أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - أنتلجينسيا العراق بين الماضي والمستقبل تحت مجهر سيّار الجميل















المزيد.....



أنتلجينسيا العراق بين الماضي والمستقبل تحت مجهر سيّار الجميل


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 4549 - 2014 / 8 / 20 - 13:35
المحور: الادب والفن
    


عندما يأتي المثقف إلى خانة السياسي يضيع
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية للدكتور سيّار الجميل تحدث فيها عن"أنتلجينسيا العراق بين الماضي والمستقبل: البنية التاريخية للمثقفين العراقيين في القرن العشرين" وقد ساهم في تقديمه الدكتور حميد الهاشمي. قسّم الدكتور سيار الجميل محاضرته إلى ثلاثة محاور أساسية وهي "المدخلات التاريخية والمضامين الموضوعية والرؤية المستقبلية" .
استهل الجميل محاضرته بالقول بأنه سيحاول أن يقدّم شيئاً جديداً حول موضوع شَغَلهُ منذ أكثر من عشرين عاماً، وقد كتب عن تاريخ المثقفين العراقيين نصاً طويلاً تحت عنوان "أنتليجنسيا العراق"، ويتمنى أن يسعفه الوقت كي ينشر هذا الموضوع المهم في كتاب كبير قبل رحيله إلى جوار ربّه.
بدأ الجميل البحث عن سرّ الثقافة العراقية، أو ربما عن سرّ التكوين الثقافي في العراق. ولم يكن هذا الباحث الدؤوب يتخيّل أن يصل حال العراق والعراقيين إلى ما وصل إليه اليوم. وربما لم يتخيل الحضور في يوم من الأيام أن يصل وضع العراق إلى ما آل إليه اليوم.
يعتقد الجميل أن سرّ العراق ليس سراً سياسياً أو اقتصادياً، وإنما هو سرّ ثقافي رائع تفحّصه جيداً، وأحصى النُخب الثقافية التي عاشت بين جنباته على امتداد أربعة قرون قبل القرن العشرين. فوجد أن سرّ ازدهاره يكمن في مثقفيه، وليس في أي معطىً آخر على الرغم من أهميته.
يرى الجميل أن هذه الفئات أو النُخب كانت تُسمى بالعلماء أو الأدباء وليس بالمثقفين. وهو لا يقصد الإشارة إلى العصور العباسية الثلاثة التي ازدهرت فيها الثقافة في العراق لأن كل الذين يقصدون العراق ويستوطنون فيه، ويتعلمون في مدارسه ببغداد والبصرة والموصل وغيرها من مدن العراق وحواضره يبرزون ويشتهرون وما أن تنكِّد عليهم السياسية حتى يرحلون عن هذا البلد. وهذا الأمر لا يقتصر على الوافدين حسب، وإنما على أبناء العراق أيضاً. فحينما يبني العراقي نفسه لكي يُصبح عالماً أو أديباً أو مفكراً نجده موزعاً بين ثلاثة خيارات وهي إما أن يصمت أو يموت أو يرحل.
يعتقد الجميل بوجود خطين في العراق لا ثالث لهما، وهما خط حضاري وخط سياسي بدَءا منذ زمن طويل، وغالباً ما يقع الخط الحضاري تحت وطأة الخط السياسي فيقمعه، ويشرّد أبناءه، ويقتل الكثير من مبدعيه، بل أن بعضهم ينتحر، أو يهرب مثل الشافعي، أو يموت كما مات ابن المقفّع ميتة مأساوية. وليس هناك تفاهم بين الحضاري والسياسي. وعندما يأتي المثقف إلى خانة السياسي يضيع، أما السياسي فهذه هي حرفته وأكذايبه ودوّامته ومأزقه. إن الخصم اللدود للسياسي هو المثقف منذ البداية وحتى يومنا هذا. يرى الجميل أن هناك مثقفين يشتغلون بالسياسة أو بالفكر السياسي، ولكنه إذا مارس السياسة يموت سواء الذي يبيع نفسه أم يكون مثقف سلطة، أم يلعب على مؤسسات الدولة.
يقسِّم الجميل تاريخ المثقف العراقي في أطواره الحديثة، قبل القرن العشرين تحديداً، ويرى أنه عاش مرحلتين تتمثل الأولى بـ 200 سنة أولى في القرن السادس عشر والسابع عشر، ومرحلة الـ 200 سنة الثانية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. أما المرحلة التي قُدر له أن يكملها أو يبدأ فيها ببناء الدولة في القرن العشرين قد انتهت اليوم ولم يكملها. ويتشاءم الجميل حينما يقول بأنه لن يكون هناك مثقف عراقي حقيقي حينما يرحل هو أو جيله على حد سواء!

من هو المثقف؟
تساءل الجميل عن معنى كلمة المثقف التي نرددها أو نسمعها كثيراً؟ من هو هذا المثقف؟ ومن هي هذه الأنتليجنسيا؟ فيجيب بأن الأنتليجنسيا هي طبقة أو فئة تعمل لمصلحة السلطة، وربما تعمل لمصلحة دولة إن كانت الدولة صاحبة مؤسسات، لكن حينما لا تمتلك الدولة مؤسسات فهذا ليس عضواً في الأنتليجنسيا.
