أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليمان جبران - الأستاز!














المزيد.....

الأستاز!


سليمان جبران

الحوار المتمدن-العدد: 4517 - 2014 / 7 / 19 - 14:53
المحور: الادب والفن
    



أنا سمّيته، وما زلت، الفهلوي. يمكن تسميته الخنفشاري أيضا. أما على لسان أبي، وكلّ أبناء قريتنا، فكان اسمه الأستاز. نعم بالزاي. بخلاف لهجتنا نحن في القرية. يكفي أن تقول إنك سمعت المسألة من الأستاز ليصدّقك كلّ سامعيك، حتّى المشكّكون. لا أحد من أبناء القرية يعرف ما هي ثقافته الرسميّة فعلا. هو الأستاز وكفى. فضله على كلّ أبناء البلد. في الماضي البعيد تعلّم في المدينة البعيدة، وعاد إلينا أستازا يعلّم صغار القرية، ويوقّره فيها الوقار كلّه، الصغار والكبار.
أبي كان من أكثر المعجبين به. كان في نظره أديبا عظيما، لكنّ الحظّ خذله فلم يواصل دراسته في الجامعة. لو أكمل دراسته يومها لكان اليوم في شهرة طه حسين أو توفيق الحكيم. وإلا فما معنى الكتب التي تغطي حيطان الديوان كلّها في بيته، من الأرض إلى السقف؟ هل في القرية كلّها من قرأ هذه الكتب، أو يعرف حتى أسماءها؟ أستاز عظيم، لكنّ الحظّ لم يخدمه، و"كم قضى الحظُّ على موهبةٍ..."!
أنا أيضا كنت معجبا بالأستاز، مثل والدي. كنت أنتظر اليوم الذي أنهي فيه تعليمي وأصير أستازا. مثله أو أقلّ قليلا. سألته مرّة، في الصفّ، لماذا وردت كلمة الأهرام، في القصيدة التي علّمنا، مرّة بالضمّ وأخرى بالفتح. عندما تكبر، قال لي، تتعلّم وتعرف. وإذا كنت أحببت العلم، واللغة العربيّة بالذات، فلكي أكبر وأفهم، كما وعدني، سبب الضمّة والفتحة في آخر الكلمة ذاتها، وفي القصيدة ذاتها!
لم يكن في قريتنا مدرسة ثانويّة. بعد إنهاء الصفّ الثامن في القرية، كنت مضطرّا إلى السفر إلى المدينة البعيدة، لأقيم هناك، وأتابع دراستي، مثل تلاميذ كثيرين من قريتنا ومن المنطقة كلّها. بعد إنهاء الصفّ التاسع في المدينة، عدت في أواخر حزيران، إلى أهلي في قريتنا، مرفوع الرأس! ناولت والدي الشهادة، وأنا واثق أنّ الأرض لن تسعه عندما يرى علاماتي. لكنّ فرحة الفقير لا تتمّ، كما كنا نسمعها من أمّنا دائما. قرأ والدي علاماتي، والفرحة تتدفّق من وجهه وعينيه. ينظر في الشهادة مرّة، وفيّ مرّتين، وأنا جالس بقربه، سلطان زماني. لكنّ الفرحة لم تتمّ!
فجأة ظهر الأستاز بالباب. دعاه والدي إلى الدخول فدخل. قبل السؤال عن الصحّة، وكلمات الترحيب العاديّة، رأيت والدي يناوله الشهادة، قائلا: انظر شهادة الصبي. انظر علاماته الممتازة. في صفّه تلاميذ من كلّ البلاد، وعلاماته أحسن علامات. تناول الأستاذ الشهادة، وأخذ ينقّل نظره فيها. لا أظنّه قرأها كلّها. فجأة وضعها أمامه، ونظر إليّ: كيف تعرب يا عليقِ الحمارَ، ما دمت ممتازا في العربي؟ سألني متحدّيا. أجبته بسرعة أن العليق يجب أن تكون بالفتح، لا بالكسر، لأنّها منادى مضاف يجب فيه النصب. والحمار يجب جرّها لأنها مضاف إليه. ضحك ضحكة العالِم بكلّ أسرار الوجود، ثمّ قال لي بصوت خفيض: غلط طبعا. غدا تكبر يا شاطر وتعرف. المسكين والدي أسرع إلى نجدتي: أظنّ أنّهم لم يتعلّموها بعد. الحقّ على معلّمه. أمّا أنا فتبخّرت فرحتي في لحظة، ولعنت في سرّي الحمار وعليقه، والساعة التي دخل فيها الأستاز بيتنا، وعرض عليه والدي الشهادة.
في الصفّ العاشر أيضا، لم أخلص من اختبارات الأستاز وتقييماته. اختلفت مع أخي مرّة، وكان أصغر مني، في الصفّ الثامن، على قراءة كلمة معيّنة في بيت من الشعر ذكره أخي في مساجلتنا الشعريّة. كنت يومها بدأت أكتب الشعر الصبياني، لكنّني كنت ملمّا بالأوزان والتقطيع تماما. أخي أيضا كان يعرف الوزن "سماعا"، لكنه لا يعرف مثلي البحور كلّها والتقطيع، ولا سمع بالعروض السهل حتّى. طبعا لم يكن أمامنا من يحكم في الخلاف العروضي بيننا سوى الأستاز. لذا، فرحنا غاية الفرح حين دخل الأستاز بيتنا يوما، فبادر أخي إلى سؤاله، دونما مقدّمات: احكم بيننا يا أستاز، أيّ قراءة أصحّ، قراءتي أم قراءة أخي؟
اتّكأ الأستاذ على كرسيّه إلى الخلف، ثمّ أردف قائلا: هذه تحتاج إلى قعدة، وتحليل البيت، بحسب أحكام العروض. كيف يا أستاذ تكتب الشعر إذن، ألا تعرف الوزن سماعا؟ سأله أخي والغرابة تفترش وجهه كلّه. أعرفه طبعا، أجاب الأستاز، لكن هذا البيت من الأوزان النادرة. يجب تقطيع البيت على رواق، والعودة بعد التقطيع إلى كتاب العروض والقافية، تأليف الخليل بن أحمد الفراهيدي. يومها عرفت أنا ، وعرف أخي الصغير، وعرف أبي حتى، أنّ الأستاز ليس أستاذا!



