أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - ماكبث النص الكامل النهائي















المزيد.....



ماكبث النص الكامل النهائي


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4517 - 2014 / 7 / 19 - 12:23
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (27)


د. أفنان القاسم



ماكبث
تراجيديا النعامة

MACBETH
LA TRAGEDIE DE L’AUTRUCHE





رواية

















خلف كل تراجيديا عظيمة يختفي رجل عظيم...
إلى ذكرى شكسبير






















المِصراع الأول















القسم الأول

أرعدت السماء وأبرقت، وفلتت من الغيم حبال من المطر تعقد الأرض بما عليها من أشياء، ومَعْقِدُ الآمال كان اللاآمال. لم تكن للريح رغبة في الركود، ولا للشمس لهفة على الشروق، فالليل معركة طويلة بين جحافل الغزاة، والبنفسج خَلَنْجٌ قاتم، قاتم لأنه بنفسجيّ، وبنفسجيّ لأنه عُجاب، كيلا يكون لقاء، كيلا يكون سحر، كيلا تكون تورية أو نبوءة. لم يكن الكون أفظع وأروع مما كان، كان يخلع عن جسده أفعال بنيه، وفي الوقت نفسه يُري مفاتن جسده، كالمرأة المغتصبة لما تغتسل لتزيل عنها آثار مخالب مغتصبيها، ومنها قذاراتِ غيرِ بشرٍ صُنعوا بشرًا. ولم تكن نيويورك أوجع وأودع مما كانت، كانت تجمع بين أصابعها عصابات الليل، وفي الوقت نفسه ترقص وتغنج وتغني، كالأفعى الثملة لما تخترق البنوك، وبالنقود التي في خزائنها تحتفي بعظماء المدينة وعاهراتها، من شتى الزواحف وشتى الأصناف. وبين معاقبة الطبيعة وإثابة نيويورك، لفّت جسد ديدييه آبل-كاين ماكبث، Didier Abel-Caïn Macbeth، المدعو ماك، ست أذرع أرادت ضغطه، ففتح عينيه، ورأى أمه بثلاثة وجوه قرب وجهه، وهي تنظر إليه.
- أمي! هتف ماك، وهو يحجو بها خيرًا.
- أي الوجوه وجه أمك، هذا أم هذا أم هذا؟ ابتسمت الأم ساخرة. شيء من هذا لم يقع، ومع ذلك، يقع تحت عينيك.
- هذا وهذا وهذا، فالكيفية التي تسير بها الأحداث غير الكيفية.
- صاحبة هذا الوجه ستضغط بيدها على فمك، وتضع حدًا لحياة ليست حياتك، وصاحبة هذا الوجه سترفعك على يدها إلى قمم الكون، وتجعل من الحياة حياتك، وصاحبة هذا الوجه ستنزلك من يدها إلى الحضيض الأسفل، وتتركك تحيا دون ما حياة.
- دعيني أختر أمي، يا أمي، فحياتي غير الحديث عن الماء والسماء.
- اختارت أمك عنك أمًا، فالحذر لا يمنع القدر.
- احذوي النعل بالنعل والقَرض بالقَرض.
- اختارت أمك عنك أمهاتك الثلاث كيلا تجد في نفسك حرجًا.
- للموت والرفعة ونقطة الحضيض أزمانٌ ثلاثة لا رابط بينها، وأنا لن أجازف بحياتي كمن يجازف في كلامه.
- سنبدأ بالزمن الأخير وننتهي بالأول، فالأخير بداية والأول نهاية.
- لنبدأ بالثاني، فالثاني بداية ونهاية.
- إذا كان الأمر كذلك بدأنا بالأول كيلا يكون هناك ثان أو ثالث، وبالتالي كيلا تكون هناك بداية ولا نهاية.
وأخذت تضغط بأيديها الست على فمه بقوة شريرة، وعلى فمها لا تزول ابتسامتها الساخرة، بينا يطلق ماك صرخات مستسلمة دون أن يحاول التخلص منها. وهو على وشك الموت، رق قلب الأم على ولدها، فرفعت أيديها الست عن فمه، وأنامت رؤوسها الثلاثة على صدره، تاركة إياه يسترد أنفاسه.
- لنبدأ بالثاني، يا ماك، همهمت الأم، هذا لأني لم أصنعك طيبًا على شاكلتي، تحرق فحمة ليلك مع الملائكة، ولا تحرك ساكنًا.
- لم أكن يومًا شريرًا، استطاع ماكبث النطق، أحرك الشهوات، وتحركني، فتتحرك مشاعري.
- المطبوع على الشر لا يراه، أوضحت الأم، وهي تعلو بوجوهها الثلاثة فوق وجه ابنها، وعيناها تقدحان شررًا، وشفتاها تبرقان دررًا، يسمعه، فيغلق أذنيه، ويوهم نفسه بما لا يوهم نفسه، ويضحك ملء شِدقيه. لن أطيل عليك! أنا لن أكون لك في شيءٍ عونًا.
- هذه الوجوه الثلاثة تذكرني بشيء لا أدري ما هو، فتبيض عيناي من الحزن.
- وجوه الشيطان، يا ولدي.
- الشيطان أنتِ، يا أمي!
- لم يكن الشيطان يومًا شريرًا. إن لم يحدث ما ليس في الحسبان، وفي أحسن الاحتمالات، يحسن التصرف والمشورة.
- والآخر؟
- الآخر، أي آخر؟
- الآخر الآخر؟
- الآخر الآخر أم الآخر الآخر؟
- الله.
- ليس شأني. أنا شيطاني الطيب شأني، من يحسن معاملتي، ويحسن صنعًا بي.
- شيطانك الطيب وكل هذا الشر منذ قليل، همهم ماك، وهو يجس بأصابعه وجهه. نلت حظي مما لا حظ لي، وكدت أفقد غريزة المحافظة على النفس.
- اسمع، يا ماك، أمرت الأم، مع معلمتك ستعلو ومع عليمتك ستلعو ومع عالمتك ستنعو، هذه هي أقدارك، وهكذا ستكون أزمانك.
- مع عالمتي سأنعى.
- ستنعو قلتُ أنا، فأنا يجوز لي ما لا يجوز لك أنتَ.
وتبخرت الأم، وكل وجه من وجوهها الثلاثة يذهب من جهة، بينا ماكبث ينادي: "أمي! أمي! أمي!"، ويمد يده إلى الجهات الثلاث.

* * *

أيقظت جين، زوجة ماك، ماك، وماك لم يزل يصرخ: "أمي! أمي! أمي!"
- إذا ما تعلق الأمر بأمك، فهو كابوس، علقت جين، وهي ليست المرة الأولى، هذا يعني أنه كابوس بالفعل.
- أمي! تلعثم ماك.
- لن يريحك من أمك شيء آخر غير قدح من الحليب الساخن، قالت جين، وهي تغادر الفراش إلى المطبخ.
بعد قليل، عادت جين بقدح الحليب، فتناوله ماك، ووضعه على طاولة الليل.
- مع معلمتك ستعلو ومع عليمتك ستلعو ومع عالمتك ستنعو، هذه هي أقدارك، وهكذا ستكون أزمانك، همس ماكبث.
- أراك تعلو مع داناوي دانكان، معلمتك، قالت جين، وهي تعود إلى الفراش، ولكني لا أراك تلعو مع عليمتك، فأنت لا عليمة لك، ولن تكون عليمة لك، وأكثر لا عالمة لك، فكيف معها ستنعو؟ شَكّي بين الشك وعدمه، فمن طبيعتي ألا أثق بشيء، وليس ألا أشك في شيء، وعدم الشك لدي أمر غريب، من غرابة كل هذا.
- آه! ما أسهل هلاك النفس لما ينقطع الشك لا لشيء إلا لوعد تغرينا به أدوات الظلام.
- أمك أدوات ظلام!
- قبل قليل كانت لكِ أمي كابوسًا!
- ولم تزل، وأنا لهذا أفكر في تخليصنا منها، أنا وأنت، بإرضائها، فكل معرفة ناجمة من الوحي ليست بالضرورة خاطئة.
- جين! أنا لا جناح لي يعلو بي، فكيف أعلو؟ مع معلمتي أم مع غير معلمتي لن أكون أكثر من نجيّ، والنجيّ لا يعلو دون جناح.
- النجيّ جناحه الأسرار التي يؤتمن عليها.
- ما تزينينه لي لا يزين النفس وعلى العكس يثقل الفؤاد.
- فليكن قلبك بثقل المرساة إذا ما كان ذلك شرط زينة النفس لديك.
- داناوي دانكان رئيسة ومديرة عامة للبنك العالمي، يا دين الرب!
- مع معلمتك ستعلو، قالت أمك.
- ستعلو، قالت أمي، مع معلمتك، معها، تحت جناحها.
- أنت لن تبقى لها مخلبًا إلى الأبد!
- وكيف سأعلو إن لم أكن لها إلى الأبد مخلبًا؟
- ستعلو مع معلمتك، قالت أمك، نبرت جين، ولم تشترط أن تكون مخلبًا لها! لا تبلغ من السخافة إلى حد أقصى، سيسدد الشيطان خطاك، ودومًا ما كان صاحب الحق سلطانًا.
لم تتمالك جين عن غيظها، أخذت تطلق صرخات المعتوهين إلى أن تمكن ماكبث من إسكاتها. عندما هدأت، وجد نفسه يربض عليها كمن يربض على فريسته. التقط ثديها بفمه، وجعلها تموء مواء قطة، ليست اللذة دافعها وإنما الألم. عضها من خصرها، ومن بطنها، وحاول فلقها من فخذها، فتضاعف مواؤها، وتصاعدت آهات إماتة الجسد حتى وصلت إلى أعتاب السماوات في كوابيس البشر.

* * *

قامت السيدة ماكماهليان، رئيسة الديوان، في الأربعين من العمر، أول ما رأت ماكبث يدخل، والتصقت به مرحبة.
- تأخرت اليوم كثيرًا، يا سيد ماكبث، همست على حافة شفتيه.
- هل تتحرقين شوقًا إليّ، يا سيدة ماكماهليان؟ همس ماك، وهو يضغطها بأصابعه من إليتيها.
- كثيرًا.
- كثيرًا كم؟
- كثيرًا جدًا.
- كم؟
- إذا قلت لك بقدر كل الرجال الذين عرفتهم، فهل ستصدقني؟
- لن أصدقك.
- أنت ذو مزاج كئيب كما أرى.
تردد ماكبث عند باب مكتب السيدة دانكان بعد أن فتحه، فأشارت إليه بالدخول.
- تعال سريعًا، يا ماك! قالت الرئيسة المديرة العامة للبنك العالمي، وهي تغلق الهاتف.
- سأطير إليك دون جناح! هتف ماك.
- الطير دون جناح أنا لم أرَ، ابتسمت داناوي دانكان.
- ومع ذلك، أكد ماك وهو يأخذ مكانًا أمامها.
- أنت أول طائر دون جناح يعلو في الجو!
- أنا مهما علوت حلقت دومًا دونك، يا عزيزتي داناوي!
- شكرًا على كل ما تفعله من أجلي، يا عزيزي ماك!
- تقصدين تحويل المليون دولار من وقت إلى آخر إلى حسابي ومن حسابي إلى حسابك مواربةً لتفادي الشبهات؟ هذا لا شيء.
- أقصد إقناعك مالكولم، نائبي، بأخذ مكاني. أعلمني على الهاتف بذلك منذ عدة ثوان.
- إذن موافق هو على ترشيحك كرئيسة للولايات المتحدة.
- هو موافق.
- هذا أسعد خبر سمعته منذ الأزمة.
- افتح لنا قنينة شامبانيا.
- حالاً.
- ولكن...
- اتركيني أصب لك قدحًا قبل أي شيء لتُغرقي فيه هموم منصبك الجديد قبل أن يكون وليذق لسانك طعم المجد قبل أن يذهب في أطباق البيت الأبيض. هاكِ!
- شكرًا ماك! أنت توثقني بك أكثر!
- بل أنا بثقتك.
- بصحتك، يا ماك!
- بصحة أول رئيسة قادمة للولايات المتحدة!
- بوصفك النجيّ... ترددت السيدة دانكان.
- بوصفي المنيك...
- اسمع، يا ماك، كل هذا ما هو سوى رجم بالغيب ليس أكثر، فأنا لا أرى ما تراه من نجاح، الأمريكان لا يعرفونني، ومجتمعنا البطريركي لن يقبل بواحدة مثلي رئيسة، جبلوه على ذلك، وخصومي في الحزب أكثر بكثير من خصومي في البنك.
- الأمريكان سيعرفونك، ومجتمعنا البطريركي لن يبقى بطريركي المجتمع إلى هذه الدرجة مع امرأة فاتنة مثلك، وخصومك في الحزب اتركيهم لخصومك في البنك.
- رشوة هؤلاء لأولئك ستزيدهم إصرارًا على الحط من قدري.
- ونحن ستزيدنا إصرارًا على فضحهم واحدًا بعد واحد.
- فضحهم كيف؟
- دعيني أتصرف.
- أواثق أنت؟
- يكفيني خراؤك، بكلام آخر ثقتك.
- أنت تعرف أكثر من أي شخص إلى من تذهب ثقتي.
- وإلى أين، وكيف، ولماذا. ما أخشاه خشيتك، فلا تخشي شيئًا، الطيور لا تخشى العواصف، وهي في قلبها، ونحن، نحن سنكون في قلبها. لنُفرغ قدحينا!

* * *

لم يكن يبدو على بانكو، صديق ماكبث، السرور، وهو يستمع إليه.
- دانكان لن تكون أبدًا رئيسة للولايات المتحدة، اعترف ماك، ولا رئيسة لأي شيء، لقضيبي أقل الأشياء، لهذا أنا لم أمتطها بمحض إرادتي، كيلا أشعرها بكونها شيئًا، وكيلا تعتقد أنها بالفعل امرأة مشتهاة. الأمريكان لا يعرفونها، ومجتمعنا البطريركي لا يقبلها، وخصومها لا يعدون ولا يحصون.
- لماذا كل هذا الخداع، يا ماك؟ أقنعتَ دانكان، وأقنعت مالكولم، وجعلت من الوهم طريقًا إلى الوهم، نبر بانكو.
- هذا لأن من طبيعة الإنسان أن يركن إلى الوهم حقيقةً، فيتساوى الضعيف والقوي، الذليل والأبي، الغبي والذكي.
- أنا لن أكون أيًا من هؤلاء.
- أعرف، أنت مثلي، وأنا لهذا سأعلو بك كما سأعلو بي.
- ماك، كف عن مواجهة ألد أعدائك الذي هو أنت!
- لكني لن أفشل.
- إذا كان طموحك التربع على رأس هذا البنك الماخور فأنت لا محالة ستفشل.
- أمي ومن بعد أمي زوجتي اضطرتاني إلى عدم التخلي عما أريد. سأشرب الكأس حتى الثمالة، ولن تفوتني شاردة ولا واردة.
- أيها الذئب، يا ماك!
- سأكون على رأس هذا البنك الماخور، وستكون نائبي شئت أم أبيت.
- ألستَ خائفًا من ثقتك بي، أنا المتسلق، كما يحلو لك أن تدعوني؟
- في حال عدم الثقة، سأرد لك الصفعة صفعتين. لكنك بين الثقة وعدمها أنت لن تختار عدمها، هذا إذا ما تركتُ لك حرية الاختيار. أتعرف يا بانكو كيف تعرف؟
- لم أكن أعرف كيف أعرف وعرفت كيف لم أكن أعرف.
- دانكان لا تتوقف عن قهري بخرائها بي، لن يكون هذا سلوكي نحوك، فأنت صديقي قبل أن تكون نائبي.
- ليس بعد، أنا لست نائبك، وأنت، أنت لست الرئيس المدير العام للبنك العالمي.
- لا تتوقف عن إلحاق كل أذى عواطفها بي، لا تتوقف عن خنقي بكرمها ولطفها وأصابعها الناعمة كلما أمسكت بأصابعي الخشنة. هي ليست شريرة بالفطرة، هي شريرة بالإجراء. تشير إلى هذا الموظف الكبير، أو إلى هذا الرأسمالي الصغير، وتترك الباقي عليّ. تضاجع كل سياسي تلتقيه بعينيها، وكل اقتصادي، وكل الرؤساء المديرين العامين، ولا تدع مجالاً لأي شك في عدم لمس حلمتها، تجعلهم ضحايا استيهاماتهم، وعندما تشتهي أحدًا، تطلبني في أية ساعة تشاء، عند منتصف الليل أو منتصف النهار، وأجدها عارية في الفراش، بانتظار أن أشبعها بفرجي طرقًا على كل جسدها. أكابد ما أكابد، وهي تمارس ما تمارس. قلت لك شريرة بالإجراء هذه المرأة.
- أي سوء حظ! العيش بعد كل هذا الشر! التظاهر بعدم التظاهر!
- ليس عدم التظاهر كعدم الثقة، يا بانكو، فحذار!
- بالطبع لا، وأنا لهذا لن أخون ثقتك، فاطمئن.

* * *

- يا دين الرب، يا مالكولم! طن ماكبث، لِمَ كل هذه الريبة؟ أنت لا تسمع نباح كلاب مانهاتن من التهلل فرحًا للنجاح الذي ستحرزه دانكان. آه! ما أصدق الكلاب، وما أكذب الإنسان.
- فشل داناوي يعني فشلي، يا ماك، تلعثم نائب الرئيسة المديرة العامة للبنك العالمي. أنا من دعاة عبادة الطبيعة، وأنت، أنت من دعاة عبادة الفرد.
- لن يكون هناك أي فشل إلا إذا كان النجاح قد بدل معناه. يبدو أنك لا تنفع فيك العِبر، ومع ذلك العبرة بالخواتم.
- أنا لا أعبر عن رفضي، أنا أعبر عن عواطفي.
- اعتبر الواقعة أكيدة.
- احلف لي كيلا أفقد ثقتي بنفسي.
- بماذا تريدني أن أحلف لك؟
- بقفا أمك، فما يدريني أنا؟
- أحلف لك بروح أمي الغالية على قلبي!
- روحها ليس كقفاها هذا صحيح.
- علمًا بأن قفاها أجمل بكثير من روحها.
- البرهان على ذلك يكمن فيما تقول لا فيما أرى.
- بماذا أيضًا تريدني أن أحلف لك؟
- هذا يكفيني.
- وإذا ما قلت لك إن الحماقة ليست حمقاء.
- لأني صدقتك.
- لأنك ستفتح خزينتك، وتنفق دون ما حساب. داناوي ستأمر، وأنت ستنفذ، والباقي سيكون عليّ.
- مطالبك تحوي العجب العجاب!
- للشوربة الشعبية والمصحات والمقطورات، طاقتنا الضرورية لاحتلال البيت الأبيض.
- الشوربة الشعبية وفهمنا، المصحات وفهمنا، والمقطورات لماذا؟
- لمن لا سكنى ثابتة لهم.
- لكل حال عندك عَتاد!
- لا تتعجل حُكمًا!
- لكن هذا لن يغير من قوة الشراء شيئًا، وطريق كل ذاهب إلى البيت الأبيض يمضي بقوة الشراء.
- أنت لم تزل لا تسمع نباح كلاب مانهاتن حيث لا شوربة شعبية هناك ولا مصحات ولا مقطورات.
- ولا خراء!
- الخراء بلى، مانهاتن كلها خراء، خراء لا يعادله خراء.
- كارثة لا تعادلها كارثة.
- هذه الطبقة المشحرة لهي قوة شرائنا.
- قوة خرائنا.
- إذا شئت، فهي ستكون ورقتنا القوية لدى الناخب، والناخب عندنا أحمق، لهذا قلت لك إن الحماقة ليست حمقاء.

* * *

- اغفري لي، يا حبيبتي، عجل ماك القول لزوجته، جعلتك تنتظرين طويلاً!
- جعلتني أبكي طويلاً، نبرت جين، وهي تجفف دمعها.
- إنه مالكولم، هذا الجبان، تأخرت بسببه.
- لعبة التنس لا تنتظر أكثر مما انتظرت، فلنذهب، يا ماك!
- لا شيء ينتظر أكثر من لعبتنا، يا حبيبتي، فتعالي نتسلى!
- نتسلى دون أن نتسلى!
- لقد أحببتِ أنانيًا، يا جين، لا تنسي!
- أنا أبكي لهذا، لأنني لا أنسى.
- يا دين الرب!
- ارتدِ ثياب التنس التي لك، ستجدني في الملعب.
- سألعب بثيابي هذه دون أن يعذبني وخز ضميري.
- لم تحضر ثياب التنس التي لك؟
- لم أحضر.
- لم تكن تريد اللعب؟
- لا.
- يا دين الرب! قلدته.
- فلنذهب إلى مكان نتحدث فيه دون أن تسمعنا الإنسانية المعذبة.
- تحدث، فلا أحد يسمعنا.
- وهذه الطيور؟
- الطيور إنسانية معذبة؟
- الطبيعة والإنسانية من طبيعة واحدة تتحمّل العذابات الأبدية.
- تسمع ولا تتقن الكلام.
- سأطردها.
- تأخذ حذرك حتى من الطيور!
- حتى من القطط، حتى من الكلاب، حتى من النمل... إلا منك.
- لم أكن أعلم أنك كثير اللطافة!
- كثير الحذر، كثير الخراء، كثير الشر، يا دين الرب!
- أمك لم تكن تكذب.
- وأنتِ أيضًا.
- أنا بدلت رأيي، لم أعد أريد كل هذا.
- إنه لمن المحال بعد أن بدأت عجلة حظنا تدور وبسرعة غير متوقعة.
- عجلة حظك أنت لا عجلة حظي.
- لأني جعلتك تبكين.
- لأنك جعلت حياتي الجحيم.
- سنعلو، يا جين، ولن يقف في وجهنا شيء، لا الجبال، لأننا سنطمر القمم، ولا البحار، لأننا سنغرق الجزر، ولا الوديان، لأننا سنحول الأنهار.
- يا دين الرب! تقلده.
- لن تبدلي رأيك بين عشية وضحاها!
- بين عشية وضحاها عرفت أشياء كثيرة عني، عرفت نفسي، عرفت نفسي حق المعرفة، روح حساسة أنا، خراء صافٍ، يهرب مني الجنون، وأنا لا أريد أن أطارده. هذا منهك لي، فأنا لست مثلك، لم يعرفني التاريخ من قبل، ولا أفهم لغة العرافين، أعترف بأخطائي، وبحق الآخرين. خراء صافٍ، أعري جسدي من ثيابي، لا لسبب، فقط لأن في عروقي يسري دم القحبات.
راحت جين بماكبث ضربًا، وهي تعتذر، وتبكي، إلى أن تمكن من تطويقها بذراعيه، وشل كل حركة من حركاتها.
- أنا سعيدة من أجلك، يا ماك، همهمت الزوجة، وكلها تعاسة، سعيدة من أجلك، وفخورة بك، فخورة بكل ما تفعل، وصفعته بشدة، تاركة إياه وحيدًا وسط الطيور.

* * *

في مكتب المحامي جوزيف ماكدويل، كان ماكبث، وكان بانكو، وكان رجل تحر خاص يعرض بعض الصور لخصوم داناوي دانكان في البنك وخصومها في الحزب، وهم يحششون، وفي أحضانهم عاهرات مانهاتن.
- ماكدوف، لينوكس، روس، مينيث، آنجوس، كيثنيس، كل هؤلاء يا دين الرب! همهم ماك.
- كل مجتمع الأقوياء، علق ماكدويل، ولكن ليس علينا. نحن لنا قضبان أقوى، تزلق بين الأرداف، وتخترق الثقوب كثعابين الكوبرا.
- صور كهذه لا تثبت شيئًا، ألقى باكو، صور كهذه تذكر بالصور التي كنا نأخذها في الثانوية للولو ولِيلّي ولوانا وهن يكشفن عن أقفيتهن في المخرآت.
- ماكدوف لا يكشف عن قفاه، قال ماك، ماكدوف يكشف عن فساد نظام كامل لسنا أبدًا ضده لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، ولكننا نعمل من داخله لإسقاط هذا وإعلاء ذاك، أو إسقاط هذا لإسقاط ذاك.
- قل لماك، يا ماكدويل، إن مثل هذه الصور لا شيء في عين القانون، رجا بانكو.
- الأدلة الدامغة، يتعلق أمرها بي، قال ماكدويل.
- أنت لن تأتي بوثيقة تثبت فيها كم مليون وزع ماكدوف نقدًا، تهكم بانكو.
- وما قولك لو أتيت بوثائق تثبت حوزة ماكدوف وباقي الشلة غير الشرعية للقضبان الرخوة لأسهم عملوا على تخفيض ثمنها؟ طن ماكدويل، وهو يخرج من جرار مكتبه رزمة من الأوراق، ويلقيها بين يدي بانكو.
تصفح بانكو الوثائق وهو ينتفض دهشة واستغرابًا ويعطيها أولاً بأول لماكبث ليفحصها هو الآخر.
- كيف أتيت بها، يا دين الكلب؟ ألقى بانكو، وهو يفلت ضحكة متقطعة.
- هل يكفي هذا ذهنك المعقد؟ سأل المحامي الشيطاني بلهجة واثقة.
- لم أجد ما يدين آنجوس أو روس، همهم ماك، وهو يعيد الوثائق لماكدويل.
- آنجوس وروس سأرسل إليهما هذا، كشف المحامي الشيطاني، وهو يضغط على جرس.
انفتح الباب، ودخل عملاقان أسودان.
- هل كل شيء على ما يرام، يا إدي، يا بوبي؟ سألهما ماكدويل.
- كل شيء على ما يرام، يا سيد ماكدويل، أجاب إدي.
- إلا أن... تردد بوبي.
- إلا أن ماذا، يا بوبي؟
- إلا أن...
- ماذا، يا قحبة الخراء؟
- الرصاصة، هل نطلقها على ظاهر اليد أم في باطنها؟
- في قفاها، يا قحبة الخراء!
- فهمنا، يا سيد ماكدويل.
- ماذا؟
- في قفاها، يا سيد ماكدويل.
- هيا! إلى العمل، يا قحبة قحبة الخراء!
- نحن في خدمتك، يا سيد ماكدويل.
انسحب العملاقان الأسودان، وأغلقا الباب من ورائهما.
- خلال كل هذا الخراء، أوضح ماكبث، كنت أفكر في المتعية كنظام اقتصادي يرضي كل طبقات المجتمع. سيكون هذا فيما بعد، اليوم الشوربة الشعبية، وغدًا الكافيار.

* * *

في الجلسة المغلقة لأعضاء الحزب الديمقراطي، تعب ماك من الابتسام، لمعلمته داناوي دانكان، ليدي آنجوس وروس المضمدتين، لرؤوس كل الخصوم المؤيدة لترشيح الرئيسة المديرة العامة للتربع على عرش المكتب البيضوي، المتثاقلة بوجوهها المنتفخة المحمرة كأرداف الدجاج المشوي، تعب من الابتسام لكلاب مانهاتن. الشِّعر ما هو؟ تساءل ماكبث، كلب ينبح. ذكره النباح بأمه، تلك الساحرة. بالأحرى جعله النباح يسبها في سره، فهو لا ينساها. ارتبطت ذكراها برؤياها، صناعة المعجزات هي هذا، عَقد جائر مع الغيب. سمع آنجوس، وهو يستدر شفقة معلمته: ما أنا سوى أمريكي فقير، يا سيدتي! هذا الملياردير أمريكي فقير، يا للصفاقة! والفقراء بالفعل؟ دعهم يموتون! لكنه سيسقيهم من شوربته، فيملأ معدهم بالخراء، ويتركهم بعد ذلك يخرون على الرئيسة المديرة العامة. مع معلمتك ستعلو، تنبأت حفيدة الشيطان أمي. سأعلو على هيكلها العظمي! السلطة ما هي؟ كلب ينبح. الكلاب في مانهاتن سيدة كل شيء، سلطتها الشِّعر، والشِّعر سلطتها، لهذا كان عزرا باوند كلبًا. توقف عن الابتسام، الوقت الذي يضغط فيه صدغيه، ثم التفت إلى معلمته، وعاد يبتسم لها. هذه المرة سيأخذها بعد الاجتماع مباشرة إلى الهيلتون، وسيمتطيها بإرادته. لأول مرة كان يشتهيها. الجنس ما هو؟ كلب ينبح. نبح، فاستدارت بعض الرؤوس التي ابتسم لها. غمز بعينه، فضحكت معلمته تحت أصابعها لئلا يراها أحد. كان يشتهيها كماخور. الماخور ما هو؟ كلب ينبح. ماما! ماذا؟ كلب ينبح. دعه ينبح. لهذا لم يكن يحب الكلاب، لقسوة قلب أمه عليها. لم يكن يحب الشِّعر، لم يكن يحب السلطة، لم يكن يحب الجنس. كان يتخيل فخذي صديقة أمه في بيت الماء، ماذا كان اسمها؟ نسي اسمها ولم ينس فخذيها، وكان يبقى طويلاً في بيت الماء هربًا من سلطة زوج أمه، وكان يحاول أن يتلو قصيدة "القط" عن ظهر قلب. ماما! ماذا؟ كلب ينبح. دعه ينبح، دعه يموت. دعهم يموتون. المتعية. سيؤسس نظامًا ماليًا يجعل الكلاب على كافة أجناسها تنبح من التهلل والابتهاج. ماما! ماذا؟ أنا أنبح. لِمَ لا تنبح؟ انبح، يا كلبي الصغير! انبح، انبح، انبح...
- ماكبث! ما بك؟ نبرت داناوي دانكان.
نظر ماك من حوله، لم يكن أحد هناك.
- انفض الاجتماع، ألا تبارك لي؟
- تم ترشيحك؟
- بالإجماع.
- سنذهب إلى الهيلتون في الحال.
- إلى الهيلتون! لماذا الهيلتون؟
- لأضاجعك.
- هذا كلام جديد أسمعه لأول مرة.
- أريد أن أضاجع رئيسة الولايات المتحدة القادمة.
- لا تنبح ككلاب مانهاتن، يا ماكبث!
- داناوي، أتوسل إليك!
- أنا تعبة، ثم كل هذا يوقف شهواتي.
- داناوي!
- لا أريد أن أفقد أعز صديق لدي.
- تقولين تفقدينني وأنت تجدينني؟ لو كنت ملكًا لاعتزلت العرش من أجلك، ولو كنت رئيسًا مديرًا عامًا لاعتزلت الوظيفة من أجلك، ولو كنت كاتبًا لاعتزلت العالم من أجلك.
- لا تحدق في نهديّ هكذا كالكلب المسعور، لست مغنية للنغم الأعلى في الموسيقى، أنا لا أغني منهما.
- بعد ذلك، سنذهب إلى الأوبرا.
- كفى!
تخيلها وهي تضرب على البيانو بيدي حصان وتميل فوق أصابع العاج بوجهها الناعم. الموسيقى ما هي؟ كلب ينبح.

















