أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - محمد المثلوثي - مدخل لنقد قانون القيمة















المزيد.....


مدخل لنقد قانون القيمة


محمد المثلوثي

الحوار المتمدن-العدد: 4572 - 2014 / 9 / 12 - 00:31
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


هذا النص هو جزء من عمل أطول يتعلق بنقد بعض ايديولوجيات الاقتصاد السياسي عموما والاقتصاد السياسي الماركسي بصفة خاصة.
من الطبيعي أن نقد الاقتصاد السياسي يفترض من القارئ معارف أولية أساسية بالاقتصاد السياسي نفسه، غير أنني حاولت في هذا النص أن أقدم أولا وبشكل مختصر موضوع النقد (قانون القيمة) في شرح مبسط استندت فيه لأعمال ماركس ليس بصفته ممثل الاقتصاد السياسي كما هو شائع في الايديولوجية الماركسية، بل بصفته ممثل نقد الاقتصاد السياسي وكل ايديولوجياته. وكما يمكن أن يلاحظ أي قارئ لماركس، فان هذا الأخير يعرض أهم الأساسات النظرية للاقتصاد السياسي بشكل يسمح للنقد أن ينفذ لجذور هذا العلم البورجوازي ويتجاوز التعميات والتشويش الذي هو سمة كل ممثلي الاقتصاد السياسي. والنقد الذي أعرضه هنا ليس في تعارض مع مباحث ماركس بل مع الماركسية واقتصادها السياسي المزعوم. وسيظهر من خلال تتابع أجزاء العمل مدى تناقض ماركس سواء مع ما هو عادة منسوب اليه، أو مع الماركسية التي تشكلت كايديولوجية الاشتراكية الديمقراطية الألمانية في مرحلة أولى ثم كايديولوجية الدولة السوفياتية في مرحلة لاحقة.
شرح أولي:
من أجل تحديد ماهية قيمة البضاعة، ينطلق ماركس من التبادل البضاعي، أي من واقعة مبادلة كمية محددة من بضاعة معينة بكمية أخرى من بضاعة معينة أخرى: مثال [100 غ فحم = 300غ سكر].
ولفك لغز هذه المعادلة، فان ماركس يعين هذا التعادل بين كميتين مختلفتين لبضاعتين من نوعيتين مختلفتين في الكمية المتساوية من العمل المبذول في انتاج كلا من 100غ فحم و300غ سكر. واعتبارا لكون قياس كمية العمل يكون بالزمن (ساعة، يوم، أسبوع...) فان المعادلة [100غ فحم = 300غ سكر] تنحل في المعادلة [ساعة ع = ساعة ع ]، وع تمثل العمل المبذول في انتاج 100 غ فحم، بينما تمثل ع العمل المبذول في انتاج 300غ سكر. وهو ما يعني أن منتج الفحم قد بذل ساعة عمل من أجل انتاج 100غ فحم، بينما بذل منتج السكر نفس ساعة العمل لكن في انتاج 300غ سكر، وهذا هو سر تعادلهما في التبادل. وبطبيعة الحال فان هذا التبادل بين كميتين متساويتين من العمل يفترض من جهة اختلاف نوع العمل في كل طرف من معادلة التبادل، ويفترض في نفس الوقت اعادة هذين العملين النوعيين في انتاج الفحم وفي انتاج السكر الى نفس الوحدة، أي العمل المجرد، العمل بدون خواصه النوعية، وهو ما نجده في الأدب الاقتصادي السياسي تحت مسمى: العمل الاجتماعي الضروري. وهذا يعني أن كمية العمل الاجتماعي الضروري لإنتاج 100غ فحم هي نفس كمية العمل الاجتماعي الضروري لإنتاج 300غ سكر.
وهكذا تكون قيمة البضاعة هي كمية العمل الاجتماعي الضروري المتبلور فيها.
حول مفهوم العمل الاجتماعي الضروري:
ان العمل الاجتماعي الضروري المقصود هنا هو العمل الاجتماعي الضروري ليس لإنتاج البضاعة، بل تحديدا لتجديد انتاجها. أو بتعبير آخر هو العمل الاجتماعي الضروري لإنتاج آخر نسخة من البضاعة مثلما يقول ماركس.