#سليمان_جبران (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أشهر من الحمص؟!
- اسمعوا الحكيم!
- فإن تهدموا بالغدر داري..
- سليمان جبران: إنّا نغرق.. إنّا نغرقِ!!
- -بعيد استقلال بلادي-!
- -لحن الخلود المقدس- في غنى عن التغيير والتطوير!
- عناصر كلاسيكية في شعر المهجر*
- الصمت رصاص!
- -شبه نظريّة- للإيقاع وتطوّره في الشعر العربي
- تحوّلات الأب في شعر محمود درويش*
- إذا اتفقنا في الجوهر فلا بأس إذا اختلفنا في الأسلوب!
- كيف تصير، في هذه الأيام، أديبا مرموقا، وبأقلّ جهد!!
- كيف نقول -موتاج- في العربية؟!
- مدخل لدراسة الشعر الفلسطيني في إسرائيل 1948 1967 – (الحلقة 4 ...
- 3- مقاومة أم معارضة أم ماذا؟ (المقالة الثالثة)
- مدخل لدراسة الشعر الفلسطيني في إسرائيل 1948 1967 – القسم الث ...
- مدخل لدراسة الشعر الفلسطيني في إسرائيل 1948 1967
- من جديد مسلسل الاجرام في سوريا
- المؤامرة مستمرة
- مصنع للجرائم، والأكاذيب أيضا!


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليمان جبران - الأستاز!