القسم الثاني

ملأت شوارع نيويورك صور داناوي دانكان رافعة يدها باسمة عارضة لبورنو الفضيلة والرخاء، وعلى الرغم من ذلك لم تدغدغ الغُلمة في أجساد العابرين، كانت هموم النيويوركيين أقوى من شهواتهم، أقوى من غرائزهم، أقوى من البضاعة الانتخابية في سوق الأوهام. امتدت صفوف الشوربة الشعبية، وطرقت الملاعق الأسنان، ولم تطرق أجراس الرؤوس. كانت في كل رأس كنيسة صامتة، باردة، ميتافيزيقيا صلوات كل يوم، ولم يكن الترتيل محفزًا، حتى الكلاب في مانهاتن لم تعد تنبح. امتلأت المصحات بالمرضى، بدا وكأن نيويورك مستشفى كبير، كل الأمراض فيه، وكل الأمراض لا يمكن علاجها. جاء اللامرضى، فهي فرصة سانحة للاستشفاء، قيل لهم كل هذا بفضل داناوي دانكان، المرأة الأولى المرشحة لرئاسة الولايات المتحدة، فغادروا المصحات، وفضلوا البقاء لامرضى. أما الذين لم يكن لهم بيت ثابت، فاحتلوا المقطورات، وناموا لأول مرة منذ زمن بعيد نوم الهانئين.
- كالذاهب إلى الجحيم بمحض إرادته، زعق مالكولم، نحن نسير، ولا أحد منا يقوم بأقل جهد للحيلولة دون ذلك.
- الهدوء، يا مالكولم، طلب ماك، الهدوء!
- ما هو الاستبار الأخير؟ سألت دانكان.
- خمسة وعشرون بالمائة من نوايا التصويت لك، خمسة وسبعون بالمائة لخصمك، أجاب بانكو.
- اسمعوا جميعًا، طلب المتابع للتلفزيون في مركز القيادة، هاكمان يدلي بتصريح.
- أود أن أقول لكل الأمريكيين، قال المرشح الرئيسي في الميكروفون، ناموا هانئين، واتركوا كل الباقي عليّ.
وصعد في ليموزينته.
- ناموا هانئين، ابن القحبة، مضغت دانكان.
- هم ينامون هانئين بالفعل، يا قحبة الخراء! طن مالكولم.
- ماكبث، فكرة المقطورات فكرتك، أنبت المرشحة لرئاسة الولايات المتحدة.
- وشوربة الخراء، ومصحات قفاي! أضاف مالكولم.
- انتظروا قليلاً، نرفز ماك، إذا كانت الأزمة قد أفقدت ثقة الناس بأنفسهم، فما ذنبي أنا؟
- بنا، أفقدتهم الثقة بنا، صححت دانكان.
- لم نزل في بداية الحملة، لا تنسوا ذلك، تدخل بانكو.
- قل لهم، يا دين الرب! صاح ماك.
- صمتت الكلاب بعد الناس، يا ماك، صاحت معلمة ماك، فكيف أجعلها تعود إلى النباح؟ كيف أجعل الناس ينبحون مثلها؟ هل أوقف الشوربة الشعبية وأغلق أبواب المصحات وأعيد المقطورات إلى الكراج؟ سأقترف أكبر الجرائم لو يدفع ذلك الناس إلى الحديث عني، وسأظهر على التلفزيون عارية لو يرغّب ذلك الناس في التصويت لي. سأتعهر لو يسمح ذلك برفع الاستبار، سأعد بمحو كوبا، وسأمحوها، بنهب كنوز الفيتنام، وسأنهبها، باحتلال كل بلدان النفط في العالم، وسأحتلها، بتثوير الفاتيكان، وسأثوّره، بتعميم الموضة الباريسية، وسأعممها، بإلغاء الأحزاب، وسألغيها، إلغاء نظام الحزبين على الخصوص، الحزب الديمقراطي أول الأحزاب، حزبي، الذي لا يحرك أعضاؤه، أولاد الشرموطة، أعضاءهم من أجل الدعاية الانتخابية لي!
- كل هذا من طبيعة الحملة، يا داناوي، قال ماك، ويأسك لا معنى له.
- تقول يأسي؟ طنت دانكان، مضاجعتي، انتهاكي، خبوي إلى الأبد في الجحيم!
- لستِ مختلة العقل، يا داناوي، أضاف ماكبث، وأنا لست أمَلَكِ غير المعقول، سأعيد ترتيب الكلمات كما أعيد ترتيب الأشياء، طردًا وعكسًا، فاعتكفي على صلاتك، هاكمان يلجأ إلى التعليل بالأباطيل، فلينتظر إذن، وليرَ مَنِ الأكثر خبثًا فينا.
- أنت تعرف أن الأمر يتعلق بك، يا ماك، نعمت لهجة المرشحة ذي الامتياز.
- أتصرف وأنا على بصيرة من الأمر، فاطمئني.
وحط الصمت بجناح الحديد على رؤوس الجميع.
- سأواصل التوقيع على الشيكات، قال مالكولم قبل أن يذهب.
- وأنا الدعاية للشوربة الشعبية، قال بانكو قبل أن يذهب، هو الآخر.
- أما أنا، فسأبحث عن طريقة للدخول في كلاسين الناخبين، قال ماكبث قبل أن يلحق ببانكو.
- كل شيء كما رسمت، يا ماك، همس بانكو في أذن صديقه.
- هذا يستحق القيام بدورة في غرينويتش فيلاج.
- أنا من يدعو.
- لا، أنا.
- لدي انطباعٌ قاسٍ أنك لم تكن تعلم بأنك كنت قاسيًا.
- بأني سأكون قاسيًا.
- ستحطم القلوب.
- جين، تم الأمر بخصوصها.
- وداناوي، سيتم الأمر بخصوصها.

* * *

قال ماكبث لبانكو بعد أن شبع من كل جسد العاهرة قبلاً:
- بعد عدة لحظات، سأجوع إلى هذا الجسد من جديد، فألتهمه كساندويتش الهامبرغر.
- لأنك تحب الطعام السريع، علق بانكو، وهو يطبع على وجه عاهرته قبلاته اللامتناهية.
- كلانا في الهوى على طريقته يحب الهوى.
- وكلانا في السلطة على طريقته يحب السلطة.
- وفي أحلام المجانين؟
- أيضًا.
- جريمة التسلق ليست جريمة أمام جريمة الجريمة.
- لكنك لا تحسن التسلق وتحسن الجريمة.
- لا أحسن التسلق ولا أحسن الجريمة.
- هكذا يُصنع المجرمون.
- جاء دوركِ، قال ماك للعاهرة، وهو يترك جسده لشفتيها.
- لو كنتُ مكانها لما تركتَ لي جسدك كي أُجرم فيه، علق بانكو.
- لن تكون مكانها، أضف إلى ذلك أن كلينا في الاستسلام على طريقته يحب الاستسلام.
- ستُسقط معلمتك، وأبدًا لن تستسلم، أليس كذلك؟
- أحيانًا أرغب في العدول عن كل شيء كما فعلت جين، كيلا أريح أمي في جحيمها.
- أمك كما كنت أعرفها لن ترتاح في جحيمها أبدًا سواء علوت مع معلمتك كما قالت أو هبطت، إنها من نوع العُقابات التي لا يرضيها شيء، لا لحم الفريسة ولا دمها.
- هنا، نعم، هنا، صاح ماك، وهو يضغط رأس العاهرة بين فخذيه.
- علوت مع معلمتك قالت بينا قصدها اغتصبت، دمرت، أنهيت، أنت لها ما لهذه العاهرة لك.
- أنا عاهرة، يا بانكو!
- عاهرة ونص!
- كما تقول، عاهرة ونص! اللذة المصاحبة للإنهاء أهم من الإنهاء.
- النباح المصاحب للذة أهم من اللذة.
- دعني أنبح، يا دين الرب!
راح ماكبث ينبح بينا بانكو يقهقه.
- سأتركها تعلوني.
- أنت الرئيس المدير العام القادم للبنك العالمي!
- هكذا، نعم، هكذا، صاح ماك، وهو يرفع العاهرة فوقه، ويُنزل.
- تجيب كلاب مانهاتن على نباحك، عبس بانكو.
- هذا لا يبشر بخير.
- إذا ما نبحت كلاب مانهاتن في هذا الظرف الصعب لمعلمتك هذا يعني أن الناس بدأت تستيقظ.
- الحقيقة التي لا غبار عليها أن ماكبث سيبلغ غايته.
- لهذا أنت لا يَغِثُّ عليك كلام، لا يعجز عنك مستحيل.
- لا تغدق عليّ الثناء، خراء!
- أرضك لا يطير غرابها.
- نسيت أن الأنثى تغذي صغارها، بالرغم من أن قضيبًا لي.
- تعرف المسألة كنه المعرفة.
- لن تربح دانكان الانتخابات.
- ستربح.
- لن أدعها تربح.
- سأقف إلى جانبك دومًا.
- أيضًا، نعم، أيضًا، صاح ماك بأعلى صوت، وهو يحرك العاهرة فوقه تحريك آلة اللعب بالنقود.

* * *

في نادي العظماء، جورج واشنطن، لم يتوقع ماك أن يكون استقبال أساطين رأس المال وشياطين الاقتصاد له بتلك الحفاوة، فهو نجيّ الرئيسة المديرة العامة للبنك العالمي ما كانت قامته لترقى إلى أكعابهم. تعاملوا معه تعاملهم مع مدير الحملة الانتخابية لأول رئيسة قادمة للولايات المتحدة، فحيره الأمر، في البداية، ثم ما لبثت حيرته أن تضاعفت أضعافًا مضاعفة، ليس لاهتمامهم به، لاهتمامهم بها. لاحظ بانكو اضطرابه، فهمس في أذنه:
- إن نبحوا انبح، وإن عضوا عض، وبعد ذلك يفرجها الفرّاج.
لم يسمع ماك لصديقه، لأنه يعلم تمام العلم أن مصير الانتخابات الرئاسية يتوقف على هذه النخبة من البشر الآلهة، وأن كل شيء يتم قبل فرز الأصوات في هذا النادي الشيطاني، كل شيء يتم هنا، وبعد ذلك كل شيء يتبع.
- برنامج دانكان يتطلب إعادة النظر في كل شيء، أبدى ماكبث.
- برنامج كهذا يسكّن الجائعين بالشوربة الشعبية لا أعظم منه، قال أحد العظماء.
- وعودها كثيرة، لاعقلانية، محو كوبا، وتثوير الفاتيكان، وتعميم الموضة الباريسية، قذف النجيّ.
- واحتلال بلدان النفط في العالم أجمع، لا تنس هذا، قال عظيم ثان.
- لا تنسوا أيها السادة كونها امرأة!
- نحن لا ننسى، قال عظيم ثالث، نحن معها لكونها امرأة. ابتسامتها ستكون لتكشيراتنا ما ينقصنا من لآلئ لأربع سنوات، وبعد ذلك سنقرر بخصوص العهدة الثانية.
- إذا ما نجحت دانكان في تركنا على حل شعرنا، عاد العظيم الأول إلى القول، وهي برأيي ستنجح، كنا لها الضامن لأربع سنين أخرى.
- بانكو له رأي آخر، أحرج ماكبث صديقه.
- الحقيقة أن رأيي من رأي العظماء المحيطين بي كسُوار الألماس من كل جانب، تلعثم بانكو.
- لا تكن متسلقًا، يا بانكو! قال العظيم الثاني.
- معنا لا ينفع التسلق! قال العظيم الثالث.
- كن كمعلمك أحسن لك! قال العظيم الأول.
- لا حاجة بي إلى التسلق، نفى بانكو، سيعلو ماك مع معلمته، وسأعلو بدوري مع معلمي.
- عين العقل، قال العظيم الثاني.
- خير الكلام ما قل ودل، قال العظيم الثالث.
- لن نغطي الشمس بالغربال، قال العظيم الأول.
- ولن نغرق في شبر ماء، قال العظيم الثاني.
- بكل ما يحمل هذا من معانٍ، قال العظيم الثالث.
- ونحن في أوج المجد، سرح ماكبث، نحتقر عدم النجاح، فنرى الأشياء التي نملكها والتي لا نملكها أشياء، فقط أشياء، العالم، الكون، الكائنات، فقط أشياء، نراها ولا نعيرها اهتمامًا، لأن النجاح حليفنا، ولا حاجة بنا إلى مد رِجلنا قدر كسائنا، وأنا من وجهة النظر هذه أنحاز إلى رأي الجميع. كؤوسكم.
- كؤوسكم.
- كؤوسكم.

* * *

في مطعم الطاهي الحلواني الفرنسي الشهير "لونوتر"، تناول ماك وبانكو العشاء مع جين. كانت جين شاحبة، ولم تتكلم كثيرًا. عندما سمعت بدعم عظماء نادي جورج واشنطن لداناوي دانكان، أطلقت نفسًا مرتاحًا، وابتسمت.
- هكذا لن يخون النجيّ الأسرار التي ائتمن عليها، ألقت جين.
- ولكن من طبيعة الإنسان الخيانة، رد ماكبث، لا العوم في الغيوم.
- الإنسان لا النجيّ، ردت على رد ماك جين.
- هذا لأن النجيّ حسبك ليس إنسانًا.
- النجيّ حسبي نعامة، يدفن رأسه في الأسرار ولا يبوح بها.
- هل ترى النعامة التي فيّ، يا بانكو؟
- جين تقول الصدق، همهم بانكو.
- كفى تسلقًا، أرعد ماكبث، نحن لسنا في نادي عظماء قفاي!
- بانكو لا يتسلق، أكدت جين، بانكو يرفض منصب نائب الرئيس المدير العام الذي تقترحه عليه، بكل بساطة.
- بكل خرائية!
- بكل خرائية.
- لا أريد أن أعارضك، يا جين، اعترض بانكو، أنا لا أرفض منصب نائب الرئيس المدير العام، أنا أرفض أن أرى ماك شيطانًا.
- شيطان أم ملاك، نرفز ماكبث، أنت تعلم جيدًا أنني سأقتل إذا ما اضطرني الأمر.
- هل رأيتِ، يا جين، لماذا لا أرفض منصب الرئيس المدير العام؟
- إذن لا فائدة منكما أنتما الاثنان، تلعثمت جين.
- هذا أفضل من أن تفترضي احتمالاً، قال ماكبث.
- فَرَطَ مني قول، قالت زوجة ماك، هذا كل ما هنالك.
- من فَرْطِ حساسيتك، تهكم ماك.
- هذا لا يُفضي إلى شيء، فَرْطُ الحساسية، علق بانكو.
- بالضبط، أكدت جين، ألا يفضي هذا إلى شيء.
- على عكس جين، واصل ماك تهكمه، أنا فاقد الحس، ما انفككت أعيش في الخيال، وكل ما أفعل في الواقع بدافع هذا الخيال، فلا تكون للدموي لون الدم، ولا للبريء طعم البراءة، فأين البراءة في كل هذا؟ الجريمة كالعقاب فلتة لسان، والمجد كالمال فلتة كلام.
- الحديد بالحديد يُفْلَح، تلعثمت جين.
- فلأتظاهر بالفهم أنا بطيء الفهم، ابتسم بانكو.
- تظاهر بعدم الفهم، سرح ماكبث، لما جين فاجأتني في اليوم التالي لرؤية أمي بتراجعها عن واجبها على طريق جريمة المجد، تظاهرتُ بعدم الفهم، وكنت بذلك أريد أن أصيب عصفورين بحجر واحد، إبعاد جين عن كل ما يسيء إليها، وشحني، بعد إبعاد رفيقة حياتي عن مشاركتي أخطر فعل وجودي لي، بِطاقَةِ هذا الإبعاد، فأشعر بهول المسئولية، وبقوة العزلة، أشعر بدمار التجاهل، وبرهبة الاحتقار، فيزيدني ذلك عزمًا ومضاءً على إثبات الذات، وتحقيق كل المعجزات المتمثلة بالجريمة. وبعد ذلك، إذ هناك دومًا بعد ذلك، بعد ذلك، سأعود إلى جين محفوفًا بأكاليل الغار، فأخضعها لرغباتي، بينا ألبي كل رغباتها، فأنا لن ألبي كل رغباتها، لن أكون قادرًا على تلبية كل رغباتها إلا إذا كنت قادرًا على إخضاعها لرغباتي، ولن أخضعها لرغباتي إلا إذا كنت قادرًا على كوني محفوفًا بأكاليل الغار، ولن أكون محفوفًا بأكاليل الغار إلا إذا كنت قادرًا على تحقيق كل المعجزات المتمثلة بجريمتي، ولن أحقق كل المعجزات المتمثلة بجريمتي إلا إذا كنت قادرًا على إثبات ذاتي بتصميم وعزم. فخ هي هذه الحياة ابنة القحبة، كل شيء يترابط فيها، وكل شيء تافه فيها حتى الثمين الذي نقتل من أجله.
لم تعلق جين، ولا بانكو. لم يكن لهما ظل يحدقان فيه، كانا يحدقان فيما قاله ماكبث، في كلماته، وهي تقفز من فمه، وتضيع هنا وهناك.
- سأتركك، يا ماك، استطاعت جين القول.
- أنت لن تتركيني الآن! ارتعد ماكبث.
- سأتركك، عادت جين إلى القول.
- لم أرتكب جريمتي بعد، وها أنا أشعر بكوني مجرمًا دونك، لم أصعد إلى أعلى القمم بعد، وها أنا أنزل إلى الحضيض الأسفل دونك، لم أفقد قواي الجسدية والنفسية بعد، وها أنا أحس بالانحطاط دونك. أين البريء المثير لشفقتي كيلا أشفق عليه؟ أين النزيه المُشفي بي على حافة اليأس كيلا يُشفى غليلي؟ لهذا احتقاري، ولذاك سخريتي. وكأنك تجدين المتعة لرؤيتي أتألم! كان من الواجب أن أكون القتيل، فأبقيك معي، لكنه خطأ قدري. تتمنين لو يفوتني النجاح المنتظر...
- لا، بما أنك لم تفوّت أية فرصة.
- جين، لا تتركيني!
- أنت لا تفهم شيئًا.
- سأعيش إذن مع الجريمة كما أعيش معك.
- ماك... ماك... رجا بانكو.
- جرسون! هتف ماك.
حضر النادل بسرعة خنجر في قبضة قاتل قرر تنفيذ جريمته حالاً.
- الحساب، أمر ماك.
دفع ماك بيد مرتعشة، ولم يترك البخشيش، فاضطر بانكو إلى إخراج بعض القطع من جيبه، وألقاها على الطاولة.

* * *

قبل عدة أيام من الانتخابات الرئاسية، كان آخر استبار في صالح سيدة البيت الأبيض القادمة داناوي دانكان، خمسة وسبعون بالمائة من نوايا التصويت لها، خمسة وعشرون بالمائة لهاكمان خصمها. انقلبت الآية رأسًا على عقب، فطنطنت لها كل وسائل الإعلام السمعية والبصرية، وهنأ الديمقراطيون بعضهم البعض، وماكبث يخفي تحت قناع جميل جريمته البشعة.
- استجيبي لمطلبي، يا داناوي، توسل ماك إلى معلمته على طرف، أريد أن أضاجع رئيسة الولايات المتحدة القادمة.
- ولكنك ضاجعتني منذ عدة أيام، ابتسمت دانكان.
- كانت رغبتك. ككل مرة كانت رغبتك، حرد ماك.
- لماذا لا نتزوج؟ هذا أفضل شيء لك ولرئيسة الولايات المتحدة.
- أنتِ لا ينفع الزواج معكِ، أنتِ لم تولدي لتكوني أمًا.
- سنتفق على ألا آتي بأولاد.
- أنت تثيرين الرغبة وتثيرين السياسة في آن، لهذا سينتخبك الأمريكان رئيسة لهم.
- تقصد أنني أمارس المضاجعة عندما أمارس السياسة؟
- الخيال الشعبي هو هذا.
- لهذا تريد أن تضاجعني؟ لغيرتك من جمهوري؟
- لغيرتي من جمهورك، لغيرتي من كل الأمريكان، وأريد أن أضاجعك على هواي، أن أخترقك من حيث أشاء، وكما أشاء، وأجعلك تصرخين لأول مرة في حياتك كإنسانة.
- أنت تهيجني، أيها الوغد، فتعال، ضاجعني في الحال، واجعلني أصرخ كحيوانة.
- كإنسانة.
- كحيوانة، أيها الغبي، وإلا ما أحسست بنفسي إنسانة.
- في ليلة قمراء، الذئاب التي فينا تعوي دون أن يسمعها أحد، فتغادر حيوانيتها، وتنتظر اللحظة التي تثبت فيها جدارتها، فكيف تثبت جدارتها؟ كل السؤال هنا. الإنساني هو جدارتها.
- فرج المرأة ليس إنسانيًا، فرج المرأة غابة من الوحوش الشرسة.
- لهذا السبب القضيب وهو فيها بكل حيوانيته يجعلها تصرخ بإنسانية. كل ما أسعى في طلبه، يا داناوي، أن ألذك كحيوانة، وأجعلك تصرخين كإنسانة.
- ماكبث، أنت قضيب كبير ليس غير، وكل كلامك كلام الفيلسوف الغبي الذي لك، يثير فيّ رغبةَ حشوِهِ بين رِدفيّ. من القليل أن تراودني هذه الرغبة، ستكون أحد أسرارنا، لكني يا لشد ما أسخر بمثل هذا سر، ولولا كوني على أعتاب مرحلة حاسمة في حياتي، لصحت كي يسمعني الجميع، أريد حشوه بين رِدفيّ! فهذا للنساء يجب ألا يكون عارًا، يجب أن يكون طبيعيًا كالطعام والشراب والذهاب إلى المخرآت.
- اسمعيني جيدًا، يا داناوي.
- كلي آذان صاغية.
- هناك حفلة متنكرة هذا المساء في الهيلتون.
- لا، لا أريد الهيلتون، لسمعتي، افْهَمْ أنني على أعتاب مرحلة حاسمة في حياتي.
- قلتُ متنكرة.
- سيعرفني الناس على الرغم من كل شيء.
- سيرتدي الكل اللباس نفسه.
- وبعد ذلك؟
- لن يفرق الناظر بين واحد وواحد، ولا بين واحدة وواحدة، سنكون كلنا أكساسًا وكلنا أزبابًا.
- وأي لباس هو؟
- سأرسله لك في طرد مستعجل وستجدين في داخله رقم الحجرة.

* * *

"عجل أيها الوقت، ماكبث تأخر كثيرًا عن لقاء ماكبث!"
ستموت معلمته هذا المساء، لكنه كان يعلم بموتها قبل مائة عام. الساحرة أمه لم تكن تعلم، وهو كان يعلم، كان يُعِدّه قبل مولده، فالجريمة إعداد متقن لا علاقة له بالجريمة، والقاتل لا يولد قاتلاً، يولد القتيل أولاً، وبعد أن يتم كل شيء يغدو القاتل قاتلاً. أضف إلى ذلك ماذا يعني القاتل تحت شرط القتل؟ ستعلو مع معلمتك، قالت أمه. في العلو كل التبرير الجوهري للقتل، الوجودي، كقتل الله مثلاً أو قتل النهر.
كان كل المتنكرين في لباس واحد: لباس النعامة. ذيل الريش، المنقار العريض، المساحيق. وبالفعل، لم يكن يُعرف الواحد من الواحد، ولا الواحدة من الواحدة. وكان هناك من يرقص، وهناك من يغني. وكان هناك من يعانق، وهناك من يقهقه. وكان هناك من ينبح، وهناك من يعوي. ظنت داناوي دانكان أنهم قد اكتشفوا أمرها، فغطت وجهها بمنديلها، ولم يكن أحد يبالي بها. أخذت المصعد مع ثَمِلِين حاولوا التحرش بها، فلم تمنعهم. كان عليها أن تلعب لعبة التنكر حتى انتهاء دورها. سارعت إلى مغادرة المصعد حال وقوفه في طابقها، وتركت دون إرادة منها منديلها يسقط من يدها. نادوها لتستعيده، لكنها لم تلتفت. كان قدر النعامة الذي لها ينتظر عند نهاية الممر، وهو قد انتظر كثيرًا.
أول ما اخترقت الحجرة، تلقفها ماكبث بين ذراعيه، وقبلها بعنف.
- أريد أن أخضعك، بصق ماك.
- اخضعني، رجت داناوي.
- من سيمنعني؟
- لا أحد.
- السلطة؟
- لا.
- المال؟
- لا.
- كلاب مانهاتن؟
- لا.
مزق لباس تنكرها، وراح يلعقها من كل جسدها. رغبت في لعقه كما لعقها، فرفض، وقضم حلمتها. صرخت كالحيوان الضال، وقضم شفتها. سقطت في الدم، وقضم مشفرها. عوت كالذئبة التي أطبق عليها الفخ بأسنانه الحديدية، وقَلَبَهَا. اخترقها من بين رِدفيها، بصعوبة في البداية، ثم بسهولة الثعابين. بدأت تخدش وتضرب وتركل، وهو فيها. كان يبحث عن أمه في الجحيم الذي فيها، ليخنق النبوءة، ويخرج من كابوس الحياة، ليذهب بحياته إلى العَلياء مع معلمته، فيستطيع النوم ككل الناس. كاد ينسى أنها ماتت منذ مائة عام، وهو يتثاءب، لكن صرخاتها المطنبة "آه! يا إلهي. أكثر! أكثر! أكثر!" سقطت عليه كما تسقط الصواعق، اختلقت له الأعذار، أعربت عن نواياها. وليتدارك موته، ضغط بيده على فمها بكل قواه، وأحسها بفرجه، وهي تموت من الداخل شيئًا فشيئًا.


القسم الثالث

لم يقبل مالكولم بعرض ماكبث المغري:
- اقعد في بيتك واستلم مائة ألف دولار عند نهاية كل شهر، أَزِلْ كل أثر للتعب، الشكوك، وذق حلاوة الضجر.
- هذا لأنك مقتنع في رأسك بما لا يمكن الاقتناع به! تهكم مالكولم. زد على ذلك أن أعلى زيادة المزايدة.
- منصب الرئيس المدير العام للبنك العالمي الذي كان لدانكان سيكون لي شئت أم أبيت، للأسباب التي سبق لنا وأشرنا إليها، فلا تسبب لي المتاعب.
- وإن أبيت؟ وإن ملأت الكأس إلى سَبَلَتِها؟ وإن انسحبت كالشعرة من العجين؟
- لن تأبى، فأنا، في عز الظهيرة، أقول لليل ارخِ سجوفك، فيرخي الليل سجوفه.
- ماكبث، كيف أرى ماكبث؟
- لا يهم كيف تراه، المهم كيف هو يراك.
- ماكبث قدر الأشياء.
- ماكبث قدر ماكبث.
- الشيطان.
- شيطان جرح.
- جرح امرأة، أمك.
- لتبق في الجحيم، القحبة أمي!
- لن نستطيع العيش مع الحقيقة؟
- مع الوهم نستطيع.
- لأنك تحبك.
- لأنني أكرهني.
- وتكره العالم.
- العالم بصلي.
- وأنا.
- ماذا قلت؟
- مائة ألف دولار شهريًا مبلغ مغر.
- مائة وخمسون.
- أكثر إغراء.
- مائتان.
- ستذهب بالبنك العالمي إلى الإفلاس.
- يا دين الرب، مالكولم!
- لا.
- ترفض؟
- لنقل لا أقبل.
- كن جزيرة فأغرقك.
- سأكون جزيرة.
- كن جبلاً فأهدمك.
- سأكون جبلاً.
- كن لهبًا فأطفئك.
- سأكون لهبًا.
- كن عاصفةً فأخنقك.
- سأكون عاصفةً.
- كن خراءً فأُبلعك إياه.
- سأكون خراءً.
- كن ما تكون، لكنك لن تكون.
- لهذا أفضّل الموت، دفاعي الشرعي عن النفس الموت.
- أيها المسكين، يا مالكولم!
- بالفعل، ولا قانونية في ذلك.
- لم أقنعك بحسن نيتي.
- بلى. قناتي لا تلين، هذا كل ما في الأمر.
- عليك؟
- أنا بطبعي ظالمٌ لنفسي.
- أما أنا، فظالمٌ لغيري.
- إذن كل ما تقترحه عليّ لا شيء، لا شيء غير ضربٍ في صميمي.
- لقد حاولت.
- مع غيرك؟
- مع نفسي.
- ولم تنجح.
- حاولت أن أساعدك.
- ونجحت.
- أحاول النوم في الليل، وتظل عيناي مفتوحتين دون أن أرى، وكل العالم فيهما. سمكةُ قرشٍ أنا في قاع المحيط، تضرب رأسها في المرآة. ضبابٌ في الشارع الخامس، لا يُري الناس ما حولهم. جحيمٌ أبيض، لهذا هو جحيم. هذا هو نجاحي.

* * *

- دومًا ما كنتُ أعتقد بماكبث قادرًا على القيام بأكثر من رائعة، اعترف بانكو.
- تقول عن هذا رائعة؟ سخر ماك.
- نكتب بالدم القصص لتبقى.
- بالخراء.
- ونحن مرتاحو الضمير.
- أهم شيء في هذا الخراء أن تشغل بالك برائعتك القادمة، فتلهي ضميرك.
- ترشوه.
- وهو يقبل الرشوة شاكرًا ليس كمالكولم، ابن القحبة!
- حاول معه من جديد.
- من يقبل أن يكون جزيرة أغرقها وجبلاً أهدمه ولهبًا أطفئه وعاصفة أخنقها وخراءً أُبلعه إياه لا فائدة من المحاولة معه من جديد.
- دع ماكدويل يفكر عنك.
- لن تكون رائعتي.
- ماك، لم أكن جادًا منذ قليل.
- أعرف.
- فظيع ما فعلت.
- أفظع ما سأفعل.
- لماذا؟
- دومًا ما كان المجد دمويًا.
- المجد، المجد، المجد، وبعد ذلك؟
- المجد.
- الدم، الدم، الدم، وبعد ذلك؟
- الدم.
- الكلاب تنبح في مانهاتن.
- إنه صوت الدم.
- لن تكون دمويًا وعادلاً.
- سأكون.
- لن تكون بربريًا وبشرًا.
- سأكون.
- لن تكون قاتلاً وعاشقًا.
- سأكون.
- ماذا قالت لك دانكان وهي تموت؟
- أكثر، أكثر، أكثر.
- لهذا ماتت.
- لهذا.
- يا ليتني كنت دانكان.
- ولكنك لن تكون دانكان.
- لهذا.
- كانت تظن أنني لن أصمد أمام المتاعب والعراقيل.
- فلم تصمد للإغراء.
- أضاعت صوابها.
- كنتَ على صواب.
- فصوبتُ إلى الهدف.
- طهارة العواطف من طهارة الماء.
- بيت الطهارة.
- نفسٌ طهيرة.
- كما لو كنتُ أطهّر مدينة من اللصوص.
- كما لو كنتَ تطهّر الأخلاق.
- لهذا من الطبيعي أن يتطور الأمر تطورًا مأساويًا.
- تقول من الطبيعي؟
- ما طاوعني قلبي على فعل ما فعلت، لكني مُطيقٌ للألم، طويت البساط بما فيه، بكل ما انطوى عليه، الأخطار والفوائد، وانطويت على مشاعر سرية، فانطوى الزمن، وانطويت على نفسي.

