروسية كدولة عمالية وفلاحية بتشويهات بيروقراطية، أو كما صحح المعادلة بعد بضعة أيام، دولة عمالية بتشويهات بيروقراطية. وقد برر الإضرابات العمالية ضد مؤسسات الدولة بالعودة إلى هذا المفهوم حول التشوه البيروقراطي للدولة العمالية. وفي أيام حياته الأخيرة أصبح شديد القلق تجاه نمو البيروقراطية السوفياتية، وقد عذبته شكوك حول ما إذا كانت سياساته قد أدت إلى خلق مسخ عملاق، وإذا كان حزبه قد لعب دور "مطلق الجن" في هذه العملية.

وقبل موت لينين بقليل وبعده، تبنى تروتسكي وأعضاء المعارضة اليسارية هذا النضال ضد تبقرط الدولة السوفياتية: لقد بدأوا هذا النضال كأعضاء في الحزب لغاية طردهم عام 27/1928، واستمروا كتكتل علني يدعو إلى إعادة منحه الدخول إلى الحزب والأممية الشيوعية في الفترة ما بين 29/1933، ومن ثم كتنظيم مستقل بعد عام 1933. ومن المؤكد أنهم لم يكونوا معزولين في شكوكهم تلك أكثر من عزلة لينين خلال فترة 21/1923. فبوجود المستوى المرتفع من الثقافة النظرية والوعي الطبقي بين القيادة البلشفية وكوادر الطبقة العاملة، كان هناك العديد من الذين أحسوا غريزيا أو بوعي، في أوقات مختلفة ما بين 1921 و1936، بأن الوضع القائم لا يمت بصلة إلى ما كانت تحاول البلشفية تحقيقه، وبأنه لا يمكن القول بشطحة خيال بأن الطبقة العاملة الروسية تمارس فعليا سلطة الدولة.

إن مأساة الحزب البلشفي ما بعد لينين، إن لم يكن ما بعد عام 1921، تكمن في أن هكذا وعي لم يدركه الجميع في آن معا. وبالتالي فلم يعبر هذا الوعي عن نفسه بطريقة منظمة –سوى داخل المعارضة اليسارية، وهي أقلية ضئيلة-، ولم يؤد إلى نتائج سياسية مماثلة، والأهم من ذلك أنه لم يتفاعل مع طليعة عمالية نشيطة سياسيا، القاعدة الاجتماعية الوحيدة الممكنة لإحلال تعديد جذري في سياسة الحزب الشيوعي السوفياتي[38]. إن جذور انتصار ستالين والبيروقراطية تكمن في هذا التلاقي بين العوامل الذاتية والموضوعية. وبالتالي فليس ستالين ولا البيروقراطية، بكل بساطة، النتيجة الحتمية للظروف الموضوعية غير المؤاتية – كما تعتبر ذلك جميع التفسيرات "الموضوعية" للتاريخ، ولا يخلو هذا التفسير من نكهة تبريرية قوية، يعتذر تجنبها، لستالين وللبيروقراطية.

إن الوهم أو الخطأ الرئيسي الذي وقع به القياديون والكادرات البلشفية العادية لم يكن في إنكارهم إمكانية إنحطاط الدولة السوفياتية أكثر مما في النظر إلى الحزب كقوة موازية فعالة وكافية لمنع هذه العملية. إنهم لم يدركوا، أو لم يودوا أن يروا، أن "الحزب" قد تحول أكثر وأكثر، مع الإنحدار الجذري في النشاط السياسي للطبقة العاملة، إلى هيكل فارغ لجهاز حزب منقطع أكثر وأكثر عن البروليتاريا الحيّة.

فقد إنخرط جهاز الحزب بدوره بشكل تلقائي في عملية إندماج تدريجي مع جهاز الدولة. وبدل أن تتوقف عملية تبقرط الدولة السوفياتية من خلال تصدي حزب بلشفي مقاتل، تم تسريعها وأنجزت بالكامل بواسطة تبقرط الحزب البلشفي ذاته. وفي أحد الجدالات الأخيرة التي حضرها تروتسكي داخل الهيئات القيادية للحزب الشيوعي السوفياتي حدث تلاسن كلامي يعبر بشكل واضح عن هذا التحول:

· مولوتوف: "والحزب، ما يمكنك أن تفعل بالحزب؟" · تروتسكي: "إنكم قد خنقتم الحزب!" · ستالين: "هؤلاء الكادرات يمكن أن تزيلهم فقط حرب أهلية"[39].

إن تكتيكات تروتسكي والمعارضة اليسارية، البعيدة كل البعد عن أن تكون مبنية على "ترددات وسطية" و"فقدان القرار" أو "نوع من عقدة الأبوة" (التي حسب ما تم الافتراض منعته من معارضة أكثر جذرية لجهاز الدولة الذي ساعد في بنائه تقريبا مثله مثل لينين)، انطلقت من تقويم موضوعي واقعي جدا لجذور التبقرط ووسائل معارضته. إن السلبية السياسية للطبقة العاملة -أو على الأقل لطليعتها- كانت حجر العثرة الرئيسي، الذي كان من الضروري تركيز الجهود لإزالته. وبالتالي ناضل تروتسكي وأصدقاؤه وحلفاؤه في آن معا من أجل: توسيع الديموقراطية داخل الحزب، وتوسيع الديموقراطية السوفياتية (وهذا كان فحوى كتابه المشهور المسار الجديد الذي نشر عام 1923، والذي عارض الثلاثي الحاكم ستالين-زينوفييف-كامنيف استنتاجاته بقوة، رغم أنه قد تم تبنيه رسميا من قبل قيادة الحزب)، واحلال سياسة اقتصادية بديلة فورية تتضمن إلى جانب أمور أخرى ارتفاعا في الأجور الحقيقية واضمحلال البطالة الواسعة، وتأكيد مسار عام باتجاه تسريع التصنيع وزيادة النضال الطبقي في الريف. (وذلك عبر هجوم قوي ضد الكولاك، ليس بواسطة أساليب إرهابية، بل بمساعدة الفلاحين الفقراء على تحرير أنفسهم من سيطرة الفلاحين الأغنياء على اقتصاد القرية، وذلك من خلال التعاونيات والمكننة).

إنه من الخطأ التام القول أن ستالين وتكتله القائد قد تبنيا ببساطة السياسات الاقتصادية للمعارضة اليسارية. في الواقع، لقد ظهرت في أواخر العشرينات ثلاث استراتيجيات مختلفة داخل الحزب الشيوعي السوفياتي حول مسألة النمو الاقتصادي: أولا، موقف بوخارين المبني على معدل بطيء للتصنيع واندماج تآلفي للكولاك في "بناء الاشتراكية"، ثانيا، برنامج المعارضة اليسارية المبني على معدل تصنيع أسرع على حساب الكولاك ورجال النيب (المنتفعين من السياسة الاقتصادية الجديدة –النيب) ولصالح العمال والفلاحين الفقراء، وعلى التجميع الطوعي لذلك الجزء من الزراعة الذي من الممكن مكننته وتسييره من قبل الفلاحين الفقراء، ثالثا، موقف ستالين المبني على معدل تصنيع مغامر وتجميع قسري على حساب كل من العمال والفلاحين. إن الأساس الاجتماعي للسياسات الثلاثة هذه واضح جدا.

ويبقى واضحا بالنسبة لنا أنه كان هناك بديل سياسي واقتصادي واجتماعي متماسك للسياسة التي اتبعها ستالين. ولو تسنى لهذا البديل أن يسود لأنبثق اتحاد سوفياتي مختلف تماما، وعالم مختلف تماما. كانت ستملك القيادة السوفياتية خلال العشرينات ومعظم سنوات الثلاثينات قوة هامة لدعم الفرص المستمرة التي طرحتها الثورة العالمية بدل خنقها. لقد قام تروتسكي باتباع سياسة لينين في كسب فترة استراحة لغاية التقدم المفاجئ التالي للثورة العالمية –فترة استراحة قصيرة يمكن أن تزداد خلالها بشكل ملحوظ الثقل الموضوعي للطبقة العاملة السوفياتية ومعدل وعيها الطبقي ومستوى نشاطها السياسي. إن عدم حصول ذلك خلال فترة الاستراحة تلك، سيجعل الانتصار الكامل للبيروقراطية السوفياتية وهزيمة الثورة العالمية أكثر احتمالا بكثير. وطالما لم تصبح الطبقة العاملة مرة أخرى نشيطة سياسيا، يمكن فقط لكادرات الحزب ومناضليه أن يشكلوا صلة الوصل الحاسمة التي تستطيع عكس التيار. من هنا جاء تركيز تروتسكي على النضال التكتلي الداخلي في الحزب في فترة 23/1933. وهنا أيضا كانت هزيمته في هذا النضال.

شكلت هزيمة المعارضة البسارية هزيمة للتكتل داخل الحزب الشيوعي السوفياتي –وأيضا داخل المجتمع السوفياتي والأممية الشيوعية- الذي مثل مصالح البروليتاريا الطبقية على المستوى الحالي والتاريخي. وبالتالي انطوت أيضا على هزيمة للبروليتاريا وانتصار للثورة المضادة السياسية التي وصلت ذروتها في الإبادة الجسدية للكادرات البلشفية في فترة 36/1938. إن إسقاط مدلولات أخرى على هذه الهزيمة ورؤية صعود الستالينية فقط من خلال "عبادة الشخصية"، ومن خلال "ظروف موضوعية غير مؤاتية داخل وخارج الاتحاد السوفياتي"، إنما هو انفصام عن التفسير الماركسي للتاريخ. إن الانتفاضات العنيفة التي تشمل حياة الملايين من الأشخاص (وللأسف، موتهم أيضا) يجب أن تفسر دائما في التحليل الأخير كنتيجة للصراعات بين قوى اجتماعية جبارة (ليس فقط طبقات متضادة بل وأيضا أجزاء متفرعة من طبقات اجتماعية). وإلاّ، فإن الحرب العالمية الأولى، وإلى حد ما، الحرب العالمية الثانية، لا يمكن تفسيرهما بمنطلقات ماركسية.

لكنه لا يمكن تفسير ظهور دكتاتورية البيروقراطية الستالينية ذاتها من دون فهم طبيعة تلك البيروقراطية وطبيعة المجتمع السوفياتي والدولة السوفياتية. وهنا بالذات وضع تروتسكي إحدى أبرز مساهماته النظرية، وربما الأهم بعد صياغة نظرية الثورة الدائمة. وقد نجح، من خلال تطبيقه الصحيح للماركسية الديالكتيكية وللطريقة الماركسية في التحليل بشكل عام، في تفسيره بشكل متماسك لإحدى الظواهر الأكثر تشوشا وتناقضا في القرن العشرين.

ووصل تروتسكي إلى الاستنتاج بأن ما حصل في الاتحاد السوفياتي لم يكن عودة للرأسمالية (ولو حتى في شكل "رأسمالية دولة") ولم يكن أيضا إنبثاقا لطبقة حاكمة جديدة ولنمط إنتاج جديد، "التعاونية البيروقراطية". لا بل أكد أن السلطة الدكتاتورية للبيروقراطية تمارس داخل إطار مجتمع في طور الانتقال بين الرأسمالية والاشتراكية، لكنها تقف بشكل حاسم حاجزا أمام التطور نحو الاشتراكية، حيث أصبحت الأشكال الاجتماعية مشوهة بشكل فظيع من خلال سيرورة التبقرط التي لم تنشأ في أشكال مستقرة ومتجانسة ومكتملة من الحكم الاجتماعي. إن الدولة السوفياتية بقيت دولة عمالية، وإن تكن دولة تعاني من إنحطاط شديد. ولم تتمكن البيروقراطية من خلق علاقات إنتاج جديدة، لكن لم تتمكن أيضا من أن تكفل تسييرا متماسكا للعلاقات التي انبثقت من ثورة أكتوبر، بل قامت باستمرار بتشويه تلك العلاقات وإفسادها مضعضعة بالتالي منطقها الداخلي. إن النمط الخاص الذي حكمت من خلاله البيروقراطية والامتيازات المختلفة التي تمتعت بها –بالأخص في حقل الإستهلاك، مقابل وجودها في الحكم، قد تعارضت بعنف مع متطلبات التخطيط الإقتصادي الأمثل. من هنا جاءت الأزمات الاقتصادية المستمرة التي ترهق المجتمع السوفياتي –بالطبع أزمات تختلف نوعيا عن أزمات فيض الإنتاج الرأسمالية- جنبا إلى جنب مع معدل نمو اقتصادي متوسط أعلى على المدى البعيد في الاتحاد السوفياتي منه في العالم الرأسمالي.

لن نتناول هنا من جديد العلاقة الخاصة بين صعود البيروقراطية السوفياتية إلى السلطة المطلقة وحاجات ما يسمى "بالتراكم الاشتراكي البدائي"، ولن نعود أيضا إلى بحث العلاقة ما بين صعود الستالينية وبين المعاني التي تتضمنها نظرية "التحقيق الناجح للاشتراكية في بلد واحد" (أي سياسات التعايش السلمي مع العالم الرأسمالي، وتحويل الأممية الشيوعية من أداة للثورة العالمية إلى أداة للمناورات الديبلوماسية للبيروقراطية السوفياتية). هذه المواضيع سبق وناقشناها في الفصل الثاني.

وفي ثلاثة إنعطافات حاسمة في التاريخ السوفياتي ما بعد لينين، كشفت الطبيعة المزدوجة والمتناقضة للبيروقراطية السوفياتية عن نفسها بشكل واضح، مما مكّن تروتسكي وأتباعه من فهم ما كان يحدث. وبالمقابل ذهبت مقترحات لنظريات أخرى حول الثورة المضادة الستالينية في مدارك ميئوس منها.

أولا، خلال أزمة الاقتصاد السوفياتي سنة 1928، لم تقم البيروقراطية كشريحة اجتماعية (باستثناء اجزاء قليلة منها) بالتحالف مع الكولاك ورجال النيب لصالح إعادة الرأسمالية واندماج أوثق في السوق الرأسمالية العالمية. بدل ذلك، استعملت وسائل عنيفة إرهابية لسحق التراكم الوليد للرأسمال الخاص وللإنتاج البضاعي الصغير المنتشر بشكل واسع. وجاءت نتائج تلك العملية كارثية من وجهة النظر الاقتصادية، حيث أدت إلى انخفاض هام في مستوى معيشة الطبقة العاملة – وبالتالي أيضا في إنتاجية العمل المتوقعة. إن التوتر الإجتماعي الحاد الذي نتج عن ذلك يمكنه فقط أن يفسر التصفيات الجماعية لفترة 34/1938 والتنظيم الحديدي البربري للحياة الاجتماعية.

وخلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، وبالأخص خلال هجوم الإمبرياليين النازيين، لم تستسلم البيروقراطية السوفياتية كشريحة اجتماعية (ونستثني مرة أخرى أجزاء قليلة لكن مهمة) أمام الإمبريالية ولم تقم بتحويل نفسها إلى نواة لبرجوازية روسية استعمارية جديدة في خدمة الامبريالية الألمانية أو الأمريكية. وإلى هذا الحد أو ذاك، قامت بالدفاع عن البناء الاقتصادي-الاجتماعي للاتحاد السوفياتي الذي أنتجته ثورة أكتوبر، وذلك في ظل زخم مقاومة العمال السوفيات- رغم أنها فعلت ذلك بأساليبها العسكرية الإرهابية الخاصة، تلك الأساليب التي دفعت القضية إلى حافة الانهيار.

وأخيرا، حين تدفقت القوة العسكرية السوفياتية خارج حدود الاتحاد السوفياتي في عام 44/1945، محتلة جزءا واسعا من أوروبا الشرقية والوسطى، كان لابد للمناطق التي تكرست عليها السلطة السوفياتية بشكل نهائي فيما بعد (ضمن السياق الخاص لعلاقات القوى "للحرب الباردة") أن "تتناسق بشكل بنيوي" مع علاقات الملكية والإنتاج التي خلقتها ثورة أكتوبر. فالبيروقراطية لم تحافظ على الملكية الخاصة في تلك البلدان بل أزالتها. وبينما لم تقم بإنشاء حكم المجالس العمالية بل قامت بالعمل بتحطيم جميع أشكال السلطة العمالية المباشرة، فإنها أيضا لم يكن بمستطاعها أن ترتفع إلى أي مستوى يمكن أن يقارن بطبقة حاكمة جديدة. ولقد ثبت في جميع هذه المناسبات الثلاث تعريف تروتسكي حول البيروقراطية السوفياتية والمجتمع السوفياتي.

ولجميع تلك الأسباب، أكد تروتسكي أن أي رجوع إلى الرأسمالية في الاتحاد السوفياتي سيكون خطوة تراجع تاريخي ضخمة. فقد كان من مصلحة كل من البروليتاريا الروسية والبروليتاريا العالمية أن تمنع هكذا خطوة تراجعية، وأن تدافع عن الاتحاد السوفياتي ضد الإمبريالية. لكن كان من الضروري أن يتم ذلك بأساليب تنسجم مع المصالح الشاملة للطبقة العاملة، وليس بطريقة تجعل من الإطاحة بالرأسمالية العالمية أمرا أكثر صعوبة.

إن هكذا مفهوما للبيروقراطية السوفياتية لا يقلل بأي طريقة من الطرق من شأن دورها التاريخي المضاد للثورة. إنه فقط يثبت حدود الثورة المضادة. إن دور البيروقراطية السوفياتية مضاد للثورة قبل كل شيء على الصعيد العالمي –إن في سياسته الواعية للتعاون مع الرأسمالية لتجنب ثورات اشتراكية جديدة (التي "يثير" قيامها "هجوم" الطاقم الإمبريالي ضد الاتحاد السوفياتي)، أو في النتائج الكارثية التي يؤدي إليها تعريف الحالة السوفياتية "بالاشتراكية" على استعداد البروليتاريا في الغرب للمضي في طريق الثورة الاشتراكية. لكن ذلك الدور هو أيضا مضاد للثورة داخل روسيا نفسها –حيث نتجت عن السياسات المتتالية المعادية للطبقة العاملة (القمع الجماعي، وتشريع العمل القاسي وإبادة الكادرات البلشفية في زمن ستالين، وعدم المساواة الاجتماعية المتنامية، والاستهلاكية "الفظة" في ظل خروتشوف وبريجنيف، وقمع أي شكل من النشاط النقابي المستقل) حالة من التشتت واللا مبالاة السياسية الحادة داخل هذه الطبقة. ويمكن أن نضيف أيضا أن للتلف الهائل ولعدم التنظيم اللذين يدخلهما التخطيط المركزي البيروقراطي في الاقتصاد السوفياتي، تأثيرهما الطويل الأجل الذي يعمل في اتجاه نفسه المضاد للثورة.

وعلى أساس هذا التحليل المتماسك للمجتمع السوفياتي ما بعد لينين، استنتج تروتسكي بأن ما يجب التحضير له هو ثورة سياسية، بينما تقوم بالحفاظ على المكاسب الاقتصادية الرئيسية لثورة أكتوبر وتكرسها، ستتخلص من السلطة الدكتاتورية للبيروقراطية وستجعل المجتمع السوفياتي ديموقراطيا وتعيد السلطة السياسية إلى أيدي البروليتاريا. وستمارس هكذا سلطة من خلال سوفياتات منتخبة ديموقراطيا وعلى أساس نظام تعددية الأحزاب، وسيوضع نظام تخطيط مرسوم بعناية تحت إدارة عمالية ورقابة ديموقراطية عامة، مزيلا بالتالي معظم مصادر الإتلاف الهائل الذي يقف اليوم حجر عثرة أمام تسيير طبيعي للنظام. إن تطور القوى المنتجة ونمو الطبقة العاملة عددا ومهارة ومستوى ثقافيا سيسهل هكذا ثورة سياسية موضوعيا، وهذا ما تفعله أيضا انتصارات ثورية جديدة في الغرب أو في الشرق.

أما كيف ستكون هذه الثورة السياسية، فأمر أظهرته بوضوح الثورة الهنغارية في أكتوبر/(تشرين الاول)-نوفمبر/(تشرين الثاني) 1956 وربيع براغ في 1968 –فبراير 1969. إن سحق كلا هاتين الانتفاضتين، اللتين قام بهما جمهور الطبقة العاملة، عبر التدخل العسكري السوفياتي قد أكد مرة أخرى على الطبيعة المضادة للثورة للبيروقراطية السوفياتية.

إنه من السهل إدراك لماذا لم يتم تحدي أي وجه من وجوه تفكير تروتسكي بالإصرار الذي تتم فيه مواجهة محاولته هذه لتفسير ظاهرة الستالينية ضمن إطار المفهوم الكلاسيكي للماركسية[40]. إن نظرية الدولة العمالية السوفياتية المنحطة بيروقراطيا كمجتمع في طور الانتقال بين الرأسمالية والاشتراكية لكنه بذاته ليس رأسماليا ولا اشتراكيا، والبيروقراطية كشريحة شديدة البأس ذات امتيازات داخل الطبقة العاملة لا طبقة حاكمة جديدة، هي بكل تأكيد نظرية أكثر تعقيدا وأكثر صعوبة للاستيعاب من أسلوب الرد البسيط على شاكلة "أبيض أو أسود" و"نعم أو لا". إن هذا التفسير يستبدل السخط المعنوي أة الولاء الأعمى المتعصب بمعيار علمي صارم لكنه عالي التجريد. هذا، ومع مرور الزمن، يظهر هذا التفسير أكثر وأكثر كالتفسير الماركسي الوحيد للظاهرة الستالينية، حتى أنه يلقى صدى متزايدا في صفوف الأحزاب الشيوعية نفسها[41].


