أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - علمانية في العالم الاجتماعي أم في عالم المثل؟















المزيد.....



علمانية في العالم الاجتماعي أم في عالم المثل؟


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1282 - 2005 / 8 / 10 - 11:25
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


كتب الصديق سلامة كيله مقالا عنوانه "حين تتجرد الديمقراطية من علمانيتها" ("الحوار المتمدن" 4/8؛ "الرأي" و"كلنا شركاء" 7/8) ينتقد فيه مقالي "علمانية وإسلامية وديمقراطية في السجال السوري" (الحياة 31/7، الحوار المتمدن 7/8). يقول سلامة أشياء كثيرة بينها أني من أجل الهدف التكتيكي (هذه لغته) ضحيت بالعلمانية لكسب الإسلاميين، ويرى أن اعتبار "الهدف الوحيد الان هو إنهاء نظام الحزب الواحد"، ما يُفترَض اني أقوله في مقالي، يقود إلى "القبول بالقوى الرافضة للعلمانية ولمبدأ المواطنة"، وهي قوى تميز بين المواطنين، و"قبولها"، حسب تعبير سلامة الأبوي، يوجد "الأرضية لتعميق التفكك الطائفي". ويعتقد أنه "إذا حاولنا أن ندرس التكوين الذي سيكون عليه تنظيم الإخوان المسلمين في الواقع، ومدى مطابقته لهذا المشروع ["المشروع السياسي لسوريا المستقبل" الذي تقدم به الإخوان في بداية العام الحالي]، سنلمس أن الذين سوف ينخرطون في صفوفه هم من "الملتزمين" بالقرآن والسنة، وذوي وعي متوسط فما دون، وبالتالي فهم المتشبثون بتطبيق القرآن والسنة". واستنتاج التشبث من الالتزام يدفع سلامة للتشكك في "صدق النقلة التي جاء بها هذا المشروع" (هل لاحظنا أن صديقنا "سيلمس.." بناء على استدلال شرطي: "إذا حاولنا.."؟). ويقرر ثانية أن "التكتيك الراهن المبني على إنهاء نظام الحزب الواحد هو المدخل لنظام أصولي يسحق كل القوى الديمقراطية والعلمانية والشيوعية، كما حصل في السودان مثلا" (تصحيح بسيط: "الأصولية" السودانية جاءت في أعقاب نظام ديمقراطي واهن وليس بعد "إنهاء نظام الحزب الواحد"). ويرى أن "المطلوب هو بلورة التصورات وتطوير نشاط الحركة المجتمعية عبر طرح مطالبها والدفاع عنها، وبلورة تيار يساري قادر على الفعل الواقعي"، دون أن يوضح: هذا مطلوب ممن؟ وهل المطلوب هذا "تكتيك" أم استراتيجية"؟
وراء هذه النقاط يتمحور نقاش سلامة، في تقديري، حول قضايا رئيسية ثلاثة هي: مفهوم العلمانية، مسألة الإسلاميين والسياسة المناسبة حيال الإخوان المسلمين السوريين، قضية الثقة بين التيارات الفكرية والسياسية المختلفة، بالخصوص العلمانيين والإسلاميين. وساتناولها بشيء من التوسع لما لها من أهمية فكرية وسياسية راهنة، على أمل أن يسهم مثقفون وناشطون آخرون في إضاءتها من جوانب مختلفة.

1. حول مفهوم العلمانية
ميزت في مقالي بين العلمانية كعملية موضوعية مستقلة عن ثقافة المجتمعات واديانها والإيديولوجيات السائدة فيها والأحزاب الحاكمة، ومرتبطة بالمقابل بالحداثة ومفاعيلها "النازعة للسحر عن وجه العالم" (ماكس فيبر) ونزوعها إلى التخصص واستقلال كل ميدان من ميادين الخبرة البشرية بمنطق خاص ومعايير اداء ذاتية، أقول ميزت بين العلمانية بهذا المعنى وبين العلمانية كدعوة إيديولوجية يحملها تيار اجتماعي خاص ويمحور حولها مطالبه السياسية الأخرى. وقلت إن العلمانية تتضخم كدعوة بقدر ما تضمر كعملية موضوعية. في الحالة القصوى، أي حين تكون العملية الموضوعية ضامرة تماما أو حتى معكوسة، تغدو العلمانية عقيدة نضال متصلبة، دينا أو دينا معكوسا. بانعكاس عملية العلمنة الموضوعية أعني سيرورة تديين أو إضفاء طابع ديني على جوانب متزايدة من الحياة الاجتماعية وتصاعد الحساسية الدينية إلى درجة ان العلمانية بالذات تندرج ضمن هذا المناخ، تتدين وتطالب لنفسها بالسلطة السياسية والثقافية.
كان ماركس يقول إن الفلسفة حين تتحقق في الواقع تزول كفلسفة. يمكن القول بالمقابل إن الفلسفة تتضخم وتستقل بنفسها، تتحول إلى إيديولوجيا، حين يخذلها الواقع ويمنعها من التحقق. هذا حال العلمانية لدينا. تجنح نحو الإطلاق حين يقيدها الواقع. جدل العلمانية هذا مماثل لجدل الحرية الذي درسه عبد الله العروي في كتابه "مفهوم الحرية"، حيث تتضخم الحرية كتطلع وطوبى بقدر ما تضمر كواقع.