* * *

جلس مالكولم في الظلام، وهو لا يرفع عينه عن الباب الذي انفتح، فظهر ماكبث.
- حسنًا فعلت أنك لم تشعل الضوء، قال ماك، في وضعك، الضوء لا يدخل في المعقول.
- الواقع أنني لا أريد أن أرى مصرعي، قال الرجل، شيء أقرب إلى عفوي عن ذنب.
- مصرعك سيراك.
- هذا أهون شرًا.
- بعد الموت، هل هناك أهون شرًا؟
- الموت.
- صحيح، للموت صدر رحيم.
- هل فهمت الآن لماذا رفضت عرضك؟
- تقول رفضت؟
- ليست حياتي غير حياتي.
- لا شيء يتغير.
- كان عليّ أن أدفعك إلى ارتكاب جريمتك الثانية.
- ولكني لم أقتل دانكان.
- لم أشك أبدًا في ذلك.
- بماذا أقسم لك؟
- كل مساء آخذ قدح ويسكي.
- أنت لا تصدقني.
- لا.
- لم أكن معها في الفراش، لم أكن في كل الهيلتون، التنكر ليس من طبيعتي، لِمَ التنكر والحياة في تنكرها تُنْكِرُنَا؟
- فعلتَ بسيفك، ثم نجوتَ بجلدك.
- لا ينضب مَعينك.
- لو بقيت دانكان على قيد الحياة لكانت رئيسة عظيمة.
- شكرًا للقَدَح.
- شكرًا لها.
- بصحتك.
- بصحتك.
- دانكان رئيسة عظيمة حتى في موتها.
- لم تكن حياتها غير حياتها.
- هل أنت يائس إلى هذه الدرجة.
- لا.
- إذن اقبل مائتي الألف دولار عند نهاية كل شهر.
- وماذا سأفعل بها دون منصب الرئيس المدير العام، وفيما بعد، دون رئيس الولايات المتحدة؟
- صحيح، للسلطة صدر لا يرحم.
- قدح ثان؟
- لا.
- سآخذ قدحًا ثانيًا.
- دومًا ما كنتَ عبقريًا.
- أتظن ذلك؟
- لهذا أيضًا.
- تريد قتلي؟
- وجريئًا في اتخاذ القرارات.
- لأني سهلت دفع ملايين الدولارات من أجل الشوربة الشعبية؟
- لأنك.
- لم أبلغ من القوة ما بلغته.
- المِنّة تهدم الصنيعة.
- أنت أشد قوة منك حكمة.
- ماذا أقول لك؟
- سآخذ قدحًا ثالثًا، وبعد ذلك سأكون جاهزًا.
- أردت أن أقول لك إني معجب بك.
- ماك، أنت تضجرني!
- على رأس البنك العالمي، سأنهج على منوالك.
- سَيُسعد جدثي ذلك!
- نعم، سأنهج على...
- خراء، ماك!
- معذرة!
- أنا جاهز.
- قلت معذرة، يا مالكولم!
- سأغمض عينيّ، فقد اعتادتا على الظلام.
- لئلا ترى مَصْرَعك؟
- لئلا أرى مُصْرِعي، خراء!
أخرج ماكبث مسدسًا من جيبه، وأردى مالكولم قتيلاً.

* * *

صفى عملاقا المحامي جوزيف ماكدويل الأسودان كل من عارض امتطاء ماكبث جواد حكم البنك العالمي واحدًا واحدًا: ماكدوف، لينوكس، روس، مينيث، آنجوس، كيثنيس... وللاحتفال بالمنصب الجديد، استقبل ماك عظماء نيويورك وعاهراتها في الهيلتون، بين باقات من الورود البيض.
- تهانيّ القلبية، أيها السيد الرئيس المدير العام، همس بانكو.
- وأنا أيضًا، تهانيّ القلبية، أيها السيد نائب الرئيس المدير العام، همس ماك.
- الليلة قمراء.
- ولكن لا قمر هناك.
- أعمتك السلطة ولما تبدأ بعد.
- معذرة! لم أر القمر بسبب الغمام.
- لا تعتذر! أنا القائل لك معذرة.
- وإذا ما قلت لك هناك قمر في عز الظهيرة؟
- أقول كما تقول.
- أيها المتسلق!
- لا أرى الأشياء هكذا.
- تراها كيف؟
- بواقعية.
- بعد كل اللاواقعي الذي دفعتني أمي إليه، وفي كابوس فوق ذلك؟
- لأنه في كابوس.
- ليس هذا من طبيعة الأشياء.
- في زمننا هذا من طبيعة الأشياء.
- نتكيف مع الظروف.
- نكيف سلوكنا وفقًا لسلوكنا.
- نكيف حياتنا.
- تفسير كيفي.
- كيفية الحياة.
- كيفية الدفع.
- بنك هي الحياة.
- في طريق الإفلاس.
- ها هي جين! أوه! جين.
- تهانيّ القلبية، يا حبيبي!
- تهانيّ القلبية أنا، يا حبيبتي!
- تستطيع أن تقول ذلك.
- كل ما فعلت لأجلك، يا حبيبتي!
- تستطيع أن تقول ذلك.
- والقادم أعظم، يا حبيبتي.
- تستطيع أن تقول ذلك.
- سأترككما، قال بانكو.
- هيه! بانكو، صاح ماك في ظهره، فالتفت بانكو، تسلى جيدًا.
أحاطت ببانكو ثلاث عاهرات، وذهبن به، وهو يدير رأسه ناحية ماكبث، ويغمزه.
- وأنتَ، ألا تتسلى كصاحبك؟ تهكمت جين.
- لماذا أنت حزينة في ساعة فرح؟ نرفز ماك.
- لماذا أنا حزينة؟
- في ساعة فرح.
- لأني وحدي في رأسي.
- جين، ابتسمي!
- تطلب الابتسام ممن لا يستطيع أبدًا الابتسام.
- ممن لا يريد أبدًا الابتسام.
- ما أنا بفاعلة هنا؟
- جين، اغفري لي! لم أكن أقصد...
- سأذهب.
- جين، اغفري لي، أرجوك!
- يَكُظُّ الغيظُ صدري.
- وأنا تَكُظُّ نفسي من غيظك.
- امرأة لعوة أنا في ظنك، كلبة لعوة ربما. أنا ذاهبة.
- لا تتركي الأهواء تتلاعب بي.
- ربما في حفل استقبالك القادم أستطيع الابتسام، فالانتخابات الرئاسية لن تطول كثيرًا.
- جين، في البداية، كنتِ مع.
- فكرت، وبكيت، اكتشفت أني كلبة حساسة، لا أنفع لكل هذا.
- بلى.
- أنا أحسد أمك، يا ماك.
- ولكنها ميتة.
- لهذا.
- دعي أمي في الجحيم.
- جحيمها أهون شرًا بكثير.
- جين، اطلبيني القمر، اطلبيني أي شيء.
- أنت تعلو في الوقت الذي تدنو فيه.
- ككل ملعون يدنو من جحيمه.
- وهل ستحبني؟
- سأحبك، دومًا ما أحببتك.
- لهذا كل هذه الورود البيض؟
- لهذا.
- ممنوع البصق.
- أنتِ لن تبصقي عليها.
- عليك.
- ابصقي عليّ إذا كان الأمر يسعدك.
- أنتَ تدفعني إلى الابتسام قبل الابتسام.
- ابتسامك الامتناع عن الحكم.
- بل الحكم على الامتناع.
- اللاأمل.
- أمل اللاأمل.
- لاأمل الأمل.
- اذهب ولاطف مدعويك، من العيب أن تتركهم وحدهم مع أملهم، وأنا سأذهب.
- جين!
أحاط به المدعوون، وعيناه لا تتوقفان عن متابعة زوجه حتى اختفت.

* * *

- اسمع، يا ماك، قالت الأم لولدها، علوت مع معلمتك، وستعلو أكثر... قبل ذلك، ستلعو مع خادمتك... وبعد ذلك، ستنعو مع عالمتك.
- ارفعي أيديك عن فمي، رجا الابن أمه.
- هل سمعتني، يا ماك؟
- وما هي دلائل نعيي؟
- الدلائل قليلة.
- قولي لي واحدة تجعلني أتحاشى المسألة.
- سيكون الوقت متأخرًا.
- فقط قولي.
- عندما يعرض جيش تحرير الشعب الصيني في الشارع الخامس. لا تقهقه، أيها الأبله!
- إنه لمن رابع المستحيلات!
- كما أقول لك.
واختفت الأم، وكل وجه من وجوهها الثلاثة يذهب من جهة، بينا ماك ينادي: "أمي! أمي! أمي!"، ويمد يده إلى الجهات الثلاث.





