ذكرَ الجميل بأنه لم يسمع على مدى هذه القرون الأربعة، وهي مسافة زمنية طويلة، إلاّ في العراق وبلاد الشام نوعما عن وجود أُسَر ثقافية بكاملها، فهذه أسرة شعراء، وتلك أسرة فقهاء، وثالثة أسرة أدباء، ورابعة أسرة أطباء، وخامسة أسرة مراجع أباً عن جد وهكذا دواليك. لكن المشكلة أن أحداً لم يدرس حتى يومنا هذا لماذا اشتهر العراق دون غيره من البلدان بهذه الأسر الثقافية أو العلمية؟
نوّه الجميل إلى وجود المثقف الأحادي في العراق، ومع ذلك حينما ازدهرت الثقافة في العراق في حقب معينة ظهرت إلى الوجود أعمال جماعية. فعندما يجد المثقف العراقي نفسه في بلد مستقر يطمئن للآخر، ولكن حينما لا يجد المثقف بلده مستقراً لا يطمئن حتى للمثقف الآخر. وهذا ما يفسر وجود الفِرق والجماعات والنخب والتشكيلات في الخمسينات من القرن الماضي. ومثلما كان السياسي يصارع السياسي الآخر بمستوى أدنى فإنه يجد في بعض الحالات بأن المثقف يصارع المثقف الآخر. وربما ينافسه لكنه لا ينزل إلى مستوى السياسي في صراعه مع السياسي الآخر. وهذا ما يفسّر وجود الخصومات الثقافية والفكرية والمساجلات، أي أن المثقف العراقي كان صعباً في التعامل مع الآخر لأنه يريد أن يتملكه لنفسه وأن منْ يقف ضده من هو بمستواه بينما اليوم قد ضاع كل شيئ تقريباً. هناك أنواع من المثقفين، ليس فقط مثقفو البيوتات، وإنما هناك مثقفون نشأوا في الشارع، ومثقفون يسكرون ليل نهار، ويتسكعون هنا وهناك ولكن نستطيع أن نقارن بين السيّاب وحسين مردان أو جان دمّو لأنهم أصحاب نصوص ونتاجات أدبية. إذن، من هو المثقف؟ يجيب الجميل بأن لفظ "المثقّف" الذي يتم استعماله في لغتنا العربية المعاصرة هو لفظ مولد، إذ لا يمكن العثور عليه في الأدبيات العربية القديمة، وهو اسم مفعول من الفعل "ثقف"، أي بمعنى حذق وقد جاء في " لسان العرب " : "ثقف الشيىء ثقفاً وثقافاً وثقوفة : حذقه. والثقِف حاذق فهم، ولم نعثر على لفظ "مثقف". أما لفظ "الثقافة" فقد ورد كمصدر بمعنى "الحذق". وثقف الرجل ثقافة : أي : صار حاذقاً خفيفاً" ، أي : ماهراً. يرى الجميل أن المثقف بالنسبة إليه هي كلمة صعبة لا يمكن أن تطلق على كل من هّب ودّب حتى ولو كان هذا من حملة الشهادات العليا، فالشهادة لا تمنح صاحبها أية ثقافة. ويضيف، وهذه معلومة اقتبسناها من مقال آخر يحمل عنوان "بنية الثقافة العراقية . . . دراسة في الأجيال الراحلة" يقول فيها أن "المثقف الحقيقي هو المحترف الحاذق الذي يمتلك مهارات متعددة في القول والفعل وتحمّل المسؤولية والمعلومات والإرادة والتعبير عن ضمير المجتمع أصدق تعبير لا أن يكون أي ذيل لأي سلطة أو نظام أو دكتاتور أي أنه يقع تحت سطوة أي آيديولوجية ومذهب وطائفة وقبيلة وحزب ومعتقد .. إذن الثقافة هي الحذاقة، وقوة الشخصية، واستقلالية الرأي، وصحة المعلومة، وسلامة التفكير ، وحداثة الفكر، وتجديد المعاني، وخصب العطاء وروعة الإبداع". ثم عزّز هذا التوصيف بالقول إن هذا حاذق بالشعر، فالشعراء السياب والجواهري والملائكة هم شعراء حاذقون بمهنتهم ولم يصل أحد إلى مستواهم في الشعر والإبداع.
توقف الجميل عند المأزق اللغوي في تعريف الثقافة في اللغة العربية حتى اليوم فهي تعني Culture ولكنها بنفس الوقت تعني Education، وهذا خلط لغوي بين المفهومين. إن الفرق بين الإشكالية والمشكلة كبير جداً في التاريخ الثقافي العراقي وربما في التاريخ الاجتماعي والموجات التي ظهرت لاحقاً وأنا مطلّع على الموجة الأخيرة في أميركا وبريطانيا. فهناك جيل جديد يأتي اليوم لكي يفسر تاريخ الثقافة العراقية دون الرجوع إلى كتب الرحالة والمبدعين والشعراء والأدباء، أو نصوص الرواة، أو ماذا فعل التشكيليون؟ أو ماذا قال الصحفيون؟ هذا الجيل حينما تسأله: من هو روفائيل بطّي؟ لا يعرف. وحينما تسأله: من هو عبدالكريم زيدان؟ لا يعرف. ربما يعرف علي الوردي، غير أن هذا الجيل يُطلق أحكاماً ليس على مستوى الأفراد، بل على مستوى الجامعات مع الأسف الشديد!
استنتج الجميل أن هناك مشكلة استشراق جديد في الرؤية إلى العراق. وحاول أن ينبِّه بعض الأخوة الزملاء إلى هذه الحالة التي تنتشر خصوصاً عند الجيل الجديد من أبناء الجاليات الذين يقرأون تاريخ العراق. وهذه المشلكة أسماها "الأبوّة والبنوّة". ولحد الآن الأبناء يرفضون الآباء لأسباب سياسية أو اجتماعية أو تربوية. جيل يرفض جيلاً وهذه المسأله يشعر بها العراقي حينما يكبر فيشعر أن الجيل الذي يأتي من بعده، وقد تربى على يديه، لا ينتمي إليه، وإنما ينتمي إلى شيئ أكبر أو آخر وهذه مبعثها سياسات الحكم أو السلطات التي مرّت على العراق.
أشار الجميل أن أصعب شيئ بالنسبة إليه هو حينما يحكم العراق حكام أغبياء، والمثقف الحقيقي لا يقبل بذلك، فإما أن يصمت أو يهرب أو ينتقد ويتكلم على استحياء أو بلغة رمزية. والعراق، من وجهة نظر الجميل، لا يمكن أن يأخذه مساره نحو التقدّم ما لم يحكمه حاكم ذكي أو حاكم مثقف. أما أن يحكمه حكام لم يقرأوا في حياتهم كتاباً واحداً فهذه هي الكارثة بعينها. وهذه، للمناسبة، ليست مشكلتنا وحدنا في العراق، وإنما في كل المجتمعات العربية أو بالأحرى في قادتها وسياسييها الذين لا يستطيعون قول جملة مفيدة واحدة، ولا يعرفوا كيف يخطبوا بين الناس أو يتجانسوا مع المثقفين العراقيين. وربما تكون الحالة الوحيدة والنادرة التي اكتشفها الجميل هي حالة الملك فيصل الأول الذي كان يلتقي بخصمه مثل الرصافي الذي ضيّفه، وأكرمه، ومنحه راتباً ومع ذلك ظل الرصافي عنيداً.
