أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد ع محمد - عبدو خليل: يُحشر السُرَ مع التساؤلات في قبوِ بارون















المزيد.....


عبدو خليل: يُحشر السُرَ مع التساؤلات في قبوِ بارون


ماجد ع محمد

الحوار المتمدن-العدد: 4518 - 2014 / 7 / 20 - 14:28
المحور: الادب والفن
    


" لا نقرأ الرائعة الأدبية لكي ننسى الحياة، بل على العكس لنتذكرها أكثر"
كلود روَى، دفاعاً عن الأدب
تُرى هل كان الروائي قُبيل مباشرة التدوين من الغارفين لمنهل النظرية الاستغرابية التي تشرف بخلقها المفكر حسن حنفي؟ وذلك رغبةً منه بعد طول معاناةٍ فكرية لمجايليه ومحاولة قلب نظرية الاستشراق، تلك النظرة التي غدت نظرية وداهمت ديارنا في فترة من الزمان، بما أن رد الفعل أو لقم الحجر بالحجر هو أحد الطرق المُتاحة لمناهضتها، وذلك من خلال الذهاب نحو من كان في العادة يأتي إلينا بكل تصوراته وأفكاره المسبقة عنا، وبالتالي أخذ زمام المبادرة منه أو منهم والبدء في التوجه الى رؤية الآخر في دياره، كما كان الآخر منهمكاً في وقتٍ ما برؤيتنا بعين من اكتشف لتوه منجماً بشرياً بمنظاره الاستعلائي، فيا ترى هل بناءً على ذلك التصور قام الروائي برتق أشلاء الحبكة الإيروتيكية في ملعبٍ غربي؟ عندما جعل من لندن مسرحاً للسحاقية الجنسية، بما أن بطلة الرواية تنتمي جغرافياً إلى تلك البلاد، وذلك من خلال القول بأن في مقدورنا أيضاً التوجه نحو مضارب الآخرين واستطلاع عوالمهم، أم ثمة رغبة تأكيدية لصحة نظرتهم تلك لا بصورة تجليدية للذات، إنما إقراراً بالحقائق الموجودة، باعتبار أن ما جاء في سياق الرواية يُعزِّز النظرة تلك ويقر بكل ما يتضمنه ويحتويه الشرق، بما أن البداية من هناك والمقصدُ ومسرح الأحداث والخاتمة في مدينة حلب، حيث المكان المعتاد لانتقاء الأجواء المناسبة لهكذا طقوس، واختيار شخوصٍ ولاعبين محتملين من الشرق المكتنز بالآلاف من حكايا المحرمات، تلك القصص المحافظة على كل مباهجها الإباحية والتي لم تُستهلك بعد رغم الغزو الإباحي من الفضاء التكنولوجي، إذ أن خمائر الجنس لم تبارح جِرار المخادع في هذه المنطقة، ولم يُرفع الغطاء الى الآن عن أغلب الشبقيات القابعة في زوايا العقول والبيوت، مع أن مفتتح الفحيح الجسدي والهسيس التضاريسي هو لندن، لا دمشق ولا طهران ولا حتى مصر، هي إذن رواية البحث عن صاحب النُطفة الميمونة، عن آباءٍ مفترضين، تاجرُ زيت، ملاكُ أراضي، وتاجرُ صابون، ولكن المدهش أن ثمة رابعٌ يدخل معترك الأنساب من دون تصريح الراوي باحتمالية مشاركته في نصيب الأبوة المحتملة، رغم اجتماع الشكوك مجتمعة في حوزته، بطلة جاءت من خلف البحار لاستكشاف سر أبيها الغائب، تذهب بعيداً خارج الفندق بينما السر مقيمٌ معها في نفس الأوتيل، ويظهر بأن الفرض الرابع يشك ضمنياً بقصة الأبوة العائدة لأحدٍ ممن يُشكلون الاقنوم الثلاثي، ولا جرأة لديه لكي يُكمل الحلقة فيغدو مع الباقين أحد أعمدة الفحولة، ليكون العمود المتمم لأصحاب الحيوان المنوي التائه في مجاهل هذه البقعة الحاضرة الغائبة، ولربما كان الرابع غير جبان ولكنه يخشى من تبعات الأبوة، وإلا فلماذا بقي محافظاً على صمته ولم يكشف عما كان بينه وبين والدة هيلين؟ وتهربه من استفسارات الابنة وفراره من وقع التساؤل، ليذهب به الحرص الاحتياطي الى نسج قصةٍ ما لإبعاد الباحثة عن مكان الحدث، وذلك من خلال قيامه بعملية التشبيك بينها وبين أبو الريح علَّه يُبعدها عن مركز احتواء السر ومرتعه، عموماً فلا كثافة شخوصية في الرواية إذ لا يُشغل حيز النص في لندن غير الأم كاترين وليزا الهائجة وتذكيرٌ سريع بجيهان الباكستانية التي تعادل قوتها الجنسية مئة حصان حسب ما هو مذكور، وحضور غير ذي أهمية للسائق رغم جمالية اللقطة السينمائية في تصوير حركاته، إذ أن حضور هؤلاء جاء خطفاً مع تذكير هيلين بمراسلة أصدقائها، ما يعني أن لهيلين أصدقاء آخرين غير ليزا التي استحوذت عليها، فيا ترى هل الحالة الخاصة بينهن هي التي فرضت حضور ليزا عليها وعلى القراء على حدٍ سواء؟ وساهمت بالتالي في إبعاد الآخرين، والتأكيد على النهم الجنسي القاصم لمتن العادي لديها مقارنةً بباقي النساء، عموماً فيبدو أن الروائي بحذاقةٍ منه تخلص من كل ما كان طارئاً من الشخصيات حتى قبل لملمة شمل العمل، لينهمك أكثر في تفاصيل حياة هيلين، لذا قام بطرد ونفي الذين رآهم زائدين، للاحتفاء أكثر بعوالم هيلين وإبراز الاستنطاقات الجسدية لـ: ليزا التي تقوم باستحضار القول الجنسي وتتعايش مع ملذات الجُمل الجنسية أكثر من العملية الجنسية نفسها، بما أن الخيال لا يدعُ أي مجالٍ للنقصِ بل ويبدعُ في الرسم أكثر مما هو مرسوم حقاً، لذا فالشره الجنسي قد أُفلح في إظهاره لدى أغلب من التقت بهم هيلين بما أنه طبعٌ عام في هؤلاء الشهوانيين المذكورين في النص، رغم أنهم نُسخ راقية شيئاً ما مقارنة بالبيئة التي ينتمون إليها، ولعل العمل والسياق فرض حضورهم على هذا النحو، بما أن الجو العام للرواية تطلب حضورهم هكذا، وإلا فمن الممكن أن يكون نفس هؤلاء أسوأ مما هم مصورين في أماكن وأعمال أدبية أخرى، ومع أن الشرقي كما تم رسمه يُعاني التضور الجنسي، نتفاجأ بالطبيبِ وهو يتملص مما كان في دخيلة نفسه يبتغيه، خاصة عندما فاتحته هيلين بأنها قد تحتاجه، ترى هل فعل ذلك للتدليل على عدم استماتته عليها كعادة أبناء بلده مع الشقراوات؟ أم أراد من خلال حركته تلك إشعال فتيل الاغراء ودحرجة عجلة الإصرار لديها علّها تهم بملاحقته من خلال ذلك التحفظ؟ وبالتالي ليحكم خناق شباكه عليها بشكلٍ أفضل، أم داهمته هواجس تحض السوريين على الاحتراس؟ والانصياع لرغبة الأجهزة الأمنية في عدم الاحتكاك بالأجانب، وذلك لإقرارٍ ضمني من تلك الجهات لخطورة التقاء السوريين بالغرباء، أما من ناحية المواضيع التي مُررت بالتوازي مع سير الأحداث فهي عديدة، ولكن من دون أن يشعر المتلقي بأنها اُقحمت بطريقة فجة، بما أنه لمح اليها ولم يسمها وترك شأن الاستفاضة للمتلقي، وثمة محاولة لنبش مكمن العلاقة الجدلية في هذه البلاد بين الجود والاستبداد عندما يستخدم الرجل الشرقي العطايا كعامل إهانة للآخر لا دافعاً من دوافع الانشراح والرضى