سميت العلمانية المتضخمة كدعوة العلمانية المطلقة أو العلمانوية. وعرفتها بانها دين ودولة، وان مضمونها يتمثل في رفع الفصل بين الدين والدولة إلى مرتبة مبدا مقدس. ولم أقصد بالعلمانوية العلمانية، وإلا لما استخدمت الكلمتين. قصدت بها تقديس العلمانية أو تديينها. وهذا ليس أمرا ممكنا فقط بل إني أجده شائعا (مقالة سلامة نموذج عنه)، ولعله يعكس حدة الصراع الإيديولوجي والسياسي في بلدنا وشدة المخاوف التي تعتمل في قلوب المتنازعين ورغبتهم في إعلاء مطالبهم ورفعها إلى مستوى المطلق. وبطبيعة الحال لا تفاوض ولا سياسة بين المطلقات. العلاقات الممكنة بينها هي حرب الإبادة، أو التساكن السلبي والمعازلية (الغيتوية) المعممة. وفي بلادنا تاخذ المعازلية شكل انفصال نفسي وفكري ومعنوي، وقدر الإمكان، انفصال سكني ايضا.
ولو قرأ الصديق سلامة مقالي قراءة اقل كيفية لرأى أني أصدر عن منظور علماني، أي عن الفصل بين مجالي الاعتقاد والسياسة، من أجل أن أنتقد العلمانوية التي تجعل من نفسها عقيدة حصرية للسياسة والدولة.
مقابل التصور الاعتقادي هذا اقترحت فهما يصح القول فيه إنه "مادي"، فهما يقول إن العلمانية ليست إكسيرا، ليست فصلا مجردا للدين والدولة، يوجد كاملا أو ينعدم تماما. العلمانية قضية مجتمعية وليست أمرا أخلاقيا قطعيا ولا هي قانون من قوانين الطبيعة. والفصل بين الدين والدولة يتم دوما ضمن حقل سياسي محدد تلتقي فيه مطالب وضغوط ونزاعات ومصالح ومخاوف، تتفاعل وتتبلور في توازنات متغيرة. مستوى العلمنة يعكس نوعية التوازن القائم بين المجالين السياسي والاعتقادي في هذه اللحظة أو تلك. وبدروه يشير هذا التوازن إلى موازين القوى الاجتماعية والسياسية في اللحظة نفسها.
واضح أن هذه المقاربة لا تنطلق من المفاهيم المجردة، علمانية كانت أم دينية، بل من حالة النزاع والتوتر القائمة بين فاعلين يحملون مفاهيم مختلفة وبرامج متعارضة. هذا تحليل علماني حتى وهو لا يمجد العلمانية، بل بالضبط لأنه لا يمجدها. إنه ينطلق من تعدد الفاعلين الاجتماعيين وتنازعهم وتعارض مطالبهم، ولا يستند إلى رواية اي منهم عن ذاته. لست بلا ولاءات وانحيازات ومعتقدات، لكني افصل بين ولاءاتي ومعتقداتي وبين تحليلي للواقع الذي يحاول أن يكون متجردا أو "موضوعيا". وهو بهذا المعنى تحليل علماني يفصل "عقيدة" الكاتب عن "سياسة" التحليل، إن جاز التعبير.
الفصل هذا يبطن كل معرفة موضوعية، وهو ثمرة اشتغال المنطق الذاتي للحداثة. ففصل المنتجين عن وسائل الإنتاج، وفصل المحاربين عن ملكية سلاحهم، وفصل الدولة عن الحاكمين، أي عن سلالاتهم وقراباتهم وأديانهم، وفصل العلم عن النظرات الكلية إلى العالم والبحث العلمي عن مذاهب الباحثين... كلها وجوه لعملية الحداثة التي تفصل بين الذات والموضوع، وترتبط بتغير سند النظام الاجتماعي من السماء والأهل والروابط العضوية إلى الأرض والفرد ورابط المواطنية.
يتجاوز هذا النقاش مقصد الرد على مقالة سلامة. غرضه وضع العلمانية كعملية موضوعية في سياق "ثورة الحداثة" التي لا تزال الثقافة العربية، وتياراتها الأشد عقيدية بالذات، بعيدة عن تمثلها. بل إن هذه التيارات، على العموم، تمثل نكوصا عن الحداثة، وإن تحت رايتها (مذهبة الحداثة) او راية العلمانية. هنا أيضا مقالة سلامة نموذج. فالرجل يطالب بفصل الدين الموحى عن الدولة على أرضية منطق عقيدي لا يميز أصلا بين العقيدة والسياسة والمعرفة الموضوعية. ومعلوم أن شيوعية القرن العشرين والمذهب الماركسي اللينيني الذي يدين له سلامة بافكاره ونظرته للمجتمع والسياسة والتاريخ لم تكن علمانية، تدعو إلى فصل مجالي الدين والدولة؛ كانت في الواقع دينية معكوسة أو محاربة للدين، وتأخذ على عاتقها نشر الإلحاد (وهذا أمر مختلف عن محض الإلحاد الشخصي) وتجعل من نفسها عقيدة إلزامية للمجتمع والدولة. ولهذا لم تكن العلمانية (ومثلها الديمقراطية) مفهوما عزيزا على الشيوعيين العقيديين، ولم يبدؤوا في استخدامها وإظهار اللهفة عليها إلا في ثمانينات القرن العشرين حين تحولت موازين القوى لمصلحة خصوم يرفعون راية الدين، وعصى التاريخ قوانينه الموضوعية التي كان يفترض أن تقود إلى انتصار التقدميين و"إيديولوجيتهم العلمية" واضمحلال الرجعيين وأوهامهم الميتافيزيقية. كانت العلمانية توحي بالإصلاحية والميوعة البرجوازية، فيما محو الدين وحده هو البرنامج الثوري. أستعيد هذه النظرة لأفسر الطابع العقيدي لعلمانية الماركسيين اللينيين مثل صديقي سلامة من جهة، ولأقول إن نصيبها من الإخلاص قليل من جهة أخرى. إذ لولا شعورها بالضعف وميلان ميزان القوى لغير صالحها لما قدمت هذا التنازل الإصلاحي لبرنامج العلمانية. وسيكون لنقطة قلة الإخلاص هذه شان في نقاشنا اللاحق.