لا يريد الجميل للمثقفين العراقيين أن يحكموا العراق وإنما يكونوا جزءاً من حالة تجسيرية للحكم وحالة استشارة وخبرة. وإذا بقي الوضع على ما هو عليه فإنه سوف يتردى من سيء إلى أسوأ.
انتقد الجميل هؤلاء الحكّام الذين ريّفوا الثقافة وجعلوها خانعة جاهلة بينما يمتدح الرصافي الذي كتب كتاباً عن الشخصية المحمدية في ثلاثينات القرن الماضي وقال اتركوه لكي يأتي جيل جديد يفهمه، كما كتب الزهاوي عن تحرير المرأة في ذلك الوقت. إذن، يخلص الجميل إلى أن هناك مثقفاً عنيداً، ومثقفاً متلوناً، ومثقفاً سلطوياً. وهذا الرأي، للمناسبة، هو رأي علي الوردي عندما كتب عن وعاظ السلاطين، وهو لم يقصد الملالي فقط، لأنهم أصلاً يصفقون، ولكنه قصد بهم مثقفي السلطة. والسؤال المهم هنا: لماذا ينحدر المثقف من أجل المصلحة أو المال؟ ومن أجل ماذا يبيع إبداعه؟ والفرق كبير بين الرصافي العنيد وقامة أخرى كبيرة هي الجواهري، فالأول ظل صلباً وعنيداً، فيما مدح الثاني عبدالإله، ثم عبدالكريم قاسم حينما قال: (عبد الكريم وفي العراق خصاصة / وقد كنت الكريم الأوحدا)، ثم جاء ليقول "طيف تحدر من وراء حجاب ... غضر الترائب مثقل الأهداب". نحن نتساءل هنا عن أسباب هذا التلوّن بين شاعر وآخر؟ السؤال الآخر الذي ينبغي إثارته هو: كيف نفسر تمزّق المجتمع العراقي ما بين أكثرية وأقلية؟ هذه التصانيف هي التي أفضت أول مرة في التاريخ لأن تُفرغ مدينة الموصل التي هي مركز المسيحية في العراق من مسيحييها!

التكوين التاريخي
يُقرّ الجميل بأن التربويات التي درسها جيله كانت خاطئة. وأن من سبقوهم كانوا أفضل منهم. وقد توصل إلى هذه النتيجة من خلال المراقبة للمقررات الدراسية منذ عهد فيصل إلى عهد صدام حسين. أشار الجميل إلى أن الطلاب الصغار كانوا يقرأون في حقبة العشرينات إلى جانب العلوم والتربية والأدب كتاباً كاملاً عنوانه الأخلاق Ethics وحينما جاءت الموجة القومية غيّروا ذلك الكتاب، مع الأسف، بينما كان مضمونه رائع يعلّم التلميذ الصغير كيف يتكلّم؟ وكيف يتعامل مع الكبير؟ وكيف يتعلّم آداب المائدة؟ وكيف يعرف شعائر الأعياد وما إلى ذلك. لقد حوّلوا هذا الكتاب إلى "أشياء وصحة". وحينما اندلعت ثورة 14 تموز 1958 تغيرت "الأشياء والصحة" إلى "التربية الوطنية"، وعندما جاء البعثيون حوّلوها إلى "التربية الوطنية"، وفي عهد صدام حسين حلّ "التقرير القطري" محل الكتب السابقة.
إن حجم المأساة كبير جداً ما بين الأخلاق الأولى التي أرادها المثقفون الأوائل في مجتمع كان يتقدم صوب مؤسسات الدولة، وبين الثقافة الحزبية التي يقرأها الطالب في المدارس والجامعات أيضاً. بينما كان الجميل يتمنى مخلصاً أن يُقرر تاريخ الثقافة العراقية على أبنائنا لكي يعرفوا بأن العراق في القرن السادس عشر لم يكن مظلماً، فعلى مدى 200 سنة كان هناك الواسطي البغدادي، ويوسف بن علي بن برهان، والرضائي وكبار الشعراء أمثال فضلي وعهدي وروحي ونظمي وخادمي وذهني وكلامي، فهذا مختص بنظم الشعر، وذاك مختص بعلم الكلام، وغيره مختص باللغة أو التفسير. ثم يأتي الحائري، الكعبي، الطريحي، الغرابي، النحوي، العمري وصولاً إلى القرن السابع عشر عندما غدت البصرة متنفساً حقيقياً للعراق وسميّت بفينيسيا الشرق في حين كانت هناك مجتمعات عربية ميتة في القرن السابع عشر، بينما كان بعض العراقيين يصل إلى أميركا اللاتينية مثل الياس بن حنّا الموصلي الذي انتقل من الموصل إلى بغداد التي عاش فيها عشرين عاماً قبل أن يرحل إلى أميركا اللاتينية. يتمنى الجميل أن يعرف الصغار هذه المعلومات التي لا يعرفها إلاّ القليل من العراقيين. هذا إضافة إلى رحلات عبد القادر بن عمر البغدادي وغيرهم من الرحالة العراقيين.

التكوين الثاني
يجد الجميل أن التكوين الثاني يبدأ من الـ 200 سنة التي جاءت من بعد ويعتبره أول تكوين عراقي حقيقي منذ أن استلم حسن باشا وولده أحمد كيان بغداد ثم توسعا على حساب البصرة والموصل بهذه الحدود العثمانية. ثم عاد المُحاضر ليطرح السؤال ذاته: من هو المثقف في ذلك الوقت؟
لم يكن في ذلك الوقت فرق بين كلداني ومسلم أو بين سني وشيعي، بل بالعكس وجد أن هناك مساجلات شعرية رائعة بين أبناء الموصل وأبناء النجف وصولاً إلى القرن التاسع عشر والعشرين. كان هناك من يقضي ستة أشهر في الموصل ويذهب ليقضي ستة أشهر أخرى في النجف. أشار المحاضر إلى أشعار عبد الباقي بن سليمان بن أحمد العمري الفاروقي الموصلي الذي كتب غالبية قصائده في مدح آل البيت وهو يقصد "الباقيات الصالحات"، إضافة إلى أعماله المعروفة "الترياق الفاروقي" و "نزهة الدهر في تراجم فضلاء العصر". كما أشار إلى عبدالله السويدي والملا عثمان الموصلي وأنغامه وموسيقاه وإبداعاته التي أنجزها ببغداد، وكان يذهب إلى عانة، كما كان شغوفاً بالحلة التي يتغزل فيها. لقد بقيت أنغامه وذهب تمثاله الذي تحطّم قبل أيام. وفضلاً عن مدارس بغداد والبصرة والموصل والنجف هناك مدرسة ماوران في أعماق جبال كردستان التي كان يدرس فيها علماء العراق باللغة العربية ويتخرج فيها علماء وفقهاء عراقيون. قائمة من الأسماء قد لا نجد المجال الواسع لذكرها لكن أبرزها ببغداد مرتضى بن نظمي، محمود الرحبي، عبدالرحمن السويدي، رسول حاوي داوود باشا، عثمان بن سند وياسين الخطيب.
سرد المحاضر واقعة طريفة حدثت قبل عام 1990 حينما حقق أحد الزملاء كتاباً وقدّمه لوزارة الثقافة والإعلام لإجازته للنشر لكن وجود ثلاث صفحات فيه أعاقت نشر الكتاب ما لم تُرفع. وحينما استفسر عن السبب قالوا له أن المؤلف يسبّ الوهابيين ونحن علاقتنا طيبة بالمملكة العربية السعودية. وبعد بضعة أشهر حدث الذي حدث بين العراق والكويت والسعودية فقالوا له: أين الصفحات الثلاثة. نريد أن ننشر الكتاب الآن؟
نوّه المحاضر بأهمية دور الإرساليات التبشيرية التي ظلت تبشر طوال سنين من دون أن يأتيها مسلم أو يهودي واحد، ولكنهم شيدوا مدارس الآباء الدومنيكان التي تخرّج فيها مسيحيون ومسلمون، كما جلبوا أول مطبعة، وأنشأوا أول مستوصف في إشارة واضحة إلى أهمية الدور الخدمي الذي أدته هذه الإرساليات التبشيرية، بينما بقيت المطابع تطبع، والمدارس تُخرّج أجيالاً كاملة من دون أن يعترض طريقها أحد. بل أن مشروع الجامعة الأميركية ببيروت كان أصله في الموصل، لكن الموصليين قالوا إننا لا نريد جامعة فنقلوها إلى هناك. ثمة أسماء كثيرة توقف عندها المحاضر نذكر منها محمد العبدلي وخليل البصير والأردبيلي والطباطبائي النجفي والأعرجي والكاظمي والبغدادي والعطار والحائري وعثمان بن علي العمري والسويدي والبلاغي والحيدري وغيرهم من المثقفين الذين لم يكتب عنهم أحد كما يذهب الجميل. كما نوّه إلى أهمية المجتهدين في النجف الأشرف.
يرى المحاضر أن زبدة هذه السنوات والعقود والأجيال كانت في القرن التاسع عشر، وهم الذين سبقوا المستنيرين الأوائل. من إيجابيات الحكومات المحلية للفترة اللامركزية التي انطلقت مع بداية القرن الثامن عشر وانتهت قبل منتصف القرن التاسع عشر أنها أنجبت عدداً كبيراً من المثقفين سواء من قبل المماليك وبعضهم كانوا من المثقفين الممتازين أم في نهاية القرن حيث كان محمود شوكت باشا من أبنائهم، إضافة إلى الجليليين في الموصل الذين اهتموا كثيراً بالثقافة، إضافة إلى كردستان وأجزاء واسعة من العراق. وقد أشار المحاضر إلى بعضهم مثل رسول مفتي، عبدالله رقم أفندي، محمود شكري الآلوسي، مصطفى ذهني بابان وكاظم الأزري. وهنا تذكر المحاضر القصيدة التي شطّرها الموصلي كاظم الأرزي التي يقول فيها:
(قالوا حبيبك محموم فقلت له إني امرؤ صادق لا أعرف الكذبا
أستغفر الله عن ذنب شقيت به أنا الذي كنتُ في حمّائه سببا
قبلته ولهيب النار في كبدي علّي أداوي به الشوق الذي غلبا
ولم أكن في الهوى أبغي أذيته فأثرّت فيه تلك النار فالتهبا).
تكشف هذه القصيدة أن الشاعر كان منشغلاً برومانسية عجيبة ولا تعنيه شواغل السلطة بشيئ. ثم أورد مجموعة أخرى من الأسماء المهمة من بينها جميل عبد الغني، معروف الرصافي، داوود الجلبي، عبد الحسين الأزري، سليمان نظيف، مصطفى باشا ياملكي، محمد أمين، زكي صالح أحريق، عبدالملك الشواك، الشيرواني، ملا عثمان الموصلي، عبد الفتاح الشواك، محمد الرضواني، عبدالله فيضي، أحمد عزت، أنستاس ماري الكرملي، أقليموس داود وغيرهم.
لم يأتِ تأسيس الدولة العراقية من فراغ كما يتخيل البعض أن الإنكليز هم الذين صنعوا العراق، هذه أكذوبة كبرى وتزوير فاضح لتاريخه ذلك أن بريطانيا ورثت العراق مكّونا من ثلاث ولايات مهمة جداً هي الموصل وبغداد والبصرة بحدودها القديمة وبدأ ترسيم الحدود العراقية على الأسس المثّبتة رسميا منذ مئات السنين. وعلى الرغم من الجهل الطاغي والكوارث والمجاعات لكن هناك ثقلاً ثقافياً كبيراً ولهذا بدأت مؤسسات الدولة تتغير من مؤسسات عثمانية قديمة إلى مؤسسات وطنية عراقية. كان العراق يحتاج إلى نخب أخرى من المثقفين العراقيين وخصوصاً من خريجي الجامعة الأميركية ببيروت.
ذكر المحاضر بعض الأسماء أبرزهم محمد مهدي البصير الذي تخرّج في فرنسا، ناجي القشطيني، رجل قانون من الطراز الأول، طه الهاشمي، ضابط كبير لكنه كتب أروع كتاب عن جغرافية العراق لحد الآن، صديق الدملوجي، كتب أفضل كتاب عن اليزيدية، وهو قائممقام، لكنه مثقف كبير ويعتبر أفضل من كتب عن اليزيدية، منير القاضي من أبرع رجال القانون، ورشيد عالي، رجل قانون أيضاً ساهم في التدريس في كلية الحقوق، وهي أول كلية حقوق في المنطقة أسست عام 1938 وأسماء عديدة أخرى.
