أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - الشعر فلسفيًا والفلسفة شعرًا















المزيد.....


الشعر فلسفيًا والفلسفة شعرًا


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 4573 - 2014 / 9 / 13 - 13:51
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يذهب ظنى أنّ فيلسوف الشعر المصرى الحديث (صلاح جاهين) أحد أبرز من كتبوا الشعر بلغة شعبنا المصرى ، ومن هنا أختلف مع من يُطلقون عليه (شعر العامية) ويقصدون بذلك (عامية اللغة العربية) فى تجاهل تام لحقيقة أنه لا توجد (عامية واحدة) فى البلاد العربية، وإنما (عاميات عديدة) إنْ جاز التعبير، ومعنى وجود أكثر من (عامية) كما يحب العروبيون ويصرون على ذالك المصطلح ، ينفى الأصل العربى، بينما علم اللغويات يؤكد على وجود أكثر من (لغة قومية) لكل شعب من شعوب المنطقة العربية. والدليل على ذلك أنهم لا يستطيعون التفاهم مع بعضهم البعض بتلك (العاميات) وبصفة خاصة بين سكان المشرق (العربى) والمغرب (العربى) ويكون الحل بالنسبة لهم هو التفاهم باللغة المصرية التى يُصر العروبيون على نعتها ب (العامية المصرية) ومنذ عدة سنوات شاهدتُ حلقة من برنامج (الاتجاه المعاكس) فى فضائية الجزيرة ، وكان الضيفان من المغرب والعراق ، وعندما عجزا عن التواصل ، قال لهما المذيع بلغة مصرية لا تـُخطئها الأذن : إيه رأيكم نحكى بالمصرى؟ هلــّــل الضيفان فرحًا وقالا : نحكى بالمصرى.
وصلاح جاهين – مثله مثل كثيرين – يستخدم الكثير من الكلمات العربية ، ولكنه يستخدمها وفق بنية اللغة المصرية ، وتلك الحقيقة تتجاهلها الثقافة المصرية السائدة التى ارتمتْ (على البلاط العروبى) ويرفض العروبيون (المصريون اسمًا) الرجوع لعلم اللغويات ، ليقفوا على حقيقة أنّ اللغة (أية لغة) تنقسم إلى كلمات (أى الطوب) وبنية Struecture وأنّ (البنية) هى التى تـُفرّق بين لغة ولغة. وفى زيارة قام بها الصديق المرحوم بيومى قنديل إلى أفغانستان وجد لوحة مكتوب عليها ((بدون أشخاص موظف داخل شدن)) ورغم أن كلماتها أو ((كل كلماتها عربية فيما عدا واحدة ، فهى تحتاج إلى ترجمة إلى اللغة العربية فيما لو أراد شخص عربى اللغة أنْ يقف على معناها)) (حاضر الثقافة فى مصر- ط4 – عام 2008- ص 193) ورغم أنّ المرحوم قنديل عرف المعنى بعد أنْ ترجمه له صديق أفغانى يُجيد اللغة الإنجليزية ، فإنه (قنديل) رفض أنْ ينقل ترجمة النص الأفغانى، حتى يعطى الفرصة للعروبيين لتأمل هذا المثال.