--------------------------------------------------------------------------------
الفصل الثامن

الــفـــاشيـــة
الستالينية، ثمرة انتصار الثورة المضادة السياسية في روسيا، كانت أساسيا نتاج الهزيمة الجزئية للثورة العالمية في فترة 1918-1923. وبدورها رمت بثقلها الكبير على نتائج الصراعات الطبقية الهامة جدا لسنوات 23-1940. وجاءت حصيلة هذه الصراعات كاريثية في أجزاء كبيرة من العالم. لقد استتبت الفاشية (أو دكتاتوريات عسكرية بأنماط متشابهة) في معظم نصف الكرة الشمالي، مع الاستثناءات الهامة في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا والمكسيك. وقد شكل مقتل تروتسكي على يد عميل للمخابرات السوفياتية في غشت/(أب) 1940 في المكسيك تعبيرا رمزيا عن هذا الإتجاه الرجعي على الصعيد العالمي الذي بلغ ذروته في بربرية الحرب العالمية الثانية.

والفاشية ثمرة انتصار الثورة المضادة السياسية في البلدان الرأسمالية، كان من الصعب تحديدا، كالستالينية، في إطار مفاهيمي من قبل الفكر الاجتماعي المعاصر، بما في ذلك الفكر الماركسي. ومرة أخرى وقف تروتسكي فوق معاصريه في شرحه لهذه الظاهرة المخيفة الجديدة. لم يفهم أي كاتب آخر بذلك الوضوح طبيعة الفاشية والتهديد الذي تمثله للطبقة العاملة والحضارة الإنسانية، ولم يقم أحد آخر غيره في ذلك الوقت بتحذير الحركة العمالية من أجل النهوض ضد ذلك التهديد، واضعا الاستراتيجية والتكتيك الصحيحين لمواجهته. ونستطيع أن نقول، من دون تضخيم، أنه، مع إمكانية استثناء مساهمات ماركس 18 برومير لويس بونابرت والصراعات الطبقية في فرنسا 48-1850، لا يوجد أي تحليل ماركسي لمسائل اجتماعية وسياسية راهنة يقارن، بعمقه وحسية إدراكه بكتابات تروتسكي عن ألمانيا في فترة 29-1933.

وفي تناول تروتسكي الظاهرة الفاشية، استعان من جديد وبشكل كبير بإدراكه العميق لقانون التطور المركب وغير المتساوي: ذلك التأليف Synthesis للمادية الديالكتيكية مطبقا على المجتمع الطبقي. لقد فهم تروتسكي، مثله مثل بعض الكتاب الماركسيين الآخرين (كارنست بلوخ وكورت توشولسكي)، مسألة عدم تطابق الأشكال الاجتماعية-الاقتصادية مع الأشكال الأيديولوجية- أي بكلام آخر، واقع أن أفكارا وأطباعا وطموحات لا عقلانية ذات قوة كبيرة قد بقيت حية من الأزمنة ما قبل الرأسمالية في أجزاء كبيرة من المجتمع البرجوازي (وبالأخص بين الطبقات الوسطى المهددة بالإفقار الشديد، و لكن أيضا بين قطاعات من البرجوازية نفسها ومثقفين منحطين طبقيا، وحتى الشرائح المختلفة من الطبقة العاملة). وأفضل من أي شخص آخر، وضع تروتسكي الاستنتاج الاجتماعي والسياسي التالي: في شروط تنامي ضغط التناقضات الطبقية الاجتماعية –الاقتصادية المتزايدة بشكل لا يحتمل، يمكن أن تصبح قطاعات هامة من الطبقات والشرائح الاجتماعية الأخرى المذكورة أعلاه- الغبار البشري، كما صنفها تروتسكي بنباهة- مدموجة في حركة جماهيرية جبارة، يبهرها زعيم ذو سلطة نفسية خارقة، وتتسلح بقطاعات من الطبقة الرأسمالية وجهاز دولتها ويجري استعمالها كآلة من أجل تحطيم الحركة العمالية من خلال الإرهاب الدموي والتهويل.

ويفتتح ذلك طريقا إلى "حل" رأسمالي آني لأزمة المجتمع البرجوازي الهائلة، وهو حل مبني على الاستغلال الأقصى للبروليتاريا الذي كان قد أضحى مستحيلا بصعود الحركة العمالية المنظمة. إلاّ أنه لا يمكن على المدى البعيد إعادة خلق ظروف رأسمالية مستقرة من خلال الاستغلال الأقصى للطبقة العاملة في بلد واحد. إن على الفاشية بعد تحطيمها للطبقة العاملة وبنائها لمجتمع برجوازي قمعي منظم بصرامة ان تحول ديناميتها المروعة نحو الخارج، في محاولة للاستيلاء على مستعمرات أو شبه مستعمرات جديدة، وان تستعبد شعوبا بأكملها، وتخضع منافسيها الإمبرياليين، وتحطم الاتحاد السوفياتي، وتنشئ هيمنة عالمية.

إن هذا التحليل العميق للفاشية يوّحد ويجمع عناصر تحليلية مختلفة، لكل منها استقلاليتها النسبية، تتوافق مع سمات خاصة في الواقع السياسي والاجتماعي للبلدان الإمبريالية في فترات أزمة اجتماعية-اقتصادية عميقة، ويؤول تضافرها –وهو يختلف عن عملية جمع ترتيبي- إلى اندماجها في أداة لفهم كلية الظاهرة التي تسمى صعود الفاشية.

تنشأ الأيديولوجيات والتجمعات السياسية الفاشية (أو الفاشية البدائية) باستقلال عن الحاجات الحالية للطبقة الرأسمالية، وهي تنبثق من سخط ويأس الطبقات الوسطى على حالة انسحاقها بين سلطة الاحتكارات الرأسمالية وسلطة النقابات. (أما الاستقلال النسبي لأيديولوجيتها فأمر آخر تماما. فالعنصرية متجذرة بعمق في أيديولوجيات برجوازية نموذجية في عصر الاستعمار الإمبريالي، رغم أنها تجمعها مع بقايا أيديولوجيات ما قبل برجوازية). وفي مراحل انتقالية معينة، تظهر هذه التجمعات بكثرة، وتنشأ منافسة حامية الوطيس بين المرشحين المختلفين للزعامة. ويمكن فقط لظروف محددة –تعمق الأزمة الاقتصادية، وحاجة الشركات الكبيرة الملحة للتخلص من المزايا الأساسية للديموقراطية البرجوازية، وحاجة موضوعية لمزيد من المركزة السياسية إذا ما كان للمجتمع البرجوازي أن يحقق عددا من الأهداف الاقتصادية الملحة، ومستوى معينا من الدعم الشعبي لأحد المرشحين الديكتاتوريين – أن تجعل الرأسمالي الاحتكاري ينظر عمليا إلى مسألة إعطاء دعمه الأساسي للفاشيين.

من وجهة نظر المصالح البعيدة المدى للطبقة الرأسمالية بشكل عام، وللاستقرار النسبي للمجتمع البرجوازي، ككل، تكون الأنظمة البرجوازية البرلمانية مستحبة أكثر من أيشكل من الدكتاتورية، ولن نقول أشكالها الفاشية. إن حكم الطبقة البرجوازية يبني نفسه على أساس خليط محدد من المؤسسات القمعية المتكاملة. وكلما كان وزن المؤسسات المتكاملة أضعف، يصبح عدم الاستقرار على المدى الطويل أعمق. فليس للا شيء سميّت الفاشية والأشكال المتطرفة الأخرى من الديكتاتورية البرجوازية بحالات الحصار المؤسسية، أو حتى بحروب أهلية دائمة (حروب أهلية بالتأكيد، لكن حيث يوجد معسكر أعزل من السلاح دائما ومعرض لعنف المعسكر الآخر). إن أشكال الحكم هذه أكثر خطرا بالنسبة للبرجوازية، لأنها تميل إلى مراكمة تواترات اجتماعية قد تصل إلى نقطة الانفجار في أوقات الأزمة الحادة، دون أن تخلق آليات للمساومة الطبقية.

في الواقع، لقد حصل للآن أن حدثت كل الثورات الاجتماعية المنتصرة في البلدان التي وجدت فيها أنظمة قمعية من هذا النوع أو ذاك على فترات ممتدة. (القيصرية؛ دكتاتورية تشن كاي تشيك؛ دكتاتورية باتيستا؛ دكتاتورية باو- داي وديم وثيو في الفيتنام الجنوبية، الخ.).

وتكمن الصعوبة الموضوعية بالنسبة لمصالح الطبقة البرجوازية في واقع أنه بينما تكون الكلفة الاجتماعية والسياسية للدكتاتوريات القمعية مرتفعة وخطيرة على المدى البعيد، يمكن أن تصبح الكلفة الاقتصادية للديموقراطية البرجوازية على المدى المتوسط والقريب غير محتملة على الإطلاق في ظروف محددة. فالديموقراطية البرجوازية في البلدان المصنعة تعني حركة عمالية متطورة (وبالمقام الأول حركة نقابية جماهيرية) تعني بدورها بيعا جماعيا لقوة العمل كبضاعة بدل بيعها افراديا. وفي ظل هكذا ظروف، سيكون سعر البضاعة أعلى بكثير من سعرها في ظروف تشتت الطبقة العاملة. ومع هذا السعر الأعلى تأتي تكاليف إضافية للرأسمال كالضمان الاجتماعي ومصاريف اجتماعية أخرى – تقلل جميعها في حصة فائض القيمة لمنتوج ذي قيمة محددة وحين تتجمد القيمة الكلية للمنتوج أو حتى تبدأ بالانحدار- ربما كنتيجة لانعطافة غير مؤاتية في المنافسة الإمبريالية الداخلية، أو الهزيمة في الحرب، أو لأزمة اقتصادية هامة، أو لركود طويل الأجل للإنتاج، أو لمجموعة هذه العوامل – يمكن أن تختفي الإمكانية المادية لدفع تلك الكلفة ويمكن أن لا تملك عندها البرجوازية من خيار غير محاولة الاستغناء عن الديموقراطية البرجوازية. ويمكننا أن نضيف هنا بأن الطبقة الرأسمالية نفسها غالبا ما تنقسم على أمرها في هذا الخصوص، إن لم يكن دوما. ويمكن أن تطرح حالة حيث ستكون القطاعات المنتجة مباشرة للاستهلاك العام أكثر ممانعة في القيام بانعطافة علنية نحو تمويل ودعم الاستيلاء الفاشي على السلطة، بينما ستكون، ولأسباب واضحة، القطاعات الموجهة نحو الصناعة الثقيلة وصناعة وساءل الإنتاج والأسلحة ميالة أكثر لأخذ هكذا دعم بعين الاعتبار.

لقد قلنا الآن بأن البرجوازية يمكن أن تحاول الإطاحة بالديموقراطية البرجوازية. فمسألة إنشاء نظام فاشي لا تعتمد فقط على ما يجري في وسط البرجوازية الصغيرة، وما يجري في وسط الطبقة الرأسمالية، وعلى الطريقة التي ترتبط فيها هذه التغيرات بعضها ببعض الآخر. بل تعتمد أيضا، وإلى حد كبير، على ما يجري في وسط الطبقة العاملة، أي، على ردود فعل الحركة العمالية المنظمة.

خلافا "للغبار البشري" الذي قد يحاول المرشحون إلى دور الزعامة الفاشية تجميعه في حشود مثيرة للإعجاب، فإن الطبقة العاملة الحديثة في أي بلد متقدم صناعيا تحمل طاقة هائلة من السلطة اقتصادية واجتماعية وسياسية. إن جميع الوظائف الإنتاجية والخلاقة للمجتمع هي أما موجودة بشكل مباشر في تلك الطبقة أو أنها تقف في علاقة تتوثق باستمرار بها. وفي معظم هذه البلدان، ارتبطت المنظمات الجماهيرية السياسية والثقافية للطبقة العاملة بعضها بالبعض الآخر بشكل مؤثر لغاية أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات، وضمت مئات الألوف إن لم يكن الملايين من الأشخاص القادرين على القتال بولاء وحماس للمصالح المشتركة للطبقة. وفي جميع تلك البلدان وجد بناء تحتي كبير وقوي للنقابات قادر بشكل كامن على تعطيل الاقتصاد الرأسمالي وشل الدولة البرجوازية نفسها.

ومن أجل مقارعة هكذا عدو، يجب ألاّ يكون الممثلون الأكثر إدراكا طبقيا في الشرائح البرجوازية العليا "الاحتكاريون والممولون" فقط في حالة هجوم اليائس وذلك للأسباب التي بينها أعلاه. عليهم أيضا أن يكونوا مقتنعين بأنهم يملكون على الأقل فرصة لعدم خسارة الحياة والملكية والسلطة كنتيجة لاختبار القوى العنيف الذي بدونه سيظهر تحطيم الديموقراطية البرجوازية غير ممكن. إن أي سوء حساب في هذا الصدد ستترتب عليه نتائج كارثية من وجهة نظر الطبقة الرأسمالية. ويمكن أن يكون مرادفا لشبه انتحار إن لم يكن انتحار فعليا من وجهة نظر فردية واجتماعية أيضا. لقد قدمت بارشلونا ومدريد وفالنسيا ومالانا في أواسط يوليوز/(تموز) 1936 موضوع درس موضوعي بالنسبة للمخاطر المترتبة[42].

وبالتالي، ففي فترة صعود قوة الفاشية، لكن قبل استيلاء الفاشيين على السلطة، سيولي قياديو الطبقة الرأسمالية انتباههم الشديد لكل ما يحدث داخل الطبقة العاملة والحركة العمالية حيال خطر الفاشية. وفي الواقع، ستقترب تحاليلهم حول التغيرات الراهنة في علاقات القوى من تحاليل الماركسيين الثوريين لأسباب موازية لكن متعاكسة. إن كل إشارة لمقاومة موحدة قوية داخل الطبقة العاملة، وكل إشارة لانعطافة جماهيرية نحو الدفاع الذاتي المسلح، وكل إشارة لنمو النضالية وللعزم على معارضة الوحش الفاشي بأي ثمن، سيزيد من شكوك وتردد أصحاب الأعمال الكبار حيال عقلانية الالتجاء إلى الحل السياسي الأقصى.

وعلى العكس، فإن أي نمو للانقسامات أو السلبية أو الاستسلام بين العمال، وأي نجاح تكتيكي هام للفاشيين ضد المنظمات العمالية دون أن يرافقه أو يتبعه مقاومة قوية وهجمات مضادة، أي دلائل تشير إلى أن قياديي المنظمات الجماهيرية، رغم أقاويلهم، سيستسلمون في النهاية للفاشيين، وإلى أن الجماهير لا يمكنها أن تشن تهديدا مضادا عفويا قادرا على وقف الهجوم الفاشي،… إن أي إشارة كهذه ستقنع أصحاب الأعمال الكبار أن ثمن تغيير النظام هو أقل مما كانوا يتوقعون. وستسرع هكذا إشارات ضعف من عملية استيلاء الفاشيين على السلطة بإظهارها أن الحرب الأهلية ستكون وحيدة الجانب، وبأن هزيمة الطبقة العاملة ستكون ساحقة ونهائية[43].

من هنا، تبرز الحاجة الحيوية لأن تتم معارضة صعود الفاشية منذ ابتدائها برد حاسم وموحد وحيوي، وبنضال للدفاع عن المنظمات الحرة للطبقة العاملة ("نواة الديموقراطية العمالية داخل الديموقراطية البرجوازية" كما أسماها تروتسكي بشكل صحيح)، وعن حق الإضراب وجميع الحريات الديموقراطية الأساسية الأخرى، التي بدونها ستضعف الطبقة العاملة بشكل حاسم (وستفقر اقتصاديا) لفترة تاريخية كاملة.

وسيثير هكذا رد فعل حاسم وموحد وحيوي سلسلة من التفاعلات تبدّل الجو السياسي بالكامل داخل البلد. ستجعل البرجوازية الصغيرة أكثر تشككا حول الانتصار الفعلي للفاشية وستؤدي بالتالي إلى إضعاف الدعم الجماهيري الذي يحظى به الفاشيون، لا بد ستزيد من فرص تحييد قطاعات لا يستهان بأهميتها من الطبقات الوسطى أو حتى كسبها إلى قضية الحركة العمالية والاشتراكية. ولكي يحدث ذلك، يجب أن يتطور برنامج صحيح حيال هذه القطاعات ويجب أن تشعر البرجوازية الصغيرة بجدية الطبقة العاملة وعزمها على إعطاء بديل متماسك للحل الفاشي حيال مشكلة السلطة السياسية.

وسيتعلم الرأسماليون أنفسهم أيضا من خلال تجربة محزنة بأن الرأسمال الذي وظف لأجل عصابات القتل الفاشية هو على الأقل ذو مردود غير مؤكد ومن الممكن أن يضيع كله هباء ويؤدي إلى خسائر أكثر جسامة في جميع الميادين. وبالتالي فإن إرادتهم لدعم الفاشيين ستصبح من جديد "تكتيكا احتياطيا" بدل أن تكون العنصر الرئيسي في توجههم.

أما بالنسبة للطبقة العاملة نفسها، فإن أي نجاح تكتيكي في النضال ضد الفاشيين سيدعم وحدة صفوفها، ويزيد من نضاليتها وعزمها، ويرفع من ثقتها بمصيرها الخاص وبالحلول البديلة للأزمة الاجتماعية التي تهز البلد. وبهذه الطريقة سيكون الأساس لهجوم مضاد اجتماعي وسياسي هام جدا، يمكن أن يضع بسرعة ثورة اشتراكية على جدول الأعمال.

إن جميع هذه الفرص والمناسبات تتوقف على الوحدة والاستقلالية الطبقية للبروليتاريا. فإذا ما بقيت الطبقة منقسمة سياسيا، و‘ذا ما قاتل الاشتراكيون-الديموقراطيون والشيوعيون (الستالينيون) بعضهم بعضا بدل رص الصفوف ضد الفاشيين، وإذا ما اعتقد الشيوعيون (الستالينيون) بأن عليهم مقارعة الاشتراكيين-الديموقراطيين قبل أن يستطيعوا التغلب على الفاشيين، وإذا ما شعر الاشتراكيون-الديموقراطيون بأنه من المستحيل "تحييد" :العنف الفاشي" (من خلال تشريعات، و تدخل الدولة البرجوازية، الخ) ما دام "العنف الشيوعي" يأخذ مجراه، إذ كان ذلك، وتم إغفال المهام الطبقية الملحة لهذا النضال التاريخي باسم بعض نقاط الشرف المجردة والعصبوية، عندها سيكون هناك فرص أقل وأقل لرد فوري وحاسم وناجح على الإرهاب الفاشي المتنامي (الذي يساعده ويحرضه جهاز الدولة البرجوازي والذي يموله بشكل متزايد كبار أصحاب الأعمال). بدل ذلك، فإن سلسلة ردود فعل من التردد وسوء التوجه وسوء التعبئة ستطرح نفسها مؤدية إلى هزيمة نهائية. هذا ما حدث في حالة ألمانيا، رغم تحذيرات تروتسكي المتعددة –التي وصل صداها إلى أبعد من التروتسكيين، إلى معارضين شيوعيين آخرين كـ"ك. ب. او" الذي كان يقوده براندلير وتالهايمر، وإلى انشقاق يساري عن الاشتراكيين الديموقراطيين الس. أي. ب.

إن الكارثة الألمانية لاستسلام أكبر منظمة جماهيرية للطبقة العاملة في العالم من دون قتال وجهت ضربة ساحقة لثقة الطبقة العاملة بنفسها ولوعيها الطبقي. وقد امتدت نتائج تلك الهزيمة السلبية لما هو أبعد من نتائجها الاقتصادية والسياسية المباشرة: دفعت البشرية بالطبع ثمنا مذهلا للحماقة الإجرامية لكل من أوتو ويلز وستالين (كان تالمان فقط أداة سيئة الحظ بيد ستالين في هذه القضية). لقد رفضا إنشاء جبهة موحدة ومناضلة ومقاتلة ومسلحة من قمة الحركة العمالية الألمانية إلى قاعدتها ضد النازيين، عندما كان ذلك ممكنا تماما وفعالا. ولم يسبق أبدا أن ظهر الدور الحاسم للقيادة وسوء القيادة في الصراع الطبقي، "للعامل الذاتي في التاريخ"، بذلك الوضوح بالنسبة للماركسيين كما ظهر في ألمانيا في فترة 29-1933.

إن الاستقلال الطبقي شرط مهم، كالوحدة الطبقية، من أجل مقاومة ناجحة ضد الفاشية. فبينما تظهر النتائج الكارثية لانعدام الوحدة بشكل حاد في حالة ألمانيا، تبدو النتائج الكارثية لفقدان الاستقلالية الطبقية صارخة للغاية في حالة فرنسا وإسبانيا في فترة 34-1938. لقد أخضع تروتسكي أيضا هاتين التجربتين لبحث تحليلي ماركسي.