لكننا في الواقع لو تفحصنا البضاعة عن قرب، فاننا لن نعثر على أية ذرة من العمل الاجتماعي الضروري. فلو فككنا البضاعة الى آخر ذراتها، لما عثرنا سوى على خواصها الفيزيائية. فمهما قلبنا الفحم، أو السكر فاننا لن نعثر الا على الفحم والسكر. أما لو نظرنا لها بصفتها منتوج عمل منتج الفحم أو السكر، فاننا أيضا لن نعثر إلا على أثر عمل نوعي محدد. ففي الفحم لن يظهر لنا إلا أثر عمل منتج الفحم، وفي السكر لن يظهر لنا إلا أثر عمل منتج السكر. وحتى لو أعدنا تفحص البضاعة من زاوية قدرتها على تلبية حاجة استهلاكية محددة (قيمتها الاستهلاكية بحسب تعبير الاقتصاد السياسي) فاننا لن نعثر على ما يدل كون الفحم سيتم استعماله في التدفئة أم في انتاج طاقة محرك، كذلك لن نعثر على ما يدل كون السكر سيتم استعماله في تحلية القهوة أم في صنع المرطبات. هكذا فكلا من الفحم والسكر هما فقط مادتين محولتين بواسطة عمل منتج الفحم في الحالة الأولى، وبواسطة عمل منتج السكر في الحالة الثانية. ويبدو لنا من هذه الزاوية في النظر، وكأن العمل الاجتماعي الضروري (أي قيمة البضاعة) إنما هو روح ميتافيزيقية. فالتبادل يقول لنا أن البضاعة تتضمن كمية محددة من العمل الاجتماعي الضروري لإنتاجها، وهذا ما يجعلها قابلة للتبادل مع البضائع الأخرى. لكننا حالما نضع تلك البضاعة تحت عدسة المجهر، فان هذه الكمية من العمل الاجتماعي الضروري تتبخر، ولا يعود أمامنا سوى كمية من الفحم أو السكر، أي منتوج عمل خاص وليس العمل المجرد.
ان التبادل يظهر هنا وكأنه مستحضر أرواح، يكفي أن تمر على يديه كمية جامدة من الفحم حتى يبعث فيها أجنحة البيع والشراء. فكمية الفحم التي كانت تهجع في خمود بين يدي منتج الفحم، تتحول فجأة الى كمية من العمل الاجتماعي الضروري القابل للحياة والانتقال من يد لأخرى، فيجلب السعادة لهذا ويسبب الشقاء لذاك.
تلك هي القيمة التبادلية للبضاعة، انها شيء غير موجود، يصبح هو الشيء الوحيد الموجود. فالبضاعة التي كانت تحتوي كل شيء (تركيبها المادي، قيمتها الاستعمالية، أثر العمل النوعي الخاص المبذول في انتاجها...) ما عدا القيمة التبادلية، تصبح لا شيء إلا قيمتها التبادلية تلك. فهي قبل المرور على يد التبادل مستحضر الأرواح مجرد كمية محددة من الأشياء المادية، لها خواص استعمالية وتحمل على ظهرها آثار العمل النوعي الخاص في انتاجها، لكن، في ضربة واحدة، يختفي وجودها المادي ذاك، لتظهر عارية من كل شيء إلا من قيمتها التبادلية.
لكن للأسف، فحتى الآلهة مجبرة، لإثبات وجودها، على المرور عبر أكثر الأشياء مادية وابتذالا، كذلك العمل الاجتماعي الضروري (القيمة) لا بد لروحه الميتافيزيقية أن تلبس الرداء الفيزيقي للقيمة الاستعمالية، أي لكل الخواص الفيزيائية وأثر العمل الخاص الذي يجعل من البضاعة تلبي حاجة استهلاكية لشاريها.
صحيح أن القيمة الاستعمالية للأشياء هي أيضا مسألة اجتماعية متغيرة من مجتمع لآخر ومن عصر لآخر، لكنها تظهر بالنسبة للعمل الاجتماعي الضروري، وبالتحديد للقيمة التبادلية للبضاعة، كشرط طبيعي. ولابد للحاجة الاستهلاكية أن تظهر بمظهر الحاجة الطبيعية حتى يظهر العمل الاجتماعي الضروري كقيمة للبضاعة.
وهكذا فالقيمة التبادلية تشترط وجود القيمة الاستعمالية، وفي نفس الوقت فهي تستبعدها. وهي في الوقت الذي تجعل من الجسم المادي للبضاعة جسمها الخاص، فانها تحول البضاعة الى روح، وعالم التبادل الى عالم أرواح. وفي ملكوت النقود تضمحل آخر آثار الوجود المادي للبضاعة، فلا يبقى من الفحم الأسود ولا من السكر الأبيض سوى أصنام وثنية مطرزة بالذهب اللامع، أو رسل الأوراق النقدية، وصولا الى أشباح الأرصدة البنكية والأسهم والسندات....
وحالما تنتصب آلهة التبادل سيدة على العالم، يصبح هذا العالم المادي للبضاعة مجرد فيض روحاني من روحها. وبعد أن كانت القيمة "صنيعة" العمل النوعي الخاص، فإن هذا العمل الخاص يصبح خليقتها، فتهبه من روحها التبادلية وقتما شاءت وتسحبها منه وقتما شاءت، فيتحول الى مجرد ركام من الفحم الرخيص.
وليس هذا فقط، بل ان هذا الإلاه الجديد يمكن لقدراته اللانهائية أن تبث من روح القيمة حتى في الأشياء التي لا تتضمن أي عمل خاص، ولم يبذل فيها مالكها أية حبة عرق. كما يمكن لأكثر الأعمال شقاء أن لا تدر أية قيمة تبادلية. فالزوجة الشريفة التي تقضي ساعات أمام الموقد في العمل من أجل تحضير أكلة زوجها، لا يمنح إلاه التبادل أكلتها اللذيذة أية قيمة. أما حالما تخرج لبيع شرفها ذاك، فان جسدها الذي لم تبذل فيه سوى بعض المساحيق الرخيصة يصبح خزان قيمة تبادلية يمكن له أن يعوض للزوج عن شرفه المهدور. والمظهر الاجتماعي المنافق له قيمة تبادلية عالية، بينما عمل مساح الأحذية فقيمته الهزيلة تجعله أقرب الى التسول.
الاقتصاديون عموما يخلطون بين العمل الاجتماعي الضروري الاه القيمة التبادلية، وبين العمل النوعي الخاص الذي هو مصدر القيم الاستعمالية. لذلك فحالما يتضاءل هذا العمل النوعي الخاص (العمل المتجسد) في انتاج شيء معين أو حتى يختفي، مثلا عندما يصبح العمل في انتاج بضاعة معينة مجرد ضغط على بعض الأزرار، أو عندما يجد هؤلاء الاقتصاديين أن شرفهم العلمي الذي لم يبذلوا فيه أي عمل يمكنهم بيعه للبورجوازية بأرفع الأثمان، فانهم يجدون في ذلك المبرر لنظرياتهم حول "خطأ قانون القيمة". لكن ذلك لا يمنعهم طبعا من قياس خدماتهم الجليلة لأسيادهم بحساب قانون القيمة ذاك.
أما الاقتصاديون الذين يجدون أن شرفهم العلمي أرفع من طرحه في سوق التبادل، ورغم أنهم يعلنون كونهم يعالجون الأمور من زاوية قانون القيمة، فإنهم ينظرون لهذا القانون كقانون طبيعي، وينظرون للعمل الاجتماعي الضروري، حتى وهم يفصلونه عن العمل النوعي الخاص، كخاصية طبيعية في البضاعة. لذلك هم أنفسهم، وحالما يبرز قانون القيمة تناقضاته، بما هو علاقة اجتماعية متناقضة، فإنهم ينظرون للأمر على أساس أنه انحراف "غير طبيعي" للقانون. لذلك نجدهم أحيانا يلقون اللوم على "الرأسمالية الاحتكارية" لأنها بنظرهم توقف سريان قانون القيمة "الطبيعي"، ويستشيطون غضبا، أحيانا أخرى، من "النيوليبرالية" لأنها تطلق العنان للمضاربات التي تخاتل قانون القيمة، فتبيع بضائعها بقيمة أعلى، لتستردها بقيمة أقل. هذا اذا لم نتحدث عن أولائك الذين يبتدعون نظريات مثل "التبادل غير المتكافئ" ليظهروا بمظهر "الأوفياء" و"المطورين" لقانون القيمة.
ان كلا الصنفين من الاقتصاديين ينطلقون من وجهة نظر لا تاريخية، أي وجهة نظر الاقتصاد العامي في الحالة الأولى، ووجهة نظر الاقتصاد السياسي، وقد تحول الى مجرد ايديولوجيا تبريرية،في الحالة الثانية. وفي الحالتين فهي وجهة نظر البورجوازية لنظامها الاجتماعي باعتباره النظام الطبيعي، ولأسلوب الانتاج الرأسمالي بصفته الأسلوب المطلق في الانتاج.
فهؤلاء، إذا لم يخلطوا بين العمل الاجتماعي الضروري وبين العمل المتجسد، فإنهم في الغالب يعتقدون أن كمية العمل الاجتماعي الضروري لإنتاج البضاعة هو ببساطة المتوسط الاجتماعي للأعمال الفردية، أي كأن التبادل (المنافسة والعرض والطلب) يقتصر دوره على تسوية الفوارق الكمية في أوقات العمل الفردية ليضعها في حد معين، هو الحد الوسطي الاجتماعي. وأسلوب عرض ماركس، أو عدم قراءة أعماله بصفتها عملا متكاملا، قد جعل كثيرين يصنفونه ضمن هؤلاء الاقتصاديين.
وهذه الطريقة في النظر للعمل الاجتماعي الضروري، حتى وان كانت نظريا تفصله عن العمل المتجسد، فانها إما تضعه كمتوسط حسابي لكميات مختلفة من العمل المتجسد، وطالما أن هناك دائما، وبصورة طبيعية، متوسط حسابي للكميات المختلفة من العمل الفردي المتجسد في الانتاج، فإنها حتميا ستجعل من هذا العمل الاجتماعي الضروري شكلا مطلقا في الانتاج، وبالتالي تجعل من القيمة سمة طبيعية للبضاعة. وإما تضعه كشيء حقيقي موجود في البضاعة، أي كأن الشيء المادي المسمى بضاعة يتضمن فعليا عملا اجتماعيا ضروريا، والحال أن ما يتضمنه هذا الشيء المادي هو العمل النوعي الخاص المتجسد. فالخبزة كشيء مادي لا تتضمن أي عمل اجتماعي ضروري، بل عملا محددا لخباز محدد.
فطالما أن الخبزة هي الخبزة، بينما قيمتها ترتفع أو تنخفض وربما تختفي، فهذا يعني أن هذه الخبزة اللعينة لا تتضمن في الواقع الا كمية محددة من المكونات المادية وكمية محددة من عمل الخباز، ولو فككناها الى ذرات ميكروسكوبية من الفارينة فلن نعثر على أية قيمة.
فماهي القيمة اذا؟ وما هو العمل الاجتماعي الضروري؟
ان مصطلح "العمل الاجتماعي الضروري"، وكلمة "ضروري" بالذات، توحي وكأن الأمر هو على النحو التالي: بما أن هناك عملا اجتماعيا طبيعيا ضروريا للإنتاج وفق درجة محددة من تطور القوى الانتاجية للمجتمع (نتحدث هنا تخصيصا عن الاقتصاديين الماركسيين عموما)، وأن كمية محددة من هذا "العمل الاجتماعي الضروري" هو ما تتضمنه الأشياء المادية المنتجة، أو ما يستوجبه انتاجها، فهو بالتالي ما يمثل قيمتها. وبما أن الانتاج الاجتماعي بشكل مطلق، أي بغض النظر عن طابعه التاريخي، ومهما كانت درجة تطور قواه الانتاجية، يستوجب وقتا محددا لإنتاج هذه أو تلك من الحاجات المادية، فكل انتاج اجتماعي هو انتاج وفق "كمية العمل الاجتماعي الضروري"، وبالتالي فهو انتاج للقيمة، أي للبضاعة.
فبحسب هذه النظرة، فان كل منتوج يتضمن "كمية من العمل الاجتماعي الضروري"، وبالتالي فكل منتوج يتضمن قيمة. وهكذا فان كل انتاج هو انتاج قيمة. وبهذه الحيلة المنطقية يصبح الانتاج من أجل القيمة هو الشكل الطبيعي والمطلق للانتاج.
لكننا، ومثلما أسلفنا، فطبخ الزوجة الشريفة (وهو عمل اجتماعي ضروري بالمعنى الواسع لكلمة "اجتماعي) قد استوجب "عملا اجتماعيا ضروريا"، غير أنه لم ينتج أية قيمة. في حين أن شرفها (وهو أيضا شيء اجتماعي بالمعنى العام للكلمة) الذي لم تنفق فيه أي "عمل اجتماعي ضروري" قد أغدق عليها قيمة جعلت من صناعة أفلام البورنو تحصد أرباحا أعلى من صناعة الخبز.
لاشك وأن كل عمل بشري هو بطبيعته عمل اجتماعي، إذا أخذنا كلمة اجتماعي بمعناها الواسع، أي بمعنى أن البشر لا ينتجون حياتهم المادية إلا في شكل اجتماعي.
لكن "العمل الاجتماعي الضروري" الذي نتحدث عنه في تحديد قيمة البضاعة ليس العمل الاجتماعي بشكل مطلق، بل العمل الاجتماعي بالمعنى الحصري للكلمة. أي العمل وقد فقد طابعه الفردي الخاص والنوعي ليتحول الى مجرد كمية من الزمن في بذل "مجهود عضلي وذهني".
فمن جهة دفعت الصناعة الرأسمالية الحديثة تقسيم العمل الاجتماعي الى ذروته، بحيث لم يعد للعمل أية ذاتية خاصة. فالحرفة و"الصنعة" قد أخلت مكانها للعمل الآلي البسيط. وحتى الأعمال التي تستوجب كفاءات خاصة (وهي سريعا ما تصبح أعمالا بسيطة وآلية) أصبحت متاحة للعموم، وأصبح تملك تلك الكفاءات والمهارات اليدوية والذهنية يعتمد، لا على أسرار الطوائف الحرفية، بل على التدريب والتعليم الذين أصبحا بدورهما عموميين. وهو ما جعل بالفعل هذا الصنف "المعقد" من الأعمال يمكن رده الى مجرد عمل مركب، أي أننا نستطيع حسابه بصفته عملا بسيطا مضاعفا.
ومن جهة أخرى فان الصناعة الرأسمالية الحديثة بتدميرها للانتاج الصغير، وتحويله الى مجرد عمل هامشي، فإنها قد قضت على الشروط المادية لوجود العمل الفردي لحساب العمل الاجتماعي. فلم يعد بالإمكان تقريبا انتاج أي شيء إلا في اطار سلسلة انتاج مترابطة. وبغياب أي طابع متميز للعمل، فان هذا الأخير لم يعد ينظر له إلا بصفته وقتا، واحتسابه الكمي هو بالضبط احتساب كمية الوقت المنفق فيه، بما أن الصناعة الآلية تسوي بطبيعتها في انتاجية العمل ضمن القطاعات الانتاجية، كما تسوي في درجة شدة العمل سواء على المستويات الوطنية أو حتى في مستوى القطاعات الانتاجية، بحيث لا يبقى للعمل من مقدار الا مقدار الوقت.
اذا فالعمل المجرد ليس مقولة تجريدية مثلما يعتقد البعض، بل ان العمل في شروط الانتاج المعاصر هو بالفعل عمل مجرد من كل خواصه الذاتية والنوعية. والعمل المجرد ليس ردا "ذهنيا" للأعمال المتنوعة الى وحدة بسيطة من "بذل مجهود عضلي أو ذهني" (فالعمل بشكل مطلق ومهما كان أسلوب الانتاج التاريخي يمكن رده الى "بذل مجهود عضلي أو ذهني")، انه بالأحرى رد تجريبي وتاريخي تقوم به الصناعة الرأسمالية في اطار تقسيم العمل الحديث. فلو عدنا لفلاح القرون الوسطى أو للتجمعات الحرفية، فإن العمل لم يكن مجرد "بذل مجهود عضلي أو ذهني"، أي أنه ليس عملا لامباليا في علاقة بالوسائل الانتاجية التي هي ملكه جزئيا أو كليا، ولا في علاقة بإنتاج العمل الذي يعود له جزئيا أو كليا بشكل مباشر وبدون وساطة مجردة هي الأجر.
وهكذا فالعمل لم يصبح عملا مجردا، أي مجرد "بذل مجهود عضلي أو ذهني"، إلا في اطار أسلوب انتاجي محدد يقوم على الانفصال المطلق بين المنتج ووسائل انتاجه وبينه وبين انتاج يديه. فالأجير المعاصر هو بالفعل لا يقوم الا ببذل "مجهود عضلي أو ذهني" لامبالي. لأن علاقته بالعمل هي علاقة لامبالية، ولا تقوم الا في شكل مجرد، بل في أكثر الأشكال تجريدا، أي من خلال النقود.
كذلك الأمر بالنسبة للتبادل. فالاقتصاديين يقولون أن التبادل هو الذي يسوي بين الأعمال ويحولها الى كميات يمكن مقارنتها. وبما أن التبادل، بنظرهم، ظاهرة قديمة قدم الانسان تقريبا، فإنهم يصلون لكون العمل المجرد بصفته مقياس القيمة هو شيء ما فوق تاريخي، أي أنه مرتبط بالانتاج بشكل مطلق وبغض النظر عن أسلوبه التاريخي. وهناك حتى من "الاشتراكيين" من يقول بما أن المنتجين (حتى في أسلوب انتاج اشتراكي) سيتبادلون الانتاج فيما بينهم، وبالتالي فان احتساب كمية العمل المجرد المبذول في الانتاج سيكون قاعدة هذا "التبادل الاشتراكي"، بل إن هناك منهم من يتحدث عن "قانون القيمة الاشتراكي"!!!
طبعا هذا التحليل قائم على حيل منطقية، وإغفال متعمد للتطور التاريخي الفعلي للتبادل. أما لو عدنا لهذا الواقع التاريخي فسنجد الآتي:
ان التبادل كظاهرة عمومية هو أمر حديث جدا بالنسبة للتاريخ البشري. فهو لم يكن ضمن أساليب الانتاج الماقبل رأسمالية سوى حالة جزئية وعرضية. فالتبادل لم يكن يشمل إلا جزء صغيرا من السكان، وتحديدا ذلك الجزء من السكان المدينيين الذين لم يكونوا يمثلون سوى نسبة صغيرة جدا من مجموع السكان. أما البقية فإنهم في الغالب كانوا يعيشون في اطار مغلق، ولم يكن التبادل بالنسبة لهم سوى حدث عارض وموسمي ومحدود في اطار أنواع محدودة من الانتاج.
والتبادل في أغلبه كان يتعلق بمواد الترف وليس بالأشياء الاستهلاكية اليومية، لذلك فالتجارة اتخذت هنا طابعا نوعيا وخاصا، ودائرتها منحسرة بشكل عام في الطبقات الغنية.
وحتى عندما يزدهر التبادل ويتوسع فانه يبقى محليا وغير مستقر ومرتهن لعوامل غير اقتصادية (طبيعية، سياسية...) بالنظر لضعف وسائل النقل وعدم أمان الطرق التجارية، وهذا ما جعل التجارة مع الأماكن البعيدة هي أقرب للمغامرة منها للتبادل العادي. وكان الربح التجاري بصفة عامة أقرب لأن يمثل تعويضا عن تلك المخاطر، أو هو تحيلا على المنتجين الذين لم تكن لهم علاقة ولا معرفة بالأسواق. ولهذا السبب كان التجار في السابق كثيرا ما يصنفون كلصوص مغامرين، وكانت القوافل التجارية أقرب للكتائب العسكرية.
والتبادل في تلك الأساليب التقليدية للانتاج القائمة أساسا على الانتاج من أجل الاستهلاك الخاص، لم يكن هدف الانتاج ولا غايته، بل هو مجرد واسطة عرضية لتداول فوائض الانتاج وليس الانتاج نفسه. لذلك فان التبادل لم يكن القاعدة العامة (وهذا هو الشرط التاريخي لسريان قانون القيمة) بل الاستثناء.
وبما أن قانون القيمة يشترط أن يكون التبادل معمما وشاملا، وأن يكون الانتاج نفسه موجها للتبادل بشكل رئيسي، فان ذلك لا يطابق تاريخيا الا العصور الحديثة، ولا يطابق الا أسلوبا محددا في الانتاج ألا وهو الأسلوب الرأسمالي. بل ان الرأسمالية لم تنشأ تاريخيا إلا بوصول التبادل الى تلك الدرجة من العمومية والشمولية وكسر العوائق المحلية. أي بنشأة السوق العالمية.
نصل من كل التحليلات السابقة الى كون قانون القيمة، أي تحديد قيمة البضاعة بكمية العمل الاجتماعي الضروري في انتاجها، هو قانون (آلية اقتصادية) تاريخي خاص بأسلوب الانتاج الرأسمالي حصريا. أي أن القيمة ليست سمة طبيعية للانتاج الاجتماعي، بل شكل وجوده التاريخي في اطار أسلوب انتاج محدد. وهكذا فمن العبث البحث عن قيمة البضاعة من خلال العمل المتجسد، والصراخ بنهاية أو "خطأ" قانون القيمة عندما نجد أن الانتاج لم يتضمن، أو تضمن قدرا ضئيلا من العمل الفعلي، أي في في بذل "مجهود عضلي أو ذهني". وهذا لأن قيمة البضاعة لا تمثل سوى الشروط التاريخية للانتاج، للانتاج في اطار أسلوب تاريخي محدد.
ان ما يتم انجازه في اطار مؤسسة الانتاج الخاصة هو العمل النوعي الخاص، أما "العمل الاجتماعي الضروري" فانه يقف بصفته الشروط الاجتماعية التي يجد العمل النوعي الخاص نفسه ضمنها، وكشرط مسبق يواجهه كقانون طبيعي مستقل عنه. لذلك فتعابير من نوع "القيمة الفردية"، كأن العمل النوعي الخاص ينتج قيمة من أي نوع، هي تعابير خاطئة. ذلك أنه لا وجود لقيمة فردية، ولا لمتوسط حسابي بين الأعمال الفردية، بل فقط للقيمة الاجتماعية. لأن القيمة هي علاقة اجتماعية وليست سمة طبيعية في البضاعة، ولا هي مجرد متوسط بين العرض والطلب.
فالعامل لا ينجز عملا مجردا، أي كمية من "العمل الاجتماعي الضروري"، بل عملا متجسدا. ولا يتخذ هذا العمل المتجسد طابع "العمل الاجتماعي الضروري"، طابع العمل المجرد، إلا في اطار علاقة اجتماعية وأسلوب انتاجي يجعله منفصلا عن وسائل الانتاج، أي أنه يعمل ليس بصفته منتجا بشكل عام، بل بصفته عاملا مأجورا بالذات وبشكل خاص.
والرأسمال لا يحقق من خلال استخدامه للعمل المأجور أية كمية من "العمل الاجتماعي الضروري"، بل كمية من الأشياء الاستهلاكية. ولا تتخذ هذه الأشياء الاستهلاكية طابع القيمة إلا حيث يعمل الرأسمال بصفته رأسمال، أي بصفته قيمة تزداد ذاتيا.
أما اذا لم يعد العمل يتخذ طابع العمل المأجور، فان الرأسمال لن يتحقق كرأسمال. وبالتالي فلن يتخذ الانتاج طابع القيمة، ولن يعود هناك "عمل اجتماعي ضروري" ككمية من الوقت التي يجري تبادلها.
لكن "العمل الاجتماعي الضروري" يظهر كحد طبيعي للانتاج في اطار أسلوب الانتاج الرأسمالي، فيظهر العمل الاجتماعي في مظهره الأحادي من خلال كمية من الوقت، من "بذل مجهود عضلي أو ذهني" لامبالي، من شيء خارجي عن حياة الفرد، من قوة منفصلة عن الوجود الحيوي للبشر، أي من خلال الاغتراب. وهذا مثلما كانت تظهر العلاقات البطريكية كحدود طبيعية للانتاج في اطار الطوائف الحرفية والاقطاعية والأسرية...
ومثلما لم تظهر حدود الانتاج الحرفية والاقطاعية والأسرية...كحدود "اصطناعية"، أي كحدود تاريخية يمكن، بل يجب تجاوزها، الا بظهور وتدعم أسلوب انتاج جديد، أسلوب الانتاج الرأسمالي، فان حدود الانتاج في ظل هذا الأسلوب الرأسمالي، أي الانتاج في اطار القيمة، في اطار "العمل الاجتماعي الضروري"، أصبحت تظهر لنا الآن كحدود تاريخية واصطناعية في الانتاج، لأن الانتاج الاجتماعي قد وصل الى درجة تتناقض مع تلك الحدود بالذات.
فما يظهر وكأنه "انحراف غير طبيعي" عن قانون القيمة، هو بالذات التناقض بين الطابع الاجتماعي للانتاج وبين اطار قانون القيمة الذي لايزال يسير ضمنه هذا الانتاج الاجتماعي.
فالتعاظم المهول للثروة الاجتماعية يقابله انخفاض قيمة تلك الثروة، أي كمية "العمل الاجتماعي الضروري" المتبلور في تلك الثروة. والتعميم المتعاظم للعمل المجرد يجرده من طابعه الضروري، حيث يصبح العمل مجرد ملحق بسيط من ملاحق النظام الآلي، وحيث يصبح العامل الاجتماعي (العلوم الطبيعية وتطبيقاتها التكنولوجية، الأتمتة....) هو مصدر الثروة الاجتماعية، لا بصفتها قيمة، بل بصفتها حاجات استهلاكية، فان قانون القيمة يدفع بنفسه الى الغاء الشروط التاريخية لسريانه.
لكن تطور هذه الشروط الملغية لقانون القيمة، أي الشروط لقيام أسلوب انتاج تاريخي جديد، لا تظهر للاقتصاديين كحصيلة تاريخية لمفاعيل قانون القيمة، بل كانحراف عنه، أو كأنه الجانب السلبي في الأمر. وذلك أن ما هو ثوري يظهر للاقتصاديين كلائحة سلبية، كعنصر البؤس. البؤس بصفته بؤسا وليس بصفته طاقة تاريخية ثورية. وذلك أنه لا يمكن فهم الجوهر التاريخي لقانون القيمة إلا من زاوية تجاوزه التاريخي، أي بالضبط من زاوية النظر له كآلية اقتصادية تاريخية محدودة، وليس كقانون مطلق في الانتاج. وهذه الزاوية في النظر هي بالذات نقد الاقتصاد السياسي وليس الاقتصاد السياسي نفسه الذي هو ليس سوى التعبير النظري (العلمي) للاقتصاد البورجوازي من زاوية نظر الاقتصاد البورجوازي نفسه.
فمثلما ان المحدودية التاريخية لأساليب الانتاج التقليدية لم تظهر لنا إلا من زاوية نظر أسلوب انتاجي "أعلى"، أي الرأسمالية، فان فهم محدودية الآليات الاقتصادية الرأسمالية غير ممكن بدون النظر لها من زاوية الأسلوب الانتاجي الذي ينمو في أحشائها ويخضها ويتجاوز حدودها الضيقة. وهكذا يتحول نقد الاقتصاد السياسي الى بحث في الأسلوب الانتاجي الجديد الذي يتمخض به النظام الاجتماعي السائد. وبدون ذلك تصبح الشيوعية مجرد تأمل فلسفي، أو عقيدة ايديولوجية، أو مجرد مطالب أخلاقية حول الحرية والعدالة الانسانية...الخ



#محمد_المثلوثي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما الذي يوقف المجازر في فلسطين
- ملاحظات تقدية حول التنظيم
- الجهات الداخلية فقيرة أم مفقرة؟
- نضالنا ضد البطالة
- عاش عاش الاتحاد....أكبر قوة في البلاد أو -من مغامرات عم حسين ...
- حمة الهمامي يشهر إسلامه
- أسطورة دستة الأذكياء
- الأفكار الاشتراكية في الشرق
- أسطورة الاقتصاد الاسلامي
- لغط حول البروليتاريا
- محاولة في نقد الايديولوجيا
- هل أنتم شيوعيون؟
- الديناصورات لم تمت بعد، -إدفع إنّ ولادة الجديد تتعثر- أو -كي ...
- الكل يريد أصواتنا....لا أحد يسمع أصواتنا
- دستور بلوشي
- انه 1 ماي....تمرد
- سندان السلفية ومطرقة دعاة تطبيق القانون
- ديكتاتورية الاقتصاد الوطني
- نداء لوحدة المجموعات الثورية في تونس
- لماذا يناهض اليسار الانتفاضة السورية؟


المزيد.....




- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - محمد المثلوثي - مدخل لنقد قانون القيمة