المِصراع الثاني










القسم الأول

ديدييه آبل-كاين ماكبث، المدعو ماك، صديقي، بالأحرى غدا صديقي. منذ بضع سنوات لم يكن صديقي، تعرفت عليه في السنترال بارك، ثم غدا صديقي. كان يمارس الجوغنغ مثلي من وقت إلى آخر، عندما يكون لديه بعض الوقت، هو وحارسان خاصان يركضان في ثيابهما الرياضية من ورائه، وأنا الريح. كنا نسكن في نفس الشارع، الشارع 65، هو في الناحية الغربية، وأنا في الناحية الشرقية، فالشارع 65 يقطع السنترال بارك من وسطه. كان الواحد يمر بالآخر. صباح الخير، كان الواحد يقول للآخر. صباح الخير. أو مساء الخير، كان الواحد يقول للآخر. مساء الخير. ندور دورة، ونتقابل، فنبتسم. كان يبتسم. لم يكن يبتسم لي. كان يبتسم. لشيء غامض. لشخص غائب. لسر. لظل. لفكرة. لفعل. كان يبتسم، وكأنه يسعى إلى طرح السؤال: لِمَ نبتسم؟ ويَغْمُضُ السؤال، يَغْمُضُ الابتسام، يُعْتِمُ النهار في السنترال بارك، تَسْوَدُّ الفضة على أوراق الشجر، وتهب نسمة مالحة تحرك الأغصان، طعمها على الشفتين حلو كطعم البحر. كطعم التين.
ماك الرئيس المدير العام لأهم بنك في أمريكا، البنك العالمي. ونحن معًا لم يكن يتكلم عن النقود، كان يتكلم عن كل شيء ما عدا النقود. أنا كنت أتكلم عن النقود قليلاً، فأقول الأرباح التي حققتها هذا الشهر من بيع المطاط تجاوزت المليون دولار. كان يبتسم. لم يكن يبتسم لي. كان يبتسم. وفي المطعم، غير بعيد عن طاولة حارسيه الخاصين، كان ينهمك في الأكل. كان يبتسم، لم يكن يبتسم لي، كان يبتسم، وكان ينادي النادل بعد أن ننتهي من تناول الطعام، فيدفع الفاتورة، ولا يترك البخشيش. البخشيش تمت إضافته على الحساب، لكني أُخرج من جيبي بضع دولارات أضعها في يد النادل. هكذا لن يحقد علينا. النادل. هكذا كنت أفكر غير ما يفكر ماك. بدافع عبث الابتسامة. هول كوميدياها. فظاعة سيركها. دم شقائق نعمانها. كان ماك بابتسامته يقف خارج دائرة الحقد. ربما لأنه أجرم في كل الحاقدين عليه، ليمكنه الابتسام، والعيش بأمان. كنت أراه خلي البال على الرغم من جبال الهموم التي سببها عمله، وربما لهذا كان يبتسم، فلتسلقها كان عليه أن يكون جناحًا لن يكونه، كان عليه أن يكون مِخلبًا لن يكونه، كان عليه أن يكون منقارًا لن يكونه، كان عليه أن يكون كائنًا لن يكونه. ابنًا للريح.
كان ماك يوقفني قرب دكان الزهور عندما أوصله إلى البيت في سيارتي، فهو يفضل الركوب معي في سيارتي على الركوب في سيارته الليموزينة، وبالطبع مع متابعة حارسيه الخاصين لنا في سيارتهما، كان يوقفني قرب دكان الزهور، وبعد عدة دقائق يعود بباقة من الورود البيض، وهو يرسم ابتسامة واسعة على شفتيه. إنها لجين، كان يقول لي. أعرف، كنت أقول له. إنها لجين، كان يقول لي من جديد. هل تحب جين الورود البيض إلى هذه الدرجة؟ كنت أقول له. ليس جين، كان يقول لي، أنا. دومًا ما أحببتُ الورود البيض. تضيق ابتسامته، وتغيب. تعتم الورود البيض. أراه، وهو يلقي عليها نظرة حائرة. محيرة. تراجيدية كالتين الأسود. يبكي التين الأسود عند الفجر. كل فجر. على الثدي الأبيض. ما الذي يخفيه كل هذا الأبيض، كل هذا الأسود؟ كل هذا الأزرق؟ كل هذا الموت في حدائق الحياة؟
عن طريق ماك تعرفت على "العظماء". في نيويورك ندعوهم بالعظماء، كل أولئك الرأسماليين الذين لا تقدر ثرواتهم، كل أولئك الملوك الحقيقيين لأمريكا والعالم. تعرفت على العظماء. في نادي جورج واشنطن كانوا كلهم هناك، يتناقشون في كل شيء ما عدا النقود. وكسائر البشر، كانوا ينكّتون على بعضهم، وكانوا كسائر البشر يضحكون. لكنهم كانوا يحتسون أجود أنواع الكحول لا كسائر البشر، ويأكلون أطيب أنواع المشهيات لا كسائر البشر. وفي نادي جورج واشنطن، رأيت كيف يُعامل الرؤساء القدامى للولايات المتحدة دون أية أهمية، وكيف يوضع الوزراء، القدامى والجدد، على الباب، لسبب أو لآخر. كانت الثروة في نادي جورج واشنطن شيئًا آخر، والمجد شيئًا آخر، والتعالي المجتمعي ليست من ورائه الجدارة. الوهم الحق بالجدارة. الحقيقي. لهذا السبب كان التفوق خياليًا، قبل الخيال، ثم غدا الخيال خيالاً. نيويورك عاصمة العالم. أمريكا عالم الخيال. العالم الخيالي. الثروات، الجيوش، الأمم. الجبال، البحار، الرمال. الأساطير الجديدة لكلاب النهار، لذئاب الليل، لنجوم الساعة الحادية عشرة صباحًا في مانهاتن. لأقراط بنات الثانوية. لصنادل صبيان البحرية. لحريات تمثال الحرية.
كان ماك العظيم يختلف عن أولئك العظماء ليس بوصفه حرًا بالفعل، حريته طوع يده، ولكن لأنه طوع حريته، طوع غرائزه، غرائزه الجنسية، خاصة غرائزه الجنسية، امرأة، رجل، أو امرأة/رجل، التنكر بجسد الجنس الآخر، رجل/امرأة، هذا لا يهم، ما يهم هو إشباع غرائزه الجنسية، ما يهم أكثر من أي شيء توظيف ذكائه في خدمتها، أن تصبح غرائزه الجنسية كل ذكائه، وكل عدم ذكائه. كان يصرف كل حراسه الخاصين على الرغم من احتجاجاتهم، ويجرني معه إلى غرينويتش فيلاج، إلى المكان الذي أكثر ما يتصرف فيه بحرية، وكأنه حياته ودنياه، والذي أكثر ما يتعامل فيه مع النساء، وكأنه في عشه، وكأن النساء طيور من نوعه. ليس لأن لا أحد يعرفه في غرينويتش فيلاج كان يصرف حراسه الخصوصيين، ولكن لأنه لا يفكر في الخطر هناك، ولأن الخطر في ظنه ليست هذه أسبابه، الحب لا يشكل خطرًا على أحد، الحب كما يفهمه، ولا يسبب الخطر لشخصه، على الأقل في عالم لا مكان لسمك القرش فيه. الحب نقود حياتنا، الحياة، كان يقول. كان يجرني معه، وأنا أتبع من ورائه، لا أريد أن أقطع عليه تأملاته ولا رغباته سعيًا وراء ملء عالمه الفردي. عالمه الفردي، جدرانه هو، روحه كما يراها، كما يريد أن يراها، جسده كما يريد أن يعامله، أن يتعامل معه. أن يجرم فيه. إجرام في حالة ماك هو في الوقت ذاته عقاب. عقاب الجسد بأقسى أنواع اللَّذة، بأقصى أنواع اللَّذة. اللَّذة المِقصلة. كرسي الكهرباء. أنامل ماريلين مونرو. حلمتها في ثغر الزمان. ثغرها على بطن المكان. كلها بين فخذي فوكنر. ولينسى جرمه الأعظم، وجوده، الوجود، يتسلى بعلاقاته. النسائية، المالية، السياسية. يلعب.
في إحدى المرات، طلب مني ماك أن أقضي بصحبته يومًا كاملاً لأرى. سألته لأرى ماذا؟ أعاد لترى.
في صباح اليوم التالي، ونيويورك تغتسل في الهدسون، في الخراء والعطر، ومن الناحية الغربية تتصاعد أنغام الجاز، غادرتُ سيارتي، وذهبتُ إلى الليموزينة المنتظرة أمام باب البناية التي يسكن فيها صديقي. كان هناك رجل ينزه كلبه وثلاثة من الحراس الخاصين ككل الحراس الخاصين في العالم، أناقة كاملة، وفطنة أكمل تنط من كل ناحية من أجسادهم، ومن كل زاوية من حركاتهم. أول ما ظهر ماك في بدلته السموكن، نعم، بدلة سموكن وعقدة فراشية، من أجل الذهاب إلى العمل، نزل السائق بخفة ليفتح له باب السيارة، فنظر الرجل الذي ينزه الكلب إليه، وبصق. غدا ماكبث أصفر الوجه، وأنا أتساءل إذا كان ذلك بسبب احتقار الرجل الذي ينزه الكلب له. أشار إليّ صديقي بالصعود، فأخذت مكانًا إلى جانبه، وماك لا يغادر الرجل الذي ينزه الكلب بعينيه. غطى وجهه بيديه، وفي اللحظة ذاتها طار سرب من الحمام فوقنا. وصلنا زامور سيارة، فأنزل ماك يديه، وتنهد. انتظرنا مجيء جين إلى أن حضرت في ثياب التنس، وهي تحمل مضربًا وحقيبة. دفعتني، وأخذت مكانًا إلى جانبي، فوجدت نفسي وسط الزوجين. لم أكن مرتاحًا، فكرت في نفسي، وأنا صغير، لما كنت أعوم في بركتنا، ورغبت في المغادرة. انطلقت الليموزينة، والحراس الخاصون يتبعون في سيارتهم. كان علي أن أعوم حتى الحافة المقابلة للبركة.
- اليوم لن يكون لديك وقت، يا حبيبي، قالت جين.
- اليوم لن يكون لدي وقت، يا حبيبتي، قال ماك.
- ككل يوم، يا حبيبي.
- ككل يوم، يا حبيبتي.
- لكننا سنتغدى معًا إذا ما كان لديك وقت، يا حبيبي.
- لكننا سنتغدى معًا إذا ما كان لدي وقت، يا حبيبتي.
- ككل يوم، يا حبيبي.
- ككل يوم، يا حبيبتي.
- وإذا كان لديك بعض الوقت أنت لا تعرف متى، يا حبيبي.
- وإذا كان لدي بعض الوقت أنا لا أعرف متى، يا حبيبتي.
- ككل يوم، يا حبيبي.
- ككل يوم، يا حبيبتي.
كنت أصعد على حافة البركة، وأنظر إلى الماء، فأرى وجه ماكبث الأصفر، وأسمع صوته المرتعش. لم تكن جين سعيدة، ولم يكن صديقي قلقًا من أجلها، كان يشغل باله شيء آخر. ثم كنت ألقي بجسدي في الماء، وأعوم حتى الحافة المقابلة للبركة. توقفت الليموزينة قرب باب نادي نسر مانهاتن الذهبي، فقبّلت جين زوجها، والاثنان يكادان يلمسان وجهي بوجهيهما. اختلط عطراهما في أنفي، وغدا لهما أريج واحد، أريج يشبه إلى حد بعيد أريج الأرياش المخضبة. نزلت جين، وأحد الحراس الخاصين يذهب في أثرها، وهو ينظر كالعصفور الدوري في كل الاتجاهات. الحافة الأخرى المقابلة للبركة. وبعد ذلك، أصعد، أعطي ظهري للماء، وأذهب.
توقفت الليموزينة من جديد عند مقر البنك العالمي في ويليام ستريت غير بعيد من وول ستريت، فلم ينزل ماك. تردد، وهو ينظر إليّ، فشجعته على ترك السيارة. كان من واجبي أن أفعل شيئًا يعيد الثقة بالنفس إلى صديقي. عندما غادر الليموزينة بحركة عازمة، قلت لنفسي لا تنقص ماك الثقة، ماك يعاني، ولم أعرف مِمَّ. وفي الحال، لحق بالحارسين الخاصين اثنان آخران، أحاطوا بماك إلى مصعد حالوا دون صعود أحد غيرنا. وفي الطابق السابع والعشرين، اخترقنا القاعة الكبرى، وسرنا بين مكاتب مفتوحة على بعضها لا تعد ولا تحصى، جهنم المال كلها كانت هناك، وكانت هناك أخطبوطات العالم أجمع. جاء من وراء الرئيس المدير العام عشرات من الموظفين، وهم يحملون ملفاتهم. أوقفتهم السيدة ماكماهيليان، رئيسة الديوان. قدمها لي صديقي، وهي تتقدم لاستقبالنا، وعلى صدرها مفكرة المواعيد التي كانت تفتحها كلما أرادت التأكيد على موعد، دون أن أسمع ما تقول، في جهنم لا نسمع ما نقول. كانت في مكتبها أربع فتيات وقفن عند مرورنا دون أن تعيرهن السيدة ماكماهيليان أدنى اهتمام.
أعادت لماك، ونحن في مكتبه الفخم أخيرًا وحدنا:
- إذن خلال عشر دقائق في تمام الساعة التاسعة والنصف اجتماع مجلس الإدارة...
خلع ماك العقدة الفراشية، وذهب إلى حجرة تبديل الملابس، المفتوح بابها على مصراعيه، والسيدة ماكماهيليان تتابع، وهي تسير من ورائه:
- في تمام الساعة العاشرة اجتماع مجلس البنوك...
اختارت ربطة عنق بين ثلاث أو أربع حملتها بيدها، وأخذت تربطها له، وهو يضع يديه على إليتيها.
- في تمام الساعة العاشرة والنصف استقبال مدراء بنوك بلدان الخليج الفارسي...
انهمكت مع ربطة العنق، بينما رفع ماك تنورتها أمام ناظري، وراح يداعب إليتيها، والسيدة ماكماهيليان تتابع:
- في تمام الساعة الحادية عشرة استقبال شيوخ بلدان الخليج الفارسي...
وضع ماك يده بين إليتيها، وهو في حال من يشعر بالأمان والاطمئنان، فراحت السيدة ماكماهيليان تطلق التأوهات المتقطعة، ولما أنهت ربط ربطة العنق، انقضت على فمه، وقبلته بعنف. جذبته بين فخذيها على طاولة، لكنه أبعدها عنه بهدوء. أعادت هندمة ثيابها، وتصفيف شعرها، وتابعت، وهي تعود إلى المكتب من ورائه:
- في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف رئيس بلدية نيويورك بانتظارك في مكتبه...
اتجه ماك إلى الباب، والسيدة ماكماهيليان تتابع:
- في تمام الساعة الثانية عشرة رئيسة جمعية نساء نيويورك بانتظارك في مكتبها...
وهو يمضي بمكتب السيدة ماكماهيليان، وقفت الفتيات الثلاث دون الرابعة، فقدمتهن إلى معلمها:
- الآنسة غرين، الآنسة مارتن، الآنسة ستون، أين الآنسة ستيوارت؟ تفضل باختيار واحدة من هذه الفتيات لتكون لك النوت-جيرل، المدونة، التي تبحث عنها. آنسة ستيوارت!
رفع سبابته لاختيار هذه لا هذه لا هذه، سمعنا ثجّاج بيت الماء، ورأينا الآنسة ستيوارت تخرج من التواليت. شعر أسود وبشرة بيضاء وعينان نجلاوان، فتردد ماك، وهو يثني سبابته، ثم صوّبها إليها، وأعطاها ظهره، فقالت لها السيدة ماكماهيليان:
- لقد وقع الاختيار عليك، يا آنسة ستيوارت. احملي دفترك، واتبعي السيد ماكبث.
أحاط بصديقي حراسه الخاصون وكل الموظفين الذين يسعون إلى إمضاء صغير منه، فأمضى هذه الورقة أو تلك، وابتسم لتلك الكاتبة أو تلك، والسيدة ماكماهيليان تتابع:
- في تمام الساعة الثانية عشرة والنصف افتتاح فرع للبنك العالمي في كوينز...
وصل إلى القاعة حيث يجتمع مجلس الإدارة، ودخلها، والسيدة ماكماهيليان تتابع:
- في تمام الساعة الثالثة عشرة حفل التوقيع على كتابك "لا توجد أزمة مالية عالمية إلا في الرؤوس" في مسرح تينيسي ويليامز في البرودوي...
أخذه نائبه، بانكو، بالأحضان، وبقي واقفًا إلى جانبه، بينما تعالى ماك بقامته في وجه الأعضاء الجالسين من حول الطاولة الضخمة، وأخذ يضرب بقدومه الخشبي ليحل الصمت، والسيدة ماكماهيليان تتابع:
- في تمام الساعة الثالثة عشرة والنصف الذهاب لرؤية عشيقتك رقم 13...
حط الصمت، فتابعت السيدة ماكماهيليان بصوت خافت:
- في المستشفى.
- لماذا؟ ماذا حل بها؟
- محاولة انتحار.
- من أجلي؟
- من أجل عشيق آخر تحبه.
- ارسلي لها باقة من الورود البيض من طرفي مع كلمة اعتذار.
- في تمام الساعة الرابعة عشرة...
خاطب ماك الحضور، فانسحبت السيدة ماكماهيليان على رؤوس أصابع رجليها، بينما جلسنا أنا والآنسة ستيوارت على مقربة منه، أنا أسمع لما يود قوله، والآنسة ستيوارت تدون ما يقول:
- يسعدني، أيها السادة، أن أبلغكم بالمليار دولار أرباح البنك العالمي كل يوم!
تصفيق صاخب وعدة صرخات "برافو!".
- كل هذا بفضلكم!
تصفيق صاخب من جديد.
- الأزمة مصطلح غير موجود في قاموس البنك العالمي!
عودة إلى التصفيق لكنه قطعه بإشارة من يده:
- الاقتصاد أزمته، إذا كانت للاقتصاد أزمة، سياسية. هناك أزمة سياسية، نعم، لهذا يغرق البلد في الديون، فيُلقى على عاتقنا مسئولية إنقاذه. أطلب من أعضاء مجلس الإدارة أن يعكفوا على دراسة أنجع الطرق ليس لإنقاذ البلد من الغرق ولكن لإنقاذه ممن هم من وراء هذا الغرق.
سُمعت صرخة هنا وصرخة هناك:
- ماكبث رئيسًا للولايات المتحدة!
فرفع ماك رأسه عاليًا عاليًا عاليًا جدًا، وهو في وضع من يشعر بالثقة والسطوة، وألقى:
- أشكركم، أيها السادة، ولكني رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دون أن أكونه!
انطلقت الضحكات، فتابع:
- لكل مقام مقال، اليوم نحن هنا لإنقاذ البلد، وغدًا لانتخاب الرئيس الذي يستحق أن يكون رئيسًا للولايات المتحدة بالفعل.
عاد نائبه، بانكو، يأخذه بالأحضان قبل أن يغادر ماك القاعة، وأنا والآنسة ستيوارت معه، وسط عاصفة من التصفيق.
قادته السيدة ماكماهيليان من باب خلفي، بعد أن أشارت إلى حراسه، ليتفادى موظفيه، فتعثر، وبحث عني بعينيه. لما وقع عليّ، ابتسم للشيء الغامض الذي يطارده، والسيدة ماكماهيليان تقول:
- بدلاً من عيادة عشيقتك رقم 13 في المستشفى إذن ستتغدى مع السيدة ماكبث في تمام الساعة الثالثة عشرة والنصف، وفي تمام الساعة الرابعة عشرة...
- ابتداء من هذه الساعة الغي كل المواعيد، فلدي ما أقوم به مع صديقي غريغوري.
- ولكن سيد ماكبث هناك موعد هام مع الرئيسة المديرة العامة لشركة الطيران إنديا إير لاين، سبق وأجلناه عدة مرات، وهناك عرض أزياء لاغاردير في الشارع الخامس، جاء لاغاردير بنفسه خصيصًا من أجلك، وهناك افتتاح خمارة لورنس العرب للأمير الملياردير السعودي المعروف سعود بن بن بن بن بن، آه! يا إلهي، سعود، وهناك...
- لدي ما أقوم به مع صديقي غريغوري.
- وهناك افتتاح مبنى أيتام العراق...
- سأرسل إليهم صكًا بمائة مليون دولار.
- مائة مليون د...!
- ليس كثيرًا؟ مائة وخمسون مليون دولار.
- أعني (وهي تكاد تدوخ)...
- مائتا مليون دولار.
ما الذي كان ماكبث يسعى إلى تغطيته؟ كل هذا السخاء لم يكن مجانًا. عاد يبحث عني بعينيه، ودفع بقدمه باب القاعة التي كان مدراء البنوك فيها بانتظاره، سلم عليهم واحدًا واحدًا، وهو يدعو كل واحد باسمه الصغير، ويضرب على كتف هذا أو ذراع ذاك. كانوا يتناولون قدحًا، فصبت السيدة ماكماهيليان لمعلمها قليل السكوتش وكثير الصودا، وتركته مع زملائه. بقينا أنا والآنسة ستيوارت واقفين من وراء ماك، والآنسة ستيوارت تدون ما يقوله الرئيس المدير العام للبنك العالمي:
- عمل جميل، أيها السادة! ما أنجزتموه عمل جميل تستحقون الشكر عليه. كل ما تصنعونه في أمريكا والعالم عمل جميل، وأجمل الجميل دعمكم لليونان، هذا البلد الذي لولاكم لأعلن إفلاسه.
رفع كأسه ورأسه، وطلب منهم أن يشربوا نخب اليونان:
- نخب بلد هوميروس!
- نخب بلد هوميروس!
أضاف:
- لكن من العار أن نقرض هذا البلد بيد ونأخذ أضعاف ما نقرضه بيد عن طريق المضاربة في البورصة.
قال أحدهم:
- أوروبا ستتكفل بالأمر، يا سيد الرئيس المدير العام.
- أوروبا سيأتيها الدور، لهذا لا يكن بنا طمع أكثر. أترك للأعزاء مدراء البنوك التفكير في الأمر، إذا بقي الحال على ما هو عليه، أوروبا آتيها الدور، وأمريكا آتيها الدور، وكل كواكب البحر والسماء آتيها الدور، فحذار!
وخرج تاركًا من ورائه عاصفة من التساؤلات والاحتجاجات، بينا ماكبث يلعن: يا دين الرب! يا دين الرب! انبثقت قطرات العرق من جبينه، وتردد قبل أن يمسحها بظاهر يده. أطلق نفسًا ليتدارك الاختناق، وفك عقدة ربطة عنقه.
أصعدتنا السيدة ماكماهيليان، ونحن مع ماك، أنا والآنسة ستيوارت وحراسه الخاصون، إلى الطابق الأخير من ناطحة السحاب، الطابق التاسع والأربعين، وعشرون أو ثلاثون من مدراء بنوك بلدان الخليج الفارسي كل نيويورك تحت أقدامهم، شوارعها، أزقتها، كباريهاتها، وكل ناس نيويورك، أحلامهم، كوابيسهم، أوهامهم. لم يسلم صديقي عليهم، مضى بهم، مبتسمًا، والكل ينحني بين يديه كالدجاج المخصيّ. كانوا يأكلون الحلويات العربية، ويشربون الشاي الصينيّ. صبت السيدة ماكماهيليان لمعلمها كأس شاي، واختارت الآنسة ستيوارت لماكبث بعض قطع الحلوى. كلمهم بالعربية الفصحى، وهو يشمخ بأنفه، فترجمت لي الآنسة ستيوارت: ليعتبروا أنفسهم أنهم هنا في نيويورك، وكأنهم في بلدهم، وأن أموالهم هنا في نيويورك، وكأنها في جيبه، فلا يخشوا عليها شيئًا، هو لن يأذن بتحويلها إلى بنوكهم في هذه الأوقات الحرجة، وهو، على كل حال، أوقات حرجة أم غيره، لم يأذن بتحويلها من قبل، وذلك حرصًا على سلامتها، وسيعمل على إقراضها بفوائد ما وسعه ذلك، فوائد لن يدرجها في حساباتهم، فهي في دِينهم تقابل الربا.
صفق لماك مدراء بنوك بلدان الخليج الفارسي تصفيقًا صاخبًا، وهو يرسم على شفتيه الابتسامة ذاتها، ووجنتاه ترتعشان. لم يبحث عني بعينيه هذه المرة، كان يملي النظر في الفراغ، ويهز رأسه، تارة للتأكيد، وتارة للنفي، كمن يحاور المجهول. التف المدعوون بالآنسة ستيوارت، وطلبوا منها "أوتوغراف" للذكرى، وهذا ما فعلت، وهم يدورون بها دورانهم بطائر غريب في حديقة الأماني الضائعة. لهذا فضلت السيدة ماكماهيليان ألا تُدخلها مع معلمها على شيوخ بلدان الخليج الفارسي. بدأ صديقي يقبلهم من أفواههم، ويحك أنفه بأنوفهم، ويكرر في أذن كل واحد منهم "نيك أمك، نيك أمك، نيك أمك..."، وهم مستلقون على الأرض بكروشهم الضخمة كالنعامات. استلقى على الأرض، وبدأ يحكي عن الأكل معهم، عن الطبيخ، وهذا بلحم الضأن أطيب، وهذا بلحم الناقة أطيب، وهذا بلحم الخنزير أط... فقحقحوا وحقحقوا، وهذا بلحم الخنزير حلال أطيب، فقهقهوا وهقهقوا، والصفيحة عندكم هي البيتزا عندنا. وعندما صفق إذا بشتى صواني البيتزا الضخمة تدخل على رؤوس شبان نيويورك الشقر، فبدأوا يأكلون، وأياديهم تذهب إلى أعناق الشبان وأفخاذهم. تركهم ماك في لحظة من أكثر لحظات حكمهم لذة وسعادة، كان قرفًا. لم أشأ السؤال مِمّ يعاني خوفًا من إحراجه، وكأنه لاحظ ذلك، فابتسم للشيء الغامض، وغادر المكان على متن طائرة هيلوكبتر إلى لقاء رئيس بلدية نيويورك.
استقبله رئيس بلدية نيويورك عند قدم طائرة الهليكوبتر بترحاب بالغ، على الرغم من كونه من الجمهوريين وماكبث من الديمقراطيين، وذهبنا جميعًا إلى قاعة الشرف المخصصة للشخصيات الهامة وفي مقدمتها رئيس الولايات المتحدة. كان لدي انطباع بأن ماك يرمي إلى أن يجرب نفسه قبل أن يفتَكّ هذا المنصب بعد إجراء تحقيق في الرأي العام أعطاه سبعين بالمائة إذا ما خاض غمار معركة الانتخابات الرئاسية القادمة، وكان عمدة نيويورك يعرف ما يدور في رأس مضيفه، فدغدغ الحلم، الحلم الأمريكي لماكبث، مبالغًا من مراسيمه، لأن كل طاقم البلدية كان هناك لتحيته، كل طاقم البلدية من موظفين ومنتَخَبين، وجوقة البلدية عزفت له النشيد الوطني. وعلى أي حال، كل هذا لم يكن دون مقابل، فقد تبرع الرئيس المدير العام للبنك العالمي بمبلغ مائة مليون دولار، قال عنه للشوربة الشعبية، وهو بهذا المبلغ يريد تقديم يد العون لسكان نيويورك المحتاجين عبر بلديتها. علمًا بأن المبلغ سيتوزعه العمدة وبعض الأقوياء الآخرين. وبينا نحن نفكر في النجاح الذي حققته الزيارة، عبس ماكبث، ونادى السيدة ماكماهيليان. سألها لماذا هو هنا. تلعثمت مديرة مكتبه، وأبدى الحضور دهشتهم، فاستقام ماك، وهو يدفع رئيس بلدية نيويورك، وينبر: كف عن مطاردتي، يا مالكولم! مكانك هناك في المقبرة بين الأموات! ألا تسمع صوت الرعود؟ سيصب المطر، وسيغسل كل بقع الدم! أخذتُ صديقي من ذراع والسيدة ماكماهيليان من ذراع، والآنسة ستيوارت تفتح لنا الطريق، وخرجنا به بعيدًا عن الوجوه الحائرة. وضع رئيس بلدية نيويورك تحت تصرفنا سياراته المرسيدس المصفحة، وأخذنا طريقنا، وصفارات الإنذار تصاحبنا، إلى الموعد القادم.
كانت رئيسة جمعية نساء نيويورك في العشرينات من العمر، ومن الشقراوات الفريدات من نوعها، أدخلت ماك مكتبها وحده، وطرقت الباب في وجوهنا، نحن المرافقين له، ثم أقفلته بالمفتاح. كنا نسمع قهقهاتهما، ونقول سيكون الشيك مهمًا. لم يتوقفا عن القهقهة لحظة واحدة، ولكن ما استحوذ علينا كلنا صمت طويل، صمت طال أكثر مما يجب، ثم عادت القهقهات من جديد، وتأخر الوقت بالرئيس المدير العام عن موعده القادم، فذهبت السيدة ماكماهيليان تطرق عليهما الباب دون أن يستجاب لطرقاتها. وبعد فترة أخرى من الصمت الطويل، سمعناه يصرخ: كفى! كفى! كان الرعب يدقه، وكان ينذر ويهدد: أنا ماكبث الذي لا تخيفه الأشباح! كفى، يا دانكان! منذ قليل مالكولم، والآن أنتِ! البحار ملكي، فلتبتلعك الأمواج! هناك مكانك الأفضل، ولتُغرق الأمواج العالم! خرج ماك منكوش الشعر كشيطان، فسوته له السيدة ماكماهيليان، ومسحت له عن فمه أحمر الشفاه، عن خده، عن عنقه، وكأنه قادم من مضجع للساحرات. وبعد ذلك، تركنا المكان دون أن تخرج السيدة رئيسة جمعية نساء نيويورك لوداعنا. سمعنا نشيجها، فحثنا ماك على المغادرة بأقصى سرعة، وهو يلتفت إلى الوراء دون أن يزايله الرعب.
لم نمكث لافتتاح فرع البنك العالمي في كوينز أكثر من خمس دقائق توجهنا بعدها بالسيارات المرسيدس المصفحة إلى البرودوي، هناك حيث وقّع ماك كتابه لنخبة رجال الأعمال والمحللين الاقتصاديين، والكل ينحني لرب المال. شربنا كأس سكوتش بالصودا، وأكلنا بعض الخبزات المأدومة، وماك يبدو غائبًا عن كل ما يجري من حوله. هذه المرة التفتُّ، ورأيتها تخرج من البركة، المرأة الحمراء. سمرني جمالها، ولم أستطع الهرب. كانت تبتسم لي، وتشير إليّ بالعودة والعوم معها. ومن البرودوي ذهبنا إلى نادي التنس، لنأخذ جين من أجل الغداء في مطعم الطاهي الحلواني الفرنسي الشهير "لونوتر".
أخذنا مكانًا أنا والسيدة ماكماهيليان والآنسة ستيوارت على طاولة السيد والسيدة ماكبث، بينما جلس الحراس الخاصون على طاولة قربنا. طلبت لنا جين جميعًا سكالوب نورماند فريت عيدان الكبريت، وأخذنا كشراب نبيذ البورغوني. أثناء الأكل، تبادل صديقي وزوجته الكلمات التالية:
- هل لعبت التنس جيدًا، يا حبيبتي؟
- لعبت التنس أكثر من جيد، يا حبيبي.
وبعد لقمة:
- وأنت، هل جنيت مليارك اليومي جيدًا، يا حبيبي؟
- جنيت ملياري اليومي أكثر من جيد، يا حبيبتي.
وبعد جرعة:
- متى ستلعب التنس معي، يا حبيبي؟
- عندما تجنين المليار اليومي معي، يا حبيبتي.
وبعد نظرة من عيني جين إلى الآنسة ستيوارت:
- مدونتك الجديدة جميلة، يا حبيبي.
- أشكرك، يا سيدة ماكبث، قالت الآنسة ستيوارت.
- هذا لطف منك، يا حبيبتي.
بعد لقمة وجرعة:
- لن نتعشى معًا، يا حبيبي.
- لن نتعشى معًا، يا حبيبتي.
- ككل مساء، يا حبيبي.
- ككل مساء يا حبيبتي.
وضعت شوكتها وسكينها بحركة لم تكن مناسبة، وقامت:
- اعذروني.
نظرت إلى حارسها الخاص، وأمرت:
- كارل، اتبعني!
نهض كارل على التو، وهو يمسح بالمحرمة فمه، ثم وهو يلقيها، وتبع سيدته إلى التواليت. انتهينا من أكل طبقنا الرئيسي، وطلب لنا ماك بوظة خوخ ملبا كتحلاية، سيمفونية حسبه، وسألنا إذا ما كنا نسمع موزارت، فاستأذنت بدوري الذهاب إلى التواليت. وصلني، وأنا قرب مراحيض النساء، صوت مضاجعة، فاسترقت النظر إلى جين وحارسها الخاص ينكحها وقوفًا. انتهيت من الشخ، وعدت أمرّ بمراحيض النساء، وجين مع حارسها لم ينتهيا بعد. في الأخير، استجبت للمرأة الحمراء. تقدمت منها، لكنها اختفت. عادت جين وكارل، وأخذا تحلايتهما، وكأن شيئًا ما كان. قبّلت جين زوجها شاكرة إياه على الأكل اللذيذ، ثم نهضنا جميعًا. وكالعادة لم يترك ماك البخشيش، فأخرجت من جيبي بضعة دولارات وضعتها في يد النادل.
في الخارج، كان علينا أن ننفصل، جين إلى الشارع 65، وماك إلى التشاينا تاون. طلب صديقي أن نسرع لنتفادى العاصفة بينا كانت سماء نيويورك صافية. رفع قبته، وحنى رأسه لتفادي الرياح، وقفز إلى داخل السيارة. ونحن على أبواب تشاينا تاون في مانهاتان، توقف موكبنا، لندخل الوكر الصيني في سيارات الفورد المصفحة، كل سائقيها وحراسها الخاصين صينيين كانوا، على رأسهم ما دعاه ماك بالعود الأحمر: أيها العود الأحمر، أيها العود الأحمر، وهذا ينحني سمعًا وطاعة. كنا وحدنا، أنا وماك والآنسة ستيوارت، بعد أن عاد الحراس الخاصون، مع السيدة ماكماهيليان، في سيارات المرسيدس المصفحة.
- سنقيل عند الآنسة ياما، همس ماك في أذني.
توقفت سيارات الفورد المصفحة أمام "الملاك الأصفر"، أحد صالونات التدليك الكبرى في نيويورك، فدخلناه، لتستقبلنا الآنسة ياما محاطة بعشرات من أجمل البنات الصينيات المرتديات للكيباو، وأول ما ظهر ماك هتفن كلهن بصوت واحد:
- أهلاً وسهلاً، يا ديدييه آبل- كاين ماكبث!
وأتبعن ذلك بضحك أسطوري خلته ينبثق من أعماق الصين القديمة. أشارت ياما إليهن بالذهاب إلى أعمالهن، فخفت كل واحدة إلى حجرة حمام حيث الزبون ينتظر عاريًا ممددًا على فراش أرضي. رأيت بعضهن من الأبواب المفتوحة، وهن يخلعن الكيباو، ولا شيء تحته، ويجلسن على إليتي المستلقي، ويأخذن بتدليك ظهره. وياما أيضًا كانت ترتدي الكيباو بقبة ماو لكنه قصير ودون أكمام، فسألها ماك إذا ما كانت تشعر بالبرد تحت ندف الثلوج. اكتفت ياما بالهديل، لكن صديقي كان جادًا.
في شقة ياما الفخمة، دار الحديث بين ياما وماكبث بالصينية، بينما كانت ياما تبدل لماك ثيابه بأخرى صينية من الحرير، طقم تاي تشي أسود بتنين، والآنسة ستيوارت تترجم لي. سأل ماك:
- كل شيء على ما يرام، يا 438؟
وأنا:
- 438؟
والآنسة ستيوارت:
- نائب الرئيس 489.
- 489؟
- رأس التنين.
- رأس التنين؟
- سأشرح لك فيما بعد.
أجابت ياما:
- كل شيء على ما يرام، يا 489.
وضع يديه على إليتيها، وراح يداعبها منهما، بينما ياما تضيف:
- تعليماتك يعرفها اليوم كل الزبائن، صالوناتنا في كل الولايات المتحدة ليست بيوتًا للدعارة، وبناتنا كلهن بنات عائلات، التدليك هو بالفعل شهواني، ومن كله، ولكن دون اختراق، من أراد فعل هذا، فليفعله بين أصابع أمه.
أخذ ماك يرفع الكيباو، بصعوبة حقًا لضيقه، لكنه تمكن من رفعه، وراح يعجن إليتيها بأصابعه، وياما تقول:
- ليس هناك أجمل من النظافة، يا 489. ولهذا كل الثالوثات الأخرى...
وأنا:
- الثالوثات؟
والآنسة ستيوارت:
- سأشرح لك فيما بعد.
- ولهذا كل الثالوثات الأخرى غارت منا، لم تنفع معها تخفيض الأسعار ولا إحضار أجمل الأجمل من أخواتي، فبدأت تعمل مثلنا، التدليك الشهواني دون اختراق.
وضع ماك يديه بين إليتي ياما، وراح يدلكها منهما، والصينية الجميلة لا تمنع نفسها من إطلاق التأوهات المتقطعة:
- وكما أمرت، يا 489، استثمرنا الأموال في بناء المستشفيات، والأوبرات، والفنادق لمن ليس لهم مسكن ثابت، فكانت الأرباح ليست كثيرة جدًا، ولكنها تبقى كثيرة.
بدأت تنزع عنه ثيابه التي ألبسته إياها بعصبية، تريده أن يفتك بها، وأنا أقول للآنسة ستيوارت أن لا داعي لترجمة هذا، فهذا لا يحتاج إلى ترجمة، لولا طرقات على الباب، فاعتدلت ياما، وهي تسوي هندامها، وهندام ماك، وصاحت:
- من بالباب؟
- صندل القش.
وأنا:
- صندل القش؟
والآنسة ستيوارت:
- 432.
- 432؟
- سأشرح لك فيما بعد.
صاحت ياما من جديد:
- ادخل.
دخل صيني في الأربعين من العمر لكنه شبه أصلع، انحنى لنا، كل واحد على حدة، وبالغ في الانحناء لصديقي، وصديقي يتراجع من الرعب، ويرجو: لا، يا مالكولم! اتركني بسلام! لا تخنقني! أنت من أراد ذلك! كن رؤوفًا بي، يا مالكولم! لا، لا! فأخذته ياما بين ذراعيها، وهدأته:
- ليس هذا غير 432، يا حبيبي!
- مالكولم يريد قتلي! تلعثم ماك.
- لا أحد يقدر على قتلك، يا رأس التنين! الأحياء لا يقدرون على قتلك، فما بالك والأموات؟
- أنا صندل القش لا أحد سواي، قال صندل القش ليبعث الاطمئنان في قلب سيده.
غادر ماك الرعب، ولم يغادره الحذر.
- ماذا تريد؟ نبر صديقي بلؤم، أفرغ ما في جعبتك، واذهب عني إلى الجحيم!
- آخر صالون تدليك آخر صرخة في التشاينا تاون سيتم تدشينه اليوم الرابع من الأسبوع القادم، قال الرجل بسرعة...
وأنا:
- اليوم الرابع؟
والآنسة ستيوارت:
- الأربعاء، أبدلوه الصينيون بالرقم أربعة فهذا الرقم يجلب الحظ عندهم.
- وبوصفي المكلف بالعلاقات والاتصالات أعددت ذلك تمام الإعداد، لبى كل العظماء الدعوة وفي مقدمتهم رئيس الولايات المتحدة بقضه وقضيضه.
لفظ ماك من خلف شفتيه مستعيدًا بأسه:
- أنا لا أطيق هذا الرجل.
تلعثم الرقم 432:
- ولكن، يا رأس التنين، لقد تمت الدعوة.
- الغها! تدبر أمرك! نبر ماك، وهو يصرفه بحركة آمرة من يده.
انحنى سمعًا وطاعة، وأكثر من انحنائه. خرج الرقم 432، ودخل الرقم 415، وبين ذراعيه العديد من السجلات. سألته ياما بنبرة جافة:
- ما الذي جاء بك، مروحة الورق الأبيض؟
انحنى كثيرًا أكثر من سابقه، للجميع، وخاصة لماك الذي راح يتراجع من الرعب، ويتوسل: كن لطيفًا معي، يا مالكولم!
- ولكنه ليس مالكولم، طنت ياما.
- أنا مروحة الورق الأبيض، قال الرجل ليبعث الاطمئنان في قلب سيده.
لم يغادر ماك الرعب، فاقتربتُ منه، ووضعتُ يدي على جبينه، كانت حُمّاه كثيرة.
- هل تريد أن آخذك عند طبيب، يا ماك؟ سألت صديقي.
- كل هذه الصراصير الصُّفر! كل هذه الصراصير الصُّفر! ردد ماكبث.
- سأسحقها لك، كل هذه الصراصير الصُّفر، قال مروحة الورق الأبيض، وتظاهر بسحقها، وهو يهدد: اذهبي من حيث جئت، هذا ماكبث الذي لا يخيفه شيء!
هدأ ماك، ولفظ كلمات الاعتذار، فقال مروحة الورق الأبيض:
- هناك عدد من الأوراق بخصوص شراء بعض الأسهم العقارية يجب التوقيع عليها وإلا أفلتت من يدنا.
وعاد ينحني كثيرًا حتى أنني ظننته سيسقط على الأرض، أشار صديقي إليه بحركة من أصابعه ليست آبهة، ما معناه أعطني هذا وحل عن ظهري. كان ما يشغله شيء آخر، الأمواج، العواصف، الثلوج. كان في قلبها، وهو لا يستطيع قهرها. وقَّعَ دون أن يقرأ الأوراق التي يوقع عليها، ومدها للمكلف بالمالية والإدارة، ثم استوقفه شيء فيها، عاد إليها، وهو يقول بصوت عال، ولا يمنع نفسه من الضحك المحتقن:
- شراء ثلاثة أرباع أسهم تمثال الحرية! شراء ثلاثة أرباع أسهم البرجين التوأمين! سيكونان أربعة هذا صحيح، ولكن لنسمهما البرجين التوأمين دومًا. شراء ثلاثة أرباع أسهم مسارح البرودوي! شراء ثلاثة أرباع أسهم تاكسيات الأجرة! شراء ثلاثة أرباع...
لم يكمل، أعاد الوثائق للرقم 415، وهو يطبطب على كتفه:
- جهد مشكور، يا مالكولم! جهد مشكور، يا مالكولم!
والآخر ينحني كثيرًا، وهو يكاد يصل الأرض بين قدمي ماك. رميتُ حالما خرج مروحة الورق الأبيض:
- تهانيّ الحارة، يا رأس التنين!
- هل سمعت، يا رامزي؟ ثلاثة أرباع أسهم نيويورك برمتها! تغادر الثقة روحك، وفجأة تعود إليها، وتزول إرادة الأموات عليك!
قالت الآنسة ستيوارت التي لم تتوقف عن التدوين كل تلك المدة:
- تهانيّ الحارة، يا معلم!
- آنسة ستيوارت كل ما يتعلق بالتشاينا تاون أرجو شطبه، طلب صديقي، فهو بشكل من الأشكال سري الصغير.
ترددت الآنسة ستيوارت بعد كل ما بذلته من جهد:
- كما تريد، يا سيد ماكبث.
نزعت الورقات من دفترها، ثم مزقتها. التفت ماك إلى ياما، وهو يبتسم لها ابتسامته للشيء الغامض:
- هلا ذهبنا إلى الفراش من أجل القيلولة، يا 438؟
- القيلولة عادة من أحسن العادات الصينية التي تعود على الجسم كالجيب بالنفع، يا 489!
- سميني رأس التنين...
وتظاهر ببصق النار:
- أحب أن أسمع هذا منك.
وجذبها إليه، وراح بها مدغدغًا، وهي تقهقه:
- توقف، يا رأس التنين، توقف!
بدا بكامل ثقته وكامل قوته. منذ قليل كنت على وشك أخذه عند طبيب، فقلت لنفسي كم هي الطبيعة الإنسانية غريبة. دفعها من أمامه إلى حجرة النوم، وقبل أن يغلق عليهما الباب، غمزنا، أنا والآنسة ستيوارت. كان مفعمًا بالطاقة، مفعمًا بالحيوية.
قالت لي الآنسة ستيوارت لما وجدنا نفسنا وحدنا:
- أظن أنك فهمت كل شيء عن الثالوث الصيني.
- فهمت كل شيء، أو، أقول لك الصدق لم أفهم شيئًا.
- ماكبث على رأسه، وهو يدعى رأس التنين، ويحمل الرقم 489، نائبته ياما الرقم 438. الأرقام بدافع الحيطة.
- هذا واضح.
- وفي الترتيب الثاني يجيء الضباط: رأينا العود الأحمر أول ما رأينا، وهو المسئول عن النظام والأمن، وهو يحمل الرقم 426، فالمسئول عن العلاقات والاتصالات، صندل القش، الرقم 432، ثم مروحة الورق الأبيض، المسئول عن المالية والإدارة، الرقم 415. هناك رابع لم نره، سيد البَخور، الرقم 438، رقمه ورقم ياما واحد للسلطة العظمى التي يتقاسمانها، وهو المسئول عن الطقوس والمجندين. الجنود يأتون في المرتبة الثالثة، إنهم قاعدة المثلث، وكل منهم يحمل الرقم 49، مع كل ما يحويه هذا الرقم المزدوج من رمز للحظ، 4، وللقوة، 9.
تثاءبت، وقلت:
- القيلولة أهم من كل هذا.
أكدت الآنسة ستيوارت:
- كما تقول، القيلولة أهم من كل هذا.
وأضافت مع ابتسامة ماكرة:
- القيلولة غير الصينية!
استلقيت على أريكة، وكذلك فعلت الآنسة ستيوارت. بعد ثلاثة أرباع الساعة، نهضنا على ضحكات عذبة، فإذا بأربع مدلكات يشرن إلينا كي نتبعهن. عرفنا ما يردن، كان ماك لم يزل يقيل، فقلنا نذهب معهن. كان دافعنا حب الاستطلاع ليس أكثر. ليس أكثر؟ حقًا؟ تركنا جسدينا في عهدتهن، فعريننا، وأنفقنا في النعيم الأرضي ساعة من عمرنا. وجدنا خلالها أنفسنا، أنا والآنسة ستيوارت، نأخذ بعضنا الواحد بين ذراعي الآخر، أنا التنين، وهي الضفدعة، أو هي التنين، وأنا الضفدعة. كنا نتبادلنا في مسخ حيواني، فنخترقنا، وندوخ قليلاً في أحضان كونفوشيوس. مارسنا أسعد حب في الحياة، ونحن نذوب بين الأصابع الحريرية.
تساقط الليل على التشاينا تاون بكل ألوانه العنيفة، بكل روائحه القوية، وخاصة بكل خصوصيته الصينية، فجاء العود الأحمر بسياراته الفورد المصفحة، وأقلنا نحن الثلاثة، ماك في المقدمة، إلى أبواب إيطاليا الصغيرة في مانهاتان دومًا، هناك حيث تركنا في عهدة بعض سيارات الفيات المصفحة، بسائقين وحراس خاصين إيطاليين كلهم. دخلنا علبة الليل "الكلب اليقظ" الوحيدة في كل نيويورك التي لا يشرب المرء فيها كحولاً، الويسكي نعم، ولكن دون كحول، والبيرة نعم، ولكن دون كحول، والنبيذ نعم، ولكن دون كحول، وشتى أنواع المشروبات اللاروحية. كانت النادلات كلهن هناك لاستقبال ماك، وهن يرتدين مايوهات سوداء تكشف عن مفاتنهن، وعلى رأسهن كانت كلوديا في ثوب متقشف لا يبرز شيئًا من مفاتنها. كلمها ماك بالإيطالية، وهو يسعى إلى مكتبه، والآنسة ستيوارت تترجم لي:
- عدد الرواد في ازدياد دائم، يا دون دييغو، فماذا نفعل؟ المشروبات دون كحول تجذب كل نخبة نيويورك، وفي الكثير من الأحيان نعتذر عن استقبال عدد هام من زبائننا.
- سأرى ما يمكنني فعله مع لاكي لوتشيانو جيل ثالث وفرانك كوستيللو جيل ثالث وجو أدونيس جيل ثالث.
- سينافسونك لا شيء أكثر، يا دون دييغو، وذلك بتأسيس سلاسل من هذا النوع من علب الليل.
- منافسة شريفة كهذه، هذا ما أسعى إليه.
- تجار المخدرات والعاهرات وماكينات اللعب لم تكن منافستهم أبدًا شريفة.
أخرجت كلوديا لماك ثياب السهرة، وأخذت تخلع عنه ثيابه الصينية، وهي تتابع:
- افتح فروعًا لعلبتك دون كحول في نيويورك وفي كل المدن الكبرى ولا تضع يدك في أيدي هؤلاء المجرمين.
لم تكن الاستعرائية لدى صديقي، تلك النزعة المرضية إلى تعرية العورة، وإنما الاستسلامية لأصابع المرأة. ما جعلني أفكر في هذا، تكرار الفعل لديه مع كل عشيقاته. هناك شيء من السادية لديه هذا صحيح، كما هي لدينا كلنا نحن الرجال، عندما يتركهن وحدهن لمعاناتهن، وهو لا يرضيهن بالقليل من جسده، لكنه لا يلبث أن يعوضهن عن ذلك بالكثير من نفسه، إنها نزعة العطاء التي تغلب عليه، العطاء الإنساني الذي هو عطاء جنسي أولاً وقبل كل شيء.
وضع ماك يديه على إليتي كلوديا، وقال:
- تقولين هذا لأنهم اغتصبوك واحدًا واحدًا، يا كلوديا.
- اغتصبوني، وكنت سعيدة.
- إذن لماذا؟
- أن يغتصبك عظماء الشر هذا يعني أنك شيء.
أخذ يرفع فستانها الضيق بصعوبة إلى أن وصل إليتيها، وهي تواصل إلباسه، بينما هو يقول:
- إليتان كهاتين شيء عظيم، شيء عظيم جدًا، يا كلوديا.
- إنهما لك، يا دون دييغو، أنت تعرف هذا. أنا أحجزهما فقط لك بعد كل الذي حصل.
أخذ يزلق بيديه بينهما، وهي لا يبدو عليها الشعور بشيء، مما جعله يلقي نحونا، أنا والآنسة ستيوارت، نظرة متسائلة:
- يبدو لي أنهما تغيرتا قليلاً بعد الحادث، يا كلوديا.
- من الطبيعي أن تتغيرا قليلاً، يا حبيبي.
وإذا بها ترتفع كلها بين ذراعيه، وتطنب:
- بالله عليك أن تأخذني كلي، يا دون دييغو، كلي، لم أعد أطيق، كلي.
نظر إلينا ماك، وهو في كامل سروره، فابتسمنا أنا والآنسة ستيوارت، والآنسة ستيوارت تدون كل شيء:
- ليس هذا، يا آنسة ستيوارت رجاء.
- سرك الصغير، يا معلم.
- وهذا أيضًا.
- إذن سأمزق كل شيء.
- كل شيء، كل شيء... قال، وهو يلهث.
ثم رماها على الكنبة:
- برب السماء، يا كلوديا، قليل من الحياء.
قامت، وهي تسوي هندامها، وأرادت أن تكمل إلباسه، فرفض. راحت كلوديا تبكي وتقول إن لا حظ لها، إنها أتعس امراة في الكون، وإنها تتمنى الموت، فلماذا لا يقتلها ماك، ويريحها من بؤس الوجود.
- اقتلني، يا دون دييغو! توسلت الإيطالية المتقشفة.
- وإذا ما أغلقتِ فمك! نبر ماك.
- رصاصة في الرأس.
- كفى!
- حياتي ذهبت سدى.
- كفى، قلت كفى، يا داناوي! رجا ماكبث. أنا لم أعد أحتمل! كفي عن مطاردتي! لماذا لا تقتلينني أنت، وتريحينني من شبحك؟ ادفعيني من قمة الجبل، اتركيني للأقدام، اجعليني في مكاني المناسب في شِشَم مانهاتن!
- دون دييغو، ما بك؟ صرخت كلوديا، وهي تأخذه بين ذراعيها.
دفعها بعيدًا عنه، ووضع وجهه بين يديه كيلا يرى شبح دانكان.
- هل ذهبت دانكان؟
- ذهبت، يا دون دييغو.
- هل أنت متأكدة أنها ذهبت؟
- أنا متأكدة.
- هناك شيء يضايقني.
- ما هو، يا دون دييغو؟
- أنا غير متأكد من شيء.
- تعال، يا دون دييغو، سأكمل إلباسك.
- لا، رفض، وهو يكشف وجهه بالتدريج، وينظر في كل الزوايا.
- هل كل شيء على ما يرام، ماك؟ سألت صديقي من قلقي عليه.
- سأكمل إلباس نفسي بنفسي.
أكمل ماكبث إلباس نفسه بنفسه، ولما انتهى، طلب من كلوديا:
- اطلبيهم لي.
- لاكي لوتشيانو جيل ثالث وفرانك كوستيللو جيل ثالث وجو أدونيس جيل ثالث؟
- وفي الحال.
- في الحال، يا دون دييغو.
وتلفنت لتوصلهم الرسالة.
على الساعة الواحدة صباحًا، انتشرت الجحافل المسلحة في كل زوايا إيطاليا الصغيرة لحراسة مواكب رؤساء المافيا الثلاثة، وبينما كانت علبة الليل "الكلب اليقظ" في أشد نشاطها، اخترقها لاكي لوتشيانو جيل ثالث وفرانك كوستيللو جيل ثالث وجو أدونيس جيل ثالث كل واحد في الخمسين من العمر، وكل واحد مع مسلحيه، وكل واحد على حدة. حاول رجال العلبة البيض العمالقة سحب الأسلحة منهم، لكنهم هددوهم بها. ومع ذلك، استقبلهم ماك بذراعين مفتوحتين، بينا رفضت كلوديا أن تسلم عليهم. أعجبتني القطة التي فيها، مخالب البغي. والمسلحون في المكتب بأسلحتهم الثقيلة، الثقيلة أكثر من حامليها أحيانًا، مدافع ثقيلة أحيانًا، لهدم بنايات بأكملها أحيانًا، همس ماكبث في أذن كل من مضيفيه همسة صغيرة، وفي الحال أمروا بخروج كل الرجال المسلحين، وبقينا أنا والآنسة ستيوارت وكلوديا إلى جانب ماك طبعًا مع عظماء الشر الثلاثة. بدأ ماك بالكلام بالإيطالية أولاً، وبعد أن رفض ضيوفه الكلام بالإيطالية، تكلم بالإنجليزية، والآنسة ستيوارت تدون، فقام ثلاثتهم، وهم يشهرون أسلحتهم في وجه المسكينة، مما جعلها تسلم لهم كل دفترها. تصفحوه، ثم مزقوه، وألقوه في سلة المهملات. عند ذلك، أعاد ماك:
- قامت المعارك في عهد أجدادنا ما بينهم، وفي عهد آبائنا ما بينهم، من أجل الكحول، وأنا لا أريد أن تقوم المعارك في عهدنا ما بيننا من أجل عدم الكحول. الكلب اليقظ يعمل بقدر كل علب نيويورك، وأنا لهذا أريد أن أعمل سلسلة من الكلب اليقظ معكم، أيها السادة، لنقتسم ليل نيويورك وكل المدن الكبرى والأموال ما بيننا، من أجل هذا الاستثمار المتعدد المنافع دعوتكم، فما رأيكم؟
قال لاكي لوتشيانو جيل ثالث، وهو يشير بمسدسه إلى زميليه:
- هذان الوغدان أبدًا لن تكون هناك منافع مشتركة معهما.
قال فرانك كوستيللو جيل ثالث، وهو يشير بمسدسه إلى زميليه:
- هذان الوغدان أبدًا لن تكون هناك منافع مشتركة معهما.
قال جو أدونيس جيل ثالث، وهو يشير بمسدسه إلى زميليه:
- هذان الوغدان أبدًا لن تكون هناك منافع مشتركة معهما.
ونهض ثلاثتهم يريد كل منهم القضاء على الآخر لولا تدخل كلوديا:
- كفى، يا سادة! قليل من التحضر، يا سادة!
عاد كل منهم إلى مجلسه، وكلوديا تتابع:
- إذا كان هناك من ضامن لما يعرضه عليكم دون دييغو، فستكون إليتاي هما الضامن.
فتح الرجال الثلاثة أفواههم وأعينهم واسعًا من الدهشة والاستغراب، وكلوديا تتابع:
- هل لديكم أكثر من هذا ضمان، وقد خبرتم ما هو؟ وهذه المرة بمحض إرادتي.
هز رؤساء المافيا الثلاثة رؤوسهم موافقين، ففرقع ماك بإصبعيه باتجاه الآنسة ستيوارت التي أخرجت ورقة من حقيبتها، وراحت تكتب ما يمليه عليها معلمها:
- نحن الموقعين أدناه، عظماء نيويورك الشر...
أمام صفحات الامتعاض التي قرأها ماك على وجوههم قال:
- عظماء نيويورك بلا زيادة ولا نقصان، نشارك دون دييغو في إنشاء واستثمار سلسلة علبة الليل "الكلب اليقظ" دون كحول ودون عنف في نيويورك وكل المدن الكبرى في الولايات المتحدة والعالم، والأرباح تقسم على أربعة، والضامن إليتا كلوديا... التوقيع، يا سادتي.
قدمت الآنسة ستيوارت الوثيقة إلى كل واحد، فوقعها، ووقعها ماك، ووقعتها كلوديا بعد أن تظاهرت بالتوقيع بإليتيها، ثم صفقت، فجاءت نادلات العلبة بالشمبانيا. الشمبانيا للاستثناء، قالت، وللمناسبات النادرة، وتلك كانت مناسبة نادرة، التوقيع على وثيقة الشراكة كانت بالفعل مناسبة نادرة. وكلما أراد أحد عظماء الشر مداعبة إحداهن، ضربته كلوديا على يده، ومنعته، فيداعبها من إليتيها، وهو يقهقه، وهي تقهقه. دخل المسلحون دون أسلحتهم، وشربوا الشمبانيا معنا، ورقصوا، وبقينا هكذا نشرب ونرقص حتى مطلع الفجر. بدا لي ماك كمن يريد الهرب من شيء، من أشياء، وفي قلب كل هذا الصخب، كم كان يبدو وحيدًا. اقتربت منه، وأنا أريد الاعتداء على وحدته.
- هل هذا بسبب جين؟ قذفت في وجهه.
- يا لسعادتك لأنك أرمل، جمجم ماك.
- إذن بسبب جين.
- بسبب قضيبي بالأحرى.
- لماذا تكره الأزواج إلى هذه الدرجة؟
- لأنني متزوج.
- لأجل قضيبك.
- إنه الشيء الوحيد الذي لا يرعبني.
- حذار من قتله بالخطأ.
- ما أسهل أن تقتل وما أصعب أن تنسى أنك القاتل.
في الصباح الباكر، وكل نيويورك تنام أو تنهض من نومها، غادرت المواكب الأربعة المكان، كل موكب إلى حيث يشاء، وموكبنا إلى فندق الهيلتون. أخذ ماك جناحًا، وأنا والآنسة ستيوارت جناحًا آخر إلى جانبه، وذهبنا كالخِرَقِ نيامًا.