كان لهزيمة الطبقة العاملة الألمانية على يد النازيين، وللاستسلام الحقير دون قتال لقياديي الاشتراكيين-الديموقراطيين والستالينيين والنقابات، تأثيرهما المؤذي على الحركة العمالية العالمية. ولقد توقع تروتسكي هذا الأمر بشكل صحيح منذ ربيع 1933 وما بعده، وحاول جاهدا توجيه المجموعة الصغيرة من أتباعه ضمن الحالة المتطورة. جاء الضغط الذي لا يقاوم من أجل جبهة موحدة لجميع منظمات الطبقة العاملة ضد خطر الفاشية أو أشكال أخرى من الديكتاتورية الرجعية الرد الفعل الأول على هذه الصدمة. فقد أطلق الهجوم اليميني في فرنسا في 6 فبراير/(شباط) 1934 العنان لسيرورة فعلية لجبهة موحدة بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي قلبت بدورها بشكل كامل موازين القوى ودينامية المجتمع الفرنسي لمدة ثلاث سنوات على الأقل، ازدادت خلالها قوة الطبقة العاملة بشكل كبير. وأخيرا، قاد الإضراب العام في يونيو/(حزيران)1936 واحتلال المصانع فرنسا الى حافة الثورة الاشتراكية.

وكذلك الأمر في إسبانيا، حيث أدّى الهجوم الرجعي لعام 1934، الذي جاء بنظام يميني يرتكز أحد أجنحته على أشكال إدارية شبه فاشية، إلى ردة فعل عمالية طبقية موحدة عبرت عن نفسها أولا في العصيان المسلح الفاشل في أكتوبر/(تشرين الأول) 1934، ومن ثم في الصعود غير المتقطع لنضالات جماهيرية في النصف الأول من عام 1934، وأخيرا في استهلالة الثورة الاشتراكية التي اندلعت في جميع المدن الكبرى تقريبا وفي أجزاء مهمة من الريف كرد على الإنقلاب العسكري الفاشي ليوليوز/(تموز) 1936.

لكن، في كلا حالتي فرنسا وإسبانيا، تم حرف القوة الهائلة للاندفاعة الوحدوية للطبقة العاملة في قنوات منسجمة تماما مع بقاء الملكية الخاصة والدولة البرجوازية. وفي الواقع كانت تلك سياسة واعية للتوفيق الطبقي من جانب الاشتراكيين-الديموقراطيين والستالينيين وبيروقراطيي النقابات (وفي إسبانيا، القياديين الرئيسيين للحركة الفوضوية الجماهيرية) وبدءا من عام 1935، تبنت الأممية الشيوعية بقيادة ستالين بشكل كامل استراتيجية "أهون الشرين" القديمة للاشتراكيين-الديموقراطيين/المنشفيين، استراتيجية التكتل مع البرجوازية "الليبرالية" ضد "الرجعية". إن سياسة الجبهة الشعبية هذه التي تزامنت مع أزمة بنيوية عميقة للاقتصاد الرأسمالي وللديموقراطية البرجوازية ككل، أزمة لم تلطف منها الإصلاحات المتعددة، لم تدل فقط على خسارة فرصة تاريخية أخرى للعمال من أجل الاستيلاء على السلطة، تمت هذه المرة نتيجة لخط الستالينيين، مثلما كانت في فترة 1918-1923 نتيجة لخطأ الاشتراكيين-الديموقراطيين (وقد حصلت تجربة مماثلة للمرة الثالثة في فترة 44-1948 في فرنسا وإيطاليا واليونان، والأحزاب الشيوعية تتحضر حاليا لإعادة الكرة مرة أخرى في جنوب غربي أوروبا)، بل دلت تلك السياسة على أن انهيار الحركة العمالية تحت هجمات الرجعية والفاشية قد تأجل فقط ولم يتم تجنبه بشكل حقيقي.

ففي إسبانيا، انتصر الفاشيون أخيرا في الحرب الأهلية بعد أن سحق الستالينيون والاصلاحيون الثورة الاشتراكية في معسكر الجمهورية. وفي فرنسا، تفتت البناء الهائل للقوة الطبقية العمالية من خلال استسلام حكومات الجبهة الشعبية المتتالية وما تبع ذلك من فقدان حماس الطبقة العاملة وإضعاف معنوياتها. فبعد سنتين من الإضراب العام الحافل في يونيو/(حزيران) 1936، جاء الإضراب العام المهزوم في سبتمبر/(أيلول) 1938، والتخفيض التدريجي في الحريات الطبقية العمالية، وخسارة شرعية الحزب الشيوعي، وشلل النقابات، والتضحية الحقيرة بالذات من جانب الجمهورية الثالثة عندما استلم النظام البونابرتي الهرم للمارشال بيتان السلطة في سنة 1940 من دون أي ردة فعل من العمال.

وليس بصدفة أن يلقى اليوم نقد تروتسكي اللاذع لسياسة الاشتراكيين-الديموقراطيين والستالينيين الألمان الانقسامية قبل استيلاء هتلر على السلطة استحسان أوسع الأوساط وإعجابها[44]، بينما يلقى برهانه، الذي لا يقل إقناعا، على نتائج سياسة الجبهة الموحدة الكارثية قسطا كبيرا من سوء الفهم وحتى الرفض من قبل مؤرخين ونقاد معاديين وأصدقاء[45]. فالفاشية تمثل تهديدا جسديا للبقاء ذاته، ليس فقط لمنظمات ثورية، بل و حتى لأكثر منظمات الاشتراكيين-الديموقراطيين اعتدالا. ولا ينظر إليها فقط طليعيو الطبقة العاملة كتهديد بربري، لكن كذلك جزء كبير من المثقفين البرجوازيين الصغار والبيروقراطية العمالية ككل –وهذا هو الأساس المادي لسياسة جبهة موحدة في القمة وفي القاعدة أيضا! من ناحية ثانية ليست سياسة الجبهة الشعبية إلاّ نسخة أخرى عن السياسات التقليدية للتوفيق الطبقي والتعاون الطبقي التي مارسها قياديون عماليون اصلاحيون والبيروقراطية العمالية منذ مطلع القرن، والتي استقبلها بترحاب بشكل عام أكثرية المثقفين. فأن يوافق هؤلاء على نقد تروتسكي لسياسة الجبهات الشعبية لن يعني بالنسبة لهم رفض ماضيهم وتقليدهم الخاص وحسب، بل سيعني وفي معظم الأحوال السير بشكل مباشر ضد الدفاع عن مصالحهم المادية الحالية.

ومع ذلك، انه من المهم بالنسبة للماركسيين والعمال المتقدمين اليوم أن يتم فهم الرابط المنطقي بين قتال تروتسكي من أجل الجبهة الموحدة في ألمانيا في فترة 29-1933 وقتاله ضد الجبهة الشعبية في فرنسا وإسبانيا في فترة 35-1938. ان صعود الفاشية كخطر حالي على الحركة العمالية المنظمة يتزامن مع أزمة بنيوية عميقة للديموقراطية البرلمانية البرجوازية التي ترتبط بدورها بأزمة بنيوية عميقة للاقتصاد الرأسمالي والمجتمع البرجوازي ككل. في ظل هكذا ظروف، أن يتم ربط المقاومة ضد الخطر الفاشي بالدفاع بأي ثمن عن المؤسسات البرلمانية البرجوازية يعني ان يتم رهن كل الأمور بمسألة بقاء مؤسسات هي بذاتها في طور احتضارها. فبينما يكون من الصحيح الدفاع ضد الرجعية عن كل مكسب من مكاسب الطبقة العاملة في الحقل السياسي كما الاقتصادي، بما في ذلك الحقوق الدستورية العالمية، يكون أمرا انتحاريا أن توضع أبعاد هكذا دفاع في حدود الإطارات الضيقة والضعيفة لمؤسسات الدولة الديموقراطية البرجوازية.

وبحال بقيت القوة المكتسبة خلال الدفاع الناجح عن حريات ومنظمات الطبقة العاملة دون أن تستعمل كقوة دفع للحل الاشتراكي الثوري لأزمة الديموقراطية البرجوازية والمجتمع البرجوازي، عندها ستركد تلك القوة بسرعة وتتفتت. وبعد تراجع مؤقت، سيبادر الرجعيون الفاشيون أو شبه الفاشيين مرة أخرى إلى الهجوم ضد الطبقة العاملة المضعفة المعنويات من جراء عدم نيل النتائج الإيجابية لمجهودها النضالي الهائل. فليس هناك من مستقبل للديموقراطية البرجوازية في ظل ظروف أزمة حادة للرأسمالية، فهي أمّا ستستبدل بالديموقراطية العمالية أو ستنهار لصالح دكتاتورية يمينية. وقد أدّى رفض تقبل ذلك الدرس في إسبانيا (وبعدها في الشيلي) إلى هزائم مكلفة جدا ولها ديمومة ولا تقل مأساوية عن تلك التي سببتها الانقسامات في إيطاليا وإسبانيا.


--------------------------------------------------------------------------------
الفصل التاسع

ضـد الإمبــريـاليـــة
بينما تركزت اهتمامات تروتسكي قبل الحرب العالمية الأولى بشكل أساسي على مشاكل أوروبية[46]، تسنى لمنشئ الجيش الأحمر في سير الحرب الأهلية فرصة التفكير مليا بتأثير الثورة الروسية المنتصرة على شعوب الشرق الناهضة. ففي رسالة بعث بها إلى اللجنة المركزية عام 1919، استعمل تروتسكي معادلة تبناها لينين واشتهرت بعد عام من ذلك: "لقد خصصنا للآن انتباها قليلا جدا للرأسمالية في آسيا. لكن من الواضح أن الوضع العالمي يتخذ شكله بطريقة ما بحيث يمر السبيل إلى باريس ولندن عبر مدن أفغانستان والبونجاب والبنغال"[47]. إن اهتمام تروتسكي بالشرق لم يخمد بعد ذلك الوقت.

إن الطريقة ذاتها التي اعتمدها تروتسكي للوصول إلى مفهوم الثورة الدائمة قد هيأته لإعطاء أهمية استثنائية لأزمة النظام الإمبريالي العالمي التي افتتحتها الحرب العالمية الأولى ووسعتها ثورة أكتوبر. وبالضبط لكونه قد فهم الاقتصاد العالمي في ظل الإمبريالية ككلية عضوية تتألف من أجزاء متطورة بشكل مركب، استطاع أن يرى الثورة العالمية كسلسلة ستبدأ بالانكسار في حلقاتها الأضعف. أما فكرة أن تلك الحلقات الضعيفة ستكون بلدانا أخرى أقل تطورا خارج روسيا، فقد بدأت تتضح في مخيلته في وقت مبكر، كما كان يحصل الأمر نفسه بالنسبة لقياديي الكومنترن الآخرين.

وفي تقرير تروتسكي عام 1921 لمؤتمر الكومنترن الثالث، عبّر عن فكرة أن الامتداد العالمي للثورة يمكن أن يأخذ مجراه في الشرق كما في أوروبا[48]. وفي مجموعة مقالاته لعام1924 تحت عنوان الغرب والشرق، التي لم تتلق إلاّ انتباها قليلا جدا للآن، عالج أيضا الأزمة الاستعمارية وأزمة النظام الإمبريالي العالمي، التي تتطور بشكل مواز لنهوض الثورة البروليتاريا في الغرب[49]. وتجدر الملاحظة أنه بينما شدد وللمرة الأولى على أهمية شعوب المستعمرات في العملية الثورية العالمية، رأى بشكل بيّن القوى الدافعة للحركة المعادية للإمبريالية كقوى تمتد أبعد بكثير من صراعات اجتماعية اقتصادية بحتة بين الفلاحين والملاكين العقاريين، والمأجورين والرأسماليين: "لقد شعروا أن هذه هي التعاليم (البلشفية) التي توجه نفسها نحو المنبوذين، ونحو المضطهدين، ونحو المسحوقين، ونحو العشرات والمئات والملايين الذين ليس لديهم طريق تاريخي آخر للخروج، طريق آخر للخلاص". وليس بأقل دلالة أيضا أنه في خطابه حول أول ماي/أيار 1924، في أول مناشدة علنية له لشعوب الشرق، أثار السخط حول قضية الجندي الصيني الذي حكم عليه البريطانيون بأربعين جلدة لأنه وطأ عشبا محرما دوسه من قبل أبناء البلد[50]. وبشكل غريزي، شعر تروتسكي بأن الحركة الثورية المعادية للإمبريالية سوف يثيرها التمرد ضد الاضطهاد والتحقير كما الدوافع الاقتصادية البحتة.

وقد أكد تروتسكي بشدة أيضا على الوظيفة الموضوعية للدفاع غير المشروط عن حركة التحرر الوطني في المستعمرات من قبل عمال البلدان الإمبريالية: "وفي هذا المجال، فإن البروليتاريا الأوروبية، وبالأخص في فرنسا وبشكل أولي في بريطانيا، تقوم بالقليل جدا. إن نمو نفوذ الأفكار الشيوعية والاشتراكية، وانعتاق الجماهير الكادحة في المستعمرات، وإضعاف نفوذ الأحزاب الوطنية، يمكن أن يضمنه ليس فقط دور النواة الشيوعية المحلية، وليس بشكل كاف، بقدر ما النضال الثوري لبروليتاريا الحواضر الاستعمارية في سبيل انعتاق شعوب المستعمرات. فقط بهذه الطريقة يمكن لبروليتاريا تلك الحواضر أن تظهر لشعوب المستعمرات بأنه يوجد أمتان أوروبيتان، واحدة مضطهدة وأخرى صديقة، فقط بهذه الطريقة يمكن للبروليتاريا أن تعطي دفعا آخر للمستعمرات التي ستسقط البناء الإمبريالي وبالتالي تقدم خدمة ثورية للقضية البروليتارية"[51].

وصحيح أن تروتسكي لم يطبق بشكل منتظم نظرية الثورة الدائمة على معظم البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة لغاية بداية الثورة الصينية الثانية فترة 25-1927، ومن الصعب تحديد الوقت الذي قام فيه بتعميم هذه النظرية. فرغم أن أفكاره أصبحت أوضح بشكل تدريجي بعد بدايات الثورة الصينية الثانية، تجنب تروتسكي الإشارة شكليا إلى الثورة الدائمة في تلك الفترة بسبب الخلافات داخل المعارضة اليسارية. (العديد من قياديي المعارضة- من بينهم راديك وبريوبرجنسكي وسميلغا- لم يوافقوا على النظرية). كان هناك تطابق كبير بين سياسة ستالين وبوخارين لإخضاع الحزب الشيوعي الصيني للقيادة البرجوازية الوطنية للكومنتنغ –بحجة أن الثورة الصينية النامية كانت معادية للإقطاع وديموقراطية وطنية، وأن ما يسمى "بالبرجوازية الوطنية" كان لها بالتالي دور تقدمي تلعبه- وبين الخط الذي دافع عنه المناشفة بعد عام 1905 بالنسبة للثورة الروسية. وعندما قام تروتسكي بنقاش هذا الموقف أمام انقلاب تشين كي تشك الدموي في أبريل/(نيسان) 1927، فعل ذلك بطريقة واضحة تماما[52].فواقع أن البروليتاريا الصينية كانت عدديا أضعف وأقل تمركزا وأقل ثقلا في المجتمع من البروليتاريا الروسية عام 1905 أو 1917 لا يمكن أن يكون عاملا مقررا ما إذا كان يجب تطبيق نظرية الثورة الدائمة أو لا في الصين. يمكن لهذا الواقع أن يعني أن الثورة ستأخذ وقتا أكثر لكي تنضج، وأن البروليتاريا ستواجه نضالا أصعب لإحلال نفوذها في الثورة الزراعية والمعادية للإمبريالية. لكنه لا يمكن لهذا الواقع أن يصنع من البرجوازية الصينية قوة ثورية، ولا أن يزود الفلاحين الصينيين بالمقدرة على بناء حزب سياسي مستقل في مقام مساو لمقام البروليتاريا على رأس الثورة.

لكن حتى كتّاب جديون محصّنون بشكل عام ضد الافتراءات الستالينية كرّروا النقاش المبتذل حول أن سياسات تروتسكي بالنسبة للصين قللت من تقدير الفلاحين "أو حتى قللت من تقدير الأبعاد المعادية للإمبريالية (الوطنية) للثورة الصينية"[53]. إن هكذا ادعاءات مبنية على فهم غير واف لتعليقات تروتسكي على الثورة الصينية.

وصحيح أن تروتسكي بينما اعترف بشكل كامل بالقدرة الثورية الهائلة للتمردات الفلاحية الصينية، خاصة الانتفاضات الفلاحية التي انبثقت بعد هزيمة الثورة الصينية الثانية[54]، كان رغم ذلك مشككا حول مقدرتهم على انتزاع الانتصار ضد عدو طبقي قد تقوّى وازدادت ثقته بنفسه. وبشكل خاص شكّك بقدرة الحزب الشيوعي الصيني على نشر حرب العصابات بظل ظروف ازدياد سلبية الطبقة العاملة. ويبدو أن الهزائم المتتالية التي فرضت على جيوش ماو تسي تونغ الفلاحية ان تتخلى عمليا عن جميع ما سمي "الأراضي السوفياتية" وأن تقوم "بالمسيرة الطويلة" إلى الحدود السوفياتية، يبدو أنها تؤكد رأي تروتسكي.

ومع ذلك، فإن الوضع قد تغيّر تماما بنظر تروتسكي ما أن شنت الإمبريالية اليابانية حربا كاملة ضد الصين. ومنذ ذلك الوقت ولاحقا، رأى أنه سيكون لحرب العصابات دور أساسي لتلعبه في هزيمة الإمبريالية اليابانية (بشكل أساسي بالطبع، حرب عصابات فلاحية تقودها عناصر مدينية، وستحسم الأمر أصول تلك العناصر الطبقية وسياستها الطبقية)[55]. وفي ما هو عمليا وصيته السياسية، أي في بيان المؤتمر الطارئ للأممية الرابعة المصاغ في ماي/ (أيار) 1940، لم يتردد تروتسكي في دعوة العمال والفلاحين الصينيين لتطوير "حرب شعب" حقيقية ضد الإمبريالية اليابانية، تحت قيادتهم الطبقية المستقلة[56]. وذلك ما فعلوه ولذلك انتصروا –رغم نصائح ستالين المتكررة كي يقبلوا بحكومة ائتلاف تحت قيادة تشن كاي تشك، وأن يحلو قواهم في جيش تشن كاي تشك. إن طريق ستالين كان طريق الهزيمة الأكيدة كما يؤكد على ذلك بشكل صارخ المثل المأساوي لأندونيسيا.

إن السمة البارزة لهذا التحليل والتشخيص كان الثقل المهم الذي أعطاه تروتسكي لقضية الاستقلال الوطني، التي يمكن أن تقارن فقط بالثورة الزراعية من بين مهام الثورة الديموقراطية الوطنية التي تنموا في المستعمرات وشبه المستعمرات. وسيعود تروتسكي مرة تلو المرة، خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته، لهذه السمة من الثورة الدائمة، التي كثيرا ما يُساء فهمها من قبل مؤيدين وأخصام على السواء. وهي قد تحدد سلسلة كاملة من الاختيارات التكتيكية المهمة التي تواجه الماركسيين الثوريين في البلدان المتخلفة.

ويتضمن صلب تحليل تروتسكي فهما ديالكتيكيا لواقع الإمبريالية اليوم: تأثيراتها على البلدان النامية، وتزاوج السيطرة السياسية مع الاستغلال الاقتصادي كمصدر للتخلف ذاته. وفي مفهوم تروتسكي عن الإمبريالية تبرز السيطرة الإمبريالية على البلدان المتخلفة كالعائق الحاسم أمام تحديث تلك البلدان ولحاقها بشكل كامل بالتقدم التاريخي، وليس بطريقة مشوهة وحيدة الجانب. إن قوة الإمبريالية الخانقة بالنسبة للاقتصاد العالمي تمارس في المقام الأول على البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، وبالتالي تحرم تلك البلدان حتى من فرصة تكرار متأخر للتطور العضوي العام الذي شهده الغرب في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين[57].

وحسب ذلك المفهوم نفسه للإمبريالية، فإنه كلما كانت أزمة النظام الإمبريالي أخطر، كلما كان أخطر أيضا الاضطراب العنيف الذي تطلقه القوى الإمبريالية نفسها، وسيصبح أكثر بربرية وابل المصائب المنهمر على الشعوب المضطهدة والنامية. وباكرا منذ عام 1933، توقع تروتسكي بأن تصبح اليابان متورطة في حرب رئيسية مع الصين والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وأنها ستُضرب بشكل كامل رغم ما يقال عن عسكريتها التي لا تقهر. وباكرا منذ عام 1938 توقع تروتسكي أمرا سيلقى تأكيده المذهل خلال الحرب العالمية الثانية: "حتى بدون حرب، يشير التطور اللاحق للردة العالمية بالتأكيد إلى الإبادة الجسدية لليهود"[58].