تالي الرِفد، وإقرار الطبيب بالقساوة والخشونة الشرقية ولا نعلم إن كان خطاب الطبيب نابعٌ من قناعاته أم نيابةً عنه تم جلب الفكرة واستحضار السياط للبدء بجولة جلد الذات، لعلَّ الألم المبرح يُخفف من حدة الألم النفسي الكامن في أعماقه، وأيضاً هنالك محاولة لزحزحة الصورة الذهنية عن كلٍ من سائقي العربات المعروفين بجشعهم وابتزازهم المتكرر للرُكاب وظهور ذلك السلوك المستبشع من خلال تعاملهم اليومي مع العابرين، بل ويدفع المتلقي للاستغراب من وجود هكذا نماذج بحلب، وأغلب سائقي المدينة عبارة عن جوقاتٍ من الجشعين والنصابين، وكذلك الأمر فثمة محاولة للتخفيف من حِدة المساوئ المروية عن أصحاب اللِحى من خلال السلوك واللفتة البسيطة للسائق الملتحي، فعادةً أن أكثر ما يرتاب الأجانب منهم في ديارنا هم طُلاب الآخرة الذين يكونون ملتحين على الغالب، وهنا نرى بأن النموذج الذي تحدث مع هيلين هو على غير عادته، علماً أن أحدَ من يشبهونه قام في مكانٍ آخر بتوبيخ أبو الريح لمجرد أنه شم رائحة الخمر منه بل ويقوم بطرده من سيارته، وهنالك محاولة لتسليط الضوء على المعاناة اليومية للنساء في ديارنا مع الهندام المفروض عليهن من قبيل العادة الاجتماعية قبل الدين المجتمعي، مع أنه حاول في مكانٍ آخر إظهار الجانب الإغرائي لملاحف النساء ويصور كيفية احتكاك الجلباب بجسد المرأة المنقبة، التي لا تلبس أي شيء تحت خيمتها السوداء غير حمّالة النهد والكيلوت، ويضعنا الروائي وجهاً لوجه مع رواسب مجتمعاتنا ووضاعة من يركنون في قاعه، هؤلاء الذين يكثر تواجدهم في الأسواق بشكلٍ عام، الذين يفتقرون لكل ما يمت للقيم بصلة، كما نقرأ بين السطور العلاقة الوثيقة بين الجهة التي يمثلها أبو الريح وأجهزة أمن النظام عندما يُحرر أبو الريح هيلين من بين أنياب عناصر الأمن، ومن ناحية علامات الزمن ودوره العنيف فاستخدم الروائي للدلالة عليها كلمات تحض القارئ المنهمك في غرف السطور على تحسس بدنه في عدة صفحات، وفيما يتعلق بحضور كاترين والتباس اسمها مع اسم والدة هيلين لم يكن مصادفةً، إنما ربما أراد الكاتب أن نقراً مع هيلين سيرة والدتها من خلال ملامح وتجارب تاجرة اللوحات كاترين التي تحمل نفس اسم والدتها، أما من ناحية الالتباس في المشاهد، فثمة تداخل بين وضعية السقوط الحر كتهيئة للوضعة الجنسية، وحالات السقوط الفجائية نتيجة الدوخة التي كانت تعاني منها هيلين بدخولها المباغت للنفق الحلزوني والالتفاف حول حواف النفق المظلم، ولم نعلم عن سر العلاقة بين الحالتين، وفيما يتعلق بطُرق اكتشافات مغاور الجسد بعين الخيال فكانت أخاذة، أما عن حضور الجسد الأنثوي بكامل نضوجه واكتنازه الشبقي فتبدأ ليزا برسمه جيداً عندما تطالب هيلين بأن تكون نداً لكولومبوس في فن اكتشاف العوالم، فيما تقوم باستكمال اللوحة الجسدية منار الأسمر في حلب، ويأخذ شكل الهيجان الجسدي كماله التدريجي ليبلغ تمامه في الشرق، فالهيجان الإيروسي لا يبلغ مراقي الأورجازم إلا في الشرق الممرغ بتصورات معظم طرق الجِماع المسموحة والمحظورة، الظاهرة منها والكامنة، وبالعودة