|
في الموت – قراءة ثانية من حيث الموقف الإنساني الواعي.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4524 - 2014 / 7 / 26 - 21:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تعرضت في مقالي الأول إلى حتمية الموت، و أبرزت كيف تتجه الجينات نحوه كنهاية حتمية لرحلة اللحم و الدم و الكيمياء في الوسط البيولوجي، و وصفت هذا التوجه بأنه عشق ٌ و رغبة، فكان العشق هو الكلمة التي تعبر عن الحتمية، و الرغبة تلك التي تعبر عن المحطة النهائية لشكل الحياة في الإطار البيولوجي المعرِّف للشكل البشري الواعي.
لكن ماذا عن الوعي، ماذا عن العقل المُدرك للشعور الحال ِّ الآن و في هذه اللحظة؟ و ما علاقة هذا الشعور بالموت و كيف يراه؟ هل يطلبه؟ هل يدفعه؟ هل يتجنبه؟ كيف يكون سلوك الإنسان العام تجاه الموت بوعيه دون التعرُّضِ لحتمية حدوثه؟
إن إجابات هذه الأسئلة تتطرق لموضوع الوعي العاقل و لا تنتمي لعالم البيولوجيا أو العلم أو الحتمية الكيميائية أو دورة الحياة التي نعرفها بالممارسة و الترقُّب، و أضيف بالوجع و الألم و الفجيعة و الاستنكار و بالعجز عن الدفع و الرد و العكس. فهي تنتمي لعالم التمني و الرغبة، لعالم العناد و محاولة المقاومة و محاولة الدفع و محاولة الصد و محاولة تغير الحتمية والاستغراق في وجود حالم حال ٍّ في نفس الوقت لكنه مؤقت و سيتغير ليسير نحو الحتمية و يحقــّـِـقـها.
يتعامل الوعي العاقل مع الموت بمنطق اللافهم، و الإحساس بالخيانة و الغدر، فكل من يصحو يوما ً أو يذهب لعمله ليسمع َ في بداية نهاره أو جزء ٍ منه أو نهايته خبر موت أحد أحبائه لا بدَّ أن يُحسَّ: أنه قد طُعن َ من الخلف، أنه قد أوتي َ من مأمنِه، أن ما لم يكن في حسبانه أو تخيله أو توقعه أو رغبته أو في تقديره حادثا ً، قد صار و أصبح َ واقعا ً، و أنه طعنة ٌ شخصية له، طعنة ٌ في طمأنينته، ضربة ٌ لاستقرارِه، انتهاك ٌ لحصن ِ اكتمالِه و تهتُّك ٌ عمد ٌ عامد ٌ مقصود ٌ أثرُه و قوتُه في ترابط منظومته و نزاهة ِ تجانسها.
سوف يخلِّف ُ هذا الموت تأثيرات ٍ كثيرة، أقواها حضورا ً عند بداية التعامل مع حدثه الإحساس ُ السابق ُ عرضُه من الغدر و عدم الفهم ِ هو المظلومية، فالمُحبُّ الذي فقد أما ً أو أبا ً أو أختا ً أو أخا ً أو صديقا ً أو حبيبة ً أو حبيبا ً أو صديقا ً أو زميلا ً سيجد ُ أنه قد صار فجأة ً موضوعا ً لفعل ٍ ظالم ٍ انتهكه دون مبرر مقبول و فرض عليه غياب شخص ٍ لم يكن يجب ُ بالمنطق ِ الشعوري و الحياتي و الإنساني أن يغيب. لا أتحدثُ هنا في منطق ِ الجينات ِ لكن في شأن ِ الوعي المُنبثق ِ و الصادر ِ عنها، فالجينات ُ في حتميتها الدافعة ِ إلى الموت شئ، و في وعيها و العقلانية ِ المُترتبة ِ عنها و الرافضة للموت و المتحدية ِ له شئ ٌ آخر تماما ً لا تعرفه و لا يعرفها، و في ذلك َ عظمة ُ الإنسان و غموضه و تعقيده. و هذا ما يجب ُ أن نتدبره بتفكير ٍ عميق ما بين الحتمية ِ البيولوجية التي تدفع إليها الجينات و لا يمكن ُ الفكاك ُ منها و بين الوعي الناتج ِ عن هذه الجينات و الذي يدفع ُ نحو رفض ِ شعوري ٍّ عاقل لهذه الحتمية على الرغم أنه يحيا مُتجذرا ً فيها غير منفصل ٍ عنها، و أحثُّكم أعزائي القرّاء على إعادة قراءة هذه الفقرة مرة و مرتين و أكثر لأن في استيعاب معانيها تلخيص التجربة ِ البشرية تجاه الموت، فهي تحمل ُ بعدا ً لا بدَّ من التوقف عنده و مناوشته و التعامل معه و مشاكسته و قبوله و الاختلاف معه، و اتخاذ موقف ٍ منه.