ورغم أنه واضح بأن كتابات تروتسكي بعد الحرب العالمية الأولى –وبالأخص خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته- قد انطبعت بكره عميق للإمبريالية، لم يكن هنا أي شيء لا عقلاني أو بسيكولوجي صرف في ذلك الكره كما زعم بعض الكتاب. لا بل انبثق من فهمه للقوة الكامنة المحطّمة والبربرية المخيفة لنظام يدخل في طور انحلاله. وقد أكدت الأحداث للأسف أنه ‘ذا كان هناك من شيء ما تخطى فيه الواقع تفكير تروتسكي فهو حجم جرائم الإمبريالية ضد البشرية.

لقد نشأ عن المفهوم الشامل للطبيعة التاريخية المفرطة في رجعيتها للإمبريالية،و للطبيعة التقدمية تاريخيا للحركات والثورات المعادية للإمبريالية، سلسلة من الاستنتاجات التكتيكية الهامة. ففي حرب بين قوة إمبريالية وبلد شبه مستعمر –وبالأحرى في حرب تحرير وطني لمستعمرة ضد مركز إمبريالي- على البروليتاريا العالمية والحركة العمالية العالمية إعطاء الدعم إلى البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، بغض النظر عن القيادة التي تترأس الحرب في لحظة محددة. كان هيلا سيلاسي دون شك طاغية شبه إقطاعي دعم حتى بقايا العبودية في بلاده، وهي ممارسة ليست دون أهمية. رغم ذلك فإن حرب أثيوبيا ضد الإمبريالية الإيطالية كانت حرب استقلال وطني عادلة، لأن الاستعباد الكامل لأثيوبيا من قبل الإمبريالية (وتحويلها من شبه مستعمر إلى مستعمر) كان سيضع كابحا جبارا أمام إمكانيات التطور التاريخي لذلك البلد. وبشكل مماثل، فإن حرب الصين للدفاع الوطني ضد الإمبريالية اليابانية كانت حربا عادلة حتى عندما كان تشن كاي تشك، الجزار المضاد للثورة، بقيادتها. لأن تحول الصين إلى مستعمرة كاملة لليابان كان سيعني خطوة كبيرة إلى الوراء بالنسبة للأمة الصينية.

إن العديد من الكتاب –وبالأخص الستالينيين منهم الذين يكتبون بسوء نية، ولكن أيضا بعض الكتّاب الآخرين –قد أساؤوا فهم نقد تروتسكي لسياسات الحزب الشيوعي الصيني خلال الحرب اليابانية-الصينية. لم يرفض تروتسكي على الإطلاق فكرة دعم مجهود الصين الحربي حتى ولو كان يقوده الكومينتانغ. لقد انتقد فقط الخضوع السياسي والتنظيمي للحزب الشيوعي ومنظمات الطبقة العاملة بشكل عام للبرجوازية الصينية. ففي وجهة نظره، كان على البروليتاريا الصينية والحزب الشيوعي الصيني أن يدعما الحرب ضد اليابان بوسائلهما الطبقية الخاصة وبمنظماتهما الطبقية الخاصة.

ويبدو أن نقد تروتسكي لخضوع الحزب الشيوعي السياسي للبرجوازية كان في معظمه بمحله دون أي لبس. أما حيال خضوع الحزب تنظيميا، فإن لدينا شعورا بأن تروتسكي، ربما على أساس معلوماته غير الكاملة، قد أساء من تقدير مستوى استقلالية جيش التحرير الشعبي وقوات حرب العصابات التي يقودها الحزب الشيوعي –وهي استقلالية ستلعب على المدى البعيد- إلى جانب الانتفاضات الجماهيرية الكبيرة للفلاحين الفقراء وأشباه البروليتاريين الريفيين التي حصلت بعد عام 1945 في شمال الصين، دورا حاسما في انهيار المفاوضات الائتلافية في 45-1946 وما تبعها من انتصار لجيش التحرير الشعبي في الحرب الأهلية في فترة 46-1950.

إن نظرية الثورة الدائمة، بتطبيقها على عدد من البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، تعني بشكل ملموس أن البرجوازية المستعمرة (أو "الوطنية") غير قادرة على قيادة عملية ثورية تنجز جميع المهام التاريخية للثورة الوطنية البرجوازية (وفي المقام الأول مهمة إصلاح زراعي جذري وانتزاع الاستقلال الكامل على الإمبريالية).و بالتالي فهي تعني بأن هذه المهام ستتحقق فقط إذا كانت البروليتاريا قادرة على انتزاع النفوذ في العلية الثورية، وبدعم من الفلاحين وقطاعات كادحة أخرى من السكان، وأن تستمر نحو إنشاء دولة عمالية (دكتاتورية البروليتاريا).

وما لم يتم افتراضه أبدا، مع ذلك، هو فكرة أن السيرورة الثورية لا يمكن أن تبدأ في المستعمرات وشبه المستعمرات قبل أن تنتزع البروليتاريا هكذا نفوذا. وعلى العكس، يمكن فقط في حالات استثنائية أن يتواجد ذلك النفوذ منذ بدء السيرورة، بدل أن ينتزع في ذروتها. وبشكل اعتيادي هناك حاجة لتجارب وسيطة من أجل خلق الشروط المسبقة للفلاحين (ولفقراء المدن غير البروليتاريين) للالتفاف حول القيادة البروليتارية. وفوق ذلك، لم يتم الافتراض بأن البرجوازية الكولونيالية ("الوطنية") غير قادرة على اتخاذ أية خطوة في اتجاه النضال ضد الإمبريالية. ومرة أخرى كان تروتسكي يفكر في عدم مقدرتها على إتمام السيرورة، وليس بدئها.

ولم ينكر تروتسكي بأنه رغم خوف البرجوازية "الوطنية" من ثورة زراعية جذرية وتعبئة ثورية شاملة للبروليتاريا وفقراء المدن، هناك مع ذلك خصومات وخلافات في المصالح وصراعات انفجارية كامنة بين تلك الطبقة والرأسمال الأجنبي (الإمبريالية) من جهة والطبقات الحاكمة المحلية ما قبل الرأسمالية من جهة أخرى. وهذه الصراعات حقيقية، وتنفجر دوريا بشكل مكشوف. فبينما على الشيوعيين الطليعيين من جهة أن يثقفوا الطبقة العاملة بروحية الاستقلال السياسي والتنظيمي عن البرجوازية الوطنية"، سيكون أمرا عصبويا سياسيا ورجعيا موضوعيا أن يتخذوا موقف الحياد أو الامتناع عندما تندلع هكذا صراعات حقيقية. وفي جميع تلك الحالات، على الطبقة العاملة وطليعتها الثورية أن تعطي الدعم النقدي لكل إجراء ملموس معاد للإمبريالية (أو معاد للإقطاعية) تتخذه البرجوازية "الوطنية" – إن الفرق بين هكذا خطوات ملموسة والكلام الصرف شديد الأهمية في هذا المجال.

لقد قدم تروتسكي مثلا ملموسا على هذا التناول بدعمه لتأميم الشركات النفطية الإنكليزية والأمريكية تحت حكم كارديناس في المكسيك[59]. كان هذا الموقف موقفا مبدئيا ناتجا عن تقويم شامل للإمبريالية وللنضالات المعادية للإمبريالية في عصرنا، ولم يكن ببساطة تحركا تكتيكيا (أو انتهازيا) مقابل حق اللجوء السياسي الذي منحته إياه الحكومة المكسيكية. وفي مناسبات عديدة، شمل هذا الموقف جميع البلدان المستعمرة التي تضطهدها الإمبريالية.

إن المنطق الداخلي لنظرية الثورة الدائمة يتضمن العملية المتناقضة التالية: ستحاول البرجوازية "الوطنية" في البلدان شبه المستعمرة (وبالأخص البلدان الأكثر تقدما)، ولدرجة معينة، تحويل نزاعها مع الرأسمال الإمبريالي (أو في المستعمرات مع السلطة الاستعمارية) إلى نزاع يشمل الأمة ككل، وستتخذ خطوات باتجاه التعبئة الجماهيرية ضد الإمبريالية، لا بد ستحفز التنظيم الدائم للعمال في نقابات جماهيرية. لكن في الوقت نفسه ستسعى إلى ممارسة رقابة شديدة على هكذا تعبئة وعلى منظمات لها ديمومة أكثر، وتنشأ بيروقراطيات نقابية مندمجة بشكل وثيق أكثر في جهاز الدولة البرجوازية (شبه المستعمَرة)، أو على الأقل مسيَّرة بواسطته أكثر مما كانت عليه الحال خلال النمو الكلاسيكي للحركة النقابية في البلدان الرأسمالية المتقدمة. وعندما يبرز صراع بين هاتين الممارستين –أي عندما تصبح الحركة الجماهيرية للطبقة العاملة مستقلة بازدياد عن القوى التي تسيطر عليها البرجوازية سياسيا- ستفضل البرجوازية "الوطنية" عدم استعمال التعبئة الجماهيرية ضد الإمبريالية، حتى ولو أدى ذلك إلى إضعاف موقفها المساوم. لأنه سيكون هناك مخاطرة كبيرة في أن تتخذ هكذا تعبئة ديناميتها الخاصة – حتى باتجاه معاد للرأسمالية!

واتخذ تروتسكي، تمشيا مع تحليله الشامل للإمبريالية والحركة المعادية للإمبريالية، موقفا واضحا من الانتفاضات المعادية للاستعمار والمعادية للإمبريالية التي ستحدث خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة. ورفض بأي طريقة من الطرق القبول بأن تخضع شعوب المستعمرات مستوى نضالها من أجل التحرر الوطني ووتيرته لحاجات بعض "التحالفات المعادية للفاشية على الصعيد العالمي". وقد لاقى هذا الموقف المبدئي تأنيبا عنيفا من عدد من النقاد. إلاّ أنّ الأحداث التي حصلت في الهند (غشت /(آب)1942)، والجزائر والهند الصينية (في أواخر الحرب)، إذا ما ذكرنا فقط ثلاثة أمثلة، قد أثبتت صحة هذا الموقف. لقد توقع تروتسكي بشكل كامل هذه الأحداث كما هو واضح في الفقرة التالية: "إذا لم يرغب الشعب الهندي بأن يبقى عبدا إلى الأبد، عليه أن يفضح ويرفض هؤلاء المبشرين الكذابين الذين يجزمون بأن العدو الوحيد للشعب هو الفاشية. إن هتلر وموسوليني هما دون شك من ألدّ أعداء الكادحين والمضطهدين. إنهما جلادان دمويان يستحقان كل الكره من كادحي العالم ومضطهَديه. لكنهما، قبل كل شيء، عدوان للشعبين الألماني والإيطالي اللذين يعانيان من تسلطهما… أما في الهند، فذلك العدو هو البرجوازية البريطانية قبل أي طرف آخر. إن إسقاط الإمبريالية البريطانية سيحقق ضربة كبيرة لجميع المضطهدين، بما في ذلك الدكتاتوريين الفاشيين.

"يتميز الإمبرياليون على المدى البعيد بعضهم عن البعض الآخر –بالشكل- وليس بالمضمون. إن الإمبريالية الألمانية المحرومة من المستعمرات، تضع قناع الفاشية المخيف بأسنان حادة ناتئة. أمّا الإمبريالية البريطانية المتخمة لأنها تملك مستعمرات عديدة، فتخبئ أسنانها المسنونة خلف قناع الديموقراطية. لكن هذه الديموقراطية موجودة فقط في الحواضر الاستعمارية… أمّا الهند فليس فقط محرومة من الديموقراطية بل من الحقوق الأولية للاستقلال الوطني أيضا. وبالتالي فالديموقراطية الإمبريالية هي ديموقراطية مالكي العبيد الذين يتغذون من دم حياة المستعمرات. لكن الهند تسعى لديموقراطيتها الخاصة، لا لتكون سمادا لمالكي العبيد".

إن المواقف المتماسكة التي خرج بها تروتسكي على صعيد مشاكل الإمبريالية والنضال المعادي للإمبريالية هي من بين المساهمات الأساسية للاستراتيجية الماركسية الثورية. وقد لخص بنفسه أهميتها بالمعادلة التالية: "إن حركة الأجناس الملونة ضد مضطهديها الإمبرياليين هي إحدى أهم الحركات ضد النظام القائم وأقواها، وبالتالي تدعو إلى الدعم الكامل… وغير المشروط وغير المحدود من جانب بروليتاريا الجنس الأبيض[60]. هذه المواقف ستعبر عن نفسها بشكل واضح خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها بوجه خاص.

----- الفصل العاشر

الأمميــــة الرابـعــــة
لقد اتخذ عصر الحرب والثورة سمات عصر الحرب والثورة والثورة المضادة: هزيمة البروليتاريا في روسيا، هزيمة البروليتاريا في أوروبا و(لفترة تاريخية طويلة) في الصين، انتصار الستالينية. وفي بداية كراس أخلاقهم وأخلاقنا لخّص تروتسكي فترة أواخر الثلاثينات "كفترة ردة". وقد يكون من الصعب على أي كان أن يجادل هذا الرأي، خاصة على ضوء ما حدث بعد ذلك مباشرة.

مع ذلك وفي تناقض ظاهر مع ذلك التقدير للعصر، كرّس تروتسكي آخر جزء من حياته بشكل متزايد لهدف واحد وحيد: بناء منظمة ثورية جديدة، بناء الأممية الرابعة.

وكماركسي، لم يكن لديه أوهام حول المصاعب الحادة الموضوعية في طريق ذلك المشروع بفعل تراكم الهزائم وتردي معنويات قطاعات هامة من البروليتاريا العالمية. فقد عرف أن النتائج المباشرة ستكون متواضعة. كان أتباعه قليلين، والمنظمات التي أنشأوها باجتهاد كانت تفتقد بشكل فظيع إلى وسائل مادية، وكانت محطمة بالانقسامات والانشقاقات التي تعود إلى ضعفها بالذات وعزلتها عن جمهور الطبقة العاملة[61]. ورغم ذلك التصق بعناد بتلك المهمة، وذهب بذلك بعيدا إلى حد إعلانه بأنها أكثر المهمات التي كان عليه إنجازها في حياته ككل أهمية[62] -أي أكثر أهمية من صياغة نظرية الثورة الدائمة، وأكثر أهمية من توجيه عصيان أكتوبر المسلح، أكثر أهمية من بناء الجيش الأحمر وقيادته نحو النصر في الحرب الأهلية.

كيف يمكن تفسير هذا التناقض الظاهري الذي أربك العديد من مؤرخي حياته والعديد من نقاده؟ لقد تكلم البعض بشكل نابذ على الانخداع الذاتي للرجل المسن الحاقد والأناني الذي بقي يحلم في ظل هزيمته السياسية الكاملة بأن التاريخ يمكن أن ينتقم نوعا ما من أعدائه[63]. ونظر آخرون إلى انشغال تروتسكي في الفترة الأخيرة من حياته كسوء تقدير كارثي يدل بوضوح على أن شيئا ما كان خاطئا في ماركسيته إن لم يكن منذ البدء فعلى الأقل منذ أن نفي من بلاده وحزبه، وانقطع عن التفاعل الثقافي مع أنداده وعن نقدهم السياسي[64] إن ضعف هكذا نوع من التفسير يصبح جليا جدا عندما يرى المرء التحاليل السياسية التي أنتجها تروتسكي بينما كان يناضل من أجل الأممية الرابعة. فخلال تلك الفترة قام بتحليل طبيعة الاتحاد السوفياتي والحرب الأهلية الإسبانية وقام بنقد لاذع لمحاكمات موسكو، وتوقع حدوث الانهيار المحتوم لمعاهدة ستالين-هتلر: إنها إنجازات تعادل كل ما فعله قبل ذلك وهي برهان واضح على أن قواه الفكرية والتحليلية كانت في أوجها.

أمّا هؤلاء الكتّاب الذين يحاولون وضع التناقض الظاهري في مستوى تناقض جوهري –ليس فقط في فكر تروتسكي، بل في الماركسية أيضا- فإنهم يقتربون أكثر من الحقيقة. فالماركسية، حسب ما يؤكدون، تحاول أن تدمج عنصرين إذا ما تطورا إلى نتيجتهما المنطقية يميلان إلى أن يقصيا أحدهما الآخر: الجبرية والإرادية. فهي كطريقة لفهم الواقع تتضمن ميلا نحو الحتمية. وكنظام عمل وأسلوب ثورة فإنها تميل إلى أن تتيه عن تحليل جاهد للواقع الموضوعي. وفي أعمال تروتسكي، حسب هذا التحليل، تحقق هذا التوازن خلال فترات صعود الثورة. لكنه بدأ يهتز في أواخر العشرينات وانهار بشكل حاسم في الثلاثينات. ورغم أن تروتسكي بقي متفوقا كمحلل نقدي للواقع الموضوعي، إلاّ أنه فقد بشكل أكيد قدراته كسياسي ووقع ضحية الإرادية الطوباوية المتمثلة بذاك الأمل السخيف بأن بضعة آلاف من الأشخاص الذين يستلهمون أفكاره سينجحون في تغيير مجرى التاريخ[65].

وهنا نرى عدد من الأسئلة المتضافرة حول الماركسية وحول علم الاجتماع والسياسة بشكل عام. ولكي نجيب عنها على نحو ملائم علينا أن نتوقف عن التلاعب بمفاهيم شكلية. ان الماركسية هي بالطبع طريقة عمل، هي تطبيق ثوري. إلاّ أنها تحاول أن تتجنب خطر الوقوع في الذاتوية والإرادية بخلقها محيطا محصورا دائما للعمل الفعال من خلال تحليل علمي صرف للواقع التاريخي الديناميكي (قوانين حركة مجتمع معين، التناقضات في كل تشكيل اجتماعي-اقتصادي). يمكن الوصول إلى بعض الأهداف في ظروف تاريخية معينة، بينما لا يمكن الوصول إلى أخرى –حتى مع أفضل السياسات،و أعظم النضالية، وأعلى أشكال التضحية الفردية والجماعية. وقد تؤدي بعض الوسائل إلى تلك الأهداف، بينما قد لا تؤدي وسائل أخرى إلى ذلك مهما كانت أوهام الذين يستعملونها. وبشكل مماثل، يمكن أن تؤدي التناقضات الاجتماعية الموجودة موضوعيا والمتواجدة باستقلال عن رغبات البشر وقراراتهم، والتي لا يمكن أن تزول ما دام المجتمع باقيا، إلى نتائج عكسية تماما. إن النتيجة ستعتمد على من يتصرف بحزم (أية طبقة، وأية شريحة من تلك الطبقة، وأي حزب من تلك الطبقة. والبرنامج الذي يتبع)، ومن يأخذ المبادرة، ومن يفوز في معركة صراع القوى الاجتماعية، الخ.

وبطرح "الجبرية الحتمية" و"الإرادية الذاتوية" بهذه الطريقة، نجد أن ما ظهر بشكل أولي قطبين متعاكسين يمزقان الماركسية أجزاء، يلتقيان بشكل متزايد في وحدة أرقى (وحدة –و- نضال، وحدة –و- تناقض، إذا ما أردنا) بين التحليل النظري الموضوعي والتطبيق الثوري. فمن دون نظرية علمية يُحكم على التطبيق الثوري بالطوباوية غير الفاعلة: لأن الواقع لا يمكن أن يتغير بطريقة واعية ما لم يتم فهمه بشكل تام. لكن من دون تطبيق ثوري تصبح النظرية العلمية عقيمة بشكل متزايد ومن وجهتين: تميل إلى المراقبة السلبية، ولأن تخسر بالاقتصار على المراقبة السلبية المعيار الجوهري للحقيقة، الذي هو التحقيق العملي.

هذه "الوحدة –و- التناقض" للنظرية العلمية والعمل الثوري هي بالطبع هدف صعب المنال لا يتحقق بشكل مباشر ويومي. إنها وحدة مقاربة ميلية: حيث أن الوحدة التامة للواقع، الوعي والتحويل الواعي للواقع، لا يمكن تحقيقها بالنسبة للبشرية. ولكن كما هي الحال دائما فالحقيقة ملموسة. وعلى المرء أن يسائل نفسه: هل كان لدى تروتسكي إدراك صحيح أو غير صحيح للاتجاهات التاريخية في أواخر الثلاثينات؟ وهل كانت الحاجة لبناء الأممية الرابعة نتيجة منطقية لهذا الإدراك؟ هل كانت هدفا عمليا كان من الممكن وما زال ممكنا تحقيقه؟ إن السخرية المبتذلة –"انظروا كم كانت ضعيفة الأممية الرابعة عندما مات تروتسكي، وانظروا كم هي ضعيفة بعد أربعين سنة من تأسيسها"- لا يمكن أن تحل محل التحليل العلمي النقدي المتزن. وبالطبع إذا ما أصبحت بديلا لهكذا تحليل، فلن يكون تروتسكي الماركسي، بل نقاده المشككون هم الذين يجسدون التفكير ما قبل العملي الديني إن لم يكن السحري (الإيمان الساذج بأن المشكلة يمكن أن تزول بإنكار أنها موجودة).