الى الملامح الخارجية لهيلين فيبدو بأن الروائي عوَّل على ما لدى الأم من الملاحة وعدَّ هيلين نسخةً عن والدتها، بما أن البنت غالباً ما تكون سر أمها، لذا لم يأتي في سياق النص أي حديث عن المؤهلات الجمالية لهيلين واستعيض عنه بسردٍ على لسان العجوز كارو عن حُسن ومفاتن الأم كاترين، ربما كان ذلك لتأكيد ما لدى هيلين من خِصال الجمال عن طريق الوراثةً، وبما أن كارو هو بمثابة الصندوق الأسود للأوتيل، فما من معلومة تخص النزلاء إلا وهي مودعة في زاوية ما من صندوق ذاكرته، لهذا قام كارو بإشغال ماكينة التصورات لدى القارئ عن كل ما يخص كاترين من خلال تحريض المتلقي على استجلاب كاترين وهي بكامل أبهتها، والروائي فلح بإشعال فتيل التوق المعرفي لما كان غائباً عن غارف الكلمات بشوق بصيرته، بل وليس القارئ وحده من جُر الى الاستمتاع بحديث كارو عن أم البطلة، إذ حتى الأبنة نفسها استساغت ما كانت تسمعه عن أمها بلسان العجوز، كما أن كارو ليس مجرد مدون لسجلات الفندق، إنه أيضاً لسان حال فئة من المجتمع والكلمة التي يدليها تُعبر عن رأي شريحته، وثمة مفارقة خفية في تصريحاته الاندساسية، إذ معلوم أن الرأي العام لبني جلدته يكن موقفاً غير مستحسن من ملة أبو الريح وتنظيمه، فلماذا بدأ العجوز بكيل المدائح لذلك التنظيم، فهل لاعتقاده بأنهم يُقاتلون عنه وعن أساطين طائفته بالمجان؟ عموماً فلغة الكتابة فيها متشربة بالخيال الحار، ويتقطر من حواف كلماتها صوراً لا تخلو من شعرية اللقطة السينمائية، أما من ناحية الحديث عن أبو الريح فيبدو وكأن الراوي يقع في قبضة شاهدٍ عيان يبدو عليه التأرجح من خلال عملية التجاوز والانتقال الى ما يراه مناسباً لكي يعُري من كان قابعاً خلف المشهد، فالواقع يُفرض هيمنته في بضع صفحات، وخاصة فيما يتعلق بأبو الريح ومن كان منهم أبو الريح فكرياً أو تنظيمياً، رغم عدم معرفتنا به كشخص حي، إنما بكونه نسخة موجودة حولنا في كل مكان، ثمة مواقف عدة يُعبر عنها في السياق بطريقة فنية لا سطوة فيها، ولا فواصل تدعو القارئ من خلالها الى التململ لإحساسه بأنها كانت حشواً أو فضلة، لأنها لا تزال ضمن الخط العام للرواية، أما فيما يخص أبو الريح وتنظيمه فثمة محاولة لوضعهم على مشرحة التأويل، إذ لم تمر أسماء مثل: عكيد، مظلوم عفو الخاطر وقبلهما ورود اسم الاسطون الثالث الذي يستكمل به بنيان التنظيم، ولا يُعتقد بأن مرورهم كان فقط لاستكمال صورة المنظومة أمام المتابع للسطور والكلمات، إنما ربما لإعادتهم الى بساطتهم البشرية ونزع صفة المهابة التعظيمية عنهم، وإعادة رسمهم بعيداً عن التفخيم والقداسة، وذلك من خلال مزاولة أولئك النجوم لأعمالٍ غير محبذة اجتماعياً، كما أن متابعة النهل البصري والحديث عن التنظيم المذكور يدفع المتابع للقيام بسياحة فكرية خارج النص، واستحضار صور لاستالين وماوتسي تونغ وحسن نصرالله، وحضٌ وإيحاءٌ على عمل المقارنات، وتذكر موقف حزب الله اللبناني وسماحه لأنصاره في وقتٍ ما بزراعة الحشيش في مناطق نفوذهم بدعوى تأمين الجانب المالي للتنظيم، لذا كان