سيبقى إحساس ُ المظلومية ِ مُستعِرا ً نهما ً في الحواس، مع عدم قدرتها على تلبيته بإشباع ِ نفسها بتفسير ٍ عقلي ٍ شعوري ٍ مقبول ينهيه، و يجيبه و يُغيِّبُه و يُرضيها نفسَها و يُخمد سعيرها. و بهذا تبقى الحواس مُتيقظة ً بفعل القلق الانتهاكي كدافع ٍ، و بفعل ِ الرغبة ِ العاقلة و الواعية و الذاتية حواسَّا ً بإنهاء ِ مظلومية الانتهاك ِ و ألمه ِ كدافع ٍ آخر.
لكن َّ مشكلة َ هذا الفشل ُ الشعوري أنه يتعامل ُ مع أمر ٍ واقع ٍ حال ٍّ تفرضه قوانين الطبيعة و تفاعلات الكيمياء و البيولوجيا داخل الجسم البشري، و هي أمور ٌ لا تخضع ُ لوعي الإحساس و لا لخيالات التمني و لا للأفكار التجريدية للعقل البشري. و تبرز ُ هنا المفارقة الكبرى و سخرية ُ الوجود العظمى حينما يأتي نتاج ُ الجينات التي تقود لحتمية الموت بمظاهر َ واعية مُتناقضةٍ مع هذه الحتمية، فيجعل ُ هذا النتاج ُ الوعي َ الإنساني َ، و إن كان غير مفارق ٍ للمادة، مرتقيا ً عليها قادرا ً على تخطيها بالتجريد، لكن مُنتهَكا َ شعوريا ً، مشغولا ً عقليا ً، إنسانا ً حيَّا ً في كل أوجُه تفاعلات ِ الحياةِ التي تسري فيه و تكونه، و تُشكِّل ُ تجسيد َ وعيه، و يُشكِّل ُ هو بدورِه إطار هويتها المؤقت، إلى حين اكتمال الدورة ِ الجينية ِ الحتمية التي سيكتشفُ بعدها هذا الإطار الواعي أو قل آخرون َ من نوعه البشري حقيقة َ العربة ِ التي حملت الوعي و مقصدها النهائي.
من شأن المظلومية و الإحساس ِ بالغدر و المفاجأة و الاندهاش المؤلم ِ من اختطاف ِ الحبيب ِ الميِّت ِ أن يورِد َ العقل أفكارا ً و تقلُّبات ٍ مُتأسِّسة ٍ في الرفض و ناتجة ً عن الاستنكار. و هي التي ستدفعُ الوعي العاقلَ للتفكير ِ في ماهية الحياة ِ و دورتها و بُنية ِ استمراريتها و الأسرار ِ التي تربِض ُ تحت َ مظاهرِها التفاعلية، ليستطيع َ بعد ذلك َ أن يحُلَّ سؤالها المِلحاح ِ اللَّحوح َ عن جدواها و هدفها.