ورغم أنّ صلاح جاهين كتب باللغة المصرية التى يستخدمها شعبنا فى حياته اليومية، إلاّ أنه طعّمها بالأسلوب الأدبى الرفيع ، كما فعل دانتى فى الكوميديا الإلهية وشكسبير فى مسرحياته وأشعاره وغيرهما عندما رفضوا الكتابة باللغة اللاتينية (المقدسة) وكتبوا بلغة الناس الذين يتكلمونها فى الشارع وفى المزارع والمصانع الخ وفعل جاهين نفس الشىء ، ولكن بلغة الفن ، وتعرّض لمعالجة العديد من القضايا ذات الطابع (الفلسفى) بكلمات غاية فى البساطة والعذوبة فكتب ((فى يوم صحيتْ شاعر براحه وصفا / الهم زال والحزن راح واختفى/ خدنى العجب وسألتْ نفسى سؤال/ أنا مت؟ ولاّ وصلتْ للفلسفة؟)) وجاهين هنا (مع حبى له وتقديرى لأشعاره) لم يستطع أنْ يفك كل سلاسل العروبة ، فبقى بعضها مما قيّد انطلاقته الشعرية ، لأنه لو كان قد درس علم اللغويات الذى يرى أنّ الكلمة تـُـكتب حسب نطقها ، لكان يتوجب عليه كتابة (اختفى) العربية بالألف. ولكنه التزم بالمصرى فى رباعية أخرى عندما كتب ((الفيلسوف قاعد يفكر سيبوه / لا تعملوه سلطان ولا تصلبوه/ ما تعرفوش إنْ الفلاسفه يا هوه/ اللى يقولوه بيرجعوا يكدبوه)) ويُلاحظ على هذه الرباعية أنّ جاهين التزم بالكتابة المصرية فى : 1- استخدم كلمة (سيبوه) المصرية ولم يستخدم كلمة (اتركوه) العربية 2- بدأ الرباعية بالجملة الاسمية التى تميل إليها اللغة المصرية وليس بالجملة الفعلية كما الشأن فى اللغة العربية، وهى الملحوظة التى رصدها الباحث أ. عبد العزيز جمال الدين فى كتابه (لغتنا المصرية المعاصرة) الصادر عن (منشورات مصرية) عام 2011- ص33) 3- استخدم التعبير المصرى ((اللى يقولوه)) وليس (الذين يقولونه) بالعربى . ولأنه لم يحطم كل سلاسل العروبة كتب (بيرجعوا) بالألف ، وكان يتعين عليه حذف الألف لأنه مثل الزائدة الدودية كما يرى علماء علم اللغويات.
وكتب ((يا اللى نصحتْ الناس بشرب النبيت/ مع بنت حلوه.. وعود وضحك وحديت/ مش كنت تنصحهم منين يكسبوا / تمن ده كله؟ ولا يمكن نسيت)) وهنا نلاحظ أنه كتب (ضحك) بالضاد وليس بالدال كما ينطقها شعبنا. كما وضع الألف بعد (يكسبو) وكتب (ده) بالهاء كما يفعل كثيرون وكان يجب كتابتها بالألف (دا) كما ينطقها شعبنا ، خاصة وأنّ أصلها (هذا) فى العربى . ولكنه كان شجاعًا عندما كتب (تمن) بالتاء وليس بالثاء ، مع مراعاة أنه هنا التزم بقواعد اللغة المصرية (بالفرض أنه لم يدرس قواعد تلك اللغة) حيث أنّ اللغة المصرية القديمة لم تعرف الحروف بين اللسانية (الثاء والظاء والذال) ومن هنا يقول شعبنا (تعلب) وليس (ثعلب) بالعربى و(ديب) وليس (ذئب) بالعربى، والدرس المُستخلص أنّ جاهين استجاب لنداء الفطرة الإنسانية فكتب كما ينطق شعبنا.
وكتب ((وقفتْ بين شطين على قنطره/ الكدب فين والصدق فين يا ترى/ محتار ح اموت.. الحوت خرج لى وقال/ هو الكلام يتقاس بالمسطره؟)) ويُلاحظ أنه كتب (الكدب) بالدال وفق النطق المصرى وليس (كذب) بالذال بالعربى ، ولكنه كتب (الصدق) بالصاد وليس بالسين كما ينطقها شعبنا. وكتب (على قنطره) وفق الكتابة العربية وليس (علا) وفق علم اللغويات ، خاصة أنّ (على) تـُثير الكثير من اللبس مع اسم العلم (على) كما كتب (يا ترى) بالياء وليس بالألف كما يرى علماء علم اللغويات عن ضرورة أنْ تـُكتب الكلمة حسب نطقها. ولكنه كان موفقــًا عندما استخدم حرف الحاء وفصله عن الكلمة التالية له ، بمراعاة أنه حرف مستقل يدل على زمن المستقبل فى اللغة المصرية القديمة فى مرحلتها القبطية.