بطلنا أبو الريح يُتاجر بالمخدرات ويقتل صديقه لمجرد أنه شتم الزعيم وهنا استجلابٌ واضح لصورة تنظيم القاعدة وممارساتها بهذا الصدد، بما أننا هنا في تنظيم أبو الريح الموجود في الرواية وخارجها، حيثُ يُسمح لعناصره أيضاً فعل أي شيء مادام هو ضمن مسار الحزب ولصالحه، الضرب، القتل، الاتجار بمختلف الممنوعات ما دامت النتائج داعمة لسير التنظيم وصيرورته، وتسليط الأضواء غير خافٍ من ناحية اعتماد التنظيم المذكور على العوام والجهلة وكل من يؤمن بشكلٍ أعمى بكل ما أوتي به الزعيم، بما أنه قدس الأقداس لدى أبو الريح الذي من لحظة اعتقال القائد أوقفت كل مشاريعه، وانهارت قواه وسطوة امبراطورية تجارته السرية في السجن بمجرد سماعه لانتهاء مصير الزعيم في تلك الجزيرة المحروسة بالعناية التركية، وتظهر العقائدية أيضا لدى أبو الريح في موقفه من نظام الدولة، إذ ما الذي يدفع شخصاً محكوماً عليه بالسجن عشرون عاماً ويبقى يُفضل الجائر على من يُريد التخلص منه، ولكن كم كان التعريف بأبو الريح وتنظيمه سيكون ممتعاً لو جاء مقتضباً ومكثفاً وعلى لسان أبطال العمل وليس الناس الذين قام الراوي باستنطاقهم، لذا نرى بعد التعريف بأبو الريح وقد انعتقت المرويات من السرد المطعَّم بروائح اليومي والمُعاش وتعّرف هيلين عليه فيعود الخطاب السردي ويرتفع بتألقه المزدان بشناشيل التخيُّل ويتخلص القارئ من عاديات أبو الريح وأقرانه ليُحلق مجدداً مع هيلين وعالمها الذي يبقى الأشد تشويقاً كلما جدد الراوي الاتيان بها، بل والملاحظ أنه بعد لقاء أبو الريح بهيلين ارتقى خطابه هو أيضاً ولا يبقى هو نفسه المفرط في واقعية جهامته، وقد نقله الراوي الى مستوى التفكير بهيلين، لغةً، رغبةً، حلماً، سلوكاً، علماً أن اللقاءات بينهما لم تدم طويلاً، إذ كيف كان سيبدو عليه الحال لو سمح الراوي له بالغرف من نبع جسد هيلين، وهنا إصرارٌ مبطن لإظهار قدرة الأنثى على إحلال التأثير المباشر في الرجل، إذ لا أحد يقدر على تغيير مصائر الناس بسهولة ورشاقة غير الأنثى، ولربما للأنثى قدرتها على تغيير بنية ومصائر المجتمعات بيسر، فيا لها من امرأة وقد حولت هذا التمثال القابع في أسفل درك من مقام الخمول منذ صدمته باعتقال الزعيم، الى بهلوانٍ يمتطي حبال المشاهد وقد غدا شخصاً مفعماً بصهيل الخيال والمشاعر، امرأة قادرة على انهاض من كان في منتصف حالة السبات، لتنقلنا المرأة نفسها من انهماكها بالبحث عن اسماعيل آغا من جديدٍ الى استحضار مشاهد الجسد في لندن مع ليزا وانتقال الطقس الشبقي الى حلب حيث خليلتها منار بوجهها الأسمر ونهداها العريضان، لنتدحرج صوب الشِعاب المؤدية الى أسرار المخادع، بسردٍ جميلٍ ينحدر من مواقع تفجرت فيها براكين الرغبة لينساب المؤجج من مناحِ تخيلٍ جنسي الى واقع جنسي، مع الحفاظ على رونق التوقع والرسم المتواصل للهالات الشهوانية من دون أن ينتاب القارئ أي ملل من تلك الإيماءات التي كثيراً ما تبقى محضُ إيحاءات، وشد الانتباه الى تصوير نساءٍ يُفترض بهن الاحتشام الى حدود التطرف، إذ تُفصِح منار من خلال بوحها بأنه احتشامٌ نابع من أوج الإغراء الجسدي المخفي تحت سواد العباءة، فيما يعود العجوز كارو الى محاولة إهراق ما يقطن ذاكرته مجدداً أمام السائحة وشرح معاناته الشخصية كنموذج يمثل الجماعة، إلا أن الراوي يمسك بتلابيبه ويحكم الخناق عليه لكي لا يخرج عن السياق والدور المنوط بهِ، ولكن رغم تحكم الراوي بزمامه يحاول الإفلات من الطوق المتحكم به لإثارة انتباه هيلين لموضوعه بالإيماءات المتكررة، هو لا ينجح حقيقة في استعطاف هيلين لقضيته، ولكنه ينجح في قيادة القارئ إلى مربطه ليدلق بعض التفاصيل التي لا تبارح ذاكرته منذ أن رأى ما رآه، ومن ناحية اختيار مصائر الآباء المحتملين لا يُرهق الراوي نفسه في سبيل التخلص منهم واحداً تلو الآخر، إذ أن اسماعيل آغا تنتهي رحلته الحياتية برصاصة قاتل مجهول قتله غدراً بعدما شك أن زوجته وقعت في غرام المغدور، ولكن كيف يكون مجهولاً وثمة تفاصيل تشير بأن القاتل معلوم، وإلا فكيف تم معرفة سر علاقة الراحل بزوجة القاتل؟ وفيما يخص الفرض الثاني من اقنوم الأبوة بكري أفندي فينتهي به المطاف في سجن تدمر الصحراوي إعداماً مع ابنه وذلك بعد إلقاء القبض عليهما من قِبل رجال الأمن على خلفية اتهامه بأنه العقل المدبر لإضراب حلب الشهير في الثمانينات، أما الضلع الثالث اسحق فغادر سوريا مهاجراً مع جموع اليهود إلى أرض الله الواسعة تاركاً خلفه كل أشياءه، والملفت أن المروي يُحيلنا مجدداً للتمعن في سيرة الضلع الثاني من مثلث الأبوة والنية غير البريئة لإحضار ما كان غائباً عن بال العارفين عن أهل مدينة حلب وطبائع سكانها، حيثُ يُعرف عنهم تعلقهم الشديد بمصالحهم اليومية، لنتفاجأ بنتفةٍ غير اعتيادية من سيرة بكري أفندي كداعم ومنشئ لفصائل مسلحة في الثمانينات، وهو الثري المرفه، فيدفعنا الموقف للتساؤل ترى هل كانت لرحلته الى لندن أوان فتوة شبابه علاقة ما بتفتق صحوة المقاومة لديه ورفضه لأوامر وزواجر السلطة الحاكمة في بلده؟ بل وإضافة الى المفارقة التي لمسناها لدى بكري أفندي، يقودنا المسرود الى حالة أخرى ليست بأقل غرابة من السابقة حيث نتعثر بتصريحٍ ملفت للانتباه على لسان كارو، فكيف بهذه السهولة استُدرج رجلٌ أرمني في العقد السابع من عمره بأن يتفوه بهذه الكلمات؟ ومعلومٌ عن بني طائفته مدى حرصهم الزائد فيما يتعلق بالإدلاء بالآراء أمام الغرباء والاحتفاظ بها حتى الاختمار، والابتعاد قدر المستطاع عن كل ما قد يُظهر بأنهم يشكّونَ بنية أو تصرفات الجهات الحكومية، أم ثمة مرادٍ ما لدى الكاتب يرغب بتقديم هذا الطيف بصورةٍ مغايرة؟ وذلك على لسان عجوز السجلات، ليحرر القارئ ربما من شمولية صوره الذهنية السابقة، وإعلامه بأن ليس كل الفئة متناغمون مع خطاب المستبد، مع أنه يُكشف في مكان آخر البغض الديني الكامن في مغاور العقل لدى من ينتمي إلى فئة أخرى من المجتمع الحلبي، وهنا يكون الفصيل الاسلامي تحديداً، وذلك من خلال تغيير الملامح والاسلوب النطقي لدى الخال الذي يُبدي ارتياحه وبشاشته ويتخلى عن وقاره المعتاد ويمازح هيلين عندما تعلق الأمر بسؤالها عن بكري بيك ومدى علاقته