القسم الثاني

نهضنا من نومنا أنا والآنسة ستيوارت على الساعة الثالثة بعد الظهر، أخذنا حمامًا معًا، ونحن نرتدي ملابسنا طلبت لنا الجميلة ستيوارت "بغ بريكفاست"، فطورًا وفيرًا على الطريقة الأمريكية مع الهوتكيكس. كنا قد انتهينا من ارتداء ملابسنا عندما طرق خادم الطابق الباب، ودفع عربة ملأى بالطعام والشراب. أرادت الآنسة ستيوارت الاتصال بماك، فسألتها أن تتركه نائمًا، قلت لها طالما لم يتصل هو، فهو لم يزل ينام. لم توقظه العواصف، لم تقذفه الأمواج، لم تغمره الثلوج. ونحن منهمكون في التهام الأكل اللذيذ والحديث المرح، لست أدري أي نداء داخلي دفعني إلى إشعال جهاز التلفزيون. وإذا بماك يطلع علينا بوجه ماكن يعبر عن جسامة الكارثة، ثم ما لبثنا أن رأيناه مكبل اليدين، وأفراد من الإف بي آي يقودونه في سيارتهم إلى سجن ريكرز آيلاند، كما قالت المذيعة. لم ننتظر لماذا، ذهبنا نركض، أنا والآنسة ستيوارت، بإملاء عقلنا الباطني، إلى جناحه، فلم نجده. وجدنا كل شيء في الجناح مرتبًا كما كان ما عدا السرير، فالسرير معركة من معارك الغاب، ورائحة المني تزكم المنخار. عدنا نركض إلى جناحنا، وبدّلنا القناة لنتأكد من صحة ما رأينا، ثم أخرى، ثم أخرى، كانت كل القنوات تعيد عرض الصور نفسها، وتقول الشيء نفسه: اتهام الرئيس المدير العام للبنك العالمي باعتداء جنسي على إحدى عليمات الفندق من خادماته، احتجاز، واغتصاب، وطين أحمر، وتين أسود، وجحيم من الأوراق الخضراء.
لم يكن الاعتداء الجنسي من طبيعة صديقي، ولم يكن الاغتصاب ليخطر على بالي كتهمة. كانت لماك كل النساء، وكل النساء كن عالمه، عالمه الذي له، والذي كان يفعله، كان يتصرف في عالمه، كان كل ما يفعله أن يتصرف في عالمه، أن يتصرف بعالمه. ليس لأنه زير نساء، ولا لأن لديه الجاه والمال، ولكن بدافع ميل فطري لديه، والفطرة صفة من صفات الإنسان الطبيعية. ماك بسلوكه تجاه المرأة على هذا النحو الفطري يعيد لإنسان القرن الحادي والعشرين، هذا الإنسان الغريب عن إنسانيته، يعيد لهذا الإنسان إنسانيته، يعيده إلى إنسانيته. إذن ماك لم يكن مريضًا، كان يحب المرأة، بكل بساطة، كان يحب المرأة، وكان يسلك معها على نحو فطري، هذا كل ما في الأمر. لماذا إذن رمته عليمة الفندق بكل التهم؟ هذا شيء آخر، وفي هذا يكمن كل الاغتصاب لروح ماك، المطامع واضحة، وهي مطامع ما في شك لغايات شريرة، لا يُجبل المرء عليها، بمعنى ليست من فطرته، وإنما يكتسبها، ونيويورك كمكان، أفظع وأنسب مكان لاكتسابها. الحذاء الأحمر، الفستان الأسود، الحلق الأخضر. أعادت وأعادت وأعادت كل قنوات التلفزيون في العالم عرض صورته، وهو مقيد اليدين كالقاتل، وهو يُدفع دفعًا في سيارة رجال الإف بي آي كالمجرم. كحدث، هذا شيء آخر في الواقع، غير الخراء الذي تحشوه في أدمغتنا كل يوم. كانت صدمتي عنيفة، كنت على مقربة قليلة من صديقي، ولم أستطع فعل شيء. أول شيء فكرت في القيام به أن أذهب لأرى جين، وأخفف القليل من مصابها. لكن الآنسة ستيوارت قالت لنذهب إلى ريكرز آيلاند، فربما تركونا نراه. لن يتركونا نراه، كل العالم غدا ريكرز آيلاند، فضاق بنا العالم. في الأخير، قررنا الاتصال بمحامي، فاتصلت بمحاميّ ومحامي ماك الأستاذ جوزيف ماكدويل. أخبرني أن ماك قد وقع عليه اختياره، مدعي عام نيويورك هو من أعلمه بهذا الاختيار. كانت الماكينة الجنائية عندنا تعمل بسرعة، وعلى أكمل وجه، ككل الآلات في مصانعنا الحديدية. كانت من النوع الحديدي، وأنا كلما فكرت أن صديقي قد سقط بين فكيها يدقني الرعب عليه. قالت القنوات التلفزيونية عن الضحية إفريقية، وهي تحت حماية العدالة، بمعنى أنها تسقط هي الأخرى بين فكي الماكينة الجنائية، نعم، حتى الضحية. وُضعت الضحية أيضًا في القفص، وأمسكوها بخناقها، حتى صورة واحدة لها لم نرّ.
أخذتُ جين بين ذراعيّ، وهي تذرف الدموع الحرى:
- أحسن الفعل، صديقك، أحسن الفعل! وفيمن؟ فيّ أنا! لماذا؟ ماذا عملت له؟ دومًا ما كنت الزوجة المتفهمة على أكمل وجه. أرادني أن أكون هذه الزوجة المتفهمة على أكمل وجه، فكنتها، على الرغم مني كنتها، وإلا لم تكن لتجدني هنا. إذن لماذا؟ ماذا عملت له؟ ربما عملت له شيئًا لا أدريه، شيئًا تعمله أية زوجة مثلي دون أن تدري، لكني دومًا ما كنت الزوجة المتفهمة على أكمل وجه، الزوجة البلهاء.
رجوتها:
- جين، اهدأي، بالله عليك أن تهدأي.
تَرَكَتْ ذراعيّ، وهي تنشق، وتمسح دموعها.
قلت لها:
- هذا ليس من طبيعة ماك.
عادت إلى ذراعيّ، وعادت إلى البكاء:
- لا تدافع عنه لأنه صديقك، صديقك قادر على كل شيء.
- بماذا أقسم لك؟
- قادر بقدرة ما ورائية تسيره على هواها.
- قدرة ما ورائية؟
- هذا ما قرأته له أمه في كوابيسه.
لم أفهم، ووجدتني أصل إلى تفسير آخر كوابيس ماك على طريقتي.
- في الجو الكثير من الغيوم، قلت، وهذه المرأة التي شكت به، وأودعته السجن، لا تريد سوى نقوده، فهي سوداء من طبقة متواضعة.
وما أن سمعتني أقول سوداء حتى ضاعفت من نواحها:
- أترى ما هو ذوقه الآن؟ وكل هذا كي يهزأ بي، وينغص عيشي. ماذا عَمَلْ...
أبعدتها عن ذراعيّ شادًا إياها من ذراعيها:
- كل هذا ما هو سوى صدفة خالصة أن تكون من طبقة متواضعة وسوداء.
توقفت عن البكاء تمامًا، وجهرت:
- تقول صدفة خالصة؟ أود أن يكون كل هذا صدفة خالصة. لماك العالم كله أعداء.
- لا، ليس لماك. لماك العالم كله أصدقاء، ولكن يحصل أن يلعب الظرف في غير صالحه، فيتحول الأصدقاء إلى أعداء.
- في غير صالحه، في غير صالحه، لم يكن ساذجًا ماك، أبدًا لم يكن في حياته ساذجًا.
- الكثير من الثقة تؤدي أحيانًا إلى هذا.
- كما تقول، وأكثر ما كانت ثقته بنفسه تجاه المرأة، وها هي النتيجة. أنذرته أمه، فاعتبر إنذارها أمرًا لا مفر منه ليبرر جنونه، فقط ليبرر جنونه، في العلو أو في الدنو أو في الانطفاء، ليبرر جنونه، لأن ماك لا بد أنه فاعل ما يجري في رأسه، ولا شيء يستطيع أن يمنعه أو يعيقه عن طريقه.
وعادت إلى البكاء، وإلى ذراعيّ:
- ماذا عملت له؟ ماذا عملت له؟
أحضرت الآنسة ستيوارت كوب ماء لها:
- اشربي هذا، يا سيدة ماكبث.
كانت فرصتي لأنسحب بعيدًا عن المنتحبة، ولأكلم الأستاذ جوزيف ماكدويل، فيعمل على ألا ينام ماك ليلته في السجن الرهيب. قال لي إنه سينام فيه هذه الليلة لا محالة، وفي الغد عند امتثاله أمام القاضي، سيطلب إخلاء سراحه مقابل كفالة، وربما وصلت الكفالة إلى عدة ملايين من الدولارات. قلت لا بأس، أنا هنا.
توجهت إلى جين:
- سينام هذه الليلة في ريكرز آيلاند.
أبدت جين ساخرة:
- هكذا يكون قد جرب كل فنادق نيويورك.
- وأمر الكفالة؟
- إذا كانت هناك كفالة ستُدفع، يا غريغوري، فلن نتأخر عن الدفع.
- أنا هنا إذا كنت بحاجة إلى أي شيء.
- أعرف أنك هنا، يا غريغوري، فأنت صديقه الوحيد.
- هذا إطراء منك، يا جين، بل شرف لي.
أشرت إلى الآنسة ستيوارت بالذهاب، فخرجنا تاركين جين إلى حزنها، ليس على زوجها، بل على ما فعله زوجها فيها كما كانت تتصور. ليبرر جنونه. كانت جين جزءًا من هذا الجنون، منه تنهل سنيها، ودونه لن تكون لها سنون. أخذت سيارتي، المصفوفة منذ البارحة قرب البناية التي يسكن فيها ماك، إلى مقر البنك العالمي في ويليام ستريت. كان السنترال بارك على غير عادته فارغًا، لم يكن العشاق هناك، ولا عملاء الإف بي آي، ولا الغربان ذات المناقير الصفر. كان التين الأسود يرزح تحت وطأة الوحدة، ومرايا البرك لا حياة فيها. لسعني القلق بسوطه، فمدت الآنسة ستيوارت يدها، ولمستني من عنقي. نظرت إليها، كانت كالتين الأسود ترزح تحت وطأة الوحدة. فكرت في نهديها، فتضاعف قلقي.
اخترقنا أنا والآنسة ستيوارت ناطحة السحاب وسط عشرات الكاميرات والصحفيين، كان أقسى عوالم الميديا، التلفزيون، أقسى الأوهام، وتنانير الأضواء، وقضبان المعلومات. صعدنا إلى الطابق السابع والعشرين بصحبة أحد حراس ماك الخاصين، وبين جحيم القائمين القاعدين من الموظفين في القاعة الكبرى سرنا إلى مكتب السيدة ماكماهيليان التي صرخت بالآنسة ستيوارت أول ما وقعت عليها عابسة:
- بعد كل الذي وقع مكانك هنا، يا آنسة ستيوارت، إذا كنت تريدين دومًا الاحتفاظ بوظيفتك.
- ولكني، يا سيدة ماكماهيليان، كنت قرب السيدة ماكبث.
- قربي، عليك أن تكوني قربي، وكل هذا العالم الذي لا يرحم أحدًا.
كانت هناك فتاة في العشرين تتصفح مجلة وتعلك غير مبالية بما يقع، أو هكذا بدا لي.
- أقدم لك ابنتي ميراندا، يا سيد غريغوري.
- كيف حالك؟
- جيدة، أجابت الفتاة، وهي تفقع علكتها.
تدخلت السيدة ماكماهيليان دون أن يزول عبوسها:
- بل ليست جيدة على الإطلاق.
- ليست جيدة على الإطلاق، لماذا؟
- ميراندا حالها ليست جيدة على الإطلاق، أليس كذلك، يا حبيبتي؟
- حالي جيدة، يا أمي.
- ليست جيدة على الإطلاق.
- بل جيدة، حالي جيدة، لماذا لا تكون جيدة على الإطلاق؟
- لأنها ليست جيدة على الإطلاق.
- لماذا هي ليست جيدة على الإطلاق؟ عدت أسأل.
- لأنكِ قلتِ لي، يعني، أنها قالت لي، ليست جيدة على الإطلاق.
- ماذا هنالك، يا سيدة ماكماهيليان؟ لماذا حال ميراندا ليست جيدة على الإطلاق؟
- قولي له، يا ميراندا، لماذا حالك ليست جيدة على الإطلاق.
ضحكت ميراندا وهي تفقع علكتها من جديد:
- هل أقول له لماذا حالي ليست جيدة على الإطلاق؟
تدخلت الآنسة ستيوارت مشجعة:
- نعم، قولي للسيد غريغوري، لماذا حالك ليست جيدة على الإطلاق؟
طلبت السيدة ماكماهيليان من ابنتها بعد أن أعادت "ليست جيدة على الإطلاق":
- السيد غريغوري صديق ماك الحميم، قولي له لماذا حالك ليست جيدة على الإطلاق؟
صاحت ميراندا غاضبة:
- ولكن حالي ليست "ليست جيدة على الإطلاق"، حالي جيدة جدًا، ليس لأن ماك حاول اغتصابي لما كنت في الخامسة عشرة، أي منذ خمس سنوات، ستكون حالي ليست جيدة على الإطلاق.
سألتُ بتنبه:
- ماك حاول اغتصابك منذ خمس سنوات؟
أضافت الآنسة ستيوارت:
- منذ خمس سنوات، والآن فقط تقولين هذا، يا آنسة ميراندا؟
- إنها فكرة أمي، أليس كذلك، يا أمي؟ وأنا أؤكد لكم أنني في حال جيدة جدًا، جيدة جدًا جدًا.
رمت السيدة ماكماهيليان:
- ستذهب ابنتي إلى المحاكم.
صحت:
- كيف؟
- سترفع قضية على ماك لمحاولة اغتصاب، فحالها ليست جيدة على الإطلاق. منذ ذلك الوقت، وهي تعاني من صدمة نفسية.
صاحت ميراندا:
- ماذا؟ أعاني من صدمة نفسية!
- وحالك ليست جيدة على الإطلاق.
رددت ميراندا، وهي تطلق قهقهاتها الهازئة:
- مريضة هذه المرأة! مريضة هذه المرأة!
ثم فقعت علكتها فقعات متواصلة وعلى وجهها تبدو أمارات القرف:
توجهتُ للسيدة ماكماهيليان:
- سنتحدث في الأمر، يا سيدة ماكماهيليان، عديني ألا تفعلي شيئًا قبل أن نعود إلى التحدث في الأمر.
- ميراندا حالها ليست جيدة على الإطلاق.
- مريضة هذه المرأة! مريضة هذه المرأة!
- عديني، أوكي؟ عديني!
- ليست جيدة على الإطلاق.
قذفت ميراندا المجلة على طول يدها، ونهضت بغضب خارجة.
- أوكي؟ أوكي؟
تضاعفت القيامة في الخارج مع خروج أعضاء مجلس الإدارة، وتحلُّق كافة الموظفين بهم. لا بد أن يحدث هذا في جهنم، والبشر يلقون بأنفسهم في نارها. أخذ بانكو، نائب الرئيس المدير العام، الكلام:
- البنك العالمي هو عالمي بفضل جهدنا جميعًا وليس بفضل شخص واحد فقط منا مهما أوتي هذا الشخص من عبقرية، وإن كنتَ ريحًا فصادفتَ إعصارًا همك الأوحد هو حفظ هذا البنك والاستمرار في خدماته التي يقدمها للعالم، لهذا على الرغم من افتراض براءة السيد ماكبث، قررنا إقالته من منصبه كرئيس مدير عام ونزع كافة صلاحياته مقابل تشكيل لجنة تدير مؤسستنا حتى انتخاب رئيس مدير عام جديد.
تركتُ الآنسة ستيوارت إلى جانب السيدة ماكماهيليان، وانسحبت وسط صراخ البشر في الجحيم. كانت السيدة ماكماهليان في أسوأ حالاتها، لم تكن سعيدة بما تفعل. حقًا عندما يسقط المرء، يترك نفسه فريسة لأعدائه، حتى الأصدقاء يصبحون أعداء، يريدون منه حصة. ذهبت في الحال إلى أحد البارات، وطلبت كأس ويسكي دوبل ناشف، وكل الرواد يتابعون "مسلسل" ماك من تلفزيون معلق على جدار. كأن حفلة للأطفال كانت في البار، فالزبائن كلهم، المع والضد بخصوص قضية ماك، كانوا سعداء. كان شاب أشقر يرتعش من شدة إعجابه بماكبث، وكان يتخيل نفسه مكانه:
- لو كنت ماك لفعلت أكثر، لاغتصبت كل نساء نيويورك، ولجعلت من نيويورك ماخورًا مفتوحًا للكوزا نوسترا.
قال ثان أسود، وهو يبتسم ما وسعه الابتسام:
- ولكنه مريض، يا هذا، يهلوس بفرج المرأة ليل نهار، وهي مريضة أكثر منه، تلك القحبة، تظن أن رجلها مغارة علي بابا، ومع ذلك، بفضل رجلك سنقيم العدالة بين السود والبيض، كما تُغتصب نساؤنا تُغتصب نساؤكم.
قال ثالث أسود، وهو يدور حول نفسه بسرعة الضوء كمن يرقص الهيب هوب في الهواء:
- ولكنها مرغته في الوحل هو واسمه وشهرته وعائلته، في الوحل، هذا شيء لا يجوز، هذا شيء يلطخ أفريقيا، يلطخنا كلنا.
قال رابع أسمر، وهو يقهقه قهقهة الرابح لمليون دولار:
- يلطخ أم لا يلطخ، رب المال يتصور أنه سيفلت من كل عقاب.
عاد الأول يقول:
- رب المال يفلت من كل عقاب، وسترى، لن ينام أكثر من ليلة في ريكرز آيلاند.
عاد الثاني يقول:
- سَتُنْفَقُ الأموال، الأموال الكثيرة، الملايين من الأموال.
عاد الثالث يقول:
- وهي لماذا فعلت ما فعلت تلك القحبة؟ من أجل أن تُنفق الملايين من الأموال.
عاد الرابع يقول:
- كلها تمثيلية، تمثيلية تلفزيونية، تمثيلية تلفزيونية لتسليتنا.
سكت الكل على رئيس البلدية:
- ماك بفعلته هذه، بالطبع مع افتراض البراءة، أضاع فرصته التي لن تتكرر ثانية للذهاب إلى البيت الأبيض، أرقام التحقيق في الرأي العام في سقوط حر، 70 بالمائة أمس و25 بالمائة اليوم...
قاطعه الأشقر المتحمس لماك:
- كومة خراء! كذاب! أكبر كذاب! ماكبث سيكون أعظم رئيس للولايات المتحدة، أيها المغفل!
- بفعلته هذه، تابع عمدة نيويورك، ماك حطم أسطورة البنك العالمي الذي أقيل من منصبه كرئيس مدير عام له، وأثبت أن الأزمة لا توجد في الرؤوس، وإنما في كل أنحاء العالم، ورئيسنا الحالي وحده القوي المهاب عالميًا المحنك محليًا الخبير القدير القادر على تسديد الديون إذا ما أعطاه الشعب الأمريكي الثقة لعهدة ثانية.
هذه المرة، أثار رئيس بلدية نيويورك احتجاج كل من في البار، فراح كل منهم يشتم من طرف. جرعت كأسي، ورميت عددًا من الدولارات قبل أن آخذ طريقي إلى بيتي.

* * *

كانت مجموعة من الحراس وكلابهم على رأسهم الرقيب أول ماكنامارا يبحثون في ضباب الغروب عن الخمسة الفارين من السجناء، عصابة الفهود السود، كما كانوا يطلقون على أنفسهم. والحقيقة أن الرقيب أول كانون جونيور هو من ساعدهم على الهرب، وهو من أرسل أحد أعوانه للإخبار عنهم. كان الكل يعلم في ريكرز آيلاند بالصراع الدائم بين الرقيبين أولين من أجل الهيمنة على نزلاء السجن الرهيب واستغلالهم، ولأن عصابة الفهود السود عرفت الكثير من ألاعيب الرقيب أول كانون جونيور، وأصبحت تشكل خطرًا عليه، فبرك عملية الفرار للتخلص من أفرادها، وعلى الخصوص من زعيمها الأسود المدعو بُواء، ذلك الثعبان الرهيب. كانت أسهل طريقة للخروج من الأبواب الحديدية المتعددة تعدد أبواب الجحيم الواحد بعد الآخر والتي تصل في عددها أحيانًا إلى العشرة، أن يتم هربهم في شاحنات الغسيل. طريقة سهلة إذا كانت محروسة من طرف أعوان الرقيب أول كانون جونيور. وكيلا يقع الفارون بأيدي حراس بوابة الجزيرة، كان على الفهود السود أن يتدبروا أمرهم، قبل وصول شاحنات الغسيل إلى البوابة، بتواطؤ السائقين طبعًا. وأن يتدبروا أمرهم يعني أن يقطعوا نهر الإيست ريفر عومًا حتى البرونكس، ومن جهةٍ لم تكن محاطةً ببرك التماسيح، أقربها كانت قرب بوابة الخروج. كانت العصابة تعلم بسوء نية الرقيب أول كانون جونيور، فهي لخبراتها الجرائمية تحدس هذا النوع من الوقيعة، لكنها كانت تراهن على عشر دقائق بين الانطلاق وبداية المطاردة تكون فيها قد اجتازت بسكاكينها النهر من إحدى برك التماسيح. نعم، من إحدى برك التماسيح، فالتماسيح أقل خطرًا من حراس ريكرز آيلاند الفظيعين، والمخاطرة بالحياة، بحياة أقرب إلى حياة المسخ من الحيوان في السجن الرهيب، لم تعد أمرًا بذي بال. ولكن ما لم يعلمه الفهود السود أن الرقيب أول ماكنامارا كان بانتظارهم قبل هذا الوقت بكثير، وأنه لن يكون هناك انطلاق، وأن المطاردة ستبدأ أول ما يطأون أرض الجزيرة بأقدامهم.
لم تمض أكثر من ساعة على المطاردة حتى تم للرقيب أول ماكنامارا القضاء على أعدائه، كانوا خمسة، الأول انقضّت عليه الكلاب الشرسة، ومزقته بأسنانها، والثاني خردقته رشاشات الحراس عدة مرات من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، والثالث الذي سقط بسكينه من شجرة على أحد الحراس وذبحه، ذبحوه كما ذبح زميلهم، والرابع حاصروه، ليجد نفسه مضطرًا إلى أن يرمي بنفسه بين أسنان التماسيح، فكان لها أمتع وليمة، والخامس، بُواء زعيمهم، تسلى الرقيب أول ماكنامارا بقتله تدريجيًا: هذه الرصاصة في كتفك اليمنى لأنك قذر، وهذه الرصاصة في كتفك اليسرى لأن أباك قذر، وهذه الرصاصة في ساقك اليمنى لأن أمك قذرة، وهذه الرصاصة في ساقك اليسرى لأن أختك قحبة، وهذه الرصاصة في قدمك اليمنى لأنك فضلت التعاون مع الرقيب أول كانون جونيور الذي باعك ببلاش، قذر مثلك ومثل أبيك وأمك وأختك، وهذه الرصاصة في قدمك اليسرى، لأني أطرب على صراخك القذر، ويدفعني صراخك القدر هذا أيها القذر إلى ارتكاب كل الموبقات، وهذه الرصاصة في مخك كي أبعث بك إلى الجحيم دون عودة، يا ابن القحبة! بصق عليه، وأخذ يضرب جثته بقدمه الضربات تلو الضربات، وهو يردد: بُواء! كان يسمي نفسه بُواء هذا القذر ابن القذر! عضني، يا ابن القحبة! هيا، عضني كما كنت تفعل في الماضي! عضني أيها الثعبان القذر! عضني! عضني! عضني! إلى أن فتك به التعب. جاء أعوانه، وضربوا الجثة بأقدامهم كما ضربها، في دمها، في بصاقها، في غائطها، وفي كل مرة كانوا يدفعونها قليلاً إلى أن وصلوا بها إلى أفواه التماسيح المفتوحة على سعتها، وألقوها بين أسنانها.
حقًا كان الرقيبان أوّلان من أشد الأعداء لبعضهما، لكن عندما يشعران بالخطر يهددهما كانا يتحالفان، ويغدو الواحد للآخر من أكثر الناس إخلاصًا.
- لقد خلصتك من بُواء، ذاك القذر ابن القذر، والآن يأتي دورك، قال الرقيب أول ماكنامارا للرقيب أول كانون جونيور.
- أنت أيضًا تغرق في الخراء؟
- إلى قمة رأسي.
- ولكنه مدللك، القرن الكبير.
- كما كان بُواء مدللك.
- ولكنه مجرم المجرمين، القرن الكبير.
- لديه نقطة ضعف يمكن التسلل منها.
- سأرى ما يمكنني فعله من أجلك.
- الحرب ما بيننا انتهت، رقيب أول كانون جونيور.
- أتظن ذلك، رقيب أول ماكنامارا؟ في هذا المعتقل الذي لا يمشي إلا بالحرب.
- الحرب ما بيننا انتهت، وما بيننا وبين غيرنا بدأت.
- هكذا أفهمك.
- وماذا تقول عن ذاك القذر الآخر ابن القذر؟
- القرن الكبير؟ لم يعد الأمر بذي بال طالما تركته يسقط.
في المساء نفسه، بعد تحقيق طال مع ماك في مكاتب الإف بي آي، أحضروه إلى السجن الرهيب، فقال الرقيب أول كانون جونيور لا تحيز لأبناء المليارديرات المتبهرجين، وخاصة في تهمة اغتصاب أكساس واحتجاز منظفات خراء، ورمى بماك في زنزانة القرن الكبير وعصابته.
استقبل أفراد العصابة السبعة ماك بلامبالاة، وباحتقارٍ كانوا يرمونه بنظراتهم. كان رئيسهم الأسود العملاق المدعو بالقرن الكبير ينشر قضيبًا من عشرات القضبان المزروعة في كوة الزنزانة على مرأى الحراس دون أدنى قلق، حتى أن بعضهم أطل من بين قضبان الباب الحديدي، وراحوا به ساخرين: كم سيحتاجك من الوقت لنشر كل هذا؟ إلى قرن من الزمان؟ كل هذا لتسليتك؟ قل إنك تتسلى! قل إن هذا يدغدغك! يدغدغك من بيضاتك الثقيلة! أو من كهفك المفغور ككهف أمك! انفجروا ضاحكين، وذهبوا، بينما استمر القرن الكبير في نشر القضيب عابسًا. كان ماك قد صعد على سريره، واستلقى في ثياب السجن. وبعد قليل، سمع القرن الكبير يقول لأحدهم أن يأخذ مكانه، ولم يتحرك أحد في الزنزانة. تلفت ماكبث من حوله، فعرف أنه المقصود.
- أنا؟
- أنت! وهل يوجد أحد غيرك في الزنزانة؟ كل هؤلاء نساء لا تُعتبر.
نظر ماك إلى نزلاء الزنزانة بسحنهم الإجرامية الخشنة، وتحرك ليأخذ مكان القرن الكبير. بدأ بنشر القضيب لكن المنشار سقط من يده، وجرحه جرحًا طفيفًا، فانفجر الموجودون في ضحكة واحدة، بينما بقي القرن الكبير عابسًا.
قال القرن الكبير، وهو يقبض على ماك من عنقه ويثنيه:
- امسك هكذا، وانشر هكذا، وكن رجلاً لا ابنًا للماما!
أطاع ماك، وبعد قليل من التعثر، راح المنشار يعمل بين أصابعه عمل قوس الكمان.
- أنتم تحذقون في كل شيء، يا أبناء الماما، حتى في قص القضيب الذي سأحشوه في قفاك!
جمدت أصابع ماك على سماعه لما قاله القرن الكبير، استرق النظر إليه، فوجد لا أكثر منه جدية. في قفاي! فكر ماك مرتعبًا. وفجأة، رمى المنشار، وابتعد عن الطاقة، وهو يقول للقرن الكبير:
- أنت لست جادًا، يا مالكولم، وأنا يمكنني أن أنفعك، لدي من المال ما يجعلك تقضي الباقي من حياتك في نعيم الدنيا.
انفجر القرن الكبير مقهقهًا:
- الباقي من حياتي؟
وانفجر كل من هم في الزنزانة مقهقهين.
- أقضي الباقي من حياتي؟
وقهقه من جديد والكل في آنٍ معه.
- في نعيم الدنيا؟
وصلت قهقهات أفراد العصابة الأوج، فخنقها القرن الكبير بحركة جافة من يده، وقال لماك عابسًا:
- نعيمي هنا وجحيمي هنا حتى آخر يوم من حياتي، يا ابن الماما!
تلعثم ماك:
- انتظر، يا مالكولم! سأفعل كل ما بوسعى من أجلك.
قهقه الأسود العملاق نصف قهقهة:
- افعل بالأحرى كل ما بوسعك من أجلك أنت، يا ابن الماما، فلن تخرج من هذا النعيم سالمًا.
- لا، يا مالكولم، رجاء!
- يا مالكولم قفاي!
عاد ماك بسرعة إلى أخذ مكانه على الطاقة، وراح يعزف على الكمان محاولاً أن يتجاهل كل ما يدور في رأس هذا المجرم.
- قالوا في التلفزيون إنك ملأت فمها بقذارتك، أُخَيتي الصغيرة، وكنت سريعًا وأهوج ككلِّ ابنٍ للماما. ربما كنت تفضل أن نعلمك أحسن الطرق، فنحن كثيرون، ويسعدنا أن نعلمك أحسن الطرق، حتى ابتلاع الجحيم والاختناق، حتى قيء الخراء الذي في أمعائك، أن نعلمك أحسن الطرق.
انكسر القضيب في يد ماك، فقهقه كل الموجودين.
- اختار القضيب عنك، يا ابن الماما!
نهض أربعة من أكثر الموجودين جرمًا ودمامة، وتقدموا من ماك ببطء، فقذف القضيب من كوة الزنزانة ليمنعه السياج من السقوط. جذبه المجرمون الأربعة، وجردوه من ثيابه، وماك يصرخ مستنجدًا ولا أحد من الحراس يجيء لنجدته. جاء شبح دانكان، وجاء شبح مالكولم، فحاول ماكبث طردهما دون فائدة، بينما هما يقهقهان. قلبوه على بطنه، فتناول مخدة أخفى رأسه تحتها، بينما أخذ كل واحد من أفراد العصابة يقضي حاجته. كان ماك في البداية يصرخ، وبعد ذلك أخذ يئن، ثم صمت تمامًا، وتركهم يعبثون بجسده كما طاب لهم. تمكن أحدهم من سحب القضيب بأصابع قدمه، وجاء به إلى القرن الكبير، فدفعه في ماك، بينما عاد إلى التفجر صياحًا والدم يتفجر منه أنهارًا. عندما جاء الحراس، وجدوه غائبًا عن الوعي.
رموهم كلهم في زنازين ريكرز آيلاند التحت الأرضية، وأخذوا بهم ضربًا حتى أوصلوهم إلى حافة قبورهم، ثم بإشارة من رأس الرقيب أول كانون جونيور، تم قصم أعناقهم، كلهم، الواحد بعد الآخر، وأولهم القرن الكبير.
* * *