لنطرح بالتالي المشكلة من جديد في منطلقاتها التاريخية الأوسع. إنه إذا ما تم الاعتقاد في ذروة سلسلة متراكمة من الهزائم الهامة للبروليتاريا بأن هكذا هزائم هي نهائية ولا يمكن عكس الردة التاريخية لمجرى الثورة الاشتراكية العالمية، عند ذلك فإن الانحدار نحو البربرية هو منطقيا المصير الوحيد للبشرية. وستزول الرأسمالية كما زال المجتمع العبودي القديم من خلال تفسخ متبادل للأعداء الطبقيين الأساسيين. ولن تكون النتيجة الارتقاء إلى حضارة أعلى.

أن لا تكون وجهة النظر هذه منافية للعقل في أواخر الثلاثينات أو بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية أمر يمكن توضيحه بسهولة. وأن يعم التشاؤم الأقصى معظم اليسار التقليدي، إن لم يكن أقصى اليسار، أمر ليس من الصعب توضيحه أيضا. كان على تروتسكي بالذات أن يصارع هكذا رؤية على الأقل في مناسبتين خلال السنة الأخيرة من عمره في مقالته "الإتحاد السوفياتي والحرب" المكتوبة عام 1939، وفي وثيقته السياسية المؤثرة، بيان المؤتمر الطارئ للأممية الرابعة في ماي 1940. ففي بعد نظر مميز ورؤيا جارفة وضع ثقل البديل التاريخي في مسألة مهمة واحدة وحيدة: قدرة البروليتاريا على بناء مجتمع من نمط اشتراكي. إن ما كان نقطة بداية لماركسيته أصبح بذلك رسالته الأخيرة.

فعدا البروليتاريا لا توجد أي قوة في المجتمع المعاصر قادرة على البناء الاشتراكي على الصعيد العالمي. ولم يقدّم أي برهان على أن قوى اجتماعية أخرى قادرة على القيام بذلك، وبرأينا أن هكذا برهانا لن يقدم أبدا. وبالتالي يعتمد المستقبل الاشتراكي للبشرية بشكل أساسي –إمكانية تجنب انحدار الرأسمالية إلى بربرية –على قدرة البروليتاريا على إنجاز المهمة التاريخية التي نسبها إليها ماركس وانجلس. صحيح أن البروليتاريا بعد ستين سنة من النضالات الثورية الجبارة –بعد تسعة وثلاثين سنة من آخر مرة كتب تروتسكي فيها حول الموضوع- لم تقدم برهانا مقنعا على هذه المقدرة. ولا ينطبق ذلك على قدرتها على القتال بطريقة بطولية وبعض الأحيان معادية للرأسمالية بشكل واضح وثورية، بقدر ما ينطبق على قدرتها على الاستيلاء على السلطة والمحافظة عليها على مستوى جغرافي ممتد بشكل كاف وحيث تتواجد الشروط لبناء عالم اشتراكي.

ولهذا وضع تروتسكي السؤال بشكل معضلة. إما ستبرهن البروليتاريا في العقود القادمة[66] أنها غير قادرة على إعادة بناء المجتمع على قاعدة اشتراكية وعندئذ ستستمر الثورة العالمية بالانحدار –وفي هذه الحالة لا يمكن تجنب تفسخ الحضارة الإنسانية- أو أن السلطة العمالية ستنتصر بعد صعود وهبوط، وبعد بعض الهزائم الجزئية الجديدة وبعض الانتصارات، و تتكرس في بلدان مهمة في العالم، وستنجح الثورة العالمية، وستُبنى الاشتراكية العالمية.

بكلام آخر: كل شيء معلق على طبيعة هزائم الثورة العالمية التي حصلت بين عام 1923 وأوائل الأربعينات –هزائم جزئية أو كاملة، مؤقتة أو نهائية.

كان تروتسكي متشبثا بوجهة نظره حول أن هذه الهزائم جزئية ومؤقتة، وأن الثورة ستصعد مرة أخرى، وأن الدكتاتوريات الفاشية (واليابانية)، والإمبراطوريات الاستعمارية، لم تبقى موجودة خلال فترة الحرب أو الفترة التي تليها مباشرة. ورغم أنه أخطأ في وضع الدكتاتورية الستالينية على هذه القائمة، إلاّ أن رؤيته قد برهنت على العموم عن صحتها: وهي في أي حال أصح بما لا يقاس من رؤية المتشائمين الذين حذفوا الثورة العالمية والبروليتاريا العالمية نهائيا في 39-1940.

هذا، وبينما بقي تروتسكي مقتنعا بأنه سيكون هناك صعود جديد للثورة العالمية –وهي قناعة ليست مبنية على إيمان أعمى بل على تحليل صحيح للتناقضات الموضوعية التي ستدفع الجماهير من جديد في طريق الفعل- لم يكن لديه أدنى وهم حول قدرة حركة جماهيرية عفوية (ولن نقول رغبة القياديين البيروقراطيين للاشتراكية-الديموقراطية و الستالينية) على أن تصل صدفة على نحو أعمى إلى انتصار الاشتراكية العالمية. ومهما تكن الانتصارات الجزئية التي يمكن أن تحققها – وقد أساء تروتسكي بالطبع تقدير المدى الذي يمكن أن تصل إليه تلك الانتصارات في ظل علاقات القوى الاجتماعية والسياسية المحددة لما بعد الحرب- إلاّ أنه لا يمكن أبدا للعفوية الجماهيرية وحدها، ولن نقول الأجهزة الإصلاحية والستالينية المحطمّة لتلك العفوية الجماهيرية والكابحة لها والمقيدة لها، أن تنجز مهمة أساسية كالبناء الواعي للعالم الاشتراكي[67]. يجب أن يكون هناك معدل أعلى لمستوى وعي الطبقة العاملة، معبّر عنه قبل كل شيء بطليعة طبقية عمالية جديدة ومقدامة وماهرة سياسيا، ويتجسد بقيادة ثورية جديدة وأحزاب ثورية جماهيرية جديدة وأممية جماهيرية ثورية.

ومن أجل تسهيل نشوء هكذا طليعة جديدة وهكذا قيادة جديدة، كان من الضروري الدفاع عن الاستمرارية البرنامجية للشيوعية، التي هدّدت الستالينية بتحطيمها كليا. وتلك الاستمرارية لم يكن من الممكن ضمانها فقط عبر الكتب والنشرات والمقالات. كان لابد أن تتجسد في جيل جديد من الكادرات والمناضلين[68].

وعلى مستوى آخر، أدّ عمق انحطاط الاتحاد السوفياتي إلى فقدان الحزب الشيوعي السوفياتي كإطار يمكن أن تصبح البروليتاريا السوفياتية عبره نشيطة سياسيا مرة أخرى. (وهذا النهوض أكيد مهما طالت المدة التي ستستغرقها الطبقة العاملة للشفاء من خيبة أملها التاريخية الكبرى). لقد ماثلت الجماهير السوفياتية الحزب الشيوعي السوفياتي مع البيروقراطية الحاكمة ذات الامتيازات. بالتالي فإن أفق الثورة السياسية قد طرحت ليس فقط مسائل برنامجية وسياسية هامة حاول تروتسكي أن يحلها، بل وأيضا مسألة التنظيم على المستوى العالمي. كيف كان من الممكن ضمان إعادة توحيد البروليتاريا العالمية –بروليتاريا البلدان الرأسمالية التي تواجه عدوا آخر ومهام استراتيجية أخرى، والبروليتاريا السوفياتية؟ إن الأممية الرابعة بحال انكبت فقط على الثورة السياسية في الاتحاد السوفياتي كجزء من الثورة العالمية، فإنها ستصبح عاملا تاريخيا حاسما على المدى البعيد بالنسبة لمستقبل الاشتراكية العالمية.

وهكذا يتبين كيف أن مشروع بناء الأممية الرابعة مرتبط بتحليل موضوعي صرف للاتجاهات الرئيسية في تاريخ القرن العشرين. ويتبع هذا التشخيص بشكل منطقي أن أزمة البشرية هي أزمة القيادة الثورية للبروليتاريا. ولا تنطوي المعادلة المرددة بكثير على صيغة التأكيد فقط بل أيضا، وأهم من ذلك، على سلسلة من عمليات النفي. إننا ننفي أن لا يكون هناك أزمة للبشرية وبأن الفاشية والحرب العالمية الثانية كانتا فقط حادثتين ثانويتين، وبأن الحضارة والتقدم سيزدهران باستمرار حتى ولو لم تقم البشرية بقهر الرأسمالية. إن أزمة البشرية ليست أزمة وصول القوى المنتجة إلى نقطة من الانحدار لم تعد عندها الاشتراكية ممكنة موضوعيا. وأنها ليست أزمة انحدار حادة ومتواصلة لنضالية البروليتاريا، وحيث العمال مندمجون جدا في المجتمع البرجوازي (الآفل) بطريقة لا يمكن معها النظر إليهم بعد الآن كفاعلين للثورة (الذات الثورية). إنها ليست أيضا أزمة الاشتراكية البروليتارية حيث يستبدل فقط العمال شكلا من الاضطهاد (تتولاه بيروقراطية مرتبطة بالمثقفين البرجوازيين الصغار)؟ بشكل آخر.

إن جميع هذه التفسيرات تبدو متماسكة بشكل جيد على ضوء التطورات التاريخية اللاحقة. ويستتبع التحليل تلقائيا أن المهمة الرئيسية هي بناء طليعة ثورية جديدة ورفع نوعي لمستوى الوعي الطبقي للبروليتاريا وقيادتها الطبقية. وإلاّ فإن الموجات التالية للثورة العالمية، التي ستظهر لا محالة، ستفشل في التوجه نحو الاشتراكية العالمية.

عندما دمج تروتسكي بناء الأممية الرابعة بشكل وثيق بما سمي البرنامج الانتقالي (وثيقة تحت عنوان احتضار الرأسمالية ومهام الأممية الرابعة) -وباستراتيجية النضال من أجل مطالب انتقالية- كان شديد الإدراك للظاهرة المزدوجة "لأزمة العامل الذاتي": أزمة القيادة وأزمة الوعي الطبقي للبروليتاريا. انطلاقا من التقليد الماركسي حيث تتضافر الأزمتان بشكل ديالكتيكي، لم يكن على تروتسكي إلاّ أن يرفض الفكرة السخيفة التي تعتبر أن طبقة عاملة تسيطر على أكثريتها الساحقة أفكار إصلاحية يمكن أن "تُجرّ بالحيلة" إلى "صنع الثورة دون أن تحاول هي بشكل فعلي القيام بها". إن الوظيفة الرئيسية للنضال من أجل المطالب الانتقالية هي دفع العمال، من خلال تجربتهم الخاصة، للوصول إلى استنتاج بأنه من الضروري الاستيلاء على السلطة. فالبرنامج هو جسر انتقال بين واقع وعيهم المحدد وبين الوعي الضروري لثورة اشتراكية منتصرة. ويمكن لهذا الجسر أن يُبنى على دعامات صلبة للغاية: حاجات الطبقة العاملة الواعية وانشغالاتها، التي تنشأ عن تناقضات مجتمع الرأسمالية المتأخرة وأزماتها المتتالية، التي يعجز ذلك المجتمع بشكل متزايد عن تلبيتها. إن النضال لتلبية تلك الحاجات عبر تعبئة جماهيرية وعبر نشاط الطبقة العاملة وتنظيمها الذاتي هو الدعامة الأخرى التي توفر للجسر أساساته الصلبة.

إن السمة البشرية أو العددية أو، إذا ما شئنا، التكنيكية للمشكلة قد أكّدها تروتسكي بشكل متواصل في ملاحظاته حول بناء الحزب خلال الفترة بين 1933 و1940. تنشأ في مسار الصراع الطبقي بشكل تدريجي عناصر طليعية وتصبح مسيسة ضمن صفوف البروليتاريا. وفي فترات الانفجارات الجماهيرية الكبيرة، غالبا ما تبرز طليعة طبقية عمالية جديدة لقيادة الطبقة العاملة على مستوى المعمل. لكن لا تصل عناصر هذه الطليعة بشكل عفوي إلى برنامج ثوري صحيح وشامل.

إن هكذا اندماجا –وهو النقطة الأساسية والحاسمة في بناء الأممية الرابعة! - يتطلب من بين ما يتطلبه تدخلا تكتيكيا صحيحا من قبل النواة الثورية في نضالات الحركة العمالية والطبقة العاملة الجماهيرية ونقاشاتها. ويتطلب أيضا أن يصل "التراكم البدائي للكوادر" إلى عتبة فاصلة تتخطى وضع التجمعات التي يُنظر إليها من قبل الطبقة العاملة كتجمعات ناقدة للأحزاب الإصلاحية إلى وضع تبدأ معه الطبقة العاملة بالنظر إلى تلك التجمعات كبدائل جديرة بالثقة. إن هذا التحليل مبني على الطابع العملي للمنظمات العمالية في نظر الطبقة. ذلك لأن الطبقة لن تتخلى عن أداة متشققة جزئيا وغير فعالة لصالح سكين جيب بالغ الصغر. إن حدّا أدنى من الفعالية يجب أن يتوفر في الأداة الجديدة قبل أن تحل محل الأدوات القديمة.

وعندما لا يقدم هكذا بديل جدير بالثقة نفسه –وهو بديل لا يحمل فقط برنامجا وخطا سياسيا صحيحا، بل أيضا قوة تنظيمية كافية- فإن القدرة الهائلة للنضالية النقدية وسط الشرائح الطليعية للطبقة العاملة ستتشتت بشكل واسع بعد كل موجة من النضال. وهذا بدوره سيخلق مصاعب إضافية أمام بناء أحزاب ثورية جديدة وأممية ثورية جديدة.

لقد أخطأ تروتسكي في تشخيصه لمستقبل الأممية الرابعة في موضوعتين ثانويتين. وهو أمر مستغرب لأنه كان من الممكن أن يجنب تحليله العام هكذا أخطاء جاءت على عكس الاستنتاج الذي وضعه. كان الخطأ الرئيسي في اعتقاده أن الأممية الرابعة ستنمو بسرعة في نهاية الحرب العالمية الثانية –وهو توقع لم يأخذ بالاعتبار التأثير التخريبي للعشرين سنة من الهزائم غير المتقطعة للثورة على معدل مستوى الوعي الطبقي. لقد أصاب في توقعه أن وقتا طويلا سيمضي قبل التغلب على هذه التأثيرات في إيطاليا وألمانيا وروسيا وإسبانيا. لكنه وضع هذا التوقع في حكم الغياب إلى حد ما عندما تناول شأن البروليتاريا العالمية بكليتها. وحول هذا الأمر كان مخطئا دون ريب. كان من المستحيل موضوعيا على الأممية الرابعة أن تشهد بعد الحرب العالمية الثانية نموا سريعا مماثلا لما شهدته الأممية الشيوعية بعد الحرب العالمية الأولى. وستبرهن هذه العملية على أنها أكثر طولا وأكثر تناقضا بكثير.

أما الخطأ الآخر لتروتسكي فكان افتراضه بأن حكم ستالين لن يستمر لنهاية الحرب. إلاّ أنّ تروتسكي، وخلافا للتفسير الخبيث، لم يكن متشائما حول ما سيحل بالاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية[69]. كان مقتنعا بأن الاتحاد السوفياتي سيبرهن عن أنه أكثر تفوقا من روسيا القيصرية ومن أخصامه الإمبرياليين أيضا، وذلك على صعيد تماسكه الاجتماعي-السياسي كما على صعيد المرونة في توزع المواد الصناعية من أجل الدفاع الذاتي. وبينما تخوف من أن يضعف سوء الإدارة البيروقراطية والاستبدادية والإرهاب المستمر من هذا التفوق –وهو أمر لا يمكن لأي تحليل موضوعي لما حصل فعلا في روسيا في فترة 41-1944 إلاّ أن يؤكده[70]- مال بشكل صحح نحو الاستنتاج بأن النظام الاجتماعي المتوفق سيكون المنتصر على المدى البعيد. رغم ذلك، وبتناقض أساسي مع بعض أسس تحليله الكلي، شبك تروتسكي خطين في التفكير بعنقود واحد. وبالضبط، لكون صعود الثورة العالمية، الذي لا بد أن يحصل في فترة ما بعد الحرب، لن يؤدي بسرعة وبعفوية إلى الانتصار، فإنه سيكون صعودا ثوريا جزئيا فقط. وبالضبط لأن الثورة ستكون فقط جزئية، لم تكن الإطاحة السريعة بالديكتاتورية الستالينية -أي بمعنى آخر صعود جديد للبروليتاريا الروسية- أكيد بأي طريقة من الطرق.

وبالتالي فإن ما حصل فعلا بعد الحرب العالمية الثانية عملية اعقد بكثير مما صاغه تروتسكي في بعض توقعات قويّة. إنها عملية ستتضمن: انتصارات جزئية وهزائم جزئية للثورة العالمية؛ استقرارا مؤقتا للرأسمالية في البلدان الإمبريالية والحكم البيروقراطي في الاتحاد السوفياتي وفي "حزام أمنه" الجديد؛ إضعافا لذلك الاستقرار عبر التناقضات الداخلية والانتصارات الجزئية للثورة العالمية (منها مثلا انتصار الثورة الصينية التي هزت تجربتها العالم، رغم مجيئها مبقرطة منذ البدء)؛ أزمة مركبة متنامية للمجتمع البرجوازي والستالينية بدأت في ماي/(أيار) 1968 وربيع براغ وأدّت إلى صعود جديد ومتسارع للثورة العالمية. إلاّ أننا نتخطى هنا تحليلنا لماركسية تروتسكي، كما ينبغي تسميتها[71].

إن ما يتعلق بماركسية تروتسكي وبنضاله من أجل الأممية الرابعة، هو التقاء جميع خيوط رؤاه التاريخية في الجزء النهائي من حياته على: إرادة الاستمرار في النضال لأن نتيجته التاريخية مازالت غير محسومة بعد. فمازال غير محسوم بعد ما إذا كانت ستنتصر البربرية أو الاشتراكية. ومازال غير محسوم ما إذا كانت الثورة العالمية ستهزم مرة أخرى أو أنها ستنتصر أخيرا. ومازال غير محسوم ما إذا كان المجتمع السوفياتي الذي يقف في منتصف الطريق بين الرأسمالية والاشتراكية سيخلق أشكال استغلال جديدة يمكن إنتاجها تاريخيا أو أن البروليتارية السوفياتية ستقوم، بمساعدة صعود البروليتارية العالمية بتكنيس بقايا الستالينية المقرفة. وما زال غير محسوم ما إذا كان انحطاط الستاليني للاتحاد السوفياتي سيعيد نفسه في جميع الثورات المنتصرة الجديدة (على الأقل ما دامت تحصل في بلدان متخلفة نسبيا)، وما إذا كانت الثورات الاشتراكية ستبدي –أو لا تبدي المقدرة على النقد الذاتي والتصحيح الذي علق عليه ماركس آمالا كثيرة. وما زال غير محسوم ما إذا كانت البروليتاريا ستبرهن عن قدرتها على بناء مجتمع لا طبقي بمستوى من الحضارة الإنسانية والحرية يتخطى بكثير أي شيء أوجدته الرأسمالية في أكثر أيامها ازدهارا.

لقد عنى النضال من أجل الأممية الرابعة بالنسبة لتروتسكي التدخل النشيط في الصراعات الطبقية والمعارك السياسية الراهنة للمساعدة على حل تلك المعضلات لصالح الطبقة العاملة ولصالح التقدم البشري ومصالح البشرية بأشمل ما في الكلمة من معنى. ويمكن للتاريخ فقط أن يقرر ما إذا كان هذا المسعى واقعيا أو طوباويا. عسى ان يكون واقعيا، وإلاّ فإن مستقبل الجنس البشري سيكون مظلما لا محالة. ----- الفصل الحادي عشر

الاشتـــراكيــــة
كان ماركس وانجلس يمتنعان دوما عن وصف ما سيكون عليه مجتمع لا طبقي، مدركين أن طبيعته هي على الأقل مشروطة جزئيا بالظروف التي ينشأ عنها. إلاّ أن ممانعتهما كانت نسبية فقط، حيث تضمنت كتاباتهما ملاحظات عديدة أظهرت سمات جوهرية للاشتراكية. وإذا ما أخذنا بالاعتبار هذه السمات –وأهمها غياب الإنتاج البضاعي- فسيكون من الواضح أن تلك البلدان التي للبيروقراطية السوفياتية والرأسمالية الغربية مصلحة مشتركة في تسميتها "اشتراكية" أو "بلدان الاشتراكية الفعلية الموجودة" ليس باشتراكية أبدا. فعندما كان ماركس وانجلس يتكلمان على الشيوعية "كحركة واقعية تتغلب على الظروف السائدة"- في معارضة المفهوم المثالي (الطوباوي) "لتحقيق المشروع الإشتراكي"- كانا يستعملان عبارة "الظروف السائدة" بأوسع وأشمل ما في العبارة من معنى (جميع الظروف الواقعية للمجتمع البرجوازي) وليس في معنى ضيق للتملك الخاص لوسائل الإنتاج.

لقد دعم تروتسكي التقليد الكلاسيكي هذا للماركسية بمعارضته القوية للأسطورة الستالينية حول أن "الاشتراكية" قد تحققت في روسيا في فترة 35-1936. إن قهر الملكية الخاصة في وسائل الإنتاج شرط مسبق ضروري لكن غير كاف لوجود المجتمع الاشتراكي. وفهم تروتسكي منذ البداية أن الستالينية قد جلبت الكثير من الأذى الأيديولوجي والسياسي لقضية الشيوعية بتعريفها روسيا وبلدانا أخرى أطيحت فيها الرأسمالية "كبلدان اشتراكية" ("الاشتراكية الفعلية الموجودة"). وفقط اليوم بدأ يتضح بالنسبة لألوف الشيوعيين بأن "عدم المساواة الاشتراكية"، و"معسكرات التجميع الاشتراكية"، و"الحروب بين البلدان الاشتراكية" هي فظاعات مفاهيمية توفر للإمبريالية أكثر ذخيرة مضادة للاشتراكية قوة[72].

هذا وكلما طالت فترة احتضار الرأسمالية، وكلما طال أمد تعايش الرأسمالية الآفلة مع المجتمعات المبقرطة المنتقلة من الرأسمالية إلى الاشتراكية (أو كما عادلها باهرو بشكل ماهر، "مجتمعات ما بعد الرأسمالية وما قبل الاشتراكية")، كلما أصبح تحفظ الماركسيين، حيال توضيح ما ستكون عليه الاشتراكية فعليا وكيف ستختلف ليس فقط عن المجتمعات الرأسمالية المتقدمة لكن أيضا عن الشكل السائد في الاتحاد السوفياتي، عائقا سياسيا أكبر للثورة العالمية. فبينما لا يزال الواقع الاجتماعي للاتحاد السوفياتي وكوبا والصين يُمارس بالنسبة لشعوب البلدان النامية قوة جاذبية محددة، لا تنطبق هذه الحال بأي شكل على عمال البلدان الإمبريالية لأمريكا الشمالية وأوروبا واليابان. فلقد تغيرت الأوضاع كثيرا في هذا المجال منذ الثلاثينات وأوائل الأربعينات، عندما كان العكس لا يزال صحيحا.

يجب بالتالي أن يتم تحليل طبيعة الاشتراكية، المرحلة الأولى في المجتمع أللا طبقي، بدقة أكثر مما كانت عليه العادة في الحركة العمالية الاشتراكية قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها. وحيال هذه المهمة النظرية الهامة الجديدة، كان تروتسكي مرة أخرى رائدا سبق عصره على الأقل بعقدين.

إن أحد الأسباب التي تجعل من هذه المهمة أكثر سهولة مما كانت عليه زمن ماركس وانجلس، أو حتى زمن الاشتراكيين-الديموقراطيين الكلاسيكيين، يكمن في النضج ذاته لظروف نشأة مجتمع اشتراكي. فتطور القوى المنتجة؛ وازدياد عدد المأجورين وثقلهم الاجتماعي وتجانسهم النسبي في مجموع السكان الناشطين في البلدان الإمبريالية المتقدمة؛ والانقلاب الجذري في العلاقات بين العمل الذهني والعمل اليدوي؛ وزيادة الإدراك للعلاقات المتبادلة بين البلدان النامية والبلدان المتطورة والمشاكل التي طرحها في إطار الاشتراكية جميع تلك المنجزات المادية والذهنية لنصف القرن الأخير جعلت من الأسهل وضع "نموذج اشتراكي" (نستعمل هذا التعبير بتحفظ كبير لعدم وجود تعبير أفضل) مما كان عليه الأمر زمن انجلس أو بيبل أو لينين.

إن الصورة التي ستكون عليها الاشتراكية قد توضحت بطريقة سلبية وإلى حد كبير من خلال مثلين بارزين هما المساران المأساويان لكل من الثورتين الروسية والصينية. وهذا ما يسهل أمام الماركسيين الثوريين أن يقولوا بشكل بات ما ليست عليه الاشتراكية. وبالتالي فالاشتراكية ليست ولا يمكن أن تكون مجتمعا يبقى _أو حتى يزيد- الفروقات الكبيرة في المداخيل والبضائع الاستهلاكية، وفي التعليم العالي والإعلام ومراكز السلطة السياسية والاجتماعية. الاشتراكية لا يمكن أن تكون مجتمعا تؤخذ فيه القرارات التي تتعلق بالأولويات الاجتماعية وبالاتجاهات العامة للتطور الاقتصادي من قبل عدد قليل من الناس، بدل أن تؤخذ من قبل جمهور السكان بعد سجال ديموقراطي علني حول اقتراحات وحلول بديلة. الاشتراكية لا يمكن أن تكون مجتمعا ما زال الإنتاج البضاعي والمال فيه يؤثران بشكل حاسم على التصرفات الفردية والجماعية –مع جميع النتائج التي تتأتى عن ذلك. الاشتراكية ليست ولا يمكن أن تكون مجتمعا تقيّد فيه إمكانيات نشر الأدب وخلق الفن وتطوير حر للبحث العلمي وممارسة الحريات المدنية بشكل عام أكثر مما في ظل البرجوازية الديموقراطية. الاشتراكية ليست ولا يمكن أن تكون مجتمعا تقمع فيه الانحرافات الفردية عن "قاعدة السلوك الاجتماعي الموضوعة" بقوة أكبر مما في ظل الرأسمالية المتقدمة[73].

لقد قام تروتسكي تدريجيا، وبالأخص بعد أن تم نفيه من الاتحاد السوفياتي، ولكن جزئيا خلال العشرينات، بتقديم نماذج عن الواقع الاشتراكي في حقول عديدة من الحياة الاجتماعية. وسنتجنب هنا عن قصد تتبع فكره في حقول متخصصة كالأدب والخلق الفني، لنركز على المزايا الرئيسية للاشتراكية في حقول الاقتصاد والتنظيم السياسي والثقافة والعلاقات بين تجمعات إنسانية مختلفة لا طبيعة طبقية لها: العلاقات بين النساء والرجال، وبين الشبيبة والراشدين، وبين القوميات المختلفة.

لقد أُتهم تروتسكي مرارا بمناصرته لمفهوم ساذج عن "وفرة" البضائع المادية –وبالمناسبة قيل أن تروتسكي قد شارك في هذا المفهوم كلا من ماركس وانجلس. إن الإشارة إلى "عدم إمكانية الوصول إلى الوفرة" كالحجة الأخيرة ضد الاشتراكية –الشيوعية- التي كانت معروفة جيدا في القرن التاسع عشر!- قد تدعمت مؤخرا على يد أتباع "مدرسة النمو المجمد" ومن قبل علماء البيئة الذين يناقشون بأنه مع وصول عدد سكان الكرة الأرضية إلى 10-12 مليار نسمة تصبح وفرة البضائع المادية أما كارثة بيئوية أو استحالة طبيعية.

وقد رد تروتسكي على هذه الاعتراضات بشكل مسبق بتفسيره أن مفهوم "الوفرة" لا يعود بشكل ميكانيكي إلى مستوى الإقتصاد فقط، بل هو على الأكثر مفهوم سوسيولوجي –بسيكولوجي، تحدده بالطبع شروط مسبقة مادية . انه ما أن يتم استيعاب عادة توزيع البضائع والخدمات الأساسية حسب الحاجة من قبل جميع أعضاء المجتمع ، حتى نصل فورا إلى نقطة إشباع، وحتى من الممكن عمليا أن ينحدر الاستهلاك (أو على الأقل أن يستقر). ويتناول تروتسكي المثل البسيط للعادات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة في مطاعم مرموقة وفنادق حيث يوجد السكر مجانا على الطاولات إن هذا الأمر لا يؤدي على الإطلاق إلى ارتفاع حاد في استهلاك السكر –بل على العكس.

والآن يمكن أن نقول، متوسعين في حجج تروتسكي، بأن العادات الاستهلاكية لفئة المداخيل المرتفعة في المجتمع البرجوازي المتقدم قد أكدت التوقع الماركسي بأنه عندما نصل إلى نقطة الإشباع، يميل الاستهلاك إلى الإنحدار ليس فقط تبعا لوظيفة قانون انجلس، بل والأهم لأن الأولويات قد تنقلب بشكل جذري. فالمحافظة على الصحة والراحة تحل بشكل متزايد محل التراكم التافه للبضائع المادية[74]. ويمكن أن نناقش رغم أن الأمر قد يبدو متناقضا، إن المجتمع البرجوازي واقتصاد السوق، مع ما يستتبعان من دعاية مسعورة لتوسيع السوق أمام مزيد من البضائع عديمة الفائدة، يجعلان الناس أكثر كبتا بشكل دائم ويرفعان الاستهلاك أعلى من المستوى الموازي له في نظام توزيع اشتراكي معتمد على بضائع وخدمات مجانية.

وقد أكد أيضا تروتسكي على أن اختيارات الاستثمار الأساسية في كومنولث اشتراكي ستكون أقل اعتمادا على تقسيم الموارد بين استهلاك واستثمار منها بين بدائل تكنولوجية. وفي عام 1926 كتب يقول: "إن التكنيك القديم في الشكل الذي ورثناه غير مناسب كليا للاشتراكية. يجب أن يميل التنظيم الاشتراكي للاقتصاد باتجاه تقليص الإرهاق البدني بالنسبة للعامل، بالتماشي مع زيادة القوة التكنيكية مع المحافظة في الوقت نفسه على تنسيق جهود مختلف العمال. إن ذلك سيكون معنى الناقلة الاشتراكية، في مقابل الرأسمالية… إنه من الضروري استئصال العوز ونزعة الكسب التي تنشأ عنه. يجب تأمين الوفرة والراحة والفرح في الحياة للجميع. ولا يمكن الوصول إلى مستوى عال من إنتاجية العمل دون المكننة والأتمتة التين يشكل حزام الناقلة تعبيرهما الأكمل. لكن يمكن الحد من الروتينية في العمل بتقليص زمن العمل والعبء الذي يفرضه… وستبقى الخاصة الأساسية للإنتاج هذه موجودة في الفروع الرئيسية للصناعة لحين انبثاق ثورة في مجالي الكيمياء والطاقة وتعديها المستوى الحالي للمكننة"[75]. ومؤخرا أحدثت الحملة التي قام بها البيئويون ضد تشغيل محطات الطاقة النووية وانتشارها، وهي ضمن حيز مستوى من الأمان غير كاف حاليا، أحدثت نقاشا يؤكد بشكل صارخ هذا التوقع ويسير في الإتجاه نفسه أيضا النقاش الأعم حول "البدائل التكنولوجية"، الذي أطلقه رفض العمال المتزايد للتيلرية( والإنتاج القائم على حزام الناقلة وبشكل أعم تنظيم العمل المتعارض مع رقابة عمالية حقيقية.

وفي برنامج تروتسكي حول الثورة السياسية في الاتحاد السوفياتي بقي عند معادلته القائلة برقابة عمالية معممة من قبل لجان المصانع على الإدارة الصناعية. لكن في كتابات أخرى (مثلا، حول مستقبل الولايات المتحدة) طرح بشجاعة فكرة التسيير الذاتي من قبل المنتجين في البلدان الصناعية.

فهناك ارتباط مباشر بين تروتسكي لسوء الإدارة والهدر والاعتباطية البيروقراطية في الاقتصاد السوفياتي، وبين رؤيته للديموقراطية الاشتراكية كضمان لتخطيط اقتصادي متجانس وحماية مؤسسية في وجه صعود أشكال جديدة من التفاوت الاجتماعي. ورغم أنه كان على إدراك تام بأن للبيروقراطية جذورها في الندرة – "نضال الجميع ضد الجميع" لتقسيم البضائع الاستهلاكية، والحاجة إلى حكم لاختيارات اقتصادية صعبة، وغير ذلك –فقد فهم أيضا السمة المؤسسية للمشكلة. فمن أجل كسر الاحتكار البيروقراطي للسلطة الاجتماعية والسياسية، وللخلاص من رقابة الدولة على فائض الإنتاج الاجتماعي، هناك ضرورة لتطورات إيجابية. يجب خلق مؤسسات وإطارات يستطيع جمهور المنتجين من خلالها ممارسة السلطات المغتصبة من قبل البيروقراطية الروسية.

وفي هذا السياق، عاد تروتسكي إلى اعتقاده القديم بأن أدوات التنظيم الذاتي –السوفياتات، مجالس العمال- تمثل الأدوات الأكثر مرونة التي خلقها التاريخ للآن لحل هذه المشكلة. لكنه أكد بوضوح بأنه لكي لا تتحول السوفياتات إلى هياكل فارغة، يجب أن تترافق مع مؤسسات تضمن في الحياة الواقعية صعودا حادا للنشاط السياسي والمبادرة السياسية والاجتماعية من جانب جمهور العمال. وهذا يمكن أن يكون فقط نظام تعددية الأحزاب مقابل الحزب الواحد، وحرية حقيقية للصحافة (بما في ذلك الأحزاب المعارضة) مقابل احتكار الإعلام من قبل الكتلة القائدة للحزب الواحد، أي الحكومة[76].

هل يمكن أن نلقى في مقالات تروتسكي الصريحة والواضحة حول هذه الأمور في فترة 1933 و1940 عنصر نقد ذاتي (حتى ولو أنه غير معلن جهارا أو شبه واع) فيما يتعلق بمواقفه الداعمة للإجراءات التي اتخذت في الاتحاد السوفياتي سنة 20-1921؟ إنه من الصعب الإجابة عن هذا السؤال. لقد نمت بشكل تدريجي مواقف تروتسكي حول الأحداث في روسيا من خلال تقويم مركب على ثلاثة مستويات مختلفة. هل كان الإجراء المحدد إجراءً لا يمكن تجنبه في الوقت الذي أتُّخذ فيه؟ هل كانت له نتائج إيجابية على المدى البعيد بالنسبة للثورة الروسية والطبقة العاملة؟ هل هو مثل يُحتذى به لثورات بروليتارية أخرى، أو حتى يمكن أن يكون قاعدة عامة؟ لقد مال تروتسكي إلى الإجابة "بنعم" عن السؤال الأول وبـ"لا" عن السؤال الثاني والثالث. ومن الواضح أن الجواب ب "لا"عن السؤال الثاني، الذي ما فتئ يزداد وضوحا، له دلالته بالنسبة للسؤال الأول، الذي لم يجد تروتسكي متسعا من الوقت لتفصيله بشكل منظم، رغم أن المرء يشعر عند قراءة كتاباته أنه على إدراك فعلي للمشكلة.

ويمكن أن نبين وجه الخلاف بين نظام تعددية الأحزاب، بالمعنى التقليدي للتعبير، بالنسبة لفترة الانتقال بين الرأسمالية والاشتراكية (لدولة عمالية بظل ظروف مؤاتية أكثر مما في الاتحاد السوفياتي)، وبين نظام تعددية الأحزاب في ظل الاشتراكية بالمعنى الصحيح للكلمة. عند تناول الأخيرة استعمل تروتسكي معادلات مختلفة لمعالجة المشكلة، حيث أنه يرتبط مفهوم الأحزاب بالنسبة للماركسيين بطبقات وشرائح طبقية. وفي كومنولث اشتراكي، الذي هو حسب التعريف مجتمع لا طبقي، فإن هكذا ارتباطا لا يعود مناسبا. سنشهد بالتأكيد تشكل تجمعات وانشغالها في نقاشات علنية من خلال أجهزة الإعلام وبمشاركة جماهيرية، حول البدائل التكنولوجية وبدائل مدارس فنية ومعمارية وثقافية، وبدائل لنظام النقل، وبدائل برنامجية لتطوير البلدان النامية، وبدائل برنامجية حول الاتصالات ما فوق الغطاء الجوي وبدائل لأنظمة التعليم. وبالطبع ستزهر هذه الأمور في ظل الاشتراكية وتتخطى أي شيء ندركه، أو حتى نستطيع تخيله على أساس التجربة الماضية. إذا كان من الصحيح تسمية هذه التجمعات أحزابا فمسألة فيها نظر.

ورغم وقوف تروتسكي بشكل متزايد إلى جانب التعددية السياسية، كان تأكيده على الدور المهم للتعددية الثقافية والعملية أقوى حتى من ذلك. وجاءت كتاباته تحذيرا تنبؤيا ضد قضية ليسنكو المأساوية والتجارب الأخرى المماثلة في الاتحاد السوفياتي، ورائدة للنقاشات التي بدأت في الاتحاد السوفياتي وفي أماكن أخرى بعد ربع قرن أو أكثر. إن أي خنق للحياة الثقافية سوف ينتزع ثمنا باهظا في البناء الاشتراكي، فهو لن يجمد أو يزيد فقط من التخلف النسبي أو يخنق القدرات الخلاقة، بل حتى سيقلص النمو الاقتصادي للثروة بأكثر ما في الكلمة من معنى مباشر ومادي. فذلك يفرض تضحيات غير ضرورية يمكن تجنبها ستزيد من سخط وضعف معنويات أوسع الجماهير – وهي عملية يمكن أن تفقد المجتمع الجديد استقراره وتسلم أسلحة جبارة لأعدائه.

كان تروتسكي مدركا بشكل متزايد أيضا بأن التحول الثوري له تأثيره المختلف والمركب على البنى التحتية الاجتماعية وعلى مختلف مستويات البنى الفوقية الاجتماعية. وكونه ماركسيا وليس مثاليا طوباويا، فقد رفض الوهم الإرادي بأن "الرجل الاشتراكي" يمكن أن يُخلق بينما الناس ما تزال تجر عربة يد ملأى بالسماد كجزء من نشاطها الاقتصادي الرئيسي. لكن لكونه ماركسيا وليس ميكانيكيا اقتصاديا جبريا، رفض بالعناد نفسه الوهم القائل بأن "تطور القوى المنتجة" كاف لنشأة "الرجل الاشتراكي" كامل التطور من بين "وفرة المعدات الآلية والبضائع المادية"ـ، كما نشأت مينرفا من رأس جوبيتر. إن أحد إغناءاته الرئيسية للماركسية كان بالضبط فهمه للطابع غير المتزامن لسلسلة كاملة من العمليات الاجتماعية. كان بالتالي يقضا بشكل كامل حيال واقع أنه بعد فترة طويلة من اختفاء التملك الفردي لوسائل الإنتاج، وربما حتى بعد اضمحلال الإنتاج البضاعي والمال، ستبقى موجودة بقايا التمييز الجنسي واضطهاد الأولاد والعنصرية الشوفينية الوطنية وجميع أشكال الاجحافات الأخرى في وعي البشرية. وبالتالي كان من الضروري أن يُشن نضال لا يلين ضد تلك الأشكال المتخلفة من التفكير والشعور، تلك المعيقات الرئيسية على طريق بناء الرجل الاشتراكي.

هل يوجد هناك أي عنصر طوباوي أو عقيدة ألفية( في هكذا تصور؟ نحن لا نعتقد ذلك. فعند تفحص قريب، يتضح أن هذا التصور ليس نتاج خيال جامح، بل تقدير لاتجاهات موجودة سلفا في ظل أكثر الظروف مؤاتاة للتطور الرأسمالي. ويترافق مع تلك التقديرات بشكل دائم تقييدات اقتصادية (مادية) واجتماعية وثقافية، يُعبِّر عنها في معادلات من مثل: هذه الإمكانيات يمكن أن تتحقق فقط بحال يتطابق أ مع ب ومع ج.

إن نهجا كهذا مسموح به تماما من وجهة نظر عملية. وهو مفيد بشكل خاص في تتبع المعضلة التاريخية للبشرية إلى نتيجتها النهائية. فوراء المعضلة، "إشتراكية أو بربرية"، يوجد بالطبع تشخيص بأن هكذا تطورات اشتراكية قد أصبحت ممكنة موضوعيا. وأن يتم تشويش النقاش حول تلك الإمكانات مع إجراء نقاش حول شروط تحقيقها، يعني في الواقع التعتيم على الموضوع: جعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لاختيار واع للبشرية حول مستقبلها بالذات، أو يعني أن هكذا اختيارا مستحيل وأن البشرية واقعة في شرك الخراب وطريق الكارثة.

إنه لأمر مهم أن يعود تروتسكي في لحظات مختلفة عند نهاية حياته إلى إحدى الظاهرات العامة للاشتراكية: إلى واقع أنها مجتمع ليس فقط بدون استغلال واضطهاد، لكن أيضا مجتمع خال من العنف الاجتماعي. ومن بين مجمل تصوراته، يمكن أن يكون تصوره هذا هو الأكثر أهمية وبعدا في المدى بالنسبة لجيلنا، الذي يعيش ليس فقط بدرجة من العنف الجماهيري الدائم تخطت كل ما مر في الماضي، لكن أيضا في ظل خطر الإبادة النووية للبشرية. ومن جديد يرد الشكوكيون ضيقوا الأفق –من نوع "الفيلسوف الجديد"-: "أي شيء آخر هو طوباوي لأن العنف منغرس في "الميل الهجومي" ذاته (أمنية الموت) الذي ورثه عقلنا غير الكامل من ماضيه الحيواني". إنهم كما يبدو لا يفهمون ما يتكلم عليه تروتسكي والماركسيون الثوريون الآخرون.