بكاترين، بينما يُعلن تذمرهُ ويتعكر مزاجهُ عند السؤال منه عن اسحق، بل ويخرج عن نطاق الأدب عندما يُنعت والدة هيلين بالشرموطة، ليكشف الغطاء عن بُغضه الديني الدفين تجاه اليهود فتترشح الأحقاد الثيوقراطية من مساماته وملافظه لمجرد الاستفسار منه عن تاجر الصابون اسحق، وكان من الممكن أن يكشف عن بذاءته أكثر لو ألحَّت كل من هيلين أو منار الاستمرار بالتساؤل والاستنطاق، أما من ناحية الأخطاء التنضيضية فكأن كان المُنضد مصراً على تشتيتنا فيما يتعلق بكلمة الإيوان التي ذُكرت في السياق تسع مرات ودائماً كانت مكتوبة ليوان، أو الليوان، عموماً فالرواية تحض على إشعال مخيلة القارئ بعد إتمام القراءة بعشرات التساؤلات، منها مثلاً مبرر ظهور أبو الريح في فرع الأمن بالصورة التي يبدو عليها وكأنه صاحب مقامٍ رفيعٍ عندهم وهو الذي قضى عشرات السنين من عمره في معتقلاتهم ، أهو عقل المقارنة السياسية الذي رجَّح ميله لتلك الأجهزة؟ أم كفة الوقائع هي التي فرضت حضورها عليه؟ وكذلك تساؤل آخر لا يقل أهمية، خصوصاً ما يتعلق بواهب النطفة، فماذا لو كان كارو نفسه هو الذي أودع بذرتهُ في جوف كاترين لينبت هذا النموذج الرائع هيلين؟ وإلا فلماذا دوَن مانشيتاته باللغة الأرمنية على حواشي السراويل؟ ولماذا الاحتفاظ بخصوصيات الآخرين إن لم يكن جزء من تلك الخصوصيات؟ و لماذا كان ذلك الطقس الخفي لديه وهو يتنقل بين السراويل بمختلف أشكالها وألوانها، يشم منها ما تبقى من روائح أصحابها، يتبارك بمسامات أقمشتها في العتمة لئلا يكشف سرها الضوءُ المتسرب الى قبوِ الأسرار؟ أم أن كارو نفسه لم يكن طوال بقائه أكثر من قَوادٍ يجمع شمل عابري النكاح في مخدعه المنزوي أسفل الأوتيل؟ أم أنه كان مجرد شاهدَ عيانٍ على لقاح وخصوبة ذلك الحب العابر؟ ويبقى التساؤل الأكثر إقلاقاً للقراء وبطلة الرواية معاً، ترى ماذا لو اكتشفت هيلين أو من ينوب عنها خارج النص بأن البذرة التي وُضعت في ذات الوقت والليلة في تربة كاترين كانت مشتركة، وتناوب على الزراعة اسماعيل آغا وبكري أفندي مع احتمالية تسرب غبار كارو مع بذارهما الى بيت رحمها، بما أنه الحاضر الأبدي على مسرح المناكحات، هذا إذا ما أبعدنا اسحق عن الساحة باعتبار أن لا دليل يُذكر للصحبة مع الآخرين من الآباء المفترضين، ولا ثمة دليل يُثبت اختلاءه بكاترين حتى، إذن فهل سيطول بعد ذلك بحثَ هيلين أو من سيتقمص دور هيلين في المتقاربات والمتنافرات بين عمن سيُصبح صاحب الحظ العظيم الذي سينُسب له شرف الأبوة، أم ستختار في النهاية ذلك الذي سيكون جديراً بأن يكون في مقام أبيها الغائب بهيئته وملامحه ولكنهُ حاضرٌ كل لحظةٍ بنتاجه، بهيلين.






#ماجد_ع_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل يُعيد حزب الاتحاد الديمقراطي تجربة حلب في كوباني؟
- وزير شؤون الجنس والأدب
- أفي القضايا الكبرى نكايات؟
- الفحيح النخبوي
- الثورة والتغيير من قلب أوروبا


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد ع محمد - عبدو خليل: يُحشر السُرَ مع التساؤلات في قبوِ بارون