وكتب ((غدر الزمان يا قلبى ما لهوش أمان/ وحاييجى يوم تحتاج لحبة إيمان/ قلبى ارتجف وسألنى أآمن بإيه؟ أآمن بإيه محتار بقالى زمان)) وهو هنا التزم بقواعد اللغة المصرية عندما كتب (أآمن بإيه؟) حيث تكون أداة الاستفهام فى آخر الجملة : اسمك إيه؟ مقابل : ما اسمك ؟ بالعربى و(كنت فين؟) مقابل (أين كنت؟) بالعربى . كما استخدم أداة النفى المصرية (ما لهوش أمان) لأنّ ترجمتها للعربى تكون (ليس له أمان) كما أنّ حرف (الواو) أسعفه فى فصل الضمير عن حرف الشين ، ومع مراعاة أنّ حروف الواو والزاى والراء والدال والذال فى آخر الكلمة تمنع اتصال الفعل بالضمير والاسم بالضمير. ورغم ذلك يصر العروبيون على كتابة (ما أعرفش) فى حين أنّ كتابتها الصحيحة تكون (ما أعرف ش) بينما يُجبرون على كتابة (ما افتكرش) لأنّ حرف الراء أجبرهم على ذلك.
ولأنّ جاهين شاعر وظــّف الفلسفة لتعميق المعانى الإنسانية لذلك كتب ((منين أجيبها كلمة متألمه/ لعبيه فايره حايره ومصممه/ منين أجيبها كلمه تكون بنت أرض/ تشفى اللى ما شفاهوش كلام السما)) فهو هنا (فلسف) العلاقة بين الواقع والميتافيزيقا ، عندما رصد التقابل بين الأرض والسماء ، وأنّ الكلمة المعجونة بخبرة طين الأرض ، هى التى تـُقدم الحلول لمآسى البشر، بينما كلمات (السماء) لا تقدم تلك الحلول . وهو فى تلك الرباعية- عميقة المعنى والمفعمة بالدلالات الإنسانية- طرح الفرق بين المُـفكرين الذين يهتمون بالواقع وغيرهم الذين يُغرقون شعوبهم بأوهام الميتافيزيقا. ومن هنا كان استخدامه للنحت المصرى فى كلمة (لعبيه) فرغم أنّ أصلها عربى من (لعب) إلاّ أنّ شعبنا استخرج منها نحتـًا خاصًا به ، مثلما نقول عن فلان أنه (لعيب) ومثل القول عن فلان ((بيلعب بالبيضه والحجر)) أى لديه خبرة حياتية لم تتوفر لغيره ، ولذلك كان جاهين من البراعة عندما عمّق المعنى بكلمات جاءتْ بعد كلمة (لعبيه) فهى أيضًا (فايره حايره ومصممه) ولأنه أدرك الفلسفة الكامنة لمعنى الموت ، وأنّ الموت مصير كل إنسان بغض النظر عن منصبه أو موقعه الطبقى كتب ((ضريح رخام فيه السعيد اندفن/ وحفره فيها شريد من غير كفن/ مريت عليهم.. قلت يا للعجب/ لاتنين ريحتهم فيها نفس العفن)) أى أنّ العفونة التى تخرج من جسد الميت بعد دفنه ، لا تعرف التفرقة بين المليونير المدفون فى ضريح من رخام ، والشقى الفقير(الشريد) الذى تمّ دفنه عاريًا بدون كفن . فى هذه الرباعية (فلسف) جاهين النظر إلى الموت الذى يتساوى فيه البشر، رغم الفوارق الاجتماعية على أرض الواقع . وعن اللغة المصرية فقد التزم بقواعدها التى لا تعرف المثنى ، حيث يتم الجمع بعد الرقم إثنين لذلك كتب (مريت عليهم) ولم يكتب (مررتُ عليهما) وفق قواعد اللغة العربية.
وعالج ثنائية الحياة والموت فى قوله الحكيم ((مُرغم عليك يا صبح مغصوب يا ليل/ لا دخلتها برجليا ولا كان لى ميل/ شايلنى شيل دخلتْ أنا فى الحياه/ وبكرا ح أخرج منها شايلينى شيل)) فكما يظل الطفل محمولا حتى يستطيع السير، كذلك تكون نهايته ، فهو يخرج من رحم الأم محمولا ويدخل المقبرة محمولا. وتلك الثنائية بين الحياة والموت تلح عليه فعالجها كثيرًا مثل قوله الحكيم ((خرج ابن آدم م العدم قلت : ياه/ رجع ابن آدم للعدم قلت : ياه/ تراب بيحيا وحى بيصير تراب/ الأصل هوّ الموت ولاّ الحياه؟)) هنا نجد التقابل البديع بين (تراب بيحيا) و(حى بيصير تراب) فى الأولى فإنّ التراب يتغذى على العناصر العضويه الموجودة فى جسد الميت، وفى الثانية أنّ الإنسان (بعد الوفاة) سيندمج مع التراب ، ومن هنا كان سؤاله الفلسفى فى البيت الأخير من الرباعية فى موضعه وفى غاية الاتساق مع الأبيات السابقة.