في كومنولث اشتراكي يمكن للبشرية أن تكبح العنف ببساطة بإنهائها لإنتاج السلاح وتحطيمها لكل سلاح –وهو إجراء يمكن فقط أن يكون ذا تأثير دائم إذا كان هناك امتلاك جماعي على الصعيد العالمي لوسائل الإنتاج- وقرارات جماعية حول طريقة استعمالها. بصراحة، يمكن أن نتعلم العيش مع فكرة أن مليارات البشر يمكن أن تتذمر بالسهام والرماح أو البراجم المصنوعة من قبل أفراد مفسدين غير قادرين على السيطرة على دوافعهم الهجومية. لكن ما إذا كنّا سنستطيع العيش مع مستودعات الأسلحة ومع أسلحة نووية، ومتفجرات "كلاسيكية" تعادل قوتها النارية قنبلة هيروشيما أ. والمعدات العصرية للمنشآت الصناعية العسكرية، هو أمر يدعو، على الأقل، للشك. ويبدوا أن الشكوكيين أخصام "الورع الماركسي" يفتقدون للشك بقدر ما يفتقدون للخيال والتحليل العقلاني.

لقد قال ماركس بأن البشرية تطرح على نفسها فقط مهام تكون قادرة على حلها. لكنه لم يقل في أي مهلة من الزمن. وقد أخطأ تروتسكي في بعض تقديراته الزمنية كما فعل لينين وانجلس وماركس قبله. لكن ذلك لا يقلل من قيمة التصورات ذاتها، التي تعتمد كما كانت على التأليف Synthesis العلمي للتناقضات والميول الرئيسية في عصرنا. لقد طرحت البشرية على نفسها مهمة التحول الاشتراكي للمجتمع العالمي. وكانت ثورة أكتوبر الاشتراكية، التي لعب فيها تروتسكي دورا عمليا حاسما، برهانا في الممارسة على أن المشكلة قد بدأت تُحل. وستنظر الأجيال القادمة إلى مساهمات تروتسكي النظرية كأمور لا تقل حسما في الحل النهائي لتلك المشكلة. وستكون بذاتها مساهمات أساسية في الحل العملي أيضا. فمن كان تروتسكي غير الاستراتيجي الرئيسي لنظرية الثورة العالمية والاشتراكية العالمية، ولممارستهما أيضا؟.


--------------------------------------------------------------------------------

الملاحظات
( ثورة قام بها الفلاحون الفرنسيون عام 1358م.

[1] تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية، لندن 1967، ص13-14.

[2] "إن الماركسيين لمقتنعون تماما بالطابع البرجوازي للثورة الروسية. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الاصلاحات الديموقراطية في النظام السياسي والإصلاحات الإجتماعية والإقتصادية التي أصبحت ضرورة في روسيا لا تعني بحد ذاتها إضعافا للنظام البرجوازي، لا بل على العكس إنها ستمهد الطريق لأول مرة اتطور رأسمالي واسع وسريع على الطراز الأوروبي وليس الآسيوي" (لينين، "تكتيكان للإشتراكية الديموقراطية في الثورة الديموقراطية"، الأعمال الكاملة، المجلد 9، موسكو 1962. ص48)

[3] البلدان المتخلفة نسبيا، لكن بالطبع ليس جميع البلدان المتخلفة. إن حدا أدنى من القوة العددية ومن تمركز التنظيم والوعي والتجربة في النضال الجماهيري هو أمر لا بد منه لكي تصبح المعادلة قابلة للتطبيق.

[4] أنظر من بين مؤلفات: ليون كريتزمان، الفترة البطولية للثورة الروسية العظمى، فرانكفورت 1971، ص 66-68. ر. لورنز، اختيارات السياسة الاقتصادية للسلطة السوفياتية في ربيع وصيف 1917، في الكتب السنوية لتاريخ شرق أوروبا، 15/1967، ص 218-221، يقوم بتعداد المصادرات العفوية للمصانع من قبل العمال. أنظر أيضا أوي برغمان، النقابات والثورة، النقابات الروسية 1917-1919، فرانكفورت 1972.

[5] في سجال مع باكونين في الفترة بين1874-1875 تصور ماركس بالضبط هكذا حدثا: "إن الثورة الاجتماعية الجذرية تعتمد على ظروف تاريخية محددة لتطور اقتصادي كشرط مسبق لها. وهي فقط ممكنة حين تحتل البروليتاريا الصناعية ضمن الإنتاج الرأسمالي على الأقل مركزا هاما بين جمهور الشعب. ومن أجل أن يكون لها فرصة الانتصار يجب أن تكون قادرة أن تحقق فورا للفلاحين قدر ما حققته البرجوازية الفرنسية في ثورتها (مع فارق الفترة التاريخية) من أجل الفلاحين في ذلك العصر". (ماركس، "نظرية عامة حول الدولانية والفوضوية لباكونين"، في الأممية الأولى وما بعدها، باليكان/ ن.ل.ع. 1974، ص334).

[6] في إحدى حججهم الرئيسية ضد تروتسكي يتهم ستالين والستالينيون تروتسكي "بنفي" (أو الإقلال من تقدير) القوى الداخلية للبروليتاريا الروسية (أو الثورة الروسية). لكن كيف يمكن لأحد أن يجمع بين تهمة "الإقلال من التقدير" مع حقيقة أن تروتسكي كان أول من طرح استلام هذه البروليتاريا السلطة بنفسها؟ حول اعادات حديثة لهذه الحجة أنظر كوستاس مافراكيس، حول التروتسكية، لندن 1976، ص25-40.

[7] لينين حول تروتسكي، فرانكفورت 1969، ص 9.

[8] أنظر بيان المؤتمر الطارئ للأممية الرابعة في ماي/ ايار 1940: "وبسبب ما خلقه الحرب من مصاعب ومخاطر جمة للمراكز الإمبريالية تفتح إمكانات واسعة أمام الشعوب المضطهدة. إن لعلعة المدافع في أوروبا تبشر بالساعة القادمة لتحررها… وفقط النضال الثوري والعلني للشعوب المستعبدة يمكن أن يمهد الطريق أمام انعتاقها… إن آفاق الثورة الدائمة لا تعني أبدا أن على البلدان المتخلفة أن تنتظر الإشارة من البلدان المتقدمة، أو ان شعوب المستعمرات عليها أن تنتظر بصبر بروليتاريا المراكز الإمبريالية لتقوم بتحريرها. إن المساعدة تأتي للذي يساعد نفسه. وعلى العمال تطوير النضال الثوري في كل بلد، أكان مستعمرا أو إمبرياليا، حيث توجد الظروف الملائمة، ومن خلال ذلك يقدمون مثلا للعمال في البلدان الأخرى (كتابات ليون تروتسكي 1939-1940، نيويورك 1973 ، ص202-206).

[9] لقد أُتهم تروتسكي خطأً بأنه كان يرغب في الحرب عمليا، وذلك بسبب امتلاكه بشكل خاص لنظرة ثاقبة حول هذه العلاقة بين الحرب والثورة. وقد أشار منذ عام 1915 إلى أنه رغم أن الحروب يمكن أن تسرّع أو أن تركد الثورات، فإنها ستفعل ذلك ضمن شروط أكثر سلبية من شروط عملية ثورية تنضج في سلم عالمي. وخلال تحقيقات لجنة دوي للتحقق من محاكمات موسكو، أعطى تروتسكي ردا باتا على هذا النوع من التهم.

[10] لينين، "الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية"، في الأعمال الكاملة جزء22، ص300.

[11] إذا ما افترضنا –ولنفترض ذلك للحظة- بأن الطبقة العاملة ستفشل في الصعود ضمن النضالات الثورية وستسمح للبرجوازية بأن تتحكم بمصير العالم لعدد كبير من السنوات، لنقل حقبة أو حقبتين، عندها سينشأ بكل تأكيد نوع من التوازن الجديد، وستُرمى أوروبا بعنف في حركة عكسية، وسيسقط ملايين العمال الأوروبيين من البطالة وسوء التغذية. وستكون الولايات المتحدة مضطرة إلى إعادة تكييف نفسها مع السوق العالمي، وإلى قلب صناعاتها، وستعاني من قصور لفترة زمنية لا بأس بها. وبعد ذلك، بعد أن يكون قد تحقق تقسيم عالمي جديد للعمل في حالة نزاع ل15 أو 20 أو 25 سنة، يمكن أن تنشأ حقبة جديدة لحركة رأسمالية صاعدة". (تروتسكي، "تقرير حول الأزمة الاقتصادية العالمية والمهام الجديدة للأممية الشيوعية" (1921)، في السنوات الخمس الأولى للأممية الشيوعية، جزء 1، نيويورك 1945، ص 211). "إن حالة من عدم الاستقرار كهذه، حيث لا تستطيع البروليتاريا استلام السلطة، بينما لا تشعر البرجوازية بثبات كاف أنها سيدة موطنها، يجب أن تُحل بشكل مفاجئ، عاجلا أو آجلا، بهذه الطريقة أو تلك، إما لصالح دكتاتورية البروليتاريا أو لصالح استقرار رأسمالي طويل وجدي على ظهر الجماهير الشعبية وعلى عظام شعوب المستعمرات… وربما على عظامنا نحن! "لا يوجد هناك حالات يائسة في المطلق". يمكن للبرجوازية الأوروبية أن تجد طريقا ثابتة للخروج من تناقضاتها الخطيرة فقط من خلال هزائم البروليتاريا وأخطاء القيادة الثورية. إلاّ أن العكس أيضا صحيح تماما. لن يكون هناك ازدهار جديد للرأسمالية العالمية (بالطبع مع توقع حقبة جديدة من هبّات عظيمة) إلاّ إذا استطاعت البروليتاريا، إيجاد مخرج ثوري للتوازن غير المستقر الحالي". (تروتسكي، "مشروع البرنامج للأممية الشيوعية"، في الأممية الثالثة بعد لينين، نيويورك 1970، ص 65). إن هذه الإشكالية مناقشة في كتاب ارنست ماندل الرأسمالية المتأخرة. ن.ل.ب. 1975، ص216-221.

[12] إنه من الخطأ الموازي اعتبار أن نموا آخر للقوى المنتجة يعني فرصة جديدة لحياة الرأسمالية العالمية ونشاطها، أي يعني استحالة الثورة الاشتراكية. والغريب، أن تروتسكي ذاته قد تبنّى في مناسبة واحدة على الأقل هذا المفهوم "الماركسي الميكانيكي" المستند من نسخة بليخانوف-كاوتسكي- باور للاقتصادية الجبرية. (أنظر "روسيا إلى أين؟ نحو الرأسمالية أو الاشتراكية؟" في تحدّي المعارضة اليسارية، نيويورك 1975، ص375 . يتناقض هذا النص المكتوب سنة 1925 بشكل واضح مع الفقرات المشار إليها في الهامش رقم (3) التي كتب عامي 1921 و1928). إن مؤشر انحدار نمط الانتاج لا يعني أن نمو القوى المنتجة قد وصل إلى النهاية. لا بل أن هكذا انحدارا يصبح ظاهرا عندما تنمو التناقضات بين التطور الإنتاجي والنظام الاجتماعي الموجود (علاقة الإنتاج) بشكل انفجاري، وعندما تصبح ظواهر التدمير والتفسخ والتلف أكبر نوعيا مما كانت عليه عند صعود نمط الإنتاج وعندما يطرح نمو آخر للقوى المنتجة تهديدا أكبر للحضارة. لقد حصل هذا فعلا في التاريخ من قبل –مثلا، في القرن الثامن عشر في فرنسا وفي السنوات العشرين التي سبقت الثورة في روسيا. وهذا ما يحصل منذ بداية "الازدهار الاقتصادي" لما بعد الحرب سنوات 1948-1968 في العالم الرأسمالي.

[13] أنظر تروتسكي، "المرحلة الثالثة لأخطاء الكومنترن"، في كتابات ليون تروتسكي 1930، نيويورك 1975، ص 32. (*) بمعنى جعلها عالمية –م

[14] - باقتراح من هيلفردنغ، تبنى المؤتمر الأول لمجالس العمال والجنود الألمان (وهو المؤتمر نفسه الذي قرّر لاحقا تحويل السلطة إلى الجمعية القومية) بالإجماع في تاريخ 18 أكتوبر 1918 قرارا يدعوا إلى البدء الفوري بتشريك جميع فروع الصناعة الناضجة لهكذا إجراء.

[15] - كانت هناك أقلية كبيرة سنة 1919 داخل سوفياتات وارسو مؤيدة لبولندا السوفياتية. وقد تغيّرت الحالة بشكل جذري في ذلك البلد فقط عام 1920، خاصة بعد دخول الجيش الأحمر.

[16] - نتائج وتوقعات، ص 197.

[17] - لقد طورت الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، وبالأخص أكبرها حجما أي الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني، نزعتها المحافظة بشكل تناسبي مع ازدياد حجم الجماهير المنضمّة إلى الاشتراكية ومع ازدياد تنظيم وانضباط هذه الجماهير. وكنتيجة لذلك، فإن الاشتراكية- الديموقراطية، كتنظيم يجسد التجربة السياسية للبروليتاريا، يمكن في لحظة محددة أن يكبح النضال المباشر للبروليتاريا من أجل السلطة. إن التأثير الهائل للثورة الروسية يشير إلى أنها ستدمّر العمل الروتيني والمحافظ للحزب، وتضع مسألة اختبار القوة بين البروليتاريا والرأسمالية الرجعية على جدول الأعمال". (تروتسكي، نتائج وتوقعات، نيويورك 1978، ص246).

[18] - أنظر تروتسكي، حياتي، هارموند زوارت، 1975، ص 210-212؛ ول سنكلير، ليون تروتسكي: سيرة حياة، ستانفورد 1972، ص28.

[19] - تروتسكي، السنوات الخمس الأولى للأممية الشيوعية، جزء 1، ص 57-58.

[20] - من الأمثلة المتطرفة على ذلك: تصويت كتلة نواب الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني لصالح سياسة هتلر الخارجية في الجلسة "الحرة" الأخيرة لبرلمان الرايخ في مارس 1933؛ والاستسلام المهين لبيروقراطيي النقابات في أبريل 1933 أمام "ثورة هتلر الوطنية"، والإعلان عن رغبتهم في التعاون مع الحكومة النازية في الوقت الذي كان الألوف من رفاقهم في السجون ومعسكرات التجميع. كل هذه الأمور هي فقط من أجل "الحفاظ على المنظمة". (أنظر جوليس برونثال، تاريخ الأممية 1914-1943، لندن 1967، ص 385-386).

[21] - والجدير بالملاحظة أنه في البلدان التي تملك الطبقة العاملة تقليدا ثوريا بسيطا أو لا تملك أي تقليد تظهر تطورات مماثلة بشكل أوّلي في تحركات إضرابية ضخمة. أنظر فيليب س فونز، الانتفاضة العمالية الكبيرة لعام 1877، نيويورك 1977، الذي يصف إضراب سانت لويس عان 1877 "كالإضراب العام الأول الحقيقي في التاريخ"، الذي اتجه بالوضع يوم 25 يوليوز/(تموز) إلى حيث باتت اللجنة التنفيذية للمضربين هي الحاكم الفعلي في المدينة. لقد تكلم كتاب معاصرون عن "كمونة سانت لويس" ومؤرخون لاحقون عن "سوفيات سان لويس" (المصدر نفسه ص 178-180). وحول لجان الإضراب "المشتركة" أو "المركزية" التي انبثقت (على الأقل في 54 مدينة، (مجالس العمل") خلال الإضراب العام في بريطانيا عام 1926، أنظر كريستوفر فارمان، ماي/(أيار) 1926: الإضراب العام، لندن 1974، ص 193-208.

[22] - أنظر تروتسكي، 1905، هارموند زوارث 1973، ص 125-129.

[23] - روي ميدفيديف، ثورة أكتوبر، نيويورك 1979.

[24] - وببصيرة حاذقة اقترح تروتسكي ميليشيا عمال كاتالان في أواخر صيف 1934. وأضاف: "ينتخب كل فوج لجنته، وترسل كل لجنة مندوبا إلى اللجنة المركزية لجميع وحدات المليشيا في كاتالونيا. وستعمل عندها اللجنة المركزية –أي السوفيات المركزي- كدولة سياسية، لكن بادئ ذي بدء كهيئة مشرفة، وبعدها كسلطة مركزية للاحتياطيين والمعدات في القوى المسلحة". ("النزاع الكاتالوني ومهام البروليتاريا"، في تروتسكي، الأعمال المجموعة، مجلد4، باريس 1979، ص185). وبهذا الشكل بالضبط انبثقت ازدواجية السلطة خلال الإنتفاضة العمالية المنتصرة ضد الانقلاب الفاشي في يوليوز/(تموز) 1936. وحتى "اللجنة المركزية لوحدات الميليشيا" ستكون هناك!

[25] - حول العلاقة المتداخلة بين السوفياتات والنقابات والحزب الثوري في فكر تروتسكي، أنظر ليفيو ميتان، "أدوات الطبقة العاملة عند تروتسكي"، في تاريخ الماركسية المعاصرة، ميلان 1974، ص26-842، وميتان، تروتسكي اليوم. تورين 1959.

[26] - أنظر خطاب تروتسكي في المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الروسي: "لقد أتت المعارضة العمالية بشعارات خطيرة مقدسة بشكل أعمى مبادئ الديموقراطية. ويبدو أن المعارضة تضع حقوق العمال الانتخابية فوق الحزب، كما لو أن الحزب ليس لديه الحق في الدفاع عن ديكتاتوريته، حتى ولو أن هذه الديكتاتورية كانت ستتعارض مع المزاج العابر للديموقراطية العمالية لفترة من الوقت. (مأخوذة من إسحاق دويتشر، النبي المسلح، أوكسفورد 1963، ص 508). ولكي نكون عادلين بحقه يجب أن نشير إلى أنه منذ سنة 1925، إذا لم يكن في الطريق الجديد عام 1923، صحّح تروتسكي نفسه وأعلن بوضوح المعضلة التاريخية: "يجب أن لا نبني الاشتراكية بطريق بيروقراطي، يجب أن لا نخلق مجتمعا اشتراكيا بأوامر إدارية. فقط عبر طريق المبادرات الكبرى، والنشاط الفردي، وعبر إصرار ومرونة رأي وإرادة الملايين العديدة من الجماهير… فقط عبر هذه الشروط… يكون من الممكن بناء الاشتراكية. ولهذا السبب فإن التبقرط هو العدو المميت للاشتراكية… فالبناء الإشتراكي ممكن فقط مع نمو الديموقراطية الثورية الأصيلة". (ازفيستيا، 2 يونيو/(حزيران) 1925). وتجدر الملاحظة أيضا أن تروتسكي قد قام في عام 1933 بتصحيح جذري للموقف الذي اتخذه حول مسألة النقابات قبل المؤتمر العاشر للحزب وخلاله. وقد كتب: "إن الاستقلال النسبي للنقابات هو عامل تصحيحي ضروري وهام في نظام الدولة السوفياتية التي تجد نفسها تحت ضغط من الفلاحين والبيروقراطية. ولغاية ذلك الوقت الذي تصفى عنده الطبقات، على العمال –حتى في الدولة العمالية- أن يدافعوا عن أنفسهم بمساعدة منظماتهم المهنية. بكلام آخر: إن النقابات تبقى نقابات لطالما تبقى الدولة دولة، أي جهاز إكراه. إن تدوبل النقابات يجري فقط بالتوازي مع عدم تدويل الدولة نفسها". (أرشيف تروتسكي، رقم 3542، مأخوذ من ريتشارد ب. داي، ليون تروتسكي وسياسة العزالة الاقتصادية، كامبريدج 1973، ص186-187).

[27] -"إذا ما أصبحت أمريكا شيوعية"، في كتابات ليون تروتسكي 34-1935، نيويورك 1971، ص79.

[28] -"لكن مع كبح الحياة السياسية في البلد ككل، فإن الحياة في السوفياتات ستصبح معطلة أكثر و أكثر. بدون انتخابات عامة، وبدون حريات غير مقيدة للصحافة والتجمع، وبدون صراعات فكرية حرة، تموت الحياة في كل مؤسسة عامة، وتصبح فقط شبه حياة حيث تبقى فقط البيروقراطية العنصر النشيط". (روزا لوكسومبورغ، الثورة الروسية، آن اربور، 1961، ص 71).

[29] - رودولف باهرو، البديل في أوروبا الشرقية، ن ل ب لندن 1978

[30] - هذه الكلمات نطق بها لينين في اجتماع لجنة بيتروغراد للحزب البلشفي في 1 نوفمبر/(تشرين الأول) 1917. وقد نشر تروتسكي لاحقا نسخا عن البراهين على محاضر المؤتمر التي تضمنت هذه الكلمات، إلاّ أن المراقب المصحح قد أزالها من النسخة المعدّة للطبع. (تروتسكي، مدرسة التشويه الستالينية، نيويورك 1973، ص103-105).

[31] - أنظر ج. كرميشال، تروتسكي: تقرير عن حياته، لندن 1975، ص227-231، م. باسمانوف، طبيعة التروتسكية المعاصرة، موسكو 1974، ولينين حول تروتسكي، فرانكفورت 1969، ص19-20.