وضعتنا الليموزينة، أنا وجين والآنسة ستيوارت، على باب محكمة نيويورك. وعلى باب محكمة نيويورك، كان العشرات بل المئات من الصحفيين وأجهزة التصوير والكاميرات التي لا تخفى عنها خافية. كانت جين ترتدي طقمًا أسود، وتخفي عينيها الحمراوين المنتفختين لكثرة ما بكت بنظارات سوداء، وفي الواقع لتخفي عارها، وبنا أحاط الحراس الخاصون كالدروع من كل جانب. ونحن نصعد درجات المحكمة، تحت صيحات معادية لنساء من كل لون يمثلن الجمعيات النسوية، التفتُّ إليهن، ووقفت وجهًا لوجه معهن، كما لو كنا طيورًا من نوعين مختلفين، ومن شدة الحنق رميت في وجوههن:
- ماك دومًا ما عامل المرأة كشريك وكنِدّ، وكل هذه القضية لأن هناك حسابات للمرأة دنيئة!
كان نصيبي كجواب أن رشقنني بالبندورة الفاسدة والبيض المَذِر، ولولا الدروع للوثني "قذف" النساء. عجلنا الدخول إلى قاعة المحكمة، كان ماك هناك مع محاميه الأستاذ جوزيف ماكدويل، وكان هناك النائب العام ووكيلة النائب العام، وكان هناك الحضور، الذين بعضهم كان واقفًا. دلف القاضي إلى منصته، فأمرنا الحاجب بالنهوض، فنهضنا، ثم أمرنا بالجلوس، فجلسنا. وفي الحال، في نظام قضائي اتهامي، بدأ النائب العام يعدد الأعباء ضد ماك، واحدًا واحدًا: اغتصاب واعتداء واحتجاز و... و... و... وطلب في الأخير إعادة المتهم إلى ريكرز آيلاند على ذمة التحقيق. خلال كل ذلك، كنت أنظر إلى صديقي، فأرى أنه تغير بين يوم وليلة. بدا لي مريضًا، وقسمات وجهه التي عهدي بها متفجرة بالحياة والتحدي، بدت لي ميتة. كنت أخشى عليه من شحنة انفعالية، بمعنى ما تولده فكرة من ارتكاسات في المرء، فكرة سوداء جهنمية، فكرة من أفكار ريكرز آيلاند تغير الحياة. وردًا على النائب العام، قال الأستاذ جوزيف ماكدويل إن موكله لا يعترف بكل هذه التهم، وهو يرافع عنه بوصفه غير مذنب. أضاف أن موكله على استعداد لدفع كفالة بالمبلغ الذي يقرره السيد القاضي مقابل ألا يعود إلى ريكرز آيلاند.
- مائة مليون دولار! طن القاضي تحت صرخات الحضور المشدوهة.
ثم...
- سكوت! صاح القاضي، وهو يضرب بقدومه الخشبي. القضية فاحشة العظمة، وأنا شخصيًا، طوال حياتي المهنية، لم أر مثلها اثنتين، ومن تدور حوله أعظم، إنه واحد من أعظم العظماء، من هنا تأتي ضخامة المبلغ، إلى جانب سحب كل جوازات سفر المتهم، الأمريكي، والإيطالي، والصيني، والفرنسي، والسعودي. أضف إلى ذلك، وضعه تحت الحراسة الأمنية والفيديوية ليل نهار، وعدم مغادرة شقته. سيبقى محتجزًا إلى أن يتم دفع الكفالة نقدًا. الجلسة القادمة خلال أسبوع لإتمام التحقيق. رفعت الجلسة.
وماك يغادر قاعة المحكمة مع رجال الأمن والإف بي آي، ألقى علينا نظرة الخجول كما لو كان يريد أن يقول: حتى الآلهة يقومون بحماقات مثلي! ابتسم لجين ابتسامة خاطفة، ابتسامة ميتة، ابتسامة لميت. هذا الرجل العظيم الذي فضل فرج المرأة على البيت الأبيض، وضرب كل شيء عُرْضَ الحائط، شيء لا يفعله سوى مجنون أو إله. انفجرت جين باكية، فأخذتها الآنسة ستيوارت بين ذراعيها بعد أن سجلت كل شيء في مذكرتها، وخرجنا كما دخلنا تحت الصرخات العدائية للجمعيات النسوية والبندورة الفاسدة والبيض المَذِر. تركنا الصحافيين للأستاذ جوزيف ماكدويل، وما أن وجدنا أنفسنا في السيارة وحدنا، نحن الثلاثة، حتى رفعت جين نظارتها السوداء عن عينيها الحمراوين المنتفختين، وقالت لم يكن لزوجها البنك العالمي من أجل دفع الكفالة، كان الرئيس المدير العام، بمرتب أكثر من جيد هذا صحيح، لكن المليار اليومي لم يكن يضعه في جيبه، لهذا سوف تبيع بعض اللوحات أو ترهن الشقة، فهي مكتوبة باسمها.
- لن تبيعي أو ترهني أي شيء، سأتدبر الأمر، قلت.
أعادتنا الليموزينة إلى الشارع 65، ومن هناك أخذت والآنسة ستيوارت سيارتي إلى الملاك الأصفر.
تفاجأنا بياما نصف عارية، وهي تدخن الغليون مع العود الأحمر في ثياب رأس التنين، وتشرب كحول الرز. قالت لنا بجلافة، أن لا مكان لنا هنا، فالعود الأحمر حل محل ماك على رأس الثالوث.
- قل لهم، يا 489.
- كما قالت 438.
- وأموال ماك، أينها؟ سألت. يجب دفع الكفالة، مائة مليون دولار، لتجنب عودته إلى ريكرز آيلاند.
- فليعد إلى الشيطان، يبقى الأمر أمره!
وانفجرت تقهقه ورأس التنين الجديد، بينما هذا يردد بلكنته الصينية:
- فليعد إلى الشيطان! فليعد إلى الشيطان!
وكأني بياما تقول: عندما يسقط الرأس نأتي بآخر بدله، ونتصرف بالجسد كما نشاء. حضرت ثلاث مدلكات شبه عاريات، وهن يضعن الأموال في صينية نحاسية، فشتمتهن ياما بالصينية، والآنسة ستيوارت تترجم لي، قالت لهن كل هذه الأموال لا تكفي، وعليهن أن يعملن على مضاعفتها ضعفين بل ثلاثة أربعة خمسة عشرة مائة ألف. ذهبنا أنا والآنسة ستيوارت من حيث ذهبن، فشاهدنا عناقات من جهنم بين الزبائن والمدلكات. كانت بعضهن يفعلن هذا، وهن يذرفن الدموع الحرى.
ومن الملاك الأصفر ذهبنا أنا والآنسة ستيوارت إلى الكلب اليقظ، كانت علبة الليل ملأى بمن هب ودب من المخمورين ولما يسقط الليل بعد. لم تشأ كلوديا استقبالنا، قالت عنها مشغولة، لكننا اقتحمنا المكتب عليها لنجدها تشرب وتنكح مع رؤساء المافيا الثلاثة، لاكي لوتشيانو جيل ثالث وفرانك كوستيللو جيل ثالث وجو أدونيس جيل ثالث. حدثناهم عن الملايين المائة كفالة، فقالت كلوديا:
- دون دييغو ورط نفسه بنفسه، وأنا لست مسئولة عن شيء، لست مسئولة عن لا شيء، وعلبة الليل غدت تحت إمرة لوتشيانو جيل ثالث وكاستيللو جيل ثالث وأدونيس جيل ثالث.
- اشتريناها بعرق إليات نادلاتنا، قال أدونيس جيل ثالث، وانفجر ضاحكًا.
- قليل من الذوق، بصحبتنا عذراء، قال كوستيللو جيل ثالث، وهو يشير إلى الآنسة ستيوارت، وانفجر ضاحكًا.
- تعالي بين ذراعيّ، قال لوتشيانو جيل ثالث، وهو يجذب الآنسة ستيوارت، فضربته بحذائها على رأسه، وهو يقهقه.
- لا مكان لكما هنا! نبرت كلوديا، وصفقت مرتين، ليدخل الحراس المدججون بالسلاح، ويضعونا على الباب.
أجريت بعض اتصالات هاتفية بأصدقائي، وتدبرت أمر جمع المبلغ المطلوب. بعد ساعة، كنت في مكاتب قاضي نيويورك. سلمتهم المائة مليون دولار عدًا ونقدًا، وأخذت بها وصلاً تمكنت بواسطته إخراج صديقي المحتجز.

* * *

الأسبوع السابق للجلسة الثانية في المحكمة كان لا يصدق مع كل الكاميرات هذه وكل أفراد الأمن هؤلاء، كاميرات في كل مكان، في كل مكان، وأفراد أمن في كل مكان، في كل مكان، حتى في الحمام، حتى في بيت الماء. لم يكن يمكننا فعل أي شيء بحرية، وكانت حياتنا الخاصة معتدى عليها. في أحد المساءات، تسللت إلى حجرة الآنسة ستيوارت، أخذتني بين ذراعيها تحت اللحاف، فإذا بحارسة تدخل علينا، وترفع الغطاء عنا. كانت المرأة الحمراء تريدني أن أعوم معها على الرغم من كل شيء، لكني أشرت إلى الحارسة، واعتذرت. كيف ستكون لديك رغبة في شيء بعد ذلك؟ لم يكن يمكننا الحديث كما نريد، لم يكن يمكننا الحديث بلغة مشفرة، لم يكن يمكننا الحديث بالإشارة، لم يكن يمكننا الحديث بالكتابة. وعندما كانت الأفكار تفلت من رؤوسنا، كنا نقول ما نقول، ولا نهتم بالنتائج.
- ميراندا، هل حاولت اغتصابها، يا ماكبث؟
- لا، كل ما هنالك أنني أخذت منها قبلة.
- أنت متأكد، يا ماكبث؟
- لا أدري ما الذي دفعني إلى ذلك. كان الأمر طبيعيًا لدي، كنت أنام مع الأم، وأردت النوم مع الابنة.
- والبنت، ميراندا، ماذا كان رد فعلها؟
- البنت بنهديها العظيمين وإليتيها العُظميين لم تكن بنتًا، كانت بين ذراعيّ كبالغ، كامرأة بأتم معنى الكلمة، وكانت تريد مني أكثر من قبلة، كانت تريد مني أن أغتصبها بالفعل، لكني أبعدتها بلطف، وذهبت.
- أنا على أي حال سأدفع، عشرين، خمسين، مائة ألف، مائتين، نصف مليون، مليون، سأدفع. أمها عازمة على الذهاب إلى المحاكم.
- لا تدفع. أمها مجنونة، فقط لا غير. منذ خمس سنين لم تنطق بكلمة، واليوم، مع كل ما يجري اليوم وجدتها فرصة للاغتناء على ظهر فرج ابنتها الذي لم أمسسه أبدًا، بماذا أحلف لك؟ لا تدفع.
- بل سأدفع.
- قلت لك لا تدفع.
- القُبَل القديمة غالية جدًا، كما ترى، قبلة الخمس سنوات تصبح أغلى، كالنبيذ القديم، من قبلة ساعة أو يومين أو شهرين.
- لا تدفع. قلت لك لا تدفع.
- بل سأدفع.
كان ماك يقضي نهاره نائمًا، يرمي رأسه فوق مسند الكنبة أو يدفنه بين يديه، تحت أعين الحراس والكاميرات، وينام. كان ينام طول الوقت، وكنت أراه يسمن بسرعة، ويكبر، فأقول لنفسي لقد تغير ماك، ارتكاسات ما يجري عليه عظيمة ورهيبة. كان يعرف نقطة ضعفه، ويتجاهلها، وكل أعدائه كانوا هناك، بانتظار أن تزل به القدم، لعجزهم أمام الجبل الذي لا تهزه الرياح، وكانوا من كل الأكوان، الكون السياسي، والكون المالي، والكون الجنسي، والكون المافيوي، والكون الشيطاني، والكون الغائطي، من كل الأكوان، من كل الأكوان، ولم يطل بهم الانتظار كثيرًا. لم يتآمروا عليه، وتآمروا كلهم عليه. نقطة ضعفه كانت مؤامرتهم عليه، كانت مؤامرته على نفسه، وبعد ذلك، ترك لهم نفسه كلها كمن يترك المرء جسده للطعنات، وتم كل شيء على حسابه. لم يعد هو، لم تعد طبائعه هي ذاتها، كانت على الخصوص فطرته الدافعة إياه إلى حب النساء قد زالت، قد ماتت. في الليل، حسب الحراس والكاميرات، كانت جين هي من تطلبه، من تنط عليه، وتمارس ما تمارس، وهو ساكن سكون الموتى، يفتح عينيه، وينظر في البهيم، يبتسم للشيء الغامض، يجمجم: أنا أعتذر، يا دانكان! أنا أعتذر، يا مالكولم! بعد كل ما حصل، أنا أعتذر لكليكما! أعرف أنكما لن تقبلا اعتذاري، لأنكما لن ترضيا بندمي، وأنا على كل حال لست نادمًا على ما فعلت، أنا نادم على ما لم أفعل. إنها رؤاي، جنوني، كما تقول جين، وأنا بيد جنوني مجرد أداة، وإلا ما كنت قادرًا على مواجهة الذات، مواجهة العالم. قدري يصنعه الجنون، وما يتبع أتركه للغير. على الغير أن يتحمل التبعيات، أن يشاركني على الأقل فيها. داناوي، طعم قبلاتك، آه ما أزكاه! بعد موتك، لقبلاتك مذاق التين الأسود! سأريحك مني بقتلك من جديد، سأريح مالكولم. كان ماك ينهض، وبسكين يطعن الشبحين اللذين يكلمهما، إلى أن يوقفه رجال الإف بي آي، وهم يظنون أن ماك قد فقد عقله.
تابعنا على الشاشة الصغيرة كل وقائع جلسة غريمة ماك، قال لي صديقي كل هذا كذب، لأنها كانت راضية. وبالفعل، بعد عدة أيام، تسربت الأخبار من مكتب النائب العام عن تناقضات هذه السيدة في أقوالها وأفعالها، وبدأ الحديث عن تسجيل لمكالمة هاتفية بينها وبين عشيق لها تقول فيها إنها تعرف جيدًا ما تفعل. خلال ذلك، كانت التحريات سارية على قدم وساق بتكليف من محامي ماكبث الأستاذ جوزيف ماكدويل. ذهب رجال التحري حتى قريتها الإفريقية البعيدة، ونبشوا كل ماضيها، لم يكن كل ماضيها بريئًا. أنا لا أدين هذه المرأة، أدانها شرطها الإفريقي. وحتى من هذه الناحية، أنا لا أدينها. شرطها الأمريكي شيء آخر، شيء أقرب إلى الكابوس. بالنسبة لمنظفة فندق، شرطها الأمريكي كابوس، لا شيء غير كابوس. في أفريقيا يحزون النساء، ألا يكفي هذا ثمنًا لكل شيء؟ ألا يكفي هذا للمطالبة بأكبر ثمن "لغلطة صغيرة"؟ الكابوس الأمريكي هذا هو، غلطة صغيرة ذات أكثر ثمن. إنه أجمل كابوس. لامرأة إفريقية محزوزة إنه أروع كابوس، إنه الصراخ المبحوح لكل نسائنا. نساء لم يقطعهن مشرط وحشيّ. الصراخ المسعور في الفراش. الخدش البربري بأظافر مدللة. العض الهمجي بأسنان لا تحتاج إلى الذهاب عند طبيب الأسنان لبياضها الناصع. العض، فقط العض، وليكون الوجع أكثر ما يكون. العض من المهبل. فقط العض. لتقول نساؤنا لرجالهن أنتم تحسنون العض، وهذا هو كل شرطنا لنكون نساء غير إفريقيات، غير محزوزات.
توقعت أن تبدو على وجه صديقي بوادر الأمل والعودة إلى ما دأب عليه من فطرة، ما دأب عليه من فطرة في كل شيء، لكنه داوم على رمي رأسه فوق مسند الكنبة أو دفنه بين يديه، والذهاب غافيًا. لم يكن يهرب من الخطر، فكل الخطر تركه من ورائه. كان فقط يدفن رأسه بين يديه أو يرميه فوق مسند الكنبة، وكأنه يبحث عن شيء، وكأنه يتأهب لفعل شيء. كان يركض في رأسه، كما لو كان يريد التدرب على الركض من جديد، من أجل سباق قادم ليس فيه من الهرب شيء، ربما الهرب من حياته الماضية، علاقاته، ثقته الكبيرة بنفسه، أوهامه، أوهامه النسائية، أوهامه المالية، أوهامه الشيطانية، الخلاقة الهدامة في آن، أوهامه، على أن يُبقي بعضها كي يظل إنسانًا مثلنا، نحن الذين تطاردنا الأوهام منذ زمن آدم. كنت أراه يلهث، وهو يغلق عينيه، فأقول لنفسي إنه يركض كثيرًا في رأسه، فأتركه يفعل، ولا أوقظه. لكن ذلك لم يخفف من انطوائه على نفسه، بل على العكس. لم يكن يتكلم كثيرًا، ليس بسبب الكاميرات المزروعة في كل مكان، فلم يعد لديه ما يقوله، والحق يقال ماذا يقول وكل هذا الخراء الذي غدا شرط حياته. كان يركض في رأسه، يركض، يركض، ولا ينظر إلى الخلف، يركض، فقط يركض، بأقصى سرعة، ويأخذ باللهاث، وهو مغمض العينين، وأحيانًا بقول بضع كلمات ليست مفهومة. الأولاد؟ هناك من يلعب تحت المطر.
ونحن نصعد درجات محكمة نيويورك بين الهتافات النسائية المعادية وتحت آلاف الفلاشات، التفت ماك إلى كل تلك النساء الشريرات، ورسم على شفتيه ابتسامة صغيرة، ابتسامة مهولة، جعلتهن كلهن يخرسن، ثم وضع يده في يد جين، ودخل المحكمة، ونحن، أنا والآنسة ستيوارت والحراس الخاصون وغير الخاصين، نتبع كلنا من ورائه. ابتسامة أقرب إلى ابتسامة الموناليزا، ابتسامة غريبة ليست لرجل ولا لامرأة، ابتسامة، لا لشيء غامض أو لغيره، فقط ابتسامة، لكنها مهولة.
اعترفت وكيلة النائب العام بعدم مصداقية أقوال الشاكية، وأبدى الأستاذ جوزيف ماكدويل عن رغبته في الكشف للقاضي عما يملكه من معلومات دامغة ليست في صالح الشاكية، فرفع القاضي الإقامة الجبرية عن ماكبث، تحت شرط أن يبلّغ مسبقًا عن مكان تواجده خارج المنزل. حدد موعد الجلسة القادمة بعد أسبوعين، فهمس ماكدويل في إذن موكله:
- فلتنم منذ الآن خالي البال، يا ماكبث، حتى أنك في المرة القادمة لست بحاجة إلى الحضور، سأتكفل دونك بكل شيء.
ومن المحكمة، ذهبنا مباشرة إلى أفخم مطاعم نيويورك، تماسيح ريكرز آيلاند، ووضعت في يد النادل البخشيش مثل كل مرة.
ونحن على باب تماسيح ريكرز آيلاند، تنفس ماك الصعداء، وقال:
- في عالم منحط، كي نعيد بناء كل شيء، علينا أن نهدم كل شيء، وأول ما نهدم المخابئ التي تغيب فيها الرؤوس عن الأبصار.



