ولأنّ الطبيعة بها العديد من عناصر الجمال، بينما الواقع به العديد من الظلم قال ((يا قرص شمس ما لهش قبة سما / يا ورد من غير أرض شب ونما / يا أى معنى جميل سمعنا عليه/ الخلق ليه عايشين حياه مؤلمه؟)) وعندما حذف الهمزهة من (سماء) لتكون (سما) كما ينطقها شعبنا ، ساعده الإيقاع الموسيقى مع كلمة (نما) ومن حُسن الحظ أنها تـُكتب بالألف وفق القاعدة العربية حيث مصدرها (النمو) وهنا التحمتْ القاعدة اللغوية المصرية مع القاعدة العربية فى تعميق هذا المعنى الفلسفى عن الورد الذى شبّ ونما من غير أرض يقف عليها ، فى تعبير مجازى مُعجز عن إرادة الحياة. ثم (فلسف) تلك العلاقة فى معالجة مختلفة ، رغم أنها امتداد لما سبقها فكتب ((بين موت وموت.. بين النيران والنيران/ ع الحبل ماشيين الشجاع والجبان/ عجبى علا دى حياه ويا للعجب/ إزاى أنا يا تخين بقيت بهلوان؟)) ويجب ملاحظة أنّ استخدامه لتعبير (أنا يا تخين بقيت بهلوان) جاء على سبيل المجاز، كرمز لأى شخص انتهازى متسلق . والمجاز يكمن فى أنّ (البهلوان) لابد أنْ يكون رشيق الجسد ويتمتع بمواصفات خاصة عن الليونة وسرعة الحركة الخ ، ومن هنا استحالة أنْ يكون الشخص السمين المترهل الجسد يصلح للعمل فى السيرك كبهلوان، بينما فى الواقع فإنّ الانتهازيين يستطيعون ذلك رغم أنهم لا يتمتعون إلاّ بموهبة واحدة (التسلق والصعود على أكتاف الآخرين) وكان جاهين فى تلك الرباعية موفقــًا عندما كتب (علا دى حياه) فكتب (علا) بالألف ولم يكتبها بالياء.
ولخـّص جدلية العلاقة بين (الخارج) و(الداخل) فى الوجدان المصرى فى الرباعية التى قال فيها ((فتحتْ شباكى لشمس الصباح/ ما دخلش منه غير عويل الرياح/ وفتحتْ قلبى عشان أبوح بالألم/ ما خرجش منه غير محبه وسماح)) أى أنّ الوجدان المصرى يميل إلى التسامح مع معطيات الخارج القاسية. ويُكمل ذات المعنى فى صياغة أكثر عمقـًا فكتب ((غمستْ سنك فى السواد يا قلم/ عشان ما تكتب شعر يقطر ألم/ حالك جرالك إيه يا مجنون.. وليه/ رسمتْ ورده وبيت وقلب وعلم؟)) هنا يتحول السواد إلى وردة ، لذلك تعمّد أنْ يستخدم كلمة (السواد) ولم يستخدم كلمة (المداد) ثم تكون قمة العمق الفلسفى والبلاغة الوصفية أنّ الشعر يقطر منه الألم ، ومع ذلك عندما يكتب فهو يرسم وردة وبيت وقلب وعلم ، والعلم هنا رمز للوطن والقلب رمز للحب. وهذا الإيمان بالوطن جعله يؤمن بقانون الطبيعة الفطرى ، عن (إرادة الحياة) الكامنة داخل كل الكائنات الحية فكتب ((يا اللى إنت بيتك قش مفروش بريش/ تقوى عليه الريح يصبح مفيش/ عجبى عليك حواليك مخالب كبار/ وما لكش غير منقار وقادر تعيش)) وعلى ذات لحن المقاومة كتب ((دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت/ وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت/ وحاجات كتير بتموت فى ليل الشتا / لكن حاجات أكتر بترفض تموت)) ومثل أى سيمفونية مُـتعددة النغمات كتب تنويعة جديدة على نفس اللحن ((الدنيا من غير الربيع ميته/ ورقة شجر ضعفانه ومفتته/ لأ يا جدع غلطان تأمل وشوف / زهر الشتا طالع فى عز الشتا))
وجاهين لديه شجاعة الاختلاف مع الديانة العبرية (اليهودية/ المسيحية/ الإسلام) فعندما تناول أسطورة أيوب عالجها بلغة الفن متجاهلا النصوص التراثية فكتب ((أيوب رماه البين بكل العلل/ سبع سنين مرضان وعنده شلل/ الصبر طيب.. صبر أيوب شفاه/ بس الأكاده مات بفعل الملل)) واضح أنّ المفاجأة جاءتْ فى البيت الأخير(مات بفعل الملل) وهو معنى لم يخطر على ذهن من كتبوا الأسطورة العبرية. كما أنّ (الملل) تعبير فلسفى لم تعرفه الثقافة العبرية/ العربية. وأنّ الإحساس بالملل لا يعرفه إلاّ إنسان على درجة من الرقى، فيشعر بحالة (الموات) رغم أنه حى ، بينما الشاعر العراقى السياب جعل أيوب يخاطب ربه قائلا ((لك الحمد إنّ الرزايا عطاء/ وإنّ المصيبات بعض الكرم/ لك الحمد مهما استطال البلاء/ ومهما استبدّ الألم)) ومن الواضح أنّ السياب يسخر(على لسان أيوب) من التراث العبرى/ العربى الذى عوّد الناس على الشكر والحمد للإله ، حتى فيما يتعرّضون له من مصائب.
وكتب جاهين ((دخل الربيع يضحك لقانى حزين/ نده الربيع على اسمى لم قلتْ مين/ حط الربيع أزهاره جنبى وراح/ وإيش تعمل الأزهار للميتين؟)) أى أنّ حتى بهجة رؤية الأزهار، لم تـُخرجه من شعور(الموات) وجاهين لأنه لم يدرس اللغة المصرية القديمة- مثله مثل كثيرين- لذلك كان ينتقل بين قواعد اللغة المصرية وقواعد اللغة العربية. فقد سبق وكتب (علا) بالألف عندما كتب (علا دى حياه) ثم عاد وكتب (نده الربيع على اسمى) ولم يكتب (علا اسمى) وكتب (دخل الربيع يضحك) بالضاد وكان يتعيّن عليه كتابتها بالدال (يدحك) كما ينطقها شعبنا الذى يكره حرف الضاد ولا يستخدمه إلاّ مُـكرهًا وفى الكلمات مثل ضبع الخ.
وعلى ذات اللحن الحزين كتب ((تسلم يا غصن الخوخ يا عود الحطب/ ييجى الربيع تطلع زهورك عجب/ وأنا ليه بيمضى ربيع وييجى ربيع/ ولسه برضك قلبى حتة خشب)) أى أنه رغم بهجة الربيع لا يزال الحزن داخل قلبه الذى صوّره بقطعة خشب ، أى مثل الجماد . مع ملاحظة أنه استخدم (حتة خشب) ولم يستخدم (قطعة) العربية. واستخدم (لسه) المصرية ولم يستخدم (ما زال) بالعربى. واستخدم (برضك) ولم يستخدم (أيضًا) بالعربى.
ولكنه يحاول التخلص من حالة الاكتئاب بالغناء فقال ((يا عندليب ما تخافش من غنوتك/ قول شكوتك واحكى على بلوتك/ الغنوه مش ح تموتك إنما / كتم الغنا هوّ اللى ح يموتك))
و(فلسف) دورة الحياة ونهايتها لمن لا يتعظون من حكمة الموت قائلا ((الدنيا صندوق دنيا دور بعد دور/ الدكه هىّ وهىّ كل الديكور/ يمشى اللى شاف ويسيب لغيره مكان/ كان عربجى أو كان امبراطور)) هكذا بأسلوب أدبى رفيع لخـّص حكمة الموت الذى يتساوى عنده الفقير (العربجى) والثرى (الامبراطور) فلماذا الجشع والتكالب على جمع الثروات ، إذا كانت النهاية واحدة ؟ ولأنه لا يضع فى حسابه أى فرق بين العربجى والامبراطور، نصح ابنه قائلا ((ولدى نصحتك لما صوتى اتنبح/ ما تخافش من جنى ولا من شبح/ وإنْ هبْ فيك عفريت قتيل اسأله/ ما دافعش ليه عن نفسه يوم ما اندبح)) وهنا تبدو بلاغة اللغة المصرية فى مفرداتها التى يصعب ترجمتها إلى اللغة العربية مثل قول (صوتى اتنبح) فكلمة (نبح) فى اللغة العربية تعنى نباح الكلب (مختار الصحاح- المطبعة الأميرية بمصر- عام 1911- ص667) فهل الشاعر كان (ينبح) مثل الكلب وهو ينصح ابنه ؟ أم أنه استجاب للغة الأميين عندما تقول الأم لطفلها الشقى الذى لم يرد عليها ((ناديتك لما صوتى اتنبح)) وبالتالى اسعفته اللغة المصرية عندما قابل تلك الكلمة بكلمة (اندبح) لأنّ هذا النحت المصرى يُـقابله فى العربى (يوم أنْ تمّ ذبحه) فاختصرتها اللغة المصرية فى كلمة واحدة. ولأنه إنسان قبل أنْ يكون شاعرًا لذلك امتلك حكمة الفلاسفة فكتب ((السم لو كان في الدوا.. منين يضر؟ والموت.. ولو لعدونا منين يسر؟ حط القلم فى الحبر واكتب كمان/ والعبد للشهوات.. منين هوّ حر؟)) فالإنسان المتحضر لا يشمتْ ولا يتمنى الموت حتى لعدوه. والمتحضر هو بطبيعته إنسان حر، والحر يرفض العبودية حتى لشهواته.
ولأنّ جاهين مع الحرية لذا فهو مع (الحب) لذلك كتب (قبل تغلغل الأصولية الإسلامية) يرفع من شأن الحب بين كافة الكائنات الحية فكتب ((حدوته عن جعران وعن خنفسه/ اتقابلوا حبوا بعض ساعة مسا / ولا قال لهم حد اختشوا عيب حرام/ ولا حد قال دى علاقه متدنسه)) وتلك الرباعية (فى ظنى) ترجمة لموال مجهول المؤلف قال فيه المصرى الأمى ((شيلو الرفق فى أنانى الورد واوعو له.. واللاهى لو مات ظريف المعانى من قبل ما أطوله.. لأسأل علا تربته واتمد بطوله.. وإنْ جم الملكين يسألوه لأرد مسئوله)) ولأنّ جاهين قرأ (كتاب الطبيعة) لذلك ترجم خصائصها ولم يرتعب من الأصوليين الإسلاميين وهو يكتب ((النهد زى الفهد نط اندلع/ قلبى انهبش بين الضلوع وانخلع/ يا اللى نهيتْ البنت عن فعلها / قول للطبيعه كمان تبطل دلع)) وقد ساعدته اللغة المصرية لتكون الرباعية مفعمة بالموسيقا الداخليه ، فاستخدم (زى) ولم يستخدم (مثل) العربية. وأسعفه النحت المصرى لكلمة (انخلع) إذْ أنّ كلمة (خلع) فى اللغة العربية تعنى ((خلع ثوبه ونعله وقائده الخ)) (مختار الصحاح- ص204) بينما المعنى المقصود فى الرباعية أنّ قلبه قفز من بين الضلوع ثم جاءتْ كلمة (دلع) لتـُكمل الجملة الموسيقية. ولأنه كان (يُفلسف) الشعر، لذلك امتلك شجاعة الاختلاف مع التراث العبرى/ العربى فى مفهوم (الحرام) فكتب ((ليه يا حبيبتى ما بينا دايمًا سفر/ دا البعد ذنب كبير لا يغتفر/ ليه يا حبيبتى ما بيننا دايمًا بحور/ أعد بحر ألاقى غيره انحفر)) فإذا كانت (الذنوب) فى الديانة العبرية معروفة مثل عدم إقامة الشعائر الدينية والاعتراف ب (الله) ورسله الخ فإنّ غياب الحبيب عن حبيبه (عند الشاعر) ذنب لا يغتفر.
وعندما عالج علاقة النيل بالإنسان كتب ((كام اشتغلتْ يا نيل فى نحت الصخور/ مليون بؤونه وألف مليون هاتور/ يا نيل أنا ابن حلال ومن خلفتك/ وليه صعيبه علىّ بس الأمور؟)) فى هذه الرباعية أثبتَ جاهين أنه على وعى بمفردات الحضارة المصرية ، فاستخدم الشهور المصرية (بؤونه، هاتور) واستخدم أداة الاستفهام وفق النطق المصرى (كام) ولم يستخدمها كما فى العربى (كم) ولأنّ النيل رمز النماء والخضرة والزراعة فى الحضارة المصرية ، لجأ الشاعر إليه ليسأله عن أسباب صعوبة الحياة ، فى إسقاط رمزى وبأسلوب فنى بديع أدان فيه منظومة الحكم حيث الفقر والجوع رغم وجود النيل . ولأنه ابن الحضارة المصرية فهو مولع بالضحك رغم صعوبة الحياة فكتب ((الضحك قال يا سم ع التكشير/ أمشير وطوبه وأنا ربيعى بشير/ مطرح ما باظهر بانتصر ع العدم/ انشالله أكون رسمايه بالطباشير)) هنا استخدم الشهور المصرية (طوبه، أمشير) ورغم أنه فصل حرف العين عن كلمة (التكشير) ولم يستخدم أداة الجر العربية (على) إلاّ أنه كتب (الضحك) بالضاد نظرًا لبقايا تأثير العروبه التى سيطرتْ وسادتْ بعد يوليو1952، ولم يكتبها بالدال كما ينطقها شعبنا.
000
فى عام 2009 كتب د. محمد عبد المطلب دراسة عن رباعيات جاهين فذكر أنّ ((حروف الجر فى الرباعيات تدخل على الفعل ، وهى ظاهرة لا تسمح بها اللغة الفصيحة)) (مجلة الثقافة الجديدة – فبراير2009) مع التحفظ على تعبير((اللغة الفصيحة)) لأنّ الفصيح هو الإنسان وليست اللغة (أى لغة) فالبقال الإنجليزى لا يكتب كما كتب شكسبير، رغم أنهما يستخدمان لغة واحدة ، وبالتالى فإنّ علماء علم اللغويات يعتبرون أنّ تعبير (الفصحى) غير علمى . ومع أنه كتب أنّ حروف الجر فى الرباعيات ظاهرة لا تسمح بها اللغة العربية، وبالتالى فهى سمة تتميّز بها اللغة المصرية، كتب فى 2014 أنّ ((العامية لا تمتلك الضوابط والقواعد النحوية والإملائية التى تعطيها صفة اللغة الكاملة والتى تكسبها صلاحيتها للحديث والكتابة معا. وما قرأته من بعض الكتابات فى هذا الموضوع أشبه بعبث الصبيان)) (أهرام 16/8/2014) فإذا تغاضينا عن تعبير(عبث الصبيان) فالسؤال هو: هل درس سيادة الدكتور اللغة المصرية القديمة بمراحلها المتعددة ، وبالتالى وقف على الظواهر اللغوية الموجودة فيها والتى استمرت حتى وقتنا الحالى؟ وكيف تكون اللغة المصرية (أو العامية وفق الشائع فى الثقافة السائدة) لا تصلح للحديث والكتابة كما قال ، فكيف يتفاهم بها شعبنا وكيف كتب بها الشعراء دواوينهم؟ الإجابة على تلك الأسئلة لخـّصها سيادة الدكتور (فى نفس المقال) عندما كتب ((تكاد تكون الخطورة الأعظم هى صعوبة تتابع الأجيال الجديدة تراثها الدينى لأنه مدوّن باللغة العربية الفصيحة)) (أصرّ على استخدام كلمة (الفصيحة) أكثر من مرة) ثمّ أضاف أننا ((سوف نكون مُطالبين بترجمة القرآن والإنجيل والتوراة وكتب الأدب والثقافة والتاريخ إلى هذه اللغة المُـفترضة)) فإذا كانت اللغة المصرية لغة (مُـفترضة) فلماذا تأثر بها العرب ويستخدمون مفرداتها وبنيتها اللغوية فى حياتهم اليومية ؟ وإذا كانت لغة (مُـفترضة) فلماذا استخدمها الشيخ الشعرواى ويستخدمها مذيعو ماتشات الكرة؟ وهل يستطيع سيادته أو سيادة رئيس مجمع اللغة العربية وصف مباراة الكرة باللغة العربية؟ وإذا كانت (مُـفترضة) فلماذا لا يتكلم شيوخ الأزهر وأعضاء مجمع اللغة العربية باللغة العربية فى حياتهم اليومية ويتحدثون بالمصرى؟ وهى الملحوظة التى توقف أمامها طه حسين عندما كتب ((إنّ كثيرًا من الناس ليقولون أنّ اللغة العربية التى يتعلمها الصبى فى المدارس لغة أجنبية. وأنّ اللغة العربية إنْ لم تنل علومها بالإصلاح صائرة إلى أنْ تصبح لغة دينية. وأنّ اللغة العربية إنْ لم تكن أجنبية فهى قريبة من الأجنبية ، لا يتكلمها الناس فى البيوت ولا يتكلمونها فى الأزهر نفسه)) (مستقبل الثقافة فى مصر- دار الكاتب اللبنانى- بيروت- المجلد التاسع- عام 1973- ص31، 248، 298، 299، 303، 311) والدرس المستفاد أنّ من كتب هذا الكلام كان أحد المُدافعين عن اللغة العربية. وإذا كانت اللغة المصرية لا تصلح للكتابة فكيف ترجم عبقرى الشعر المصرى (صلاح جاهين) أدق القضايا الفلسفية بتلك اللغة ؟ ونجح فى كتابة الشعر فلسفيًا أو الفلسفة شعرًا.



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السنة المصرية وجذور التقويم العالمى
- الحمساويون دمّروا غزة
- العلاقة بين الكلمة والفنبلة
- بيرم التونسى والشعر المصرى
- عندما تكون الرواية (وليمة للذئاب)
- الأدب والقمع الدينى والسياسى
- مصر بين العدوان الإسرائيلى والإرهاب الحمساوى
- الترجمة من المصرى للعربى
- مسلسل صديق العمر والغضب الناصرى (9)
- مسلسل صديق العمر والغضب الناصرى (8)
- أحزان السياب السبعة
- مسلسل صديق العمر والغضب الناصرى (7)
- مسلسل صديق العمر والغضب الناصرى (6)
- مسلسل صديق العمر والغضب الناصرى (5)
- مسلسل صديق العمر والغضب الناصرى (4)
- مسلسل صديق العمر والغضب الناصرى (3)
- مسلسل صديق العمر والغضب الناصرى (2)
- مسلسل صديق العمر والغضب الناصرى (1)
- الفكر الأحادى وأثره على البشرية
- التعريف العلمى لمصطلح (العامية)


المزيد.....




- أول مرة في التاريخ.. رفع الأذان في بيت هذا الوزير!
- أول مرة في تاريخ الـ-بوت هاوس-.. رفع الأذان في بيت الوزير ال ...
- قصة تعود إلى 2015.. علاقة -داعش- و-الإخوان- بهجوم موسكو
- صلاة الجمعة الثالثة من شهر رمضان.. الاحتلال يعيق وصول المواط ...
- السعودية.. الأمن العام يوجه دعوة للمواطنين والمقيمين بشأن ال ...
- صلاة راهبة مسيحية في لبنان من أجل مقاتلي حزب الله تٌثير ضجة ...
- الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول فيديو إمام مسجد يتفحّص هاتفه ...
- كيف يؤثر التهديد الإرهابي المتزايد لتنظيم الدولة الإسلامية ع ...
- دولة إسلامية تفتتح مسجدا للمتحولين جنسيا
- فيديو البابا فرانسيس يغسل أقدام سيدات فقط ويكسر تقاليد طقوس ...


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - الشعر فلسفيًا والفلسفة شعرًا