[32] -أنظر، من بين المصادر الأخرى، رومان روسدولسكي، الوضع الثوري في النمسا سنة 1918 وسياسة الاشتراكيين الديموقراطيين، برلين 1973

[33] - حول هكذا تعريف مثير للجدل، أنظر تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية، لندن 1967، جزء 3، ص166. تجدر الملاحظة أنه طالما كان العمال ذوو الياقة البيضاء قليلي العدد نسبيا –كما هم الآن في البلدان شبه المستعمرة –فإن استيعابهم من قبل البرجوازية الصغيرة هو بشكل واضح أسهل ويحصل كثيرا. فالفرق بين مدخولهم ومدخول العمال اليدويين كبير جدا حتى أن بامكانهم فعليا أن يراكموا بعض الرأسمال.

[34] -"لقد قلنا دائما بأن انتصار الثورة الاشتراكية بالتالي يمكن النظر إليه فقط كخطوة نهائية عندما يصبح انتصارا للبروليتاريا على الأقل في عدد من البلدان المتقدمة. في هذا السياق واجهنا تجربة أكبر المصاعب. كان انحدارنا على صعيد الثورة العالمية، إذ صح لنا تسميته كذلك، مبررا على العموم بشكل كامل. لكن من وجهة نظر سرعة تطوره فقد كابدنا من فترة مصاعب لا تقاس؛ ورأينا بأنفسنا بأن تطور الثورة في البلدان الأكثر تقدما قد برهن على أنه بطيء، إلى حد بعيد، وإلى حد بعيد أكثر صعوبة، وإلى حد بعيد أكثر تعقيدا… لكن… هذا التطور الأبطأ للثورة الاشتراكية في أوروبا الغربية حمّلنا مصاعب فظيعة. (لينين، تقرير لمؤتمر السوفياتات السابع لعامة روسيا، في الأعمال الكاملة، جزء 3، ص207)

[35] - هذه القوانين تتضمن التنافس بين رساميل منفصلة تحركها جميعا حوافز الربح الأقصى –هذا التنافس الذي يؤدي حتما إلى فوضى إنتاج. ويجتمع مع ميل معدل الربح إلى الإنحدار، ميل الإنتاج لتخطي الطلب الفعلي من قبل المستهلكين النهائيين، ويؤدي ذلك إلى أزمات دورية لفيض الإنتاج. وانسجاما مع رأيه حول أن الرأسمالية قد أعيدت إلى روسيا، توقع أ. بورديغا، الأكثر ذكاء من بين المدافعين عن مقولة "رأسمالية الدولة"، وذلك بكل ثقة، بأن أزمة فيض إنتاج كبيرة ستصيب روسيا في التسعينات: "في مسار العشرين سنة القادمة، سيعيش الإنتاج الصناعي والتجارة العالمية أزمة على مستوى تلك التي حصلت في أمريكا عام 1932، غير أنها لن تستثني هذه المرة الرأسمالية" (أ. بورديغا، الثورة والثورة المضادة في روسيا، ميلانو 1957). ونحن نعلم الآن ما حل بهذا التوقع!

[36] - لينين، "الدولة والثورة"، في الأعمال الكاملة، جزء 25، ص3-464

[37] -كان وهم بوخارين الأساسي، خلال فترة 24-1927 عندما كان المنظر الرئيسي للتكتل القائد في الحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي والخصم الرئيسي للمعارضة اليسارية، هو إيمانه في هكذا تجانس، لا بين البروليتاريا والقطاعات الفقيرة وأشباه البروليتاريا من الفلاحين فقط، بل والفلاحين ككل. أنظر ستيفان ف. كوهين، بوخارين والثورة البلشفية، نيويورك 1973، ص 192-201.

[38] - لقد تم انتقاد تروتسكي مرارا لعدم استيلائه على السلطة –بمساعدة الجيش الأحمر- عندما كان بمستطاعه أن يفعل ذلك في الفترة التي تلت موت لينين مباشرة. ولكن مع وجود حالة السلبية عند الطبقة العاملة في ذلك الوقت، كان سيصبح بدوره أسيرا وأداة للبيروقراطية- وإن تكن بيروقراطية أقل بربرية من ستالين. فبالنسبة لثوري بروليتاري ليس هناك من بديل يمكن أن يصعد ويحكم إلى جانب طبقته. وبينما يخطئ ارفينغ هاو في انتقاده لمعارضة تروتسكي "غير الفعالة" ضد ستالين (تروتسكي، لندن 1978، ص98)، يقول بشكل صحيح: "إن الذين خطّأوه لعدم اتخاده هكذا مسارا فشلوا في فهم الرجل وفهم أفكاره".

[39] - حصل هذا التلاسن الكلامي بين تروتسكي ومولوتوف في 1 غشت 1927 في جلسة مشتركة للجنة المركزية ولجنة الرقابة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي.(المعارضة اليسارية في الإتحاد السوفياتي، جزء 5، برلين 1976، ص 280). أما ملاحظة ستالين فقد جاءت في خطابه الذي ألقاه خلال الإجتماع.

[40] تتضمن اللائحة الطويلة من النقاد (حسب تسلسلهم التاريخي): دان، بورديغا، ريزي، سشاشتمان، س. د. ر. جيمز، كليف، كاستورياديس، سويزي، باتلهايم، وكتابا ماويين مثل مافراكيس.

[41] -هكذا يدنو بشكل كبير كل من سانتياغو كاريلو (الشيوعية الأوروبية والدولة، لندن 1977) وجان الينشتاين (الظاهرة الستالينة، لندن 1977) من تحليل تروتسكي للظاهرة البيروقراطية السوفياتية، رغم أنهما يفعلان ذلك بميل "موضوعي". وفي نحن والاتحاد السوفياتي (باريس 1978)، وهو عمل شبه رسمي نشره الحزب الشيوعي الفرنسي، يتكلم كل من اليكس أدليه، وفرانسوا كوهن، وموريس ديسيلو، وكلود فريو، وليون روبيل، على شريحة بيروقراطية ذات امتيازات كالأداة الرئيسية للحكم في الاتحاد السوفياتي (ص 74ن 91-929ن شريحة تتمتع باحتكار السلطة. إلاّ أن هؤلاء جميعا لا يقومون حتى بإشارة عابرة إلى تحليل تروتسكي حول البيروقراطية.

[42] - لقد أساءت البرجوازية الإسبانية إلى حد كبير حساب الوضع سنة 1936، باعتقادها أن الانقلاب العسكري الفاشي سيكون انتصارا سهلا. كنتيجة لذلك خسرت تقريبا سلطتها في الجزء الأهم من البلاد.

[43] - ومن المهم الملاحظة بأن مجلس دفاع الرايخ قد انتظر لرؤية رد فعل الحزب الشيوعي على مظاهرة فرق الهجوم النازية (SA) الاستفزازية في يناير/(كانون الثاني ) 1933 أمام مقر الحزب الشيوعي في برلين، قبل أن يعطي في النهاية الضوء الأخضر لترشيح هتلر لرئاسة وزراء الرايخ (الدولة). وبشكل مشابه، حسب مقابلة معروفة جدا أجراها الجنرال بينوشيت بعد انقلابه الناجح وصل إلى استنتاج بأنه لم يكن هناك مخاطرة جدية في قلب حكومة الندي بعد مراجعة الموقف السلبي لمنظمات الطبقة العاملة الجماهيرية عند فشل تنكتازو Tankatazo في أوائل عام 1973 (الانقلاب الفاشل لحامية سنتياغو المدرعة).

[44] - يطرح نيكوس بولانتزاس (الفاشية والديكتاتورية، ن. ل ب/ لندن 1974، ص 61-62) إنتقادين لنظرية تروتسكي حول الفاشية. أولا، بتصنيفه الفاشية كحالة "حرب أهلية"، ثم الافتراض بأن تروتسكي قد شارك في الرؤية الخاطئة للكومنتيرن حول اعتبار الفاشية رد فعل على طبقة عاملة "منتفضة" في طور الهجوم. وهذا بوضوح تفسير خاطئ لموقف تروتسكي. لقد رأى تروتسكي الفاشية "كحرب أهلية من جانب واحد"، أي بكلام آخر، هجوم برجوازي لسحق الطبقة العاملة التي تقف دون شك في موقع الدفاع. إن بولانتزاس في تلهفه لمقارعة "الاقتصادية"، لم يفهم الدافع الاقتصادي الذي يؤدي في ظل ظروف محددة إلى هكذا حرب أهلية من جانب واحد. ثانيا، تم الافتراض بأن تروتسكي قارن "بشكل ميكانيكي" الطريقة التي تتكئ فيها البرجوازية الآفلة على الفاشية والدعم الذي تقدمه برجوازية مستقرة للديموقراطية البرجوازية. إلاّ أنه في الحقيقة، لم يقدم تروتسكي هكذا تصريحات شاملة عن حقبة بكاملها. أكد مرة تلو الأخرى على الظروف المتأزمة المحددة التي ينعطف في ظلها كبار أصحاب الأعمال نحو الفاشية.

[45] أنظر مثلا إسحق دويتشر، النبي المنبوذ، لندن 1963، ص 5-276، ومونتي جونسون، "تروتسكي والثورة العالمية" كوجيتو Cogito 1976، ص10-14؛ أرفينغ هاو، تروتسكي، لندن 1978، ص130،وليونارد رابون،تروتسكي والفاشية، باري ،1978 ص 350-356. ويجب القول هنا بأنه بينما كان دويتشر نقديا تجاه تحليل تروتسكي للتطورات الفرنسية و الإسبانية، لم يدعم سياسات الجبهة الشعبية للأحزاب الشيوعية المحلية. [46] - وحتى خلال الحرب العالمية كتب يقول: "إن عاملا إضافيا على المستوى من الأهمية حاسم هو نهوض الرأسمالية في المستعمرات نفسها الذي على الحرب الحالية أن تعطيه زخما قويا. إن اختلال النظام العالمي سيؤدي إلى اختلال النظام الاستعماري وستفقد المستعمرات طابعها الاستعماري". (تروتسكي، الحرب والأممية، كولومبو 1971، ص 76). لقد اختصرت هذه الفقرة في النسخة الإنكليزية. وللاطلاع على النص الكامل، أنظر النسخة الفرنسية، "الحرب والأممية"، في تروتسكي، الحرب والثورة، المؤلفات الكاملة، جزء 3، باريس 1977، ص 107.

[47] - أوراق تروتسكي 1917-1922، هاغ 1964، ص625.

[48] - إنه بالتالي من الخطأ الجزم، كما يفعل كارميشال (تروتسكي: تقدير لحياته، لندن 1975، ص 346) وكني- باز (الفكر الاجتماعي والسياسي لليون تروتسكي، أكسفورد 1978، ص 364)، بأن تروتسكي قد اهتم بشكل بسيط ومتأخر بالصين.

[49] - Zapad Ivostok، (الغرب والشرق)، منشور عام 1924 ومذكور في عمل لويس سانكلير الضخم، ليون تروتسكي: بيبليوغرافيا، ص345. لا يأتي دويتشر على ذكر الغرب والشرق، وقد لفت انتباهنا هييزبراهم، كفاح تروتسكي حول خلافة لينين، كولونيا 1964، ص191.

[50] - براهام، مصدر سابق، ص 190.

[51] - تروتسكي، السنوات الخمس الأولى من الأممية الشيوعية، جزء 2، ص317 .

[52] - ليون تروتسكي حول الصين، نيويورك1976، ص116، 118, 122، 126، 143.

[53] - كنيز- باز، مصدر سابق، ص 364. وللسخرية، فإن التكتل الستاليني اتهم تروتسكي، خلال الجدالات داخل الحزب الشيوعية والكومينتيرن التي دارت بين عامي 1927 و1932، بأنه يغالي بالتوكيد على المهام الوطنية للثورة الصينية على حساب المهام الزراعية.

[54] - أنظر تروتسكي، الثورة الدائمة، نيويورك 1978، ص 124، 52-153، ليون تروتسكي حول الصين، مصدر سابق ص 22-523 (وهو نص مكتوب عام 1932).

[55] - لقد كتب إلى نيويورك تايمز يقول: "إن الكاتب على صواب تماما عندما يقول أن اليابان ستبرهن في النهاية عن عجزها أمام حرب عصابات جماهيرية من قبل الصين". (كتابات ليون تروتسكي 1937-1938، نيويورك 1976، ص84).

[56] - كتابات ليون تروتسكي 1939-1940، نيويورك 1974، ص 203.

[57] - إن إعاقة تطور الصناعة الصينية وخنق السوق الداخلية يقتضي بقاء أكثر أشكال الإنتاج تخلفا في الزراعة، و أكثر أشكال الاستغلال طفيلية، وأكثر أشكال الاضطهاد والعنف بربرية، ونمو فائض سكاني، واستمرار الفقر الشديد وجميع أنواع العبودية وتضخمها". (كتب في 7 ماي/(أيار) 1927، ونشر في ليون تروتسكي حول الصين، مصدر سابق، ص 163).

[58] - كتابات ليون تروتسكي 1932-1933، أنظر أيضا "البرجوازية الأوروبية والنضال الثوري"، وهي مقالة لم تنشر في أرشيف تروتسكي ونقلت عن كينز-باز، مصدر سابق، ص 553.

[59] - أنظر مثلا، "التأميم المكسيكي للنفط" (23 أبريل/(نيسان) 1938)، في كتابات ليون تروتسكي 1937-1938، نيويورك 1976، ص23-525.

[60] - تسعون سنة على البيان الشيوعي"، كتابات ليون تروتسكي 1937-1938، ص 25.

[61] - "القتال ضد التيار"، في كتابات ليون تروتسكي 1938-1939، نيويورك 1974، ص251.

[62] - تروتسكي ، مذكرة في المنفى، لندن 1958، ص 45-46.

[63] - ل. كولاكواسكي، التيارات الرئيسية للماركسية، جزء 3، أكسفورد 1978، ص 213، وج. كارميشال، تروتسكي: تقدير لحياته، ص 460-461.

[64] - اسحق دويتشر، النبي المنبوذ، ص 208، 211، 262، وإرفينغ هاو، تروتسكي، ص 32-133، ورابون، تروتسكي والفاشية، ص 278 غير أن كارميشال عذّل من حكمه السلبي باستنتاج غريب لن يعارضه تروتسكي: "مكذا فمصير الأممية الرابعة مرتبط بمستقبل الماركسية" (مصدر سابق ص 412)

[65] - جان باشلر، سياسة تروتسكي، باريس 1968، ص22،91، 207. أنظر أيضا ب. كني-باز، الفكر الاجتماعي لليون تروتسكي، ص 426.

[66] - يعطي مقال تروتسكي "الاتحاد السوفياتي والحرب" الانطباع بأن هناك خطأ في تحديد الزمن: "إذا لم تحدث الحرب الحالية ثورة بل انحدارا للبروليتاريا..". لكن في وثيقته السياسية، بيان المؤتمر الطارئ للأممية الرابعة، يوضح تماما بأن المعضلة ترجع إلى العقود القادمة.

[67] - أنظر أ. ماندل، الماركسية الثورية اليوم، ن ل ب لندن 1979

[68] - بير نافيل، تروتسكي حيا، باريس 1962، ص 18-119.

[69] - ليوفيغور، التروتسكية عدوة اللينينية، باريس 1969، ص 170. يجب أن يقابل هذا الكتاب، لدحضه، بملاحظات تروتسكي في قضية ليون تروتسكي، نيويورك 1968، ص 311، كتابات ليون تروتسكي 39-1940، نيويورك 1974، ص 164، وبشكل أعم، الثورة المغذورة، نيويورك 1965، ص 206-208. 20-226، 29-232.

[70] - أنظر بالأخص روى ميدفيديف، ليحكم التاريخ، لندن 1976، ص42-467

[71] - وبخلاف تأكيدات باشلر (مصدر سابق، ص 57) ومافراكيس (حول التروتسكية، ص44-151) وآخرين، لم يرفض تروتسكي على الإطلاق امكانية حرب عصابات واسعة النطاق في الصين، كان فقط متشككا بنجاحها في فترات الانحدار الحادة للثورة –كما كانت الحال في أواخر العشرينات وبدايات الثلاثينات. أنظر هامش رقم (9) سابقا، الفصل التاسع. ففي بيان المؤتمر الطارئ للأممية الرابعة. استعمل عبارة "حربالشعب الأصيلة" ليشير إلى التكتيكات التي يجب أتباعها خلال الحرب اليابانية الصينية. (كتابات ليون تروتسكي 1939-1945، نيويورك 1973، ص 203)

[72] - إن العجز عن فهم طبيعة فترة الانتقال بين الرأسمالية والاشتراكية –علاقات إنتاجها المركبة والمتناقضة، وديناميتها الاجتماعية-الاقتصادية وتناقضاتها- يؤدي تقريبا أوتوماتيكيا إلى تعريف إرادي ومثالي وغير ماركسي للدولة العمالية (أو "الدولة الاشتراكية")، يعتمد من ضمنه كل شيء على سياسة الشريحة الحاكمة، بغض النظر عن البناء الاجتماعي-الاقتصادي للبلد. وبهذه الطريقة يمكن أن يقول الماويون بأن "الإمبريالية الاشتراكية" أو حكم "برجوازية الدولة" نشأ في روسيا بعد موت ستالين، رغم أنه لم يجر أي تحول نوعي في البنى الاقتصادية-الاجتماعية. وذهب الماويون الصينيون ‘لى حد القول أن بلغاريا بلد رأسمالي ورومانيا بلد اشتراكي – رغم واقع أنه لا يوجد ولو حتى فرق بسيط بين بنية كل منهما الاجتماعية-الاقتصادية وبنية الأخرى في هذه الحالة، يعتمد "الاختلاف الطبقي" للدول على اختلاف في السياسة الخارجية فقط، أو بشكل أكثر دقة على مواقف حكومات الدول المعنية تجاه الصين. ومؤخرا بدأت الأحزاب الشيوعية الموالية لموسكو، وفي المقام الأول الحزب الشيوعي الكوبي، بوصف قادة الحزب الشيوعي الصيني وحكومته "بالفاشية" –ومرة أخرى معتمدة كليا على السياسة الخارجية ومتجنبة كل تحليل حول البناء الاجتماعي-الاقتصادي.

[73] -خلال النقاشات حول الدستور (البريجنيفي) السوفياتي الجديد، التي جرت سنة 1977 في الصحافة الروسية وفي السوفيات الأعلى، دافع رئيس الاستخبارات السوفياتية وعضو اللجنة التنفيذية يوري أندروبوف عن موقفين متعارضين كليا: إن المجتمع السوفياتي أكثر المجتمعات وحدة وانسجاما في العالم، و الأقلية الصغيرة من الخارجين والعناصر السيئة يجب قمعها بقوة لئلا تعرض الكومنولث الاشتراكي للأذى.

[74] -أنظر تحليلنا المكثف في الفصل السابع عشر في النظرية الاقتصادية الماركسية، لندن 1971.

[75] - "الثقافة والاشتراكية"، 1926، وترجمتنا منقولة عن الكراس الألماني المنشور من قبل دار الأدب الماركسي، لوسان 1974. ص14، 47-48. ( مذهب تايلور لتنظيم العمل الصناعي، في ظل الرأسمالية تنظيما علميا باستعمال الحد الأقصى من الأجهزة والتخصص الدقيق وإلغاء الحركات النافلة (المترجمة)

[76] - مع طباعة الثورة المغدورة (1936)، وقف تروتسكي بكل وضوح موقف دعم لنظام تعددية الأحزاب. وقد ظهر موقفه بعد ذلك في البرنامج الانتقالي (1938). وظهرت أولى معالم التغيير في آرائه في مقالاته في سنوات 1933 و1934 حول ألمانيا والولايات المتحدة.

( القول بالعصر الألفي الذي سيملك فيه المسيح على الأرض -م



#إرنست_ماندل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا لا غنى عن منظمة أممية؟
- مدخل إلى الاشتراكية العلمية
- النظرية اللينينية في التنظيم
- التصور الثوري والتصور الإصلاحي
- محاضرات في الإقتصاد السياسي الماركسي
- دفاعا عن ثورة اكتوبر


المزيد.....




- إصلاحُ الوزير ميراوي البيداغوجيّ تعميقٌ لأزمة الجامعة المغرب ...
- الإصلاح البيداغوجي الجامعي: نظرة تعريفية وتشخيصية للهندسة ال ...
- موسكو تطالب برلين بالاعتراف رسميا بحصار لينينغراد باعتباره ف ...
- تكية -خاصكي سلطان-.. ملاذ الفقراء والوافدين للاقصى منذ قرون ...
- المشهد الثقافي الفلسطيني في أراضي الـ 48.. (1948ـــ 1966)
- ناليدي باندور.. وريثة مانديلا وذراعه لرفع الظلم عن غزة
- ناليدي باندور.. وريثة مانديلا وذراعه لرفع الظلم عن غزة
- الجيش الإسرائيلي يعلن تنفيذ عملية بمجمع الشفاء الطبي في غزة ...
- الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع تدعو إلى تخليد ...
- النهج الديمقراطي العمالي بوجدة يعبر عن رفضه المطلق للأحكام ا ...


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - إرنست ماندل - ليون تروتسكي: دراسة في دينامية فكره