أما بين الحربين فقد برز مكي عقراوي، ثم فهمي المدرس الذي ترأس أول جامعة ثم فشلت بعد ست سنوات، وجامعة آل البيت، وهي أول جامعة في العراق وليس جامعة بغداد كما يُشاع، مجيد خدوري، فاضل الجمالي، يعقوب سركيس، ناجح سويدي، ثابت عبد النور، سليمان فيضي وكلهم من المثقفين، إضافة إلى روفائيل بطي، توفيق السمعاني، سليمان الدخيل جاء من نجد وتوطن العراق، جعفر خياط، باسل العزاوي، إبراهيم صالح شكر، أنور شاؤول، إبراهيم الواعظ، السيد أحمد الفخري، ميخائيل كيسي، أحمد حامد الصراف، رفيق حلمي، محمد حسين الشبيبي، أحمد عزت القيسي، محمد بهجت الأثري، حافظ جميل، شكري فضلي، حنا خياط، فاروق الدملوجي، رزوق غنّام، كاظم الدجيلي، سليمان صائغ، بولينا حسون أول صحفية عراقية تصدر مجلة كانون أول عام 1926، عبدالله كوران، عبدالله فائق المحامي، رشيد الخطيب، صالح البدري، عبدالله الدملوجي، محمد حسن أبو المحاسن، خيري الهنداوي، سركون حسقيل من أفضل الاقتصاديين العراقيين، يونان عبو يونان، الذي قرأت مقالاته التي نشرها في العشرينات ولا أستطيع أن أتخيل كم كان هذا الرجل يقرأ بالأدب الغربي والفلسفة الأوروبية لكي يشرح ما يحتاجه التفكير العراقي في ذلك الوقت، يوسف مسكوني، محمود رامز كامل الجادرجي، الملا عبود الكرخي، شالوم درويش، عبد المجيد خيالي، توفيق الفكيكي، قاسم حمودي، محمود فهمي درويش في الأعمال الموسوعية التي طبعتها الدولة، مريم زرمة، علي محمود الشيخ علي، ناجي وصائب وسامي شوكت، ثلاثة أخوة كل واحد برع في مجال لكن الأكثر ثقافة هو سامي لكنه كان عنيفاً في فكره القومي وهو ليس من أصل عربي، صائب الدكتور وناجي المعروف سياسياً، فاضل الصيدلي أبو أكرم وعبد الحق كان شاعراً مجيداً. هناك سلمان كوهين والشيرازي، كامل الطبقجلي، عبد الوهاب طباطبائي، سامي خونده، محمد جمال الهاشمي، متي صنكور، ومحمد أمين العمري وهناك أسماء أخرى لا يستطيع أن يذكرها كلها ورغم ذلك كان العراق أبوابه مفتوحة أمام المثقفين العرب.
وفي هذا الصدد أشار الجميل إلى رسالة دكتوراه أشرف عليها آنذاك بعنوان "المثقفون العرب في العراق منذ عام 1989 وقد أنجزها أحد طلابه العراقيين لكنه لم يذكر كل الأسماء . ويذكر المحاضر بأن هناك أسماء كثيرة عاشت في العراق وقدمت خدمة تربوية كبيرة للطلبة العراقيين خصوصاً في المدارس الثانوية. فالبصرة كانت تستقبل مثقفين من الإحساء، الأفغاني نفسه درس في النجف، ثم ذهب مهزوماً لأنه هُدد بالقتل عندما كان صبياً مراهقاً. سليمان البستاني زار العراق إضافة إلى زكي الخطيب، أنيس الصيداوي. كما جلبت الحملة البريطانية على مدى أربع سنوات مترجمين عرباً مثل الدكتور عارف معروف، عطا عون، حسين أفنان، أمين كتباني، اللبناني الذي كان يعتمد عليه الملك فيصل، وقد كتب عن العراق ومثقفيه، وعن تجربته في العراق كتابة رائعة. أسماء أخرى من قبيل حسين وفقي، حسين النابلسي، صالح شميل، زكي مبارك، نجيب مشرقي، محمود عطية، محمد أمين الشنقيطي من موريتانيا، ومحمد بن رابح مغربي.
توقف المحاضر عند أسماء سيدات وآنسات كان لهن تأثيرهن الواضح على الفتيات العراقيات مثل أمل قندلفت، أمل سعيد، وداد المقدسي، سلمى المقدسي، مديحة تحسين، النور قمر وغيرهن من الشخصيات النسوية العربية.
كانت غالبية هذه الشخصيات مؤثرة أمثال درويش المقدادي وأنيس زكريا المنصوري، وعبدالله المشنوق وعبدالكريم عسيران إلاّ أنّ أهم شخصيتين من وجهة نظر المُحاضر هما رستم حيدر وساطع الحصري أحدهما قُتل والثاني جُرد من الجنسية العراقية. كما أشار إلى عبدالرزاق السنهوري، رجل قانون من الدرجة الأولى جاء إلى العراق لكي يساهم في كتابة قانون العقوبات البغدادي والقانون المدني. وعبد العزيز الثعالبي. وقد أثيرت ضد هؤلاء مشاكل من قبل بعض العراقيين الذين رفضوا إعطائهم الجنسية العراقية.
أشار المحاضر إلى أن شخصية رستم حيدر كانت مؤثرة في الدولة وليس في المجتمع فهو خريج المدرسة الشاهانية في إستانبول، كما أكمل دراستة في باريس، وعندما التقاه فيصل أحبب فيه نزعته المعرفية، وخدماته الكثيرة التي كان يقدِّمها من دون مقابل. أما ساطع الحصري فهناك الكثير من التُهم ضده ولكن ليس كل ما يقال عنه صحيحاً. وحتى المحاضر نفسه كان ضده لأنه وقف سداً منيعاً أمام جامعة آل البيت وأمام وزارة المعارف وأمام فاضل الجمالي ولهذا نقله فيصل إلى المتاحف وهناك أيضاً قدّم خدمات كثيرة لا يمكن لأحد أن ينكرها. أما كتاباته القومية فقد جاءت في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات لكن مشروعه التربوي كان ناجحاً إلى حدٍ كبير. كما كان علمانياً سدّ الأبواب أمام كل أصحاب العمائم ولم يكن يميز بين هذا وذاك إلاّ بعد أن يأتيه بالأوراق الثبوتية التي تُثبت أنه خريج مدرسة حتى يقبلوه في معهد أو كلية.، وهذا الأمر حصل مع الجواهري حيث طلب منه الحصري أن يأتي بالأوراق التي تثبت تحصيله الدراسي فلم يأت بها فحدثت الضجة ضد ساطع الذي لا نستطيع أن نبرئه من كل الأخطاء لكن مشروعه التربوي الذي رسّخه في العراق ليس فقط في القراءة الخلدونية وإنما في كل المناهج كان ناجحاً جداً. الاثنان لديهما مذكراتهما وكل منهما يدافع نفسه إزاء القضية التي أُتهم بها ساطع.

جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية
برزت ضمن هذا الجيل أسماء أمثال ناجي معروف، صفاء خلوصي، مهدي المخزومي، علي الوردي، طه باقر، عبدالعزيز الدوري، زكي صالح، جواد سليم، صالح العلي، السياب، الملائكة، عاتكة، لميعة، ناظم الغزالي، جعفر الخليلي، يوسف العاني، سعدي يوسف، البياتي، التكرلي، ذوالنون أيوب، فائق السامرائي، حسين جميل، عبد الجبار عبدالله، خير الدين حسيب، إبراهيم كبة، أحمد سوسة، البسّام، الجواهري، فائق حسن، طلعت الشيباني، محمد حديد، الجومرد، كوركيس عواد، خليل عواد، عبدالرزاق الحسني، فيصل السامر، جرجيس فتح الله، يونس بحري، عبدالرحمن الجليلي، حسن الذنون، ضياء جعفر، عبدالرحمن البزاز، صديق شنشل، فؤاد الركابي، سلمان الصفواني، هاشم محمد، محمد سلمان حسن، محمد توفيق حسين، عبدالرزاق شبيب، هشام الشاوي، سلام أحمد، أديب الجادر، سجاد الغازي، أحمد الحبوبي، شكري صالح زكي، خيري العمري، سليم النعيمي، سعدون حمادي، شاذل طاقة، محمود الحديدي، شفيق الكمالي، علي الحلي، فؤاد جميل، ومن اليسار محمود أحمد السيد، حسين الرحال، إبراهيم القزاز، عبدالله جدوع، عبد الفتاح إبراهيم، خدوري خدوري، يحيى قاص، نوري روفائيل، عزيز شريف، يوسف حجي الياس، سلام عادل، زكي خيري، سعاد خيري، رحيم عجينة، عبد الحق فاضل، حسن زكريا، عامر عبدالله، داوود الصايغ، عبد القادر إسماعيل، عزيز الحاج، عزيز محمد، باقر إبراهيم، عبد الملك نوري، فائق بطي، علي جواد الطاهر، كامل قزانجي، نزيهة الدليمي، عبد الجبار وهبي، عبدالرحمن شريف، صفاء الحافظ، غائب طعمة فرمان، بديع عمر نظمي، نوري جعفر، غانم الدباغ، مظفر النواب، رشدي العامل، يوسف عبد المسيح ثروت، جميل كبة، صفاء الحيدري، كاظم جواد، باقر سماكة، ومن البعثيين محمد جميل شلش، عبدالرزاق عبد الواحد، حميد سعيد وسامي مهدي.
طالَبَ الجميل الحاضرين بمساعدته لمعرفة الأسماء الأخيرة في زمن الدكتاتورية مع استثناء مثقفي المهجر. وهو يرى أن مثقفي السلطة الذين كانوا مات ذكرهم اليوم. والمثقفون الحقيقيون إما مثقفون شاردون مهاجرون كأمثالنا، وإما مثقفون صامتون لا يستطيع البوح بكلمة واحدة. ثم استدرك ذكر بعض الكُتاب الذين نسيهم مثل حسين علي محفوظ، جواد علي وجلال الحنفي.

الثقافة المهاجرة
ثمة أسماء كثيرة في المهاجر من بينهم صلاح نيازي وخير الدين حسيب، وعبد العزيز الدوري، وعبد الكريم زيدان وغيرهم سواء اختلفنا أم اتفقنا معهم، فمحمد مهدي الجواهري كتب أهم أعماله في المهجر. ثمة أسماء أخرى مثل فؤاد سالم، لميعة عباس عمارة، عوني كرومي، إياد القزاز، فالح عبد الجبار، زهير الدجيلي، محمد مكية، وغيرهم من الأسماء الكبيرة الموزعة في أميركا وأوروبا وأستراليا ونيوزلندا وبعض الدول العربية أمثال عبدالرحمن مجيد الربيعي، جلال الخياط، إبراهيم الحيدري، الدكتور الجليلي، خالد القشطيني، طاهر علواني، سركون بولص، ديغيلين غزالة، ناهدة الرمّاح، برهان الخطيب، عبد الحق فاضل، زينب، سعدي يوسف، وليد خدوري، فريال غزول، لمياء الكيلاني، فاروق الراوي، حسن العلوي، نجيب المانع، سميرة المانع، فؤاد التكرلي، فاضل العزاوي، أمين الدراجي، غسان العطية، مظفر النواب، فاطمة المحسن، كاظم حبيب، أنوار عبد الوهاب، سيتا، فريدالله ويردي، إنعام كجه جي، ريم كبة وغيرهم.
طلبَ الجميل من الحاضرين أن يتخيلوا لو أن هذه الأسماء كلها قد بقيت في العراق، ولو لم يهاجروا، ولو لم يأتينا ذلك الظلام الأسود فما الذي سيحدث؟ لو انتبهنا لأنفسنا لما ضاعت منا فرصاً كثيرة. ثم تساءل المحاضر: كم سنعيش عشر سنوات أو عشرين فإننا سوف نرحل حتماً، لكن السؤال المهم هو: من سيأتي بعدنا في العراق؟ لقد حوصرت الثقافة في العراق، غدت رسمية وسلطوية ومخابراتية. لا منفذ للإعلام الحر، دور النشر كانت محدودة ومقتصرة على مؤسسة واحدة تسمى دائرة الشؤون الثقافية. ووزارة الثقافة والإعلام كانت مهيمنة على عصب الحياة في العراق. بينما كانت السلطة تغدق على هذا وذاك حقائب سمسونايت وكوبونات نفط. أما التربية فكانت حزبية تمجيدية، الإعلام يمجد، والصحف تمجد، والشعراء يمجدون. من الذي أطفأ ملكة الشعر حتى عند النسوة العراقيات البسيطات اللواتي كنّ يقلن شعراً حتى حينما يشترين حاجة في الأسواق؟ لماذا انطفأت تلك المواهب؟ من الذي أطفأها؟ ومن الذي قادنا إلى هذا الجحيم؟ ولماذا لم ينتبه من تبقى في العراق إلى حال المأساة؟ من الذي أجهض الإبداع؟ ومن الذي أمات الطبقة الوسطى؟ ومن الذي ريّف الثقافة؟ ترييف الثقافة جاء قبل صدام حسين والصراع مازال موجوداً ليس بين من تمدن أو لم يتمدن، وإنما هو بين المتخلفين وبين أبناء المدينة.
يعتقد الجميل أن القضية معقدة جداً ويجب أن نراها من زوايا متعددة، وأن لا نبقى أسرى العلّامة الوردي مع احترامه الشديد له، بل يجب أن نرى المجتمع العراقي ونفهمه من داخله، وما الذي جرى لطبقاته الخمس منذ الستينات حتى عام 2003؟

الإسلام السياسي
هيمن الإسلام السياسي بصورة بشعة هذه الأيام كما انتشر الفكر التقسيمي الطائفي الذي لم يعرفه المثقف العراقي الحقيقي، وإنما كان يستهين به لكن هشاشة الأخلاق دفعت بعض العراقيين لأن يسيروا خلف حكامهم الطائفيين فأماتوا قيمهم، وأشاعوا الموت والظلام، كما انتقلت هذه المشكلة إلى شاشات التلفزيون وغرف النوم.
يعتقد الجميل أن الأعمال الإبداعية لدى العراقيين الآن قليلة جداً قياساً بتعداد نفوسهم الذي بلغ 32 مليون حتى الآن علماً بأن هناك خمسة ملايين قد غادروا العراق إلى أوروبا وأميركا وأستراليا وغيرها من البلدان المانحة لحق اللجوء. فالحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات لم تكتب عنها الأجيال اللاحقة الكثير، ولم تجسّد مآسيها ويخشى الجميل أن الذاكرة قد تموت مع أصحابها الذين عاشوا ويلات تلك الحرب. وعلى الرغم من أن الحرب قد انتهت على السواتر لكنها ما تزال موجودة في دواخل الناس الذين اشتركوا وعاشوها لحظة بلحظة فأين هو المثقف العراقي الحقيقي الذي يستعيد ذاكرته ليكتب عن تلك المآسي والفظائع التي عاشها الشعب العراقي برمته سواء في السواتر الأمامية أم في المدن العراقية المتاخمة للحدود الإيرانية أو البعيدة في أعماق الخارطة العراقية؟
يرى الجميل أن التربية والتعليم قد أصبحا في خبر كان، إذ كنا نحلم بمدارس راقية، ونتمنى أن ننقل خبراتنا وتجاربنا إلى العراق لكي نعلّم أولادنا، لكن ما الذي حدث؟ أُجهض كل شيئ حتى من تبقى من المبدعين في الداخل حيث قُتلوا وشُردوا من بيوتهم، الجوامع والكنائس والمعالم التاريخية التي تعود إلى مئات السنين حُطمت وفُجرّت بينما الذي يتربعون على سدة الحكم صامتون لم ينبسوا ببنت شفة ولم يحركوا ساكنا وكأن شيئاً لم يحصل! وأكثر من ذلك فإن الحريات مختفية منذ زمن طويل، والحرية التي يقصدها الجميل هي ليس أن تمشي في الشارع ويعترضك رجال الأمن أو الجيش، بل هي أن تشيع الجمعيات والروابط ومؤسسات المجتمع المدني. الحرية هي أن تأخذ المرأة العراقية دورها في المجتمع وهي التي قدمت أشياء كثيرة على مدى أزمنة طويلة.
ذكر الجميل بأنه لم يعد يخاف السلطة في الدولة، بل أصبح يخاف السلطة في المجتمع، بل أن المجتمع أصبح سلطات متعددة لا تعرف من أين يأتيك هذا وذاك؟ لقد أصبح المجتمع هو المتسيّد في هذه الحالة الفوضوية التي وجد العراقيون أنفسهم فيها على حين فجأة. إذن، ما الذي تبقى للقرن الحادي والعشرين إن حدث تغيير بنيوي في مفاصل الحياة التاريخية في هذا الزمن، ويقصد به من عام 2009 إلى 2039 لهذا الجيل تحديداً، ماذا سيجد كل من الجيلين اللذين سيعقبانهما حتى نهاية القرن في بناء نوع من الحياة الثقافية ليس على النسق الذي كان عليه القرن العشرين، وإنما على نسق آخر جديد؟ تُرى هل أن النوع الآخر هو نهاية المطاف؟

رؤى واستنتاجات
اختتم الجميل محاضرته ببعض الرؤى والاستنتاجات التي تأمل فيها طويلاً لكي يقول بالنتيجة أن المثقف والسياسي لا يلتقيان ومنها:
- أن المثقف اليساري في العراق أكثر قوة وحركة وإبداعاً من المثقف القومي ولا يمكن وضع أي اعتبار للمثقف الإسلاموي.
- لم نجد المثقف الحقيقي في العراق اليوم وربما سيولد في الأفق البعيد، والمحاضر يقصد داخل العراق وليس خارجه.
- لا يوجد مثقف إسلاموي مهما كانت صفته وطائفته ومذهبه، والمحاضر لا يهمه سواء أكان هذا أم ذاك إذا بقي محنطاً ولم يعرف طعم الحرية.
- كل المثقفين العراقيين الذين أشهرتهم الحكومات العراقية المتعاقبة السابقة حتى اليوم سيؤكل ذكرهم مع الزمن وتصبح أسماءهم منسية. المثقف العراقي في الماضي الجميل كان يتعب لكي ينشر له أية كلمة أما اليوم فالوسائل الحديثة قد فتحت المجال أمام كل من هبّ ودبّ لكي يكتب ما يشاء ويتناقل العراقيون كتاباته وخصوصاً المقالات السياسية، فلقد أصبح الكل يكتبون المقال السياسي وليس لديهم لا نص إبداعي ولا قصيدة شعرية ولا لوحة تشكيلية، كما أصبح الجميع محللين سياسيين إستراتيجيين!
- أن هذا الذي نشهده اليوم سيؤثر تأثيراً كبيراً على بنية الأجيال القديمة وعلى الذاكرة العراقية مع الأسف، وأن هذه الذاكرة العراقية ستُنسف من داخلها بواسطة هذه الأكاذيب.
- ليس كل المثقفين العرب الذين خدموا في العراق بسيئين كما يُوصفون به اليوم فهناك أسماء خدمت العراق بإخلاص وتفانٍ ونذكر منها جبرا إبراهيم جبرا والشريف محي الدين حيدر وعبد الكريم عسيران وكثير من الذين لعبوا أدواراً مهمة وأحبوا العراق بصدق.
- إن العراقيين غير متجانسين مع بعضهم بعضاً لكنهم يحترمون الذين يأتونهم من الخارج ويقدّرونهم ويكرمون وفادتهم.
- ظهر من بين العسكريين العراقيين مثقفون رائعون وكتاب ممتازون من بينهم عبد المسيح الذي شغل وظيفة مترجم في وزارة الدفاع وكان مترجماً رائعاً لطلبة الأركان. وقد ترجم العديد من الكتب من اللغة الألمانية، وخدم الثقافة العراقية خدمة رائعة. كما كتب محمود شيت خطّاب كتباً عديدة في التاريخ الإسلامي، فيما قدّم شكري محمود نديم تفاصيل كثيرة عن تاريخ العراق في الحرب العالمية الأولى.
- هناك رموز كثيرة في ثقافتنا العراقية وسوف تبقى أسماءهم في الحياة التاريخية للعراق، وسوف يذكرهم العراقيون دائماً، فالرمز للمبدع حصراً ولا يمكن أن نطلقه على السياسي أو على رئيس الوزراء أو رئيس مجلس قيادة الثورة فأمثال هؤلاء ممكن أن يكون رائداً سياسياً أو رائداً للقومية العربية وما شابه ذلك، أما الرمز فهو مقترن بالمبدع دائماً، بالشاعر أو الروائي أو القاص الذي يكتب نصاً يهزّ الناس ويغيّر ذائقتهم. وفي هذا الصدد لا يمكن أن ننسى دور الموسيقار جميل بشير أو المسرحي حقي الشبلي أو علي الوردي، عبد العزيز الدوري، محمد القبانجي، فؤاد التكرلي، الشريف محي الدين، فائق حسن، جواد سليم، محمد سلمان حسن، محمد مهدي الجواهري، السياب، عبد الملك نوري، عبد الجبار عبدالله، حسن زكريا، حسام الآلوسي، ريمون شكوري، زكي الجابر، زينب، زها حديد، سليم البصري، ، عبدالله إبراهيم، عبد الكريم زيدان، عبد الواحد لؤلؤة، صفاء خلوصي، جعفر خياط، عصمت كتاني، علاء بشير، فؤاد سفر، كامل الدباغ، متي عقراوي، محمد رضا الشبيبي، مؤيد البدري، منير القاضي، نازك الملائكة، نصير شمة، هاشم الخطاط، نسرين أربيل، هاشم الوتري، يوسف العاني، ملا عبود الكرخي، أكرم فهمي، سالم الآلوسي.
- غُبن حق المرأة العراقية كثيراً وعوملت بطريقة لا تتناسب مع دورها كمثقفة عراقية أصيلة تركت بصماتها على المجتمع العراقي وأبرز المثقفات العراقيات صبيحة الشيخ داوود، بولينا حسون، أميرة الياس، فتحية عنبر عطا، فاطمة سعيد، مقبولة صالح، نورية عبد القادر، سرقت نامق، باكيزة موسى صبري، فطينة النائب، سليمة الملائكة، رباب الكاظمي وغيرهن من النساء العراقيات اللواتي رفدن الثقافة العراقية بمنجزاتهن الكثيرة منذ القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر.
تمنى الدكتور سيار الجميل في ختام محاضرته أن يبقى حياً ويجد العراق قد استعاد عافيته من جديد بعودة ثقافته ومثقفيه إلى الحياة.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حركة السوبر ستروك ومضامينها الفنية
- الشخصية الأسطورية في الفيلم الوثائقي الإيراني
- تقنية الإبهار في فيلم أمازونيا لتييري راغوبير
- مقبول فدا حسين. . أهدى حبيبته ثمانين لوحة لكنه لم يحظَ بالزو ...
- قراءة نقدية في كتاب سينما الواقع (2-2)
- قراءة في كتاب سينما الواقع لكاظم مرشد السلّوم (1-2)
- الفنانة لويز بورجوا تغرف من سيرتها الذاتية
- أكراد سوريا وثورتهم الصامتة
- المخرج الأميركي جون فافرو يقتبس -كتاب الأدغال-
- ملاعق ليست للأكل وإنما لتشويه الأعضاء الحسّاسة!
- زنابق الماء لكلود مونيه وأسعارها الفلكية
- عين النجمة البريطانية مَبَيذا - رو على دور كليوباترا
- المخرج آسو حاجي يوثق الديانة الإيزيدية عبر خطاب بصري
- فيلم (Dom) للمخرج التركي خليل آيغون
- لمناسبة تكريمه في مؤسسة الحوار الإنساني (2-2)
- لمناسبة تكريم أحمد المهنا في مؤسسة الحوار الإنساني (2-2)
- أحمد المهنا، مالك الجواهر، ومرشد الأصدقاء إلى الكتب النفيسة ...
- أمسية احتفائية بالدكتور جعفر هادي حسن (2-2)
- أمسية احتفائية بالدكتور جعفر هادي حسن (1-2)
- هل تعترف إيران بحقوق الأمة الكردية؟


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - أنتلجينسيا العراق بين الماضي والمستقبل تحت مجهر سيّار الجميل