القسم الثالث

تركنا الدولارات الملايين المائة تحت تصرف ماك، فقال لي أَدْخُلُ بها شريكًا معك في تجارة المطاط. لم يكتف بالبرازيل كمصدّر للخام، لأن معارفه تتعدى هذا البلد إلى كل أنحاء العالم. غدت القارات الثلاث أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا تصدر لنا المطاط سائلاً، ونحن في مصانعنا نجعل منه مادة لعمل كل شيء من المُغّيطة إلى عجلة الطائرة. احتكرنا السوق في أمريكا وأوروبا وكل العالم في أشهر قليلة، وأخذت ثروتنا بالتضخم. أخذت ثروتنا بالتضخم، بالتضخم. أحذت ثروتنا بالتضخم، بالتضخم، بالتضخم، ولم تعد كل المشاريع في العالم تكفي ماكبث. كان كل ذلك بقدر عقله الجبار، وكان أهم المشاريع قاطبة استخراج المطاط من النفط، فعلاقاته القديمة مع أساطين بلدان الخليج الفارسي كرسها كلها في سبيل ذلك، صنع المطاط من النفط. بتكلفة أقل، وسعر أكثر، فتضخمت ثروتنا على تضخمها. تضخمت. تضخمت. تضخمت. تضخمت ثروتنا أكثر فأكثر. كان يقول لي النفط روح حضارتنا، لهذا حضارتنا رائحتها كريهة كرائحة النفط. حضارة رائحتها كريهة، لأنها حضارة مصنوعة من هذه القذارة التي لا تقدّر بثمن والتي اسمها النفط، وأنت عليك أن تكون قذرًا مثلها وإلا ما كنت على قدر المسئولية التي تلقى على كتفيك. أن تكون قذرًا. عليك أن تكون قذرًا. وأنا على طريقتي كنت قذرًا عندما دفعت المرأة الحمراء في البركة، وأذبتها. لم تعد تظهر لي، فقعدت لأنتظرها. إلى اليوم، وأنا أنتظرها. في أحد النهارات، قال لي ماك تعال، سنقوم بزيارة لبانكو، للرئيس المدير العام للبنك العالمي الذي كان مساعدي وأقالني ليأخذ مكاني دون أي احترام لافتراض البراءة. ذهبنا مع ماك أنا والآنسة ستيوارت والأستاذ جوزيف ماكدويل وكل الحراس الخاصين بمن فيهم كارل الحارس الخاص لجين إلى ناطحة السحاب شارع ويليام ستريت، وصعدنا إلى الطابق السابع والعشرين الذي اخترقنا قاعته الكبرى تحت وطأة الصمت المتنامي، وكل هؤلاء الموظفين يقعون على ماكبث لأول مرة بعد قضية أقامت الدنيا ولم تقعدها حتى بعد الحكم بالبراءة شهورًا عدة فيما بعد. اقتحمنا مكتب السيدة ماكماهيليان، فأرادت التصدي لنا، لكن رجال ماك عقدوا فمها بمنديل تحت عيني ابنتها ميراندا التي راحت تنطنط، وتصفق. وعندما رموا الأم على مقعدها، وسقطت للدفعة القوية على الأرض، ضربتها الابنة بقدمها، وانضمت إلينا. دفع ماك بقدمه باب بانكو المحتل لمكتبه، ودخل عليه دخول الصاعقة، ونحن كلنا من ورائه.
ردد الرجل، وهو يزلق في مقعده، ويدفن رأسه بين يديه:
- رويدًا ماك، رويدًا!
جذبه ماك من ربطة عنقه، وهدده:
- جئت فقط كي أقول لك إنني سأهدم هذا البنك على رأسك، وسأجعل منك شحاذًا في الوول ستريت.
نادى صديقي ميراندا كي تبصق عليه، فبصقت عليه، وهي تنطنط وتصفق. رماه بربطة عنقه، وأعطاه ظهره، ونحن فعلنا مثله. وبينما كنا نجتاز حجرة السيدة ماكماهليان من جديد، سمعنا صرخاتها المكتومة، ورأينا قدميها من تحت المكتب، وهي تضرب بهما، وميراندا عادت تنطنط وتصفق وتكركر. الشيء نفسه كان مع الموظفين، ضجة، فصمت بالتدريج، وصمت مطبق. انطبق باب المصعد علينا وميراندا معنا، وهبطنا إلى الطابق الأرضي، فالخارج، ومن هناك أخذنا طريقنا إلى الملاك الأصفر.
لم تكن ياما هناك، ولا رأس التنين الجديد. نزلنا إلى الطابق التحت الأرضي، فكانوا كلهم هناك، كل طبقات الثالوث كانت جالسة على الأرض هناك. وما أن رأوا ماكبث يدخل عليهم، حتى نهضوا كلهم، وانحنوا له طائعين، بمن فيهم العود الأحمر. انقض عليه رجال ماك، وهو يبرر ما فعله بالصينية. أدنوا فمه من نعل ماكبث، فمد لسانه، ولعقها. أشار ماك إلى اثنين من رجاله الصينيين، إلى اثنين 49، فعرفا في الحال ما عليهما أن يفعلا. جذبا العود الأحمر بعنف، وصعدا به لست أدري إلى أين.
أمر ماكبث ياما بالاقتراب:
- تعالي هنا، يا 438!
فتلعثمت:
- لا تلحق بي الأذى، يا 489.
- أريدك فقط أن تلبسي هذا الحذاء الحديدي كما كانت النساء يفعلن في الصين القديمة وذلك من أجل الاحتفاظ بقدمين صغيرتين جميلتين.
- ستلحق بي الأذى، يا 489.
- كل هذا فقط لجمال قدميك، يا 438.
- في عمري هذا ستلحق بي الأذى، يا 489.
- ولماذا لم تفكري في هذا من قبل، وأنا أكاد أموت بين قضبان ريكرز آيلاند، وأنا أعاني كل آلام البشر لا ككل البشر؟ لماذا لم تقولي سيُلحق بي الأذى لأني لم أعمل على الحيلولة دون أذاه، لماذا يا ياما؟
ركعت بين يديه، وراحت تقبله من قدميه، وهي تهمهم:
- لقد أخطأت، ولن أعود إلى ذلك أبدًا.
أشار ماك برأسه إلى مرافقيه غاضبًا، فرفعوها، وهي تصرخ، وزرعوا قدميها في الحذاء الحديدي الصغير والقدمان الكبيرتان تتكسران بعظمهما والدم يسيل كالنبع منهما. لم تحتمل الآنسة ستيوارت المشهد، ولا ميراندا التي خرجت بها. حملوا المعذبة إلى حجرة داخلية، وأقفلوا عليها بالمفتاح. كان حقد صديقي كبيرًا، هائلاً، لا يضاهيه حقد، حقد العظماء عندما يسقطون، ولا يجدون أحدًا إلى جانبهم. لم يكن حقد المتوعك، كان حقد المتعذب. أمس كان موضوعًا للتراجيديا، واليوم التراجيديا من صنعه. أعداؤه هم موضوعها. كل أعدائه واحدًا واحدًا، كلهم، كل واحد آتيه دوره. ليس الانتقام، التراجيديا. تحقيق ما يكمن لنا على بعد خطوات منا منذ مولدنا تحت شرط أن نرتكب خطأنا. لا، ليس الانتقام، فالطيور الخوافة تعرف كيف تُنهي خوفها عندما يضطرها الأمر إلى ذلك، وليس تراجيديًا أن تصنع تراجيديات الآخرين في سبيل أن تحول دون تراجيدياها. ليس الانتقام، التراجيديا. دانكان. مالكولم. كل الآخرين. جلسوا على الأرض كلهم، وراحوا يصغون.
قال مروحة الورق الأبيض:
- الأموال تضاعفت مع النظام الجديد، يا 489، بعد أن ضاعفنا الأسعار باتفاق مع كل صالونات التدليك في نيويورك، لكننا سنعود إلى ما عودتنا عليه في الماضي.
فاجأ ماك الجميع:
- ليستمر النظام الجديد، يا 415... والكل يطلق صيحة التعجب والاستغراب.
- نحن في حاجة إلى الكثير من الأموال، أوضح صديقي، هذا ما توجبه الظروف الجديدة، نحن بحاجة إلى الكثير الكثير من الأموال.
عادت ميراندا والآنسة ستيوارت، وراحتا تصغيان بانتباه. أضاف ماكبث:
- إذن لنترك العفة والطهارة جانبًا طالما يدر علينا هذا بالأرباح...
قاطعه مروحة الورق الأبيض:
- بالأرباح الطائلة.
- بالأرباح الطائلة. وسيكون الأمر ذاته في كل الفروع التي سنفتتحها إضافة إلى الفروع التي لنا في نيويورك وشتى المدن الأمريكية. والآن إليكم الثالوث الجديد: الطقوس والمجندون سيد البخور، 438، يحتفظ بمهماته...
نهض سيد البخور وهتف بالصينية ثم انحنى بين يدي ماك سمعًا وطاعة قبل أن يعود إلى مطرحه.
- المالية والإدارة مروحة الورق الأبيض، 415، يحتفظ بمهماته...
نهض مروحة الورق الأبيض وهتف بالصينية ثم انحنى بين يدي ماك سمعًا وطاعة قبل أن يعود إلى مطرحه.
- العلاقات والاتصالات صندل القش، 432، يحتفظ بمهماته...
نهض صندل القش وهتف بالصينية ثم انحنى بين يدي ماك سمعًا وطاعة قبل أن يعود إلى مطرحه.
- النظام والأمن العود الأحمر، 426، لا يبقى في مكانه، وسيحل محله...
أشار إلى حارس جين الخاص:
- كارل روجرز.
هب كل الصينيين واقفين احتجاجًا، فكارل روجرز ليس صينيًا، ليس كماكبث عبقريًا، ولما صمتوا يأسًا، قال ماك لحارس زوجته الخاص، وأمارات عدم التوقع وعدم الفهم كثيرة على وجه هذا الأخير:
- أنت العود الأحمر، 426، يا كارل روجرز.
- لكني لا أعرف الصينية.
- سيكون لك مترجمك ريثما تتعلمها... أما نائبة رأس التنين، 489، والتي ستحل محل ياما، 438، فهي ميراندا ماكماهيليان.
لم يصح أحد من الصينيين الموجودين احتجاجًا، بل ابتسموا كلهم على صرخات ميراندا الفرحة وكركراتها.
- وسيكون للآنسة ميراندا مترجمها ريثما تتعلم الصينية.
أخذت ميراندا تقول أي شيء كان مقلدة الصينيين في كلامهم، فضحك الجميع.
غادرنا الملاك الأصفر، وكل الموجودين ينحنون لنا إكبارًا وإجلالاً، تركنا بالطبع ميراندا هناك، وهي تودعنا مع مرؤوسيها حتى الباب الخارجي.
في علبة الليل، الكلب اليقظ، تمت تصفية أعداء ماك بسرعة، وبجرأة، وبحنكة من له باع طويل في صنع التراجيديا، منذ شكسبير، منذ راسين، منذ سوفوكل، منذ آلهة الإغريق الدمويين، من له من الإرث كل دم البشرية. بعد تحييد الحراس المافيويين في الممر من طرف العمالقة البيض، فاجأنا ثلاثي الشر، وهم يشربون، ويعربدون مع كلوديا. رأت المرأة ماك، وهو يخرج عليها كالجنيّ من قمقمه، فدقها الرعب، وسارعت بإلقاء نفسها من النافذة.
- سنشرب نخب أباطرة الكلب اليقظ، أيها السادة، هتف ماك، وهو يشير بيده إلى الأستاذ جوزيف ماكدويل.
أخرج المحامي زجاجة كحول من جيب سترته، وتقدم بها إلى ماكبث، ففهم رؤوس الشر كل شيء. حاول كل منهم إخراج سلاحه، لكن تحييدهم كان بسرعة، وبجرأة، وبحنكة من له باع طويل في صنع التراجيديا، في صنعها كما يجب، ليس بالدم فقط، بالخراء أيضًا، خراء أحمر، وخراء أصفر، وخراء أبيض، وخراء أسود، وخراء زهري، وخراء فستقي. تراجيديا الدم. تراجيديا الخراء. إن الأمر سيان. جلب ماك ثلاث كؤوس من البوفيه، وسكب فيها السائل المميت. قدم الكؤوس للمجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، ودون أن يضطرهم إلى ابتلاع ما فيها تحت تهديد السلاح، أفرغوها في حلوقهم، فتساقطوا بعد دقيقة واحدة الواحد تلو الآخر كالأجنحة التي لا حياة فيها. كان ذلك مصير الكواسر من الطيور، مصير تراجيدي، لكنه مصير عادي. لم يكن مصير العظيم مصيرهم، لم يكن المصير العظيم.
وبينا ينظف رجال ماك المكان منهم، توجه صديقي بالكلام إلى الآنسة ستيوارت قائلاً:
- آنسة ستيوارت، ابتداء من هذه اللحظة ستأخذين مكان كلوديا، وستُبقين على النظام الجديد، كحول، وكحول، وكحول... نريد الأموال الكثيرة، الأموال الكثيرة، الكثيرة، الأموال الكثيرة، الكثيرة، الكثيرة، وسيكون الأمر ذاته في كل الفروع التي سنفتتحها في نيويورك وشتى المدن الأمريكية.

* * *

ماما، من فضلك، يا ماما، كان ماك، وهو صغير، يقول لأمه كلما أراد أن يطلب منها شيئًا. من فضلك، يا ماما. لم يكن يحتاج إلى أن يأخذ إذنًا من أمه، ومع ذلك كان يقول لها، ماما، من فضلك، يا ماما. حل عن ظهري، يا حبيبي، كانت أمه تقول له. ماما، من فضلك، يا ماما. حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري، يا حبيبي. ماما، ماما. حل عن ظهري. حل عن ظهري. ماما، يا ماما، من فضلك، يا ماما. حل عن ظهري، يا حبيبي، حل عن ظهري، حل عن ظهري.
في ذلك المساء، والرقيب أول كانون جونيور يترك ريكرز آيلاند بسيارته، وكذلك يفعل الرقيب أول ماكنامارا، بحيث أخذ كل منهما الطريق التي من العادة أن يأخذها إلى مسكنه، رأى الرقيب أول كانون جونيور وجهًا جهنميًا ينبثق من الظلام فجأة، مما اضطره إلى الدعس على الفرامل والتوقف.
- ماذا تفعل هنا في قلب الطريق، أيها الأحمق؟ رمى الرقيب أول كانون جونيور، وهو ينزل من سيارته. ألا تخاف من أن تمزق جسدك عجلات سيارة سائقها لا يحسن القيادة؟
وإذا بكرة حديدية وزنها عشرة كيلوغرامًا تلطمه من خلف رأسه، وتفلقه. نظر الأسودان العملاقان، إدي وبوبي، إلى الدماغ الرمادي اللون، وهو ينط، ويلغو، ويكشر، وفي الأخير، وهو يفتح فمه، ويقيء، ويتحشرج، ويقيء، ويقيء، ويتحشرج، ويقيء، ويقيء، ويقيء، ويتحشرج، ثم حملا الجسد، وألقيا به في حفرة مثل جرذ. استقلا سيارة الرقيب أول كانون جونيور، وغادرا المكان.
حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري، كانت أمه تصرخ في الأخير، وهي تستشيط غضبًا، حل عن ظهري، حل عن ظهري، هل تفهم؟ حل عن ظهري. ماما... حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري. من فض... حل عن ظهري، يا دين الرب، حل عن ظهري. من فض... يا دين الرب، يا دين الرب، حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري، حل عن ظهري. من فض... يا دين الرب، يا دين الرب، يا دين الرب، حل عن ظهري، حل عن ظهري، حل عن ظهري...
في الوقت نفسه، كانت سيارة سوداء فيها أربعة من بيض علبة الليل "الكلب اليقظ" العمالقة، تسير على طول الإيست ريفر، وتجيء في أعقاب سيارة الرقيب أول ماكنامارا، ثم ما لبثت، في بخار النهر، تضرب سيارة الضابط المجرم، ضربات متتالية تزداد ضربة عن ضربة عنفًا، فأخذت سيارة الرقيب أول ماكنامارا تسير متعرجة، والرقيب أول ماكنامارا يكاد يفقد صوابه، وبضربة أخيرة، سقطت السيارة في النهر الرمادي، وأخذت تبقبق بصاحبها حتى ابتلعتها المياه.
من فض... حل عن ظهري، حل عن ظهري، حل عن ظهري. سأحل عن ظهرك إلى الأبد، هكذا كان ماك الصغير يقول لنفسه، إلى الأبد، سأحل عن ظهرك إلى الأبد. لكنه ظل متوقفًا عليها، على إذن منها، لم يكن يحتاج إلى أن يأخذ إذنًا منها، ومع ذلك لم يتوقف عن التوقف عليها، لهذا كانت كل علاقاته، النسائية وغير النسائية، بسببها، لأنها تريده أن يحل عن ظهرها، لهذا غدت علاقاته النسائية كل حياته، وغير النسائية إضافية، تبدو من الخارج كل حياته، بينما هي لا صلة لها بحياته في شيء.
سمعتُ لهثاته، فذهبت أجري لأرى ما به، وجدته عاريًا، وهو يمارس الاستمناء، أردت الانسحاب، فاستوقفني، وهو يهمهم، ويحرك هاتفه المحمول في وجهي: أولاد القحبة، الفاسدون في ريكرز آيلاند، لقد جاءني خبر أجلهم على يديّ، ها أنت ترى إذن كيف أنجح في كل شيء دون أن آخذ منها إذنًا.
أخذ يقذف في يده، وهو يصرخ مناديًا أمه. كان يقول: ماما، أين أنت؟ كان يقذف، وهو يبكي، ويهمهم: ماما، لماذا تركتني وحدي؟ رفع أصابعه الملوثة بالمني إلى مستوى عينيه. كان يرتعش. لماذا متِ؟ كان يهمهم. سحب من علبة الكلينيكس عدة مناديل، وراح يمسح يده بعصبية. أراني إياها قبل أن يلقيها، وقال: وكما ترى، هذه القذارة هي الإنسانية. منذ قليل كان يبكي، والآن راح يقهقه. هون عليك، ماك، رجوته، فنبر: أتظن أن الأمر يزعجني كثيرًا أن تكون أمي في جهنم الآن تنظر إلى ما أفعل، وهي عاجزة عن ألا تعطيني إذنًا لأقل فعل من أفعالي؟ سأصب لك كأسًا، قلت له. وأنا أصب الويسكي في كأسين، سمعته يقول: لقد أخذ مني أمي، القذر. زوج أمي، لقد أخذها مني، وأنا بالمقابل أخذت كل النساء. أعطيته قدح الويسكي، فجرع منه القليل، الكثير، حتى أفرغه. لغسل القذارة التي فينا، قال. صب لنفسه ما ملأ الكأس، وكشف لي لأول مرة: هل تعرف ماذا كنت أفعل، وأمي تصرخ مع زوجها من اللذة؟ كنت أدفن رأسي في المخدة. ثم كنت أسمع ضحكاتهما، فأرفع رأسي، وقد عاد لي بعض الاطمئنان. خلال الليل، كنت أتذكر ما كان قد قاله لي زوج أمي ساخرًا مني: عندما تكبر، لن تجد امرأة واحدة تحبك، فلا أنام طوال الليل، وأنا أفكر في قتله، لكني كنت لا أريد رؤية أمي تبكي، كانت دموع أمي أعظم مأساة بالنسبة لي. شرب كأسه الثالثة، وهمهم: ستكون مجنونًا تمامًا لو فكرت يومًا أنني نجحت في حياتي العملية من أجل أن تعجب النساء بي. همهمت بدوري: لكنك كرست عبقريتك، كل عبقريتك، من أجلهن، فانفجر يقهقه لست أدري مني أم منه. كان بطلاً من أبطال موليير أيضًا، أو متفرجًا على أبطاله، التراجيديا لما تغدو كوميديا.
وللذين يتكالبون على ماك سأقول لهم إنه مصنوع هكذا، شرطه صنعه هكذا، طفولته، نجمه، حياته. لست بحاجة إلى فرويد كي أقول كل هذا، وفي جميع الأحوال، ماك يحب النساء، سيحبهن دومًا، فاتركوه وشأنه. إنه إله. كل شيء مسموح للآلهة. ليس الأمر واحدًا إذا ما تعلق بشخص آخر، بشخص عادي، ليس نفس الإذن، ليس نفس اللغز.

* * *

لم تأتني المرأة الحمراء على الرغم من مرور الأيام، وأشغالنا الرئيسية الثلاثة، صناعة المطاط، الملاك الأصفر، الكلب اليقظ، تسير من حسن إلى أحسن. أضافت الآنسة ستيوارت لمساتها الخاصة على علبة الليل، وذلك بإضفاء زاوية كباريه ابتداء من منتصف الليل، وجعلت ميراندا في صالون التدليك جناحًا خاصًا بالمدلكات الأمريكيات، بينما راح ماك بفضل الأستاذ جوزيف ماكدويل يقتني كل شركة أو مؤسسة أفلست أو مهددة بالإفلاس، ومن جديد ينفخ فيها روح الحياة. راحت الأموال تتساقط علينا كالمطر بغزارة، ولما كثرت جدًا قرر ماك إنشاء البنك العابر للقارات. كان شعاره: القروض بأقل الفوائد وأقصر الآجال والتوفير بأعلى الفوائد وأطول الآجال. لم نبدأ بعد، أو بالأحرى بدأنا على إنترنت، وإذا بالعالم أجمع يأتي إلينا من كل القارات، وإذا بالأموال تتكدس في خزائننا بعشرات عشرات الملايين بل بمئات مئاتها، وعما قريب بآلاف آلافها. استطاع ماكبث أن ينشل كل زبائن البنك العالمي، فأعلن هذا البنك إفلاسه. وفي الحال، احتللنا مكانه في ويليام ستريت، ويوم الافتتاح كان في القاعة الكبرى كل رجال الأعمال، كل أصحاب البنوك، كل رؤساء البنوك، كل الأثرياء في أمريكا والعالم، كل المحللين الاقتصاديين، كل المحللين السياسيين، وكان هناك كل أعضاء الثالوثات الصينية، وكل أساطين المافيات على شتى أنواعها، وفي مقدمتها المافيا الإيطالية، وكل زعماء السود، وكل زعماء اليهود، وكل زعماء العرب، وكل زعماء البورتوريكويين، وكل زعماء الحزب الديمقراطي، والبعض من زعماء الحزب الجمهوري، وكل زعماء... وكل زعماء... وكل زعماء... هل أقول كل زعيمات؟ كانت النساء في كل مكان هنا وهناك.
دخلت على ماكبث في مكتبه قبل خروجه إلى قوة رأس المال في العالم، وأنا أمرّ بمكتب الآنسة غرين، مديرة ديوانه الشابة الجديدة، الرائعة السوداء، شجرة التين الأسود، بعد أن غرقت السيدة ماكماهيليان، أم ميراندا، في الكحول. لم تذهب الإف بي آي بدعواها ضد ماك حتى المحاكم من أجل قُبلة، وقُبلة كانت من خمس سنين، وألغت الدعوى دون أن أدفع سنتًا واحدًا.
قلت لصديقي:
- لاكي لوتشيانو جيل رابع وفرانك كوستيللو جيل رابع وجو أدونيس جيل رابع ينتظرون في الخارج ليرفعوا لك آيات الطاعة والولاء.
كان جوزيف ماكدويل عنده، وبعد أن تبادلا نظرة تعني الموافقة، أمرني بإدخالهم، فسارعت إلى إدخالهم أولاً في غرفة الآنسة غرين، ثم في مكتب معلم البنك العابر للقارات. ثلاثة من الشبان كانوا في كامل أناقتهم، أخذوا يسلمون على ماك، وهم يقبلون يده، وماك يحيطهم بذراعي الأبوة، ويحييهم واحدًا واحدًا، يسأل عن صحتهم وأعمالهم، ويبدي لهم كل عطفه. لم يبقوا طويلاً لضيق وقت القوي، القوي جدًا، ماكبث. انحنوا بين يديه، وخرجوا، وأنا معهم احترامًا لاحترام ماكبث لهم، وهم في بالغ السعادة. عدت لأصحب الرئيس المدير العام صاحب البنك العابر للقارات مع الأستاذ جوزيف ماكدويل إلى القاعة الكبرى. ونحن على عتبة مكتبه، جاءت جين. لم تكن في أبهى حللها كما يستوجب الحفل، كانت أتعس مخلوقة على وجه الأرض. قبلت زوجها من خده، وهمست في أذنه كلمات لم أسمعها، لكني رأيت على شفتي صديقي ذات الابتسامة في ذلك اليوم، ونحن نصعد على درج محكمة نيويورك، ابتسامته للنساء التي شلتهن، ابتسامة موناليزا أو ربما أجمل ابتسامة للشيطان، لست أدري. عرفت في الابتسامة مع ظرف اليوم ماذا يعني التربع على قمة المجد، فابتسمت بدوري، على الرغم من غمامة الدمع في عيني جين. كانت بسمتي العادية، بسمة كل يوم، ولكن في ذلك الظرف الاستثنائي كان لها طعم خاص. ونحن ندخل القاعة الكبرى مع ماكبث، أنا وجين والمحامي جوزيف ماكدويل والآنسة غرين ورجال الأمن والحرس الخاص، إذا ببنات ميراندا المصفوفات على المنصة يهتفن بصوت واحد: أهلاً وسهلاً، يا ماك! ويأخذن هن وجموع الحاضرين الواقفين كلهم بالتصفيق الحار المتواصل، وفي المقدمة هناك كان لاكي لوتشيانو جيل رابع وفرانك كوستيللو جيل رابع وجو أدونيس جيل رابع. كان الكل يصفق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثٍ صنعوه من أجسادهم إجلالاً وإكبارًا. التحقت ميراندا والآنسة ستيوارت بنا، بينما صعد ماك على المنصة، وأخذ الكلام:
- العالم كله هنا، أيتها السيدات والسادة! العالم كله نحن!
عاصفة من التصفيق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مُثَلَّثِهم الحيويّ أجلالاً وإكبارًا.
- في الماضي كنت أقول لا أزمة مالية عالمية إلا في الرؤوس، وفي الحاضر أقول أن لا أزمة في أي مكان لا على الأرض ولا في أي رأس من رؤوس البشر.
ومن جديد عاصفة من التصفيق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثهم الحيوي أجلالاً وإكبارًا.
- الاستثمار في بلدنا وفي العالم نحن من ورائه، وبالتالي البطالة في تناقص، والأزمة، بالأحرى الأزمات، من مخلفات التاريخ...
بعض التصفيق هنا وهناك لكنه أكمل خطابه:
- النظام العالمي الجديد سيكون غيره، ومصالحنا ستكون أقوى وأوسع، والحريات في العالم سيكون الدولار في خدمتها، وليس العكس، أي كما كان متبعًا لغاية اليوم.
عاصفة أخرى وأخرى من التصفيق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثهم الحيوي أجلالاً وإكبارًا، وبعض الهتافات هنا وهناك: ماكبث رئيسًا!
- أيتها السيدات... أيها السادة...
رحت أنظر إلى أقدام بنات الملاك الأصفر واحدة واحدة وأرى أن لكل منهن قدمين عاديتين إلا من واحدة قدميها صغيرتين بصغر قدمي طفلة، عندما رفعت رأسي، وجاءت عيناي في عيني الفتاة، وجدت ياما تنظر إليّ، وهي تقطر ابتسامًا.
- …الأيام القادمة ستكون أيامًا حاسمة أكثر لأمريكتنا الغالية على قلوبنا ولكل بلدان العالم، ونحن كما كنا دومًا سنكون إلى جانب كل من يطلب منا عونًا في كل مدينة وقرية من مدننا وقرانا على امتداد كل الولايات المتحدة، لن نخيب آمال شعبنا، ولن نخيب آمال شعوب العالم بنا... والآن إلى الرقص والشرب والاستمتاع بأجمل اللحظات.
عزفت الموسيقى تحت صيحة الكل: هورا! وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثهم الحيوي أجلالاً وإكبارًا. دخلت بنات كباريه الكلب اليقظ، وهن يغنين، ويرقصن. اختلط الحابل بالنابل، ورقص الكل مع الكل ما عدا الأستاذ جوزيف ماكدويل الذي اعتلى مكانًا، ومن حوله أربعة من عمالقة علبة الليل "الكلب اليقظ" البيض، واثنان من العمالقة السود، إدي وبوبي، راح يراقب منه الكل. رقص ماك مع جين، وهي دومًا تعيسة، جهمة الوجه، ورقصتُ مع الآنسة ستيوارت. قالت لي بحب وحنان: تعال بين ذراعيّ، أيها الأرمل التعس! وقبلتني من فمي. رأيت ميراندا تختطف ماكبث من بين ذراعي زوجه، وتذهب به بعيدًا عنها. بدت جين لي حائرة، ضائعة، لا تدري ما تفعل، إلا أنها لما وقعت على كارل روجرز، ذهبت تترامى بين ذراعيه.
وجد ماك نفسه وحيدًا مع ميراندا في مكتبه.
- هذه المرة، أنا من سيغتصبك، ألقت ميراندا مهددة قبل أن تنقض على ثغره، ذاهبة معه في قبلة كبيرة.
خلعت فستانها، خلعت بنطاله، رمته فوق ملفاته، وامتطته، وهي تهمهم:
- انتظرتُ هذه اللحظة خمس سنين، نعم انتظرتها، وها هي تتحقق اليوم.
لكن جين قطعت عليها رغبة غالية على قلبها، عندما دخلت مكتب زوجها، لتقف مكتوفة اليدين خلفهما. اضطرتهما إلى الاعتدال، وإلى ارتداء ثيابهما، وبسرعة، اتجهت ميراندا نحو الباب، ليتحاسب الزوجان.
- سأتركك، يا حبيبي، همهمت جين.
- ستتركينني، يا حبيبتي، همهم ماك.
- سأتركك.
- ستتركينني.
- أنت لا تتقن كره النساء، لهذا سأتركك.
- وأنت؟
- وأنا ماذا؟
- هناك التي أحبتني، وبعد ذلك كرهتني أشد كره، وهناك التي أحبتني، وتركتني، لكنها بقيت على حبي، وهناك التي لم تحبني ولم تكرهني.
- أعتقد أنني من هذا النوع الأخير.
- لم تحبيني ولم تكرهيني.
- لم أحبك ولم أكرهك.
- لهذا السبب.
- لهذا السبب.
- بعد كل تلك السنين التي قضيناها معًا.
- ولأني سأعطيك الحرية كاملة.
- كنت قد أعطيتني إياها كاملة، الحرية، كل تلك السنين التي قضيناها معًا.
- اليوم أعطيك إياها للمرة الثانية.
- وكارل، عشيقك؟
- كان حارسي الخاص، ولم يكن عشيقي. كان يحصل أن أرغمه على فعل ما لم يكن من اختصاصه، المسكين، بسببك. إنه كسائر الرجال، المرأة لا تهمهم، ما يهمهم الشيء الذي بين فخذيها.
- لكني كافأته على ذلك، وجعلت منه عودًا أحمر. عندما أكون مع واحدة أخرى، كان يؤدي لي خدمة كبيرة، بشكل من الأشكال.
- الوداع، يا حبيبي.
- انتظري، جين...
أمسكها من ذراعها، وضمها بقوة. أوجعها، وهو يضمها بقوة. رمى رأسه على كتفها، وبكى. سمعته يهمهم "ماما، من فضلك، يا ماما". أبعدته عنها، كان يبكي، كان يذرف دمعه بغزارة. طبعت قبلة على خده، أعطته ظهرها، وسارت نحو الباب. فتحته، فعلا ضجيج المحتفلين بالمجد، وبكل هدوء، أغلقته من ورائها.
- مهما علوت، سيتركك الكل وحدك، جاء صوت دانكان من مكان لم يحدده ماكبث.
- داناوي! هتف ماك.
- كما لو كنتَ ميتًا.
- اظهري لي، داناوي!
- هل اشتقت إليّ؟
- كثيرًا.
- كان عليك أن تقتلني كي تشتاق إليّ.
- لم أكن أعلم.
- أنك ستشتاق إليّ؟
- أنني سأقتلك.
- ولو كنت تعلم؟
- لقتلتك.
- لتشتاق إليّ؟
- لأتعذب.
- هل عذابك حاد إلى هذه الدرجة؟
- حاد وعظيم بعظمة الجبال التي تدفن قممها في الغمام.
- لا أستطيع أن أفعل شيئًا من أجلك مع الأسف.
- اظهري لي، داناوي!
- مالكولم لا يريد.
- ابن القحبة، هو الذي يحرضك عليّ!
- لأنه يغير منك.
- لم أكن أعلم أنكما أنتِ وهو...
- كنتُ آمرُهُ عندما تكون مشغولاً.
- كجين وكارل.
- ولكنه أبدًا لم يفجر أنوثتي مثلك.
- كان عليّ أن أقتلك من فرجك مملكة روحك.
- أبدًا لم يشعرني بكوني عاهرة مثلك.
- كان عليّ أن أداوي مرضي.
- مريضًا كنتَ؟
- ولم أزل.
- بي؟
- بابنة القحبة.
- من؟
- أمي.
- لقد أحسنت تربيتك، أمك.
- كعرص.
- لهذا كنتّ نجيًا.
- لهذا.
- طيب، سأذهب.
- ابقي، داناوي!
- ولن أعود ثانية.
- ابقي أيضًا بعض الشيء. بما أنك لن تعودي ثانية.
- مالكولم كذلك لن يجيء. لقد تعب منك.
- أنا لم أتعب منكما.
- اعتن بتدبير أمورك.
- أموري؟
- أمورك. اعتن بتدبير أمورك.
- كمن يتحسس طريقه في الظلمة.
- على حافة الخراب.
- ألن تظهري لي؟
- أنا أخفى عن البصر.
- اظهري قليلاً.
- ثديي هذا مثلاً.
- أوه! داناوي، ثديك أمي.
- وهذا الثاني.
- أبي.
- وبطني هذا.
- بنوك العالم.
- وفرجي هذا.
- كل عذابات البشر.
- لا تبكِ، ماك!
- دعيني أحتفل بجسدك.
- لا تتعذب أكثر، ماك!
- أكثر من كل عذابات البشر؟
- لم تكن خائفًا من نتائج أفعالك.
- أبدًا.
- الآن أتركك لترتاح.
- أبدًا.
- كن ما أردتَ دومًا أن تكون.
- أبدًا.
- كما تشاء.
- لم أشأ تشويه الوقائع وشوهتها.
- تشويه الحقيقة.
- تشويه الفكرة.
- تصرفت كما تشاء.
- بكل حرية.
- بدون روية.
- كرجل شريف.
- كسيد.
- أحسنتِ الظن فيّ.
- أسأتَ الظن فيّ.
- عللت نفسي بالآمال.
- بالأوهام.
- غربتي الروحية.
- غرابة ذهنك.
- أصدق برهان على ذلك أن...
- سأذهب.
- كل ما جرى إساءة فهم.
- إحسان فهم
- قدر محتوم.
- قدر أعمى.
- قفزة إلى المعلوم.
- قفزة إلى المجهول.
- كتمتُ سرك، فاكتمي سري.
- مع السلامة.
- داناوي...
- الوداع.
- داناوي... داناوي...
- الوداع، يا ماك.
- داناوي... داناوي... داناوي...