لكنه سيتوهُ بعدها في دهاليز ِ و مضايق ِ و تشعُّبات ِ و طُرق ِ و صعوبات ِ و رمال ٍ مُتحركة ٍ تتعلق ُ جميعُها بالسُّؤال ِ عن الدرجة التي يمكن ُ أن يطمئنَّ فيها لبقاء الأحبة و استمرارية ِ الأعزَّاء ِ قبل أن يسخر منه الموت ُ مجَّددا ً و يمارس َ سلوكَه ُ اللصوصيَّ باغتصاب ِ المزيد ِ من أحبائه ِ قهرا ً و فًجاءَة ً و عُنوة ً عنه.
إن َّ العجز عن إجابة َ هذا السؤال ثم َّ إلحاحَه ُ على الحواس، و استمرار َ ضغطِه ِ على الوعي و اللاوعي و المشاعر جميعها سيدفُعهُ في النهاية ِ إلى ازدحام ٍ في التناقضات ِ التي سيعجُّ بها دماغُه ُ و سيلعب ُ فيها شعُورهُ و لا شعوره معا ً و بالتضامن ِ و تبادُل ِ الأدوار ِدورين أساسين، أحدهما يُؤكد ُ له ما يعلمُها من انقطاع ٍ تام بينه و بين الغائب، و الثاني من أمل ٍ و رجاء ٍ في لقاء ٍ قادم ٍ في عالم ٍ آخر.
و سيجد ُ من هذا التناقض بين الأمل ِ و الواقع تحديا ً آخر لا يقل ُّ إيلاما ً عن تحدي الغياب، فالثاني واقع ٌ حال ٌّ قد نزل َ حُكمُه و ينتظر ُ الدخول َ لمنازل ِ القبول العقلي و سيكون ُ ذلك بفعل ِ الزمن و قسوة الفرض، بينما الأول يريده العقل ُ لكنه لا يعيشُ في منازلِ الواقع، فيتيه ُ المُحبُّ المكلوم ُ بين واقع ٍ نازل ٍ ينتظر ُ الاعتراف و القبول و بين مُراد ٍ مُتمنَّى ً لا يمكن تحقيقـُه واقعا ً.
لكن َّ النفس البشرية َ و ما طبعها التطور ُ عليه من صفات تستطيع ُ احتواء َ هذه المتناقضات ِ و التعامل َ معها لكنها لا تسير ُ في تفاعلاتها الديناميكية بمنأى ً عن تأثيراتها، فنجد ُ الخوف َ و الطمأنينة و الحزن و السعادة و الألم و اللذة و التسليم و الرجاء و الغضب و القبول و الرفض و القناعة َ كلَّها في ذات ٍ واحدة ٍ كطبيخ ِ مِرجل ٍ فائر ٍ يحتوي كل شئ و لا يُعبِّرُ محتواه و لا يعني شيئا ً واحدا ً مُتَّحدا ً يُدرك بكينونته ِ المُنسجمة الواحدة، إلا إذا اعتبرنا الإنسانية المُجتمعة َ في الإطار ِ الوجوديِّ انسجاما ً في التناقض.
هذا التناقُض ُ سيقود ُ حتما ً لأنماط َ شخصية ٍ مُتفرِّدة ٍ و مُنفردة بين شخص ٍ و آخر، تتراوح ُ بين الاندفاع ِ لمعانقة ِ الحياة و بين الاستسلام ِ للموت، و بين الطموح في العمل و الحب و الحياة و الإنجاب و بين الاستسلام لحتمية ِ الانتهاء و القناعة ِ غير السوية و الاكتفاء ِ بالواقع و الرضوخ ِ لضرباتهِ و الامتناع ِ عن تغيره، و القُبوع ِ في منازِلِه الضيقة.