الصديق سلامة يدعو إلى العلمانية عبر مقال "تطبيقي"(على غرار "تطبيق الشريعة" أو "تطبيق الاشتراكية العلمية")، لا علماني، ولا يفصل بين عقيدته الذاتية ومتطلبات الواقع. هذا أحد وجوه جدلية العلمانية التي اشرت لها فوق. فالدعوة إلى العلمانية ليست علمانية في منطقها بالضرورة، وعلمانية الدعوة لا تفيض من تلقائها علمانية على بنية التفكير والخطاب. بل قد تكون تعبيرا عن انسداد واقعي يحرض سيرورة تديين غير مدركة، الأمر الذي أشرت إليه في مقالي المنقود. وهي من هذا الباب إيديولوجيا، اي فكرة لا تعي شروطها الواقعية. بالمناسبة لم يوضح سلامة ما هو المعنى الذي "بات يستخدمه الصديق ياسين وذاك الطيف المعارض لكلمة إيديولوجيا". أعتقد أنه يخلط بين خصوم متنوعين، وربما يكون ذلك تحت وطأة البارانويا العقيدية التي توحد كل الخصوم في ممارسة اضطهادية تصيب "الثوريين" حملة "الفكر العلمي" (التحديدان هذان مقومان للهوية المشتهاة، ولا علاقة لهما لا بثورية واقعية ولا بفكر علمي حقيقي). وشرح الصديق سلامة لمقصدي بعبارة "الدعوة الإيديولوجية" بانه "يعني ضرورة العلمانية الان" لا يجانبه الصواب، لكنه يظهر الأفق الذي يتحرك فيه تفكيره: الضرورة والآن، كيف؟ بقوة الدولة؟ أليس هذا فرضا لعقيدة لا يوفر لها الواقع تمفصلا طوعيا؟

2. الإخوان المسلمون والسلطة والسياسة
القضية الثانية التي ينشغل بها مقال سلامة هي مسألة الإسلاميين السوريين والموقف الصحيح منهم. معلوم أن سوريا عانت صراعا متفجرا بين النظام البعثي والإسلاميين بين عامي 1979 و1982، قبل أن يحسمها النظام لمصلحته ويلحق هزيمة ساحقة ماحقة بالإسلاميين وبجميع المعارضين والمستقلين، بمن فيهم من لا يقلون عنه عداء للإسلاميين. لكنه لم ينجح في هزيمتهم دون ان يستبطن الكثير مما اتهموه به، وتحديدا القمع المستشري والتمييز الأهلي بين المواطنين ونهب وتبديد الثروة الوطنية. ورأيي ان النظام فاز بالمواجهة منذ صيف 1980، حين تكشف ان الإسلاميين لم يستطيعوا تحريك تمرد عام ضده. أما تمرد حماة 1982 فقد كان معزولا، ولم يشكل خطرا جديا ولا نصف جدي على النظام.
هزم النظام الإسلاميين لكنه لم يستطع ولم يعرف أن ينتصر. وهذا لأنه لا يعرف السياسة، والنصر سياسي تعريفا، ولم يرتفع إلى مستوى أن يستوعب خصومه ويعطيهم فرصة الاعتراف بالفشل. تصور أن سحقهم أهم وأعظم من الانتصار عليهم. هذا يشير إلى أن مفهوم الدولة غائب كل الغياب عن وعي وممارسة "نخبة السلطة" وقتها، وأنها كانت تتصرف كطرف جزئي ضد طرف جزئي، لا كدولة متعالية على الأطراف الاجتماعية والسياسية الجزئية. تصرفت كذلك كعنف ضد عنف، لا كسلطة عمومية تستخدم العنف ضد عنف خصوصي يهدد الدولة.
خلفت الأزمة ملفات غير محسومة: آلاف الضحايا وآلاف المفقودين وآلاف المنفيين وآلاف السجناء، من الإسلاميين وغير الإسلاميين، كان كاتب هذه السطور احدهم، وكان صديقي سلامة كيله، وهو خصم صلب للإسلاميين، احدهم ايضا. وللنظام الفضل في أنه اتاح لنا التعرف على بعضنا في سجن عدرا عام 1993.
ملفات غير محسومة لأن النظام فوت على نفسه فرصة النصر كما قلنا. لو أصدر عفوا عاما حقيقا عام 1982 أو 1985 أو حتى 1991، حين افرج عن 2884 معتقلا بأسلوب حاقد ومهين، ولو أقر بالجوهر السياسي للصراع، واصلح من بناه وهياكله ليتيح مكانا للمهزومين، لكان حقق نصرا تاريخيا لا ينسى. لكنه كان لا يعرف السياسة ولا الدولة، وترك نفسه يتصرف بحقد استثنائي يصعب أن ينسى.
وبما ان الملفات تلك لم تغلق فستبقى امامنا. بل إنها ستغدو اكثر واكثر ممرا إجباريا: لا إصلاح ولا تقدم نحو العدالة في البلاد دون المرور بها. هذه هو الجانب الإنساني من المسألة. ثمة جانب سياسي. فهناك تنظيم اسمه "جماعة الإخوان المسلمون"، اعدم ألوف من أعضائه ومتعاطفيه، ويقدم نفسه كفاعل مشارك في المجال السوري العام، ويواكب الحراك السياسي الثقافي الذي شهدته البلاد في السنوات الأخيرة ويطرح مشاريعه ومواثيقه في الحقل السياسي السوري. هذا واقع ينبغي التعامل معه من أجل سوريا ومستقبلها. أما الوفاء للعقائد (العلمانوية والإسلاموية وغيرها) اكثر من البشر الأحياء فهو ممارسة لا تثمر إلا الطغيان والإرهاب. هنا أيضا لو استطاع النظام تحرير نفسه من الاستثنائية وتحول نحو دولة القانون وانتقل نحو شرعية جديدة تعددية ودستورية، لأمكن له ان يضفي صفة نسبية على إقصاء الإخوان وغيرهم ولنجح في إقناع اكثرية مواطنيه بأنه ليس هناك مشكلة. لكنه في بنيته بالذات وفي سياسته المعلنة وفي إجراءاته الأخيرة (اعتقال علي العبدالله، حظر منتدى الأتاسي، شمل الإخوان مع حزب الإصلاح في تصنيف واحد...) يخوض المعركة ذاتها ويعلن أن المواجهة لم تنته ولن تنتهي. هل نستطيع أن نقول ليس هناك مشكلة بينما النظام يعلن بكل لسان أن هناك مشكلة وأنه لا يريد معالجتها بغير الطرق التي أثبت فشلها طوال أكثر من ربع قرن؟
كم يمثل الإخوان المسلمون في سوريا؟ سلامة يشير في موقع من مقالته إلى أن "الأصولية" هي الطرف "الأقوى" الذي قد ينتصر في "الظرف السوري القائم". والنظام يعتمد ضمنا وعلنا تخيير قطاعات من السوريين بينه وبين الإسلاميين (المقارنة منيرة مع تخيير مماثل بخصوص لبنان سابقا: إما نحن أو الحرب الأهلية!)، ما يعني أن الإسلاميين اقوياء، بل هم الأقوياء. أميل شخصيا إلى أنهم اقل قوة مما يقدرون هم ويقدر خصومهم، لسببين متعاكسين. لكن في ظل حياة سياسية حرة من المرجح أن يكونوا حزبا قويا في أفق المرحلة الراهنة.
لنضرب صفحا هنا عن تعدد الإسلاميين وتنوعهم بين معتدلين ومتطرفين، جهاديين ودعويين، سياسيين ومقاتلين. هذا علما أن معظم خصومهم، وأظن ان سلامة منهم، لا يقرون تمايزا في صفوفهم او يعتبرونه تقاسم ادوار متفق عليه. ترى لو قال قائل إنه لم يكن ثمة فرق بين الحزب الشيوعي الإيطالي وبين الألوية الحمراء في سبعينات إيطاليا، كيف ننظر إليه؟ علما انه على مستوى شديد التعميم لا فرق بالفعل، لا بين تيارات الإسلاميين ولا بين الشيوعيين السياسيين والشيوعيين الإرهابيين (ربما كان هذا رأي كيسنجر وقتها بخصوص إيطاليا)، لكن على مستوى شديد التعميم لا فرق بين أميركا وإسرائيل، ولا فرق بين أوربا واميركا، ولا فرق بين بقية العالم واوربا، وهكذا. على هذا المستوى لا سياسة ولا معرفة أصلا. ثمة فقط جنون الاضطهاد والعظمة، البارانويا.
أعود إلى القول لنصرف النظر عن تعدد الإسلاميين، ولنتساءل: كيف نعالج مشكلة وجود حزب سياسي محظور، يعتبر نفسه قويا ويعتبره خصومه قويا، اي تسانده أوساط مهمة من السوريين؟ استمرار الوضع الحالي ليس مشكلة حادة للإخوان كتنظيم (يعلم سلامة ان السجن بعد 10 سنوات مثلا يكف عن كونه مشكلة حادة للسجين)، بل هو مشكلة لسوريا: سوريا تمسي اسيرة مشكلة لم تحلها ولا تستطيع الهرب منها.
هناك المنطق الاستئصالي، سواء كان سنده علمانيا او "تقدميا" أو محض سلطوي، وهو كما يفترض ان نعرف جيدا لا يحل مشكلة بل يرجئها ويزيدها تعقيدا. هناك بالمقابل منطق السياسة، اي التفاوض والحوار الذي يستهدف الوصول إلى تسوية بين الطرفين وإرساء الحياة السياسية الوطنية على قواعد يطمئن لها الجميع. هل هناك خيار آخر؟ إذا قال سلامة إن العلمانية "ضرورية الآن"، وقال إسلامي إنه يرفض العلمانية الآن وفي كل وقت، وأصر كل منهما على موقفه. ما العمل؟ الأقوى منهما سيحاول أن يلغي الاخر حين تتاح له الفرصة. سيأتي النظام ويقول: إذا تركت هذين لوحدهما فسيتقاتلان ويتسببان بحرب اهلية، أنا الحل! لكنه سيحرص في الوقت نفسه، ولأنه لا يرقى فعليا إلى مرتبة التوسط والعمومية وإنتاج الحلول السياسية، سيحرص على منع الناس من التواصل الحر فيما بينهم، ومن اي شكل من اشكال الانتظام المستقل. فلكي يكون هو الحل ينبغي أن يبقى الناس خائفين من بعضهم أكثر مما هو خائفون منه. الاستثمار في الخوف والتفريق هو ضمانة التسيد ودوام نظام يجمع الاعتباط (حالة الطوارئ) والاستبداد الفئوي( حكم الحزب الواحد). هنا جذر أزمة الثقة الوطنية التي تشكل تربة صالحة للنظم التسلطية والدكتاتوريات ونظم الحزب الواحد. الازمة هذه ليست معطى "طبيعيا"، بل هي صناعة سياسية.
أفترض أن المخرج المناسب هو تدرب الناس على الحوار والتعارف، وخلق مناخات من الثقة والإلفة فيما بينهم، والعمل على تشجيع تيارات سياسية وفكرية معتدلة، والبحث عن حلول تفاوضية للمشكلات الصعبة. هذا هو الشيء الذي لا يفوق أهميته في رايي شيء آخر. تقليل سلامة في مقاله من قيمة التفاهم بين السوريين وتمتين الروابط فيما بينهم يدل على انه لم يحاول تصفية حسابه مع العناصر الشمولية في وعيه، اعني ازدراء "الأشياء الخفيفة" مثل التفاهم والتقارب بين الناس، مقابل الولاء لرؤى كبرى مجردة، تلغي الفوارق بينهم إلغاء نهائيا، رؤى لطالما ازهقت ارواحا في القرن العشرين. بالمناسبة منبع الإرهاب الإسلاموي هو ازدراء مماثل لنثر الحياة العادية مقابل انشداد مطلق إلى "شعر" المحرم والمقدس.
الصديق سلامة يفترض اني أدعو إلى تعامل سياسي مع الإسلاميين لأن "تطورا" طرأ على فكرهم، ويعتقد أني كتبت "مقالات عديدة" عن هذا "التطور". هذا غير صحيح. لم اكتب مقالا واحدا اشيد فيه بتطور فكر الإخوان. الواقع اني كتبت مقالا اقول فيه إن موقفهم من الثقافة والمثقفين غير مقبول (http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=31124). كتبت مقالا آخر بعنوان "ماذا يريد الإخوان المستلمون؟" (http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=38809 ) اعبر فيه عن السخط على اعتقال علي العبد الله الذي قرأ رسالة من المراقب العام للإخوان المسلمين تقول اشياء إيجابية من وجهة نظر التغيير الديمقراطي، لكني لم اركز عليها كثيرا. كتبت مقالا ثالثا يقول إنه لا بديل عن التفاوض بين السلطة والإسلاميين دون ان ارسي هذه الضرورة على "تطور" فكرهم (http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=40250). وخلافا لبعض اصدقائنا الذين يسوغون ضرورة التعاطي السياسي مع الإخوان بما استجد على فكرهم من "تطورات إيجابية"، تصل في نظر بعضهم إلى "ثورة"، فإني أفصل بين ضرورة التفاوض وبين التطورات المحتملة تلك. فللإخوان حق التعبير عن رأيهم وإسماعه لمواطنيهم مهما يكن ما داموا لا ينكرون على الغير المساواة في هذا الحق نفسه. ويكفي في نظري ان يقبلوا مبدا التفاوض ويعلنوا نبذ العنف حتى يصبحوا شركاء تفاوض.
بل إن إشراط علمانيين متنوعين التفاوض مع الإسلاميين بما طرأ على فكر الأخيرين من "تطورات" ينطوي على تعصب وغرور وتمركز حول الذات، بل على ما يشبه منطق الاستتابة الذي يمارسه إسلاميون متعصبون بحق خصومهم. يضمر هذا الإشراط موقف ابويا حيال الإسلاميين، ويوهم بأنه ليس بالتيارات الإيديولوجية والأحزاب السياسية الأخرى حاجة إلى "تطوير" فكرها وممارساتها، وأن الإسلاميين يتطورون بقدر ما يقتربون منها. هذا موقف يفتقر إلى التواضع وإلى الصدق معا. لم يمض وقت بعيد على ايام كانت الديمقراطية تعامل معاملة الأيتام على موائد "الاشتراكيين العلميين" و"الديمقراطيين الشعبيين" الذين تحولوا اليوم إلى علمانيين مطلقين أو ليبراليين اقحاحا (دون المرور في الحالين بمرحلة ديمقراطية). وهو بعد موقف مضحك بالنظر إلى ان مشترطي التطور في فكر الإسلاميين يقرون أنهم اضعف سياسيا واجتماعيا من الخصم الذي يشترطون عليه.
ومع ذلك، ارى ان هناك "تطورا" بالفعل في فكر الإسلاميين، يتمثل بالتحديد في فكرة الشراكة مع الغير من أجل التغيير الديمقراطي، وهو أمر مشجع للسعي نحو حل سياسي للأزمة الوطنية السورية، لكن غياب "التطور" هذا لا يجعل التفاوض اقل وجوبا.
وخلافا لما قد يظن سلامة فإن ما أدافع عنه هو شرعية وجود الإسلاميين وحقهم في العمل العام وليس سلامة توجههم وصواب خياراتهم. والحال إن الاعتراف بشرعيتهم لا يعني صكا على بياض لمواقفهم وسياساتهم، بل لعله الشرط الصحي لنقد تلك السياسات والمواقف. بل إنه شرط النقد الحقيقي، النقد الذي لا ينحدر إلى مستوى معايرة ضلالات الخصم الواهية بحقائقي الراسخة. بالمقابل لا صدقية لمن ينتقد سياسات هذا الطرف او ذاك وهو لا يعترف أصلا بحقه في الوجود. إذا كنت أرى أن الشيوعي ليس جديرا بالحياة السياسية، فلماذا اهدر الوقت والجهد على نقد نقاط تفصيلية في سياسته وتوجهاته؟ وإذا كنت أعتبر أن الإسلامي ظلامي وإقصائي وإرهابي مهما فعل، فلماذا أتسقط زلاته أو نقاط ضعفه أو أخطائه السياسية؟

3. الثقة
الصديق سلامة لا يثق بالإسلاميين. هذا حقه. لكن هذا الحق الذاتي لا يصلح اساسا لعمل عام ولا لمحض اجتماع بشري سوي. للجميع الحق في عدم الثقة بالجميع. توماس هوبس انطلق من وضع كهذا تقريبا، وانتهى إلى المفهوم التعاقدي، أو "التواثقي"، للسياسة. راى ان الإنسان ذئب للإنسان، وأن الناس في "الحالة الطبيعية" متساوون لكنهم في حالة حرب معممة. الدولة تنهي حالة الحرب وتلغي المساواة الطبيعية معا. هذا التصور المجرد قريب من الأوضاع السورية الراهنة التي تتميز بما سميته ازمة ثقة وطنية متعددة المستويات: الأهلي والمدني والسياسي. أفترض ان هذا مقلق لأكثرية السوريين، ويقتضي منهم البحث عن مخارج مشرفة وحلول عادلة (في مثل هذه الأوضاع يستحسن الا يلح المرء كثيرا على الفرق بين المخرج والحل). يقتضي أيضا إعادة بناء الدولة وإرساء الثقة الوطنية على أسس تعاقدية، بالنظر إلى أن "دولة البعث" ترفض معالجة الأزمة أو الإقرار بها.
طرحت الحركة الديمقراطية السورية في العام الأول من حكم الرئيس بشار الأسد فكرة المصالحة الوطنية. كانت تدرك البعد الأهلي للصراع الذي جرى قبل ربع قرن، وترغب في تجنيب سورية صفحة جديدة منه. أظهرت تفوقا اخلاقيا لا جدال فيه على النظام، وحرصا على الشعب السوري كله لا شك فيه أيضا. في عام 2003 طرحت الحركة الديمقراطية فكرة المؤتمر الوطني، الذي ينبغي ان يفهم كإطار للفكرة المصالحة الوطنية لا كبديل عنها، وكمؤتمر دستوري يقوم مقام جمعية تأسيسية لا كمجرد لقاء بروتوكولي. الهدف في الحالين الانتقال من أزمة الثقة الوطنية إلى نظام الثقة الوطنية، النظام الذي لا يلغي بالضرورة المشكلات والمنازعات بين السوريين لكنه يبحث لها عن حلول سياسة. بالطبع لم تلق اي من الدعوتين استجابة، ما يدل على أن النظام يتعهد أزمة الثقة الوطنية بالرعاية ويحتاجها كي يكون حلا، بل الحل.
هل ينبغي الوثوق بالإسلاميين الذي يعلنون انهم ديمقراطيون يقبلون بتداول السلطة وبمبدا المواطنة والتعاقد؟ رايي أنه ينبغي (1) أن ياخذ الفاعلون الاخرون علما بمواقف الإسلاميين هذه؛ و(2) أن لا يصدقوها؛ و(3) أن يتواصلوا مع الإسلاميين لاختبار نياتهم واستجلاء مقاصدهم. موقفي أكثر تشككا واكثر انفتاحا في آن. أكثر تشككا لأنه لا يغتر بالوعود الكلامية والإعلانات الإيديولوجية، بما فيها "ميثاق الشرف الوطني" (اسمه يفترض ازمة الثقة، ويظهر الرغبة في تجاوزها)، وبما فيها "المشروع السياسي لسوريا المستقبل". وأكثر انفتاحا لأنه يقيس الإسلاميين بالقاعدة ذاتها التي يقيس بها الشيوعيين والقوميين (عربا وكردا) والليبراليين: قاعدة المساواة والشرعية المتساوية، لأنه أيضا ينطلق من مفهوم تعاقدي (لا عقيدي ولا مزاجي) للثقة، مفهوم يتاسس على الاعتراف بشرعية الجميع، ويشترك في بنائه الجميع.
تشككي مبني على مفهوم السياسة الحديثة والتجارب التاريخية، في القرن العشرين بخاصة، وليس على حقي الذاتي في عدم الثقة بهذا أو ذاك، أو على خصومتي الإيديولوجية مع هذ الطرف أو ذاك، أو على استحكام "عقدة الإسلاميين" بسلوكي وتفكيري. أعتقد ان اهم واثمن درس نستخلصه من تجارب الماضي هو انه لا يعول في رسم السياسات وقيادة الدول وحكم الناس على الثقة بالأشخاص وذكر فضائلهم أو التنويه بتاريخهم الشخصي او إبراز عقائدهم أو أديانهم. كان عثمان بن عفان احد المبشرين بالجنة لكنه حابى اقاربه وتعدى على حقوق رعاياه. وكان ستالين شخصا جلودا شجاعا، لكنه قتل الملايين من شعبه. وكان جمال عبد الناصر رجلا نزيها مخلصا لبلده مصر ولبني قومه العرب لكنه إخفاق إخفاقا مكلفا في تحقيق اهداف حاز باسمها سلطة مطلقة في مصر. وليس من الضروري ان يكون جورج بوش وطوني بلير أشرارا أو كارهين لنا نحن العرب لكنهم يحاولون فرض فكرتهم عما هو مفيد لنا بطريقة دكتاتورية دون أن يسألونا الرأي فيه. وإذا كان من ميزة للديمقراطية على البعثية أو الشيوعية او الإسلامية فهي أنها لا تقول إنها عقيدة متفوقة علميا أو أخلاقيا (وهي في الأصل ليست مذهبا محددا رغم انحيازها إلى قيم وتصورات فكرية دون غيرها)، ولا أن الديمقراطيين أفضل من غيرهم معرفة أو شجاعة أو إخلاصا. ما تقوله هو إنه يمكن للبعثيين والشيوعيين والإسلاميين.. ان يعثروا على صيغة متوازنة للتعايش السياسي بقبول قواعد مشتركة. من هذه القواعد سيادة القانون وانفصال السلطات ودستور يكفل تعدد الأحزاب وتداول السلطة عبر انتخابات دورية حرة، وتمثيل الحاكمين للمحكومين، وكفالة الحقوق والحريات الأساسية، بما فيها حرية الاعتقاد. والمشترك بين القواعد هذه هو كونها غير شخصية وغير إيديولوجية، وموجهة نحو مضاعفة الضمانات ضد تركز السلطة والانزلاق نحو الاستبداد.
الديمقراطية الحديثة تهجس، وبالخصوص بعد تجارب الشمولية في القرن العشرين، بضبط السلطة وبعدم الثقة بالحاكمين ووعودهم ومذاهبهم. وهي وريثة هذا الحذر الليبرالي المحمود من السلطة المطلقة والعقائد المطلقة. أهمية الدستور والقوانين ومبدأ التعاقد مؤسسة على أنها ترسي الثقة بين الناس على افتراض عدم الثقة بكل واحد منهم، بل وبالطبيعة الإنسانية ذاتها. والسياسة الحديثة كلها، الداخلية والدولية، مبنية على عدم الثقة وسوء الظن بالأطراف الأخرى، اشخاصا ام دولا ام طوائف ام أحزابا. من هنا ارتكازها التحليلي على مفهوم المصلحة، من هنا التركيز على فكرة موازين القوى، من هنا انشغالها الوسواسي بالمواثيق والضمانات والعهود، ومن هنا الحرص السياسي على التعددية وفصل السلطات، ومن هنا أخيرا الثقة بفضائل التفاوض. التفاوض ضروري لأننا لا نثق ببعضنا، ولو كنا نثق لما تفاوضنا. هذا الدرس البسيط نحتاج إلى تقليبه في اذهاننا كثيرا لأنه لا يزال غير مستوعب في سياستنا وثقافتنا السياسية. وهنا لا ريب أن النظم العقيدية، الدينية والدنيوية، قد تسببت في تحطيم فكرة التفاوض (بين مختلفين لكن متساوين مبدئيا، بين حقين لا بين حق وباطل) وفي حقن ثقافة سياسية مضادة لمفاهيم التوازن الاجتماعي والتعدد السياسي والدولة والاعتدال. ولعله ليس بنا حاجة أقوى من الحاجة إلى التدرب على التفاوض في سياستنا الداخلية والخارجية. وأعتقد ان فرصتنا في تفاوض فعال مع الغير محدودة طالما بقي نظامنا السياسي الداخلي إملائيا ولا تفاوضيا.
ولأن صديقي سلامة لا يثق بالإسلاميين فإن عليه أن يتفاوض معهم إذا قبلوا التفاوض معه. ولو كان لي تبادل النصح معه لقلت: كلا، لا تثق بهم! اطلب منهم الضمانات التي يطمئن لها قلبك، واشترط عليهم الشروط التي ترى أنها تقيد تطلعاتهم الاستبدادية. هذا حقك ومن الغفلة ان تتنازل عنه، وهو بعد واجبك حيال شركائك واقرانك. هل يثق بك الإسلاميون؟ هذا شأنهم، لكن على أرضية مفهوم السياسة الحديث ينبغي لهم الا يفعلوا، ولا أظنك تنسب لنفسك او لتيارك براءة ملائكية من نزعات الهيمنة والتسلط. استذكر هنا ما سبق ان اشرت إليه من قلة الإخلاص. سيقول لك مفاوضك الإسلامي المفترض: ما أدراني انك تتحدث عن العلمانية اليوم (بدلا من نشر الإلحاد) لمجرد انك تشعر بالضعف؟ كيف اثق بك إذا حصل أن تبدلت موازين القوى بيننا؟ ألن تحاول أن تمحو "الوهم الديني"، وربما تمحوني معه، وترمي حماستك العلمانية الطارئة في اقرب سلة مهملات؟ وربما ذكرك بحال مسلمي الاتحاد السوفييتي والبانيا وبلغاريا أيام حكم الحزب الواحد، الشيوعي. منطقه متماسك أكثر من منطقك وأنت تشكك في مقالتك بـ"صدق النقلة" التي يمثلها المشروع السياسي للإسلاميين السوريين.
طيب. انتما لا تثقان ببعضكما. هذا حق لكل منكما كفرد. لكن بما انكما تتحدثان عن سوريا والسياسة السورية والمجتمع السوري فإنكما مطالبان بتجاوز هذا الحق، وبذل الجهد من أجل الوصول إلى أرضية مشتركة كيلا يقطف احدكما روح الاخر.
الآن، ماذا لو فاوض سلامة خصمه الإسلامي القوي ولم يتوصلا إلى اتفاق؟ لسلامة الحق الكامل في ان يدافع عن توجهه، ويرفض التنازل عما يعتبره حقوقه ومبادئه الأساسية، ويحاول كسب أوسع قطاع من الرأي العام إلى صفه، ويقنعهم بأن خصمه متعنت يريد ان يفرض مواقفه. سيكون موقف سلامة اقوى وقد خاض التجربة من رفضها مسبقا. وسيكون قد ساهم في غرس ثقافة سياسية مدنية تتقبل التسويات والحلول الوسط. وبما أن التفاوض يقتضي سلفا نبذ العنف فإن الفشل فيه قد لا يسيل دما، فيما النجاح المحتمل يؤسس للثقة ويوسع فرص الجميع في المستقبل.
أرضية الثقة سياسية وليست عقيدية بالطبع. وديمقراطية وليست إسلامية ولا علمانية كما اشرت في مقالي الأصلي. السياسة ضرورية لأننا مختلفون، وهو ممكنة لأن اختلافنا ليس مطلقا. الإصرار على انه مطلق يعني فتح الباب لسياسة القتل والاستئصال.
ليس على أرض السياسة فقط تصنع الثقة وتتأسس التعاقدات، بل إنه لا ثقة إن لم تكن مصنوعة وسياسية. ولا ثقة إلا وهي ثمرة تفاوض و"تواثق" بين أطراف ينطلقون من وضع عدم ثقة اصلي. ولا أرى كيف تعالج أزمة الثقة الوطنية التي بنيت عليها مقالي المنقود دون تفاوض بين السوريين على اسس نظامهم المستقبلي، أي على الدستور أو الميثاق الذي يرسي قواعد الثقة فيما بينهم. وصديقي سلامة لا يقترح شيئا غير ضرورة العلمانية الآن. وفي غياب أي إحالة إلى الحقل السياسي السوري الراهن وإكراهاته وضغوطه، فإني ارجح انه يخلط بين الوجوب الذاتي الذي ينبع من تفضيلاته الإيديولوجية وبين الضرورة الموضوعية التي يفترض أن تعكس متطلبات واقعية ضاغطة؛ علما أن تحويل ما هو واجب إلى ضرورة من سمات كل إيديولوجية. لكن هذا يعيدنا إلى المربع الأول، مربع تعارض الواجبات والعقائد التي تحددها والقوى السياسية والاجتماعية التي تعتنقها؟ لا حل لهذه المشكلة على مستوى القيم والمبادئ والعقائد. التقدم نحو حلها يستوجب التعارف والتفاوض والحنكة، السياسة، ونحو تحليلها يقتضي تحويل النظر نحو الحقل السياسي للمجتمع.
من الأهمية بمكان، ختاما، ان نعمل كمثقفين على نزع الأسطرة عن المذاهب والعقائد، وأن نكشف عن قواعد اللعب الاجتماعية التي تتحكم بها بدلا من التلبث عند العقائد النقية والمفاهيم المجردة. بهذا لا بغيره نلعب دورنا الاجتماعي والثقافي كفاعلين علمانيين في هذه العالم لا في عالم المثل الخالدة. من المهم كذلك ان نكسر المحرمات السياسية وننتهك خطوط الفصل الاجتماعية الثقافية ونكثف التواصل والتعارف مع خصومنا والمختلفين عنا. كل تقدم في هذا الاتجاه يضعف الخوف من المستقبل ويحرر مساحات أوسع من الأرض الاجتماعية التي تحتلها الشمولية.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- علمانية وإسلامية وديمقراطية في السجال السوري
- حقائق وزير الحقيقة البعثي
- الانحلال حلا: تأملات لا عقلانية في الشرط العربي
- البعثية السورية: من الإرادوية إلى الإداروية
- استعصاء
- وحيدا على قيد البقاء المطلق: حزب البعث في أسر السلطة
- هايل ابو زيد: آخر ضحايا نظام الاستثناء الأمني
- كلام على هيبة الدولة
- بين السلطة والإخوان: لا بديل عن التفاوض
- مخرج عقلاني من وضع مقلق
- حزب الشعب الديمقراطي السوري وتحدي بناء الذات
- المـوت الضـروري لـسـميـر قصيـر
- شعارات حرب في شوارع المدينة!
- ديمقراطية وتنمية في الشرق الأوسط!
- ماذا يريد -الإخوان المستلمون-؟
- هيمنة بوجوه متعددة، لكن بلا روح
- أزمة أحزاب وإيديولوجيات أم أزمة حضارة؟
- سوريا، حزب البعث، ونظام الحزب الواحد: الانفصال هو الحل
- كلام على غائب في ذكرى إنشتاين ونظرية النسبية
- مبارك انتهاء الخط العسكري!


المزيد.....




- اختيار أعضاء هيئة المحلفين في محاكمة ترامب في نيويورك
- الاتحاد الأوروبي يعاقب برشلونة بسبب تصرفات -عنصرية- من جماهي ...
- الهند وانتخابات المليار: مودي يعزز مكانه بدعمه المطلق للقومي ...
- حداد وطني في كينيا إثر مقتل قائد جيش البلاد في حادث تحطم مرو ...
- جهود لا تنضب من أجل مساعدة أوكرانيا داخل حلف الأطلسي
- تأهل ليفركوزن وأتالانتا وروما ومارسيليا لنصف نهائي يوروبا لي ...
- الولايات المتحدة تفرض قيودا على تنقل وزير الخارجية الإيراني ...
- محتال يشتري بيتزا للجنود الإسرائيليين ويجمع تبرعات مالية بنص ...
- نيبينزيا: باستخدامها للفيتو واشنطن أظهرت موقفها الحقيقي تجاه ...
- نتنياهو لكبار مسؤولي الموساد والشاباك: الخلاف الداخلي يجب يخ ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - علمانية في العالم الاجتماعي أم في عالم المثل؟