نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1284 - 2005 / 8 / 12 - 11:33
المحور:
الادب والفن
1
لم تبدأ الصحف في نشر أخبار عن الكاتب الشاب محسن رجائي إلا منذ سبع سنوات, و على امتداد خمس سنوات كانت أخباره تتوسط الصفحات الثقافية على استحياء مشفوعة بصور له. لم يكن محسن يعيش في القاهرة, و إنما في مدينة قنا البعيدة, لذا لم يره الكثيرون ممن نعرفهم, أو بالأصح, لم يره أحد مطلقاً ممن نعرفهم. قرأ البعض نصوصه و أعجب بها. مثلت نصوصه في ذاك الوقت شيئاً كنا بعيدين عنه تماماً. كانت نصوصاً مريضة أو مسرطنة, تبدأ سليمة معافاة غير أنها لا تلبث أن يبدأ الانهيار يدب فيها, تتكور حول نفسها و تنهش نفسها, بشكل مرضي أليم. كان دبيب الانهيار في نصوصه يفتن الكثيرين و تمنوا لو عرفوا الكاتب شخصياً, تتبعوا أخباره بجنون. أخذوا بملامحه البريئة التي تطل من صوره القليلة المرفقة بحوارات قصيرة له, ملامح هزيلة, وجه نحيف و عينان آسرتان, غير أن الملامح في ذات الوقت كانت مرشحة للنمو في اتجاه وجه وحشي لا يعرف الرحمة. أُخذ البعض بالاثنين, ببراءة الملامح و طفولتها و بانطوائها في ذات الوقت على إمكانية العنفوان, الحيوية و الاقتحام, أي: القسوة. كنا في نفس الوقت متابعين جيدين لأفلام و مسلسلات الممثل الكوميدي أحمد زيدان.
2
لسبب ما أو لآخر ذكر اسم محسن رجائي عرضاً في جلستنا. تذكره البعض منا بآخر قصة نشرها و تذكره آخرون بجملة ثورية قالها في حوار. في طريقي إلى المنزل, و بجوار النافذة اليمنى بالأوتوبيس, حاولت استرجاع ملامح محسن رجائي كما بدت ساعتها من الصور القليلة التي نشرت له. بدأت ملامحه تأتيني هادئة, رائقة و طيبة الخاطر. لدى اكتمالها في رأسي و ابتسامتي القانعة بتوددها و انصياعها لذاكرتي اصطدمت عيناي بأفيش لأحدث أفلام أحمد زيدان, الممثل الكوميدي الشهير. كأنني كنت أتوقع هذا الاصطدام, لم يكن ثم فارق كبير بين ما رأيته في الواقع و بين الصورة التي أتت إلى ذاكرتي مترفقة كالجواري, كأنهما ينتميان إلى نفس المجال, الإضاءة , و عالم الأصوات. كان ذلك التشابه المذهل بين محسن رجائي و أحمد زيدان غير مفهوم. لذا فقد كان مشفوعاً على الفور باتهامي أنا لذاكرتي, هي ما لم تعد تعمل, هي ما صارت تخلط بين الصور, هي ما تمحي الاختلافات. عندما عدت بدأت أبحث في جرائدي القديمة عن صورة لمحسن رجائي. كنت أبحث بحمية وبلهفة, بدأت أفرز الجرائد الواحدة تلو الأخرى, في نهاية بحثي كانت الحقيقة قد أصبحت واضحة و واحدة و لا مفر منها. على مدار خمس سنوات نشرت للكاتب الشاب محسن رجائي ثلاث صور مختلفة. يجمع بينها شيء ما, بخلاف كون اسمه مكتوباً بأسفلها. كانت هي ذات الصور التي نشرت لأحمد زيدان عندما كان يبدأ طريقه ككومبارس أولاًُ ثم كبطل ثان بعد ذلك, بلا أدنى اختلاف.
3
لم يكن الاثنان شخصاً واحداً. كان هناك محسن رجائي, كاتب شاب واعد و مثقف, و أحمد زيدان, ممثل ضخم, تافه و شهير. يتضح الفارق من حوارات كل منهما. جمل زيدان مبتورة, إكليشيهات شاردة لا تقول شيئاً غير ما قيل و يقال في اليوم الواحد عشرات المرات, أما رجائي فيحرص على اختيار كلماته وفق إيقاع ما دقيق وصارم, و مثل قصصه, فجمله الحوارية مصابة بالسرطان, تبدو متماسكة ثم سرعان ما يدب الانهيار فيها, ويكون لهذا صوت ساحر يكون واعياً هو به أشد الوعي. ما الذي دفع إذن أربعة محررين في ثلاث صحف إلى هذا الخطأ, إلصاق صورة أحمد زيدان باسم محسن رجائي؟ ليس هذا فقط, بل ما الذي دفاع الناس إلى عدم التنبه لهذا الخطأ, لماذا لم يدرك هذا الخطأ إلا من خلالي الآن, أنا القارئ الفطن الذي يسيل عرقاً يقطر فوق صور كاتبه المفضل في الجرائد القديمة, لماذا لم يدرك هذا الخطأ أحد, حتى محسن رجائي نفسه, لماذا لم يرسل توضيحاً واحداً إلى هيئات التحرير الثلاث؟
4
عندما بدأت قصص محسن رجائي تنهال على الصحف لم ينشر له أحد, و لكن مع تكرار الإرسال تبدأ الصدفة المنتظرة في التحقق أخيراً: وقوع قصة في يد من يقرأها. هنا تنشر القصص و يتم الاحتفاء بالقاص الصعيدي الشاب, و مع زيادة الاحتفاء بالقاص الشاب الذي لم يخرج من قنا يوماً يكون من اللازم نشر صورته بين الحين و الآخر مع خبر صغير عنه أو مع قصة كتبها. يبحث محرران صحفيان, كل في جريدة, عن صورة للكاتب, و بالصدفة البحتة, يعثر كل منهما على صورة قديمة للممثل احمد زيدان, و بدون أي انتباه منهما لكون هذه الصورة منهما تخص أحمد زيدان, يرفقانها باسم محسن رجائي. لم تكن المسألة صدفة إلى هذه الدرجة. كان فيها شيء ما صارم أيضاً كأنه القانون. شيء ما في قصص محسن رجائي, في الأخبار الواردة عنه من نادي الأدب بقنا, في تركيب اسمه نفسه, كان يقطع بأن وجهه هو ذاك الوجه القديم لأحمد زيدان, كان يغرس الوعي في عقل هيئات التحرير المختلفة التي أرسل إليها قصصه, بأنه قد أرسل لهم صورته كذلك, و إن هذه الصورة إنما هي ما ينشرونه, و التي تخص في حقيقتها الممثل الكوميدي التافه, كان يحجب عن هيئات التحرير و جمهور المثقفين حقيقة بسيطة للغاية: " ثم شخصان بوجه واحد في هذا البلد". لم ير أحد هذه الحقيقة أو يدركها, نساها الجميع, بالأصح شرد عنها. لم تكن إلا لحظة شرود هي ما دفعت الصحفيين إلى هذا الخطأ, و لم تكن إلا لحظات شرود طويلة هي ما دفعت مدينة بكاملها إلى التسامح معه, إلى عدم رؤيته من الأساس.
5
هنا كان لابد من اتصالي بأحد الصحفيين لأحصل منه على عنوان محسن رجائي نفسه بقنا. كان لابد من وصولي إليه و التقائي به. في منزله قادني خادم عبر ممر طويل إلى حجرة المكتب. على نور الأباجورة الكابي لمحت وجهاً مغضناً منكباً على الأوراق و القلم يكتب بأصابع مرتعشة و معروقة. يرتدي روباً و كوفية و ملتفعاًَ بغطاء للرأس. على مكتبه لمحت صورة مهترئة له و هو يقف في موقف للأوتوبيس و يبتسم للمصور. نظرت إليها وشعرت بحجم الدمار المحدق منها. لم أدر السبب في إطلال الدمار من الصورة إلى كل هذا الحد, أو ما هي أبعاده, و هل سيتوقف عند حدود الصورة أم سيتعداها إلي أنا, أنا الذي ينظر إلي محسن رجائي الآن بنظرة ضيقة متمعنة و ماكرة تقطعها سلعة و بلغم يتطاير. في الصورة على مكتبه كان ينتصب من وراء ظهره أفيش فيلم جديد للمثل أحمد زيدان, يبدو فيه الأخير في قوة عنفوانه يمسك بمسدس في يده اليمنى. لم أستطع التمييز بين الرجل في الأفيش و الرجل خارجه, و كأنهما واحد, يضاف إليهما ذاك الجالس أمامي خارج الصورة, و كأن الساحر في الأفيش يقتل ضحاياه بمسدسه, يهبهم بذور سرطانه فيدمرهم و يدمر الصور التي تجمعهم به, يهب أعواما طويلة من الشرود لعالم كامل كي يتغاضى عن الاختلافات بين الاثنين, الساحر و المسحور, ثم يلتفت إلى نفسه فيسرطنها بنفس الكفاءة. أنتهي أنا إلى الغوص في مقعدي خوفا من النظرات المفترسة بشيخوختها للرجل الجالس أمامي, و ينتهي هو إلى التمزق سعالاً و حشرجات. ترتعش يده عن الإمساك بكوب الشاي الذي يسقط من يده و يغرق أطراف الصورة القديمة.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