سيتعامل ُ الديني و اللادينيُ في موضوع ِ الموت بذات ِ الطريقة، فمن الأوَّل ِ المتفائلون الواثقون الأحياء و كذلك بالضبط من الثاني، و من كليهما المُستسلِم ُ الراضِخ ُ المتشائم ُ كسول ُ الفعل ِ عديم الإرادة ، الكلُّ بدرجات، و هنا ستبرزُ الطبيعة ُ البشرية ُ غالبة ً على الأدلجة، و شاهدة ً على أثر البيئة ِ و التنشئة ِ و الضغط ِ الجيني و التنوُّع ِ الحيويِّ البيولوجيِّ و التي ستقرِّرُ في مجموعها هوية الفرد و طريقته في التعامل مع الموت، و تأثيره عليها، و منزلته في بُنيتها و درجته في تشكيل الدافع الذي سُيترجِم غريزة َ البقاء إلى أفعال ٍ ملموسة.
الموت، هو أصدقُ حدث ٍ يضع ُ الإنسان َ أمام َ من هو
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غزة - 4 - بقلم الملكة رانيا
-
وباء السلفية التكفيرية و ضرورة الاستئصال.
-
غزة - 3 – أربعة أطفال و قذيفة.
-
في الموت – قراءة أولى كأحد وجهي الوجود.
-
غزة – 2 – إستمرار جرائم الحرب الإسرائيلية و ردود الفعل الشعب
...
-
غزة – وضاعة استباحة الحياة و ازدواجية الاعتراف بالحق الإنسان
...
-
قراءة في اللادينية – الإلحاد كحركة دينية مُجدِّدة.
-
من سفر الدين الجديد – الفصل الأول - آمر لي مارهو
-
قراءة في جدلية ما بين المنظومة الدينية و الواقع– المعجزات و
...
-
في نفي دونية المرأة – 4 – الانسجام الجيني الأنثوي مع حاجة حف
...
-
من سفر الله – 3 – في جدلية تنافر الطبيعة البشرية مع التكليف
...
-
قراءة في مشهد– من وحي محاضرة في علم الفلك و الفضاء – الممارس
...
-
من سفر الله – 2 – في الدين و الإلحاد – تمظهرات العداء و الاج
...
-
بوح ٌ في جدليات – 4 – امتداد الوعي الكوني، فرضية.
-
قراءة في الوحشية – 2 – منهج الذبح عند السلفية الجهادية نموذج
...
-
بوحٌ في جدليات – 3 – حين أنطلق
-
قراءة في ظاهرة التنمُّر المدرسي – مريم المغربية و وليم الأرد
...
-
قراءة في الإنسان – 4 – في الصواب السياسي و توظيفه لخدمة الإب
...
-
البابا فرنسيس في عمان – انطباعات
-
بوح ٌ في جدليات - 2 - عين ٌ على مستحيل ٍ مُمكن ٍ مستتر
المزيد.....
-
انحرف في لمحة بصر.. شاهد كيف تناثر طلاب بحافلة لحظة وقوع حاد
...
-
لماذا أصدرت شركة أبل تحديثاً لهواتفها يعالج الرمز التعبيري ل
...
-
ماكرون: على الاتحاد الأوروبي أن يوسع نطاق العقوبات ضد طهران
...
-
عضو في الكونغرس الأمريكي: البحرية الأمريكية متخلفة عن الصيني
...
-
الكونغرس الأمريكي يناقش مشروعي قانونين حول المساعدات لأوكران
...
-
تقرير: وزارة الأمن الداخلي الإسرائيلية تسعى الى تغيير الوضع
...
-
وزير القوات الجوية الأمريكية يتهرب من سؤال بشأن فشل مشروع مق
...
-
البحرية الأمريكية: عودة سفينة أمريكية كانت متجهة إلى غزة بعد
...
-
نائب أمريكي يستنكر عدم نشر أي منظومة فرط صوتية أمريكية حتى ا
...
-
بعد استدعاء سفيرتها لدى باكو...أذربيجان تندد بـ-ضغوط- و-تهدي
...
المزيد.....
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
-
فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
يوميات على هامش الحلم
/ عماد زولي
-
نقض هيجل
/ هيبت بافي حلبجة
-
العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال
...
/ بلال عوض سلامة
-
المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس
...
/ حبطيش وعلي
-
الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل
...
/ سعيد العليمى
-
أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم
...
/ سعيد زيوش
المزيد.....
|