* * *

خرج ماك من مقر البورصة في الوول ستريت محاطًا برجاله، كان النهار مشمسًا، شمس خضراء بلون الدولار كانت هناك، وكانت هناك رائحة زكية للنقود، كرائحة الدم طلية. وقبل أن يركب ماك الليموزينة، لاحظ شحاذًا هناك عرف فيه بانكو، نائبه القديم والرئيس المدير العام للبنك العالمي الذي أقاله وأخذ مكانه. زلقت به سيارته، وموكب رجاله من ورائه، ومن أمامه، ثم توقفت قرب الرجل المخلوع. نزل الزجاج الأوتوماتيكي على ماك، وهو يمد قطعة فضية للشحاذ الذي جاء يجري، وهو يشكر، ويشكر: شكرًا، يا سيد ماكبث! شكرًا، يا سيد ماكبث! وفي اللحظة ذاتها، انطلقت رصاصة كانت موجهة للزعيم المالي الكوني أودت بحياة الشحاذ بانكو. ركض رجال الشرطة باتجاه الرجل الذي أطلق الرصاصة وهرب، وهم يصفرون، بينما سارع موكب ماكبث أسرع ما يقدر عليه من الإسراع إلى مغادرة وول ستريت نحو ويليام ستريت، مقر البنك العابر للقارات.
تم القبض على رجل الرصاصة بعد مطاردة دامت أكثر من ساعة في الأزقة المجاورة للوول ستريت، وكاد زلمة محاولة القتل يُسحق، تحت عجلات السيارات، أكثر من مرة. لم يتم القبض عليه لجدار في طريق مسدود، ولا على سطح إحدى البنايات، أو لأن سيارة للشرطة اعترضت طريقه. بعد أكثر من ساعة طويلة من المطاردة المستميتة، قرر الرجل فجأة تسليم نفسه. توقف فجأة، واستدار، وهو يرفع يديه لاهثًا إلى أعلى، فسقط عليه رجال الشرطة، وراحوا به ضربًا وشتمًا، ضربًا وشتمًا، ضربًا وشتمًا، بِغِلّ الآلهة الأشرار. والأكثر من هذا أنه اعترف لمفوض الشرطة بكل شيء وبكل بساطة، قال إن رئيس البلدية هو من كلفه بالقتل. كل هذه السهولة في القبض عليه والاعتراف حيرت المحققين، لم تكن لديهم أية بينة ضده، وكان من الممكن، والحال هذه، أن توجه التهمة إلى أي شخص كان، إلى رئيس بلدية نيويورك كما إلى رئيس الولايات المتحدة. عذبوه، فكرر ما قال. سألوه إذا كان رئيس البلدية هو بنفسه من طوَّعه، أجاب هو بنفسه. هل كان أحد معكما؟ قال لا أحد. هل دفع لك؟ قال لم يدفع. ولماذا ماكبث؟ قال لم يقل لي. أما عن القتيل، فلم يكن ذنبه، ذاك الشحاذ، المسكين بانكو، هو من وضع نفسه بين المسدس وماكبث. قتل خطأ. خطأ إجرامي تافه. أراد القاتل أن يفعل شيئًا، ففعل شيئًا آخر. كل هذا فبركة من مضطرب في عقله. في آخر المطاف، طلبوا له واحد همبرغر مع كوب كوكا كبيرة، وأطلقوا سراحه.
لم يرق ذلك لماكبث، كنا ثلاثتنا في مكتبه، أنا وماكبث والمحامي جوزيف ماكدويل.
- آنسة غرين، اطلبي من ابن القحبة، مفوض شرطة الوول ستريت، أن يحضر في الحال، قال ماك على الهاتف لمديرة ديوانه.
- محاولة الاغتيال من ورائها الكل، ماك، قلت لصديقي. لهذا السبب، تم الاتصال بهذا المجرم بشكل فردي جدًا ومحدود جدًا وعالٍ جدًا.
- لن يصدق أحد أنه رئيس البلدية، قال الأستاذ ماكدويل. لهذا السبب، اعتبروا الاعتداء كفبركة من مريض وبما أن القتل لم يحصل. صحيح وقع بانكو كضحية بدون سكن ثابت هو في عُرف القانون من أوقع عن طريق الصدفة في الفخ نفسه، فأطلقوا سراحه.
- لم يكن من اللازم إطلاق سراحه، قال ماك بعصبية، كانت هناك محاولة اغتيال. وإذا ما كان المحاول قد فعل بإرادة منه دون أن يطلب ذلك منه أحد؟ هذا المجرم يجب إيقافه، وزجه في السجن، ومحاكمته. أنا، أبناء القحبة، أرسلوني إلى ريكرز آيلاند من أجل نصفِ قدحِ مَنْيٍ في فم تلك القحبة، أسقيتها إياه بمحض إرادتها، وابتلعته كله لزكاوته، أرسلوني، أبناء القحبة إلى جهنم، وهذا الوغد يطلقون سراحه، لأنهم اعتبروا الاعتداء كفبركة من مريض. لا، يا ماكدويل، أنت تخيب أملي، تخيب أملي كثيرًا.
- إذن ارفع شكوى، وابن القحبة هذا سيُرمى في الريكرز آيلاند في الحال، قال المحامي الشخصي لماكبث.
- لن أرفع شكوى، رد ماك، اليوم إذا آذاني أحد أنا من يحكم وأنا من ينفذ، هكذا أنا اليوم بعد أن يئست منهم كلهم، أبناء القحبة، ومن نظامهم.
- ماذا تريدني أن أفعل؟ طلبتُ من صديقي، هل أذهب إلى رئيس البلدية، وأتفاهم معه على طريقتي؟
- لا، ليس أنت، لأنك أنت ستأخذ مكانه.
- ماذا؟! ماك ماذا تقول؟ أنا عمدة نيويورك؟ هذا آخر ما يخطر على بالي.
- ستأخذ مكان ابن القحبة هذا، وقصتي معه ومع غيره لن تكون طويلة.
- ومع غيره؟ سألت.
- إذا تعلق الأمر برئيس البلدية ابحث عمن يختبئ خلفه.
- تقصد البيت الأبيض؟ سأل الأستاذ ماكدويل.
- التحقيق في الرأي العام عاد ليكون في صالحي كما كان قبل ريكرز آيلاند، مما يزعجهم، يزعجهم كثيرًا، هم وكل حزب الخراء حزبهم، أريد القول كل المافيا التي تحكم اليوم.
دخلت الآنسة غرين بعد أن طرقت الباب:
- السيد مفوض الشرطة هنا.
- دعيه يدخل ابن القحبة!
وشبك قدميه على مكتبه.
دخل مفوض الشرطة، وهو يحيي مرتبكًا، وتقدم ليسلم على ماك، فرفع له قدمه التي شد عليها.
- بحرارة، أمره ماكبث.
فشد عليها بحرارة.
- تطلق سراح مجرم حاول اغتيالي، يا ابن القحبة القذر!
- دعني أشرح لك، يا سيد ماكبث.
- أنا في حِلّ من شرحك، الآن تعيد القبض عليه، وترميه في ريكرز آيلاند، والأستاذ ماكدويل سيوافيك بالشكوى... بره!
وخرج مفوض الشرطة كما دخل مرتبكًا.
- لن تذهب أنت للقاء ابن القحبة الآخر، رئيس البلدية، يا غريغوري، ستبقى أنت بعيدًا، لا أريد أية شبهة تدور حولك. سيذهب ماكدويل، فهو محاميّ، وسيطلب منه الاستقالة وكل فريق الخراء المنتخب بالرشوة تاعه، لتكون انتخابات جديدة ستخوضها، وستكسبها.

* * *

بدا رئيس البلدية صلفًا وعنيفًا أمام هدوء جوزيف ماكدويل ودماثته:
- لن أستقيل! من قال لك إنني أنوى على الاستقالة؟ سأذهب بعهدتي حتى نهايتها، وأعلمك أنني مزمع التقدم لعهدة جديدة، كل نيويورك تحبني. ألغيت الباركمتر من كل شوارعها، والسكان هذا كل ما يريدون، إلى جانب أنني ضاعفت الأسرّة للذين لا سكن ثابت لهم، والأدوية لمن لا ضمان لهم، والشوربة الشعبية للذين لا يأكلون سوى وجبة واحدة في اليوم. قل لصديقك شوربة الخراء هذه للجوعى خير ألف مرة من كل الأموال التي يكدسها في خزائنه ولا تنفع شيئًا. 75 بالمائة من الرأي العام في صالحه! هل رأيت إلى أية درجة يصل الخداع؟
همهم محامي ماك:
- وليس أنت فقط، بل وكل الفريق الذي معك المنتخب بالرشوة عليه الاستقالة.
فقد العمدة أعصابه:
- بل وكل الفريق الذي مع... أطلب منك، يا أستاذ ماكدويل، الخروج من مكتبي حالاً.
رفع المحامي هاتفه المحمول، وهمس بكل هدوء:
- هلا أتيتم؟
جن جنون رئيس البلدية، فراح يضرب على الأزرار، لكن الرجال البيض العمالقة الأربعة والرجلان الأسودان العملاقان كانوا قد دخلوا قبل ذلك بكثير، وأقفلوا الباب بالمفتاح. أمسكه العملاقان الأسودان من ذراعيه، وفرشا يديه على المكتب تحت تهديد كاتم الصوت.
- هل ستستقيل، يا سيد رئيس البلدية؟
- أبدًا.
أطلق أحد العملاقين النار على ظاهر يده اليمنى، فراح يصرخ:
- سأستقيل.
- أنت وكل الفريق الذي معك المنتخب بالرشوة والمتواطئ في محاولة قتل السيد ماكبث.
- أبدًا.
أطلق العملاق الآخر النار على ظاهر يده اليسرى، فراح يصرخ:
- أنا وكله، وكله.
تقدم المحامي ماكدويل منه بكل هدوء، وطبطب على خده:
- ها أنت تغدو عاقلاً. سأجلس أمام الشاشة الصغيرة، وبعد ساعة تكون الاستقالة. أشار إلى اليدين الغارقتين في الدم المسببتين لألم مبرح، ووضع إصبعًا على فمه:
- شوووووووووت، ولا كلمة واحدة، وإلا... أنت تعرف كل القصة.
بعد ساعة من ذلك، كنا ثلاثتنا، أنا وجوزيف ماكدويل وماكبث، نجلس من حول كمبيوتر هذا الأخير الموضوع على مكتبه، والآنسة غرين تصب لنا السكوتش، وتشعل لنا السيجار، بانتظار نشرة الأخبار، وفلاش من وقت إلى آخر يقول: تصريح هام من رئيس البلدية إلى كافة سكان نيويورك. وقفت الآنسة غرين إلى جانب ماك ليلفها بذراعه، وسمعناه يهمهم على حين غرة: ماما، من فضلك، يا ماما. راح يرفع تنورتها إلى أن وصل إليتيها. من فضلك، من فضلك. داعبها منهما. بدا أنه لا يريد أكثر من أن يداعبها منهما. ماما، من فضلك، يا ماما. كان يتركها أحيانًا، فترفع يده، وتجعله يداعبها منهما. من فضلك، من فضلك. القحبة، نبر ماكبث فجأة، فارتعدت فرائص الفتاة، وأرادت الابتعاد، لكنه جذبها. أمي، همهم ماك. عاملتني ككلب. أدار الآنسة غرين، وطبع قبلة على بطنها، فجلست في حضنه، وجعلته يكشف عن ثدييها. أمي عاملتني ككلب، وزوجتي قاءتني، قاءتني كقذارة، كل النساء اللاتي عرفتهن قئنني كقذارة، كقيح، كغائط، قئنني كغائط، احتقرنني كغائط، كبول، كبول كلب. طنت مقدمة نشرة الأخبار، وظهر وجه رئيس البلدية الدميم، فقهقه ماكبث، وهو يشير إليه. وقهقه أكثر عندما ظهر كله، ورأينا يديه المضمدتين. بدأ عمدة نيويورك يجيب على أسئلة المذيعة، وماكبث يهمهم: كقذارة، كقيح، كغائط، بينما الآنسة غرين تعضعض حلمتيه، تدفن رأسها بين ساقيه، ورئيس بلدية نيويورك يواصل ثرثرته. متى سيقولها، ابن القحبة؟ القحبة، ليست أمي فقط، بل كل البشرية. رفعها من رأسها، وراح يجعل أصابعه في فمها، ويبحث عن لسانها. ماما، كس أمك، يا ماما. أخذ حنكها بعنف، ونبر: سأنيكك! سأنقب قفاك! سأفجرك من جواك! سأجعل منك وليمة للذئاب! وبكلمات حزينة، أعلن عمدة نيويورك استقالته وكل أعضاء المجلس البلدي معه. تناول ماك دبوسًا من علبة على مكتبه، وزرعه في لسان الآنسة غرين، وهذه تبذل أقصى جهدها لئلا تصرخ، ودبوسين آخرين زرعهما في حلمتيها، وهذه المرة لم تستطع تمالك نفسها. لعقها، ليخفف من ألمها. جعلها تستلقي على مكتبه، وزرع دبوسًا في بظرها، وهي تصرخ أشد ما يكون. اخترقها في دمها، وهو يهمهم كمن فقد رشده: سأفجرك من جواك، يا ماما، من جواك، من جواك، من جواك.

* * *

"انتخبوا غريغوري رامزي رئيسًا لبلدية نيويورك".
كانت الإعلانات مع صورتي، وأنا أبتسم ابتسامة واسعة، تملأ كل جدران نيويورك، كنت أتقدم بالطبع تحت راية الحزب الديمقراطي، الحزب الذي كان في المعارضة. لم توفرني قنوات التلفزيون، كانت لدي مقابلات يومية، ولم ترحني وسائل الإعلام الأخرى، خاصة الجرائد المجانية، أكثر ما يُقرأ في أروقة وعربات المترو. ما هو برنامجك، يا سيد رامزي؟ عكس كل برنامج رئيس البلدية المستقيل. ماذا ستفعل لنيويورك، يا سيد رامزي؟ عكس كل ما فعله رئيس البلدية المستقيل. عكس كل كل ما فعله رئيس البلدية المستقيل، يا سيد رامزي؟ عكس كل كل ما فعله رئيس البلدية المستقيل. الباركمتر، يا سيد رامزي؟ صاحب السيارة لا يضره أن يدفع بعض السنتات، بنقود الباركمتر سنحقق الكثير من المشاريع. الدواء للذين لا ضمان اجتماعي لهم، يا سيد رامزي؟ سنفتح لهم المصحات. الأسرّة للذين لا سكن ثابت لهم، يا سيد رامزي؟ سنعطيهم سكنًا ثابتًا. الشوربة الشعبية، يا سيد رامزي؟ شوربة الخراء تريد القول، سنخصص للمحتاجين المعونات اللازمة. أضف إلى ذلك، سنستثمر، وسنخلق الأعمال. نيويورك تحت عهدتي لن تكون نيويورك، ستكون شيئًا آخر، أعظم وأغنى وأجمل... ولكن كان الأهم من كل هذا لقاءاتي مع الأساطين والزعماء من كله وكلهم، كل الأساطين والزعماء، لقاءاتي معهم في أي وقت من النهار كالليل. في النهار، خاصة في الملاك الأصفر، وكل ما هو متوقع في هذا المكان، وفي الليل، في الكلب اليقظ، حول طاولات المتعة، وأمام راقصات الكباريه ابتداء من منتصف الليل. في الملاك الأصفر، كانت تأخذني ميراندا بين ذراعيها مهدهدة إياي كطفل من كثرة التعب، وفي المساء، كانت تضمني الآنسة ستيوارت برقة، وتقول لي: أنت تهلك نفسك، يا حبيبي! كل بلدية الخراء هذه لا تعادل ذرة واحدة من صحتك! وعندما يكون ماك هناك، كان يزجرها، ويقول لها: أنت تفسدينه! ما أدراك أنت بلدية خراء أم غيره؟ عليه أن يصبح ملكًا لنيويورك! إنه يكرهني، كانت الآنسة ستيوارت تقول لي. يكرهك، وأنت المرأة؟ كنت أقول للآنسة ستيوارت ساخرًا. إنه يكرهني، إنه يكرهني. إنه لا يكرهك، إذا كان لا يحسن الحب، فهو لن يحسن الكره. الكره لديه شيء آخر، الكره لديه حقد. حقد ميتافيزيقي. لن يصل معك إلى حد هذا الحقد، حقد ما فوق قدرات البشر. شدد ماك عليّ الحراسة، جاءني بالعمالقة البيض، لئلا يقع المحظور، ويغتالوني. كان يقول لي إياك والثقة حتى بظلك! وقبل الانتخابات بثلاثة أيام أمر كارل روجرز، رأس التنين، بفتح الملاك الأصفر وكل الصالونات النيويوركية الأخرى مجانًا لكل من يريد مقابل إعطائي صوته، وكذلك فعل بالكلب اليقظ وكل فروعه، المتعة مجانًا، كان الشعار على كل الشبكات الاجتماعية. مجانًا؟ ليس تمامًا، ففي المقابل أنا، وصوت الناخب. قبل يوم من الانتخابات، جاءت جين. قالت لي إنها تطل عليّ بوصفها صديقة قديمة. لم أسألها عن أحوالها بعد انفصالهما، هي وماك، كانت لها طلعة بهية، فقلت لنفسي أحوالها لا بأس بها. اعتزلت مع الآنسة ستيوارت في زاوية، وراحتا تتحادثان كما لو كانتا طائرين من طيور المسيسبي. كان ماك محور حديثهما. لم أحب ماكبث يومًا، قالت جين. أنا لم يحبني ماكبث يومًا، قالت الآنسة ستيوارت، نعم على عكس كل ما يقال عنه، ربما لأنني لست من نوع المرأة التي يفضل. ليس لديه نوع محدد، قالت جين، إنه يحب كل النساء، سوداء بيضاء، جميلة دميمة، قصيرة طويلة، خادمة أميرة، عاهرة محجبة، صنديدة عاجزة، كل النساء، كل النساء. إذن، قالت الآنسة ستيوارت، لأني أخرج مع صديقه. غريغوري؟ هذا عنده سواء، صداقة أم غيره، كله سواء. إذن لماذا؟ وأخذت تبكي، أنا لست امرأة إذن. ماذا هنالك؟ صحت بهما. لا شيء، ردت جين، شغل نسوان. عندما تبكي امرأة أو تضحك وتقول لك "شغل نسوان" هذا يعني شغل ماك. يوم الانتخابات، كان غزوًا مفتوحًا لناخبي الجمهوريين، غلافات الرشاوي كانت توزع على رؤوس الأشهاد. أنفق ماك عشرات الملايين من الدولارات بل مئاتها، فجاءني خصمي الرئيسي، جون بلايموث، محتجًا. افعل كما أفعل إذا كان باستطاعتك، قلت له.
بقينا ليلة الفرز ننتظر النتائج النهائية حتى الصباح، كانت كل وسائل الإعلام قد أعطتني الفوز الساحق مسبقًا، لكننا انتظرنا عد كل الأصوات. لم يفارقني ماكبث قيد أنملة، كان يقف إلى جانبي طوال الوقت، وينتظر دون صبر النتائج الرسمية، وكأنه هو المرشح لهذا المنصب. همست في أذنه على حين غرة: عما قريب سيكون دورك، وستُنتخب رئيسًا للولايات المتحدة. كنت أظنني سأسعده، لكنه تجهم، وراح يجمجم شاتمني وشاتم الولايات المتحدة ورئيس الولايات المتحدة. رأيت الشرر يتطاير من عينيه، فخلته يريد ضربي بقدمه كمن يضرب أسدًا ضربة قاتلة. أذهلني، وهو يغادر المكان قبل الإعلان عن النتائج النهائية بعدة دقائق. ناديته، طلبت منه أن يعود، لكنه غادر مع حراسه، وهو يدفع العملاقين الأسودين، إدي وبوبي، دفعًا من أمامه، كان يشتمهما، ويشتم العالم، كما وترك الأستاذ جوزيف ماكدويل المكان.
أطلقنا صيحات الفرح حال الإعلان عني رئيسًا لبلدية نيويورك، قبلتني الآنسة ستيوارت من فمي قبلة طويلة على تصفيق الحاضرين المتزايد مع تزايد القبلة إلى أن قطعوها بانتزاعي من الذراعين الحبيبتين. وجدت نفسي أُرفع على الأكتاف، وإلى السيارات ذهبنا، ركبناها، ورحنا في الصباح الباكر نطرق باب البلدية. كان البواب العجوز الأسود نائمًا، فأيقظناه. فتح الباب لرئيس البلدية الجديد، وهو يشتم غير راض كما شتم ماك منذ قليل. اخترقنا غرفة رئيس البلدية، وشربنا كل ما في الخزانة المزججة من كحول، ونحن نرقص، ونغني، ونتعانق. جعلوني أبول على مكتب رئيس البلدية السابق، وبلنا كلنا عليه، حتى البنات بلن عليه، ثم تفرقنا في المكاتب والقاعات، وتضاجعنا قبل أن نذهب كالخرق إلى بلد النعاس.

* * *

كانت الزيارة الأولى لي من طرف ماك بوصفي رئيسًا لبلدية نيويورك، ترك رجاله في الخارج، وأخذني بين ذراعيه مهنئًا. جلس على كرسيّ، وشبك قدميه على مكتبي واضعًا حذاءه في وجهي.
قال لي:
- أنت ملك نيويورك الآن!
ضحكت، وقلت:
- لقد ورطتني، يا ماكبث.
- لكنك لا تلبث أن تعتاد على ذلك.
- سأعتاد على ذلك، أعرف، وهذا ما يزعجني، أن أعتاد على ذلك، فهل سأكون قادرًا؟
- تأتي المهارة بالمِران! معظم الأعضاء الجدد هم لك، وعليك واجب ألا تجعلهم يعتادون على أي شيء، شغّلهم، واحرث على ظهورهم.
- أعرف، لكن الأمور لن تكون على مثل هذه البساطة، بلدية نيويورك بلا ميزانية تقريبًا، اللصوص سرقوها، وما سيدخل من الباركمتر من أموال لا تكفي لشوربة الخراء، فكيف للمعونات الاجتماعية، كيف لبناء شقق لمن لا سكن ثابت لهم. الضريبة السكنية تكفي بِشِقِّ الأنفس لتنظيف المدينة، والمشاريع التي لنا لا تدر علينا بما هو كاف، أما التي لغيرنا من مقاولين، فالعمولة التي تعود علينا منها تبقى محدودة.
- أفهم من كلامك أنك تريدني أن أفتح خزائني أكثر مما أنا فاتح.
- يجب ذلك، وستكون لك الفائدة فائدتين، ولا تنس أنني لست واحدًا من برة.
- أنا لا أنسى.
ونهض، احتضنني من جديد، فسألته:
- هذا المساء، ماذا لديك؟
- ككل مساء.
- أنا وماكدويل سنحتفل بفوزي معك على طريقتنا.
- أيها الطائران الداجنان، ماذا أعددتما لي؟
- ستكون مفاجأتنا لك.
طبطب على ذراعي، وقبل أن يغادرني هتف:
- إلى هذا المساء إذن.
حضر ماكبث إلى الجناح الذي شهد مأساته في فندق الهيلتون، دق الباب، ففتحنا له، أنا وماكدويل، ونحن نضع على رأسينا باروكتين، ونحن نزوق وجهينا، ونحن نرتدي أرياش النعامة، ونحن نكشف عن صدرينا، ونحن نضع على فمينا منقارين عريضين، ومن خلفنا إحدى وعشرين عاهرة، وهن يرتدين أرياش النعامة، وهن يكشفن عن صدورهن، وهن يضعن على أفواههن المناقير العريضة. أشرق وجه ماك على مرآهن إشراقًا يعمي العالم، وراح يهمهم: أيها الطيران الداجنان، ماذا أعددتما لي؟ ألقى بنفسه بين الأذرع الغريضة، وترك نفسه للأيدي الناعمة تفعل فيه ما تشاء. أخذت بنات الهوى بتعريته تحت عاصفة من الضحكات والغنج والدغدغات بالمناقير العريضة، زوقنه، ووضعن على رأسه باروكة، وعلى فمه منقارًا عريضًا، ألبسنه ثوب النعامة، بينما رحنا، أنا وماكدويل نريق الشمبانيا. شربنا وطعمنا، ضحكنا وصحنا، طرنا وحلقنا، وحلقنا، وحلقنا. رقصن لنا، العاهرات، وجعلننا نرقص مثلهن رقصة الحياة والموت. جئن لماك بقالب جاتو كبير، عليه شمعة واحدة، فقط، شمعة مشتعلة، وهن ينشدن: سنة حلوة يا جميل، فقال ماكبث، والقلق يغزو وجهه: ولكنه ليس عيد ميلادي! أطفأ الشمعة، وقطع التورتة، وهو يرسم الابتسامة الغامضة للموناليزا على شفتيه. بعد ذلك، أحاطت بكل واحد منا سبع عاهرات، وذهبن بكل واحد منا إلى زاوية من زوايا الجناح الكبير. تركنا أنفسنا فريسة عناق جهنمي حتى انهارت على رؤوسنا أعمدة نيويورك، فتهنا كلنا في نوم عميق. في الصباح الباكر، نهضنا على صرخة مدوية آتية من الحمام. صرخة لم تكتمل، ككل شيء تراجيدي. من كل شيء تراجيدي يبقى بعضه يحوم فوقنا ليحيل حياتنا إلى جحيم، ليجعل منا نفوسًا ضائعة، ليردنا إلى التفاهة، التفاهة التي نرفض الاعتراف بها طوال العمر، تفاهتنا الجوهرية، تفاهتنا، تفاهة الإنسان، في اللحظة التي نقف فيها على حقيقتنا، بعد فوات الأوان. في الحمام، كان ماك يرتدي ثوب النعامة، وهو معلق بالحنفية من فرجه، بعد أن ربطه ببنطال قصير، وخصى نفسه بنفسه، وفي كل مكان من حوله التين الأسود.
بعد أسبوع قضاه في المستشفى، أعلمني ماكبث على التلفون بسفره في رحلة تشمل كل بقاع العالم. رحلة عمل قال لي، سيلتقي بقادة البلدان التي سيزورها، قادتها السياسيين وقادتها الماليين، وسيقوم بمحاضرات حول النظام الاقتصادي العالمي الجديد كما يراه. سيفتتح العديد من فروع البنك العابر للقارات في أوستراليا والصين والهند والأرجنتين وأفريقيا الجنوبية وباقي البلدان المنبثقة. أخذت أتابع من التلفزيون أخبار "القوي العظيم الجبار الرجل الفحل الهمام"، فأرى كيف كان يُستقبل من طرف أعظم الناس، كيف كانت شعبيته تتزايد لما يهجم عليه رجل الشارع في البلد الذي يزوره لتحيته أو لأجل أوتوغراف، وكيف كانت النساء تترامى عليه كما تترامى الطيور على كمشة من الذرة. كانت محاضراته كثيرة، وفي كل مرة الموضوعة التي كان يدافع عنها تحت عاصفة من التصفيق أينما حط بجناحيه: أمريكا ستقف إلى جانب الشعوب لا إلى جانب الأنظمة، ستتقاسم أمريكا الثروات معها لا أن تنهبها، ستستثمر أمريكا خارج أمريكا لأجل نمو الشعوب وتقدمها. كان يبدو لي رئيسًا للولايات المتحدة قبل أن يكون الرئيس، وكنت سعيدًا من أجل ذلك ومن أجله، خاصة بعد الذي حصل في ذلك الجناح، جناح التعاسة، من بين كل أجنحة فندق الهيلتون، ليعتاد، لا لينسى، وهو يبدو عليه أنه اعتاد. لكن ما لفت انتباهي أكثر من أي شيء، وجود جوزيف ماكدويل إلى جانبه، وكأنه القوة الجنسية التي فقدها. كان لا يفارقه، وكأنه ظله، كان لا يفارقه أبدًا. لم أتوقف بالطبع عن العمل كرئيس بلدية من أجل نيويورك، اجتماعات يومية مع طاقم العمل أحيانًا ومع الفريق المنتخب أحيانًا، وكان عليّ في كل يوم أن أصنع المشاريع أو أن أساهم في صنعها من أجل المدينة العملاقة. كان العمل هائلاً، يأخذ كل وقتي، فلم أعد ألقى بعض الوقت للذهاب إلى الملاك الأصفر أو الكلب اليقظ، حتى جين نسيتها، ولم أعد أسأل عنها... إلى أن كان يوم، اقتحمت فيه عليّ الآنسة ستيوارت مكتبي. كانت غاضبة، رأيت دمعًا في عينيها، وهي تعاتبني، وتسألني عن سبب غيابي. لم تترك لي فرصة للاعتذار ولا للتبرير. كانت غاضبة، وكانت تحبني. كانت غاضبة لأنها كانت تحبني، وكانت لا تفعل أكثر من ذرف دمعها. أمسكتها كي آخذها بين ذراعيّ، فَطَلَبَتْ مني:
- هلا تزوجتني، يا رامزي؟
لم أتفاجأ على الرغم من أنني لم أفكر في الموضوع بتاتًا.
أعادت:
- هلا تزوجتني، يا رامزي؟
بعد عدة ثوان، وأنا أنظر إلى عينيها الدامعتين، وإلى شفتيها اللذيذتين، ابتسمت سائلاً:
- هلا قلت لي اسمك الصغير، يا مدام رامزي؟
أطلقت ضحكة خرجت من أعماق قلبها، وقبلتني في كل مكان من وجهي، وهي تقول دون أن تتوقف عن ذرف الدموع:
- كنت أعلم أنك ستوافق، كنت أعلم أنك ستوافق...
- وما هو اسمك الصغير، يا حبيبتي؟
- كيلي، اسمي الصغير كيلي، كيلي.
- كيلي. كم هو جميل هذا الاسم الصغير، يا كيلي.
وقبلتها قبلة طويلة طويلة طويلة... دخلت سكرتيرتي علينا من أجل التوقيع على ورقة من الأوراق، وعندما رأتنا ونحن في عناق طويل، ابتسمت، وانسحبت على رؤوس أصابع رجليها.
بعد عدة أيام، تم زواجنا في كنيسة صغيرة، زواج تبعه حفل صغير في شقتي جمع البعض من معارفنا، وكانت جين بالطبع من بين معارفنا. رن جرس الباب، فذهبت أفتح. كانت المرأة الحمراء، رجوتها الدخول، فاعتذرت. قالت إنها ستعود، سألتها متى، فلم تقل متى. قبلتني من خدي، وذهبت.
































القسم الرابع

حطت طائرة ماك الخاصة في مطار جون كنيدي، فتقدمنا على السجادة الحمراء لنستقبله عند قدم السلم. كانت هناك مجموعة من أساطين الشر والخير النيويوركية، من بينهم الثلاثي الإيطالي لاكي لوتشيانو جيل رابع وفرانك كوستيللو جيل رابع وجو أدونيس جيل رابع. أخذوا يقبلون يده، وكأنهم يقبلون يد قديس. وكان هناك العود الأحمر كارل روجرز ومعه ميراندا نائبة رأس التنين، وكان هناك التين الأسود والزيتون الأسود والغضب الأسود. رفض ماكبث السلام عليّ، وهو ينبر في وجهي:
- تتزوج دون أن تنتظر عودتي!
وجدتني أقف وحيدًا على البساط الأحمر، بعد أن تبع الكل نجم المال العالمي إلى قاعة الشرف حيث كلمهم واحدًا واحدًا، وهو يعبط هذا، ويشد على يد أو كتف ذاك. أحسستني كالبخار المتصاعد من الإيست ريفر، موجودًا وغير موجود، فسارعت إلى اللحاق بالآخرين، لكن ماكبث جعل الأستاذ جوزيف ماكدويل إلى جانبه، وتركني أنتظر بين آخر الموجودين. عندما وجدتني أخيرًا أمامه، شبك قدميه في وجهي، وقال من طرف شفتيه:
- وكما أعلمني منذ قليل لوتشيانو جيل رابع وكوستيللو جيل رابع وأدونيس جيل رابع، جعلت زوجتك تُوَلّي الأدبار خلال غيابي، وعهدت بالكلب اليقظ إلى سِحاقيتين.
- الآنسة ستون والآنسة مارتن كانتا ستصبحان مدونتين لك لو اخترتهما بدلاً من كيلي، زوجتي كيلي، أعني الآنسة ستيوارت، والسِحاقية أفضل من أي امرئ كان على حفظ "شرف" النادلات إذا لم تكن تعلم، فهي تَغير على كل ما هو أنثوي، أضف إلى ذلك أن الآنسة ستون والآنسة مارتن تتحابان، إنهما أفضل اختيار، يا ماك.
- لنفترض أن كل هذا صحيح، لكنك لم تأخذ رأيي.
- كنت واثقًا من موافقتك، ثم... اسمع، يا ماك، أنا كلي أسف، لم أكن أعتقد بأن زواجي دونك سيغضبك إلى هذه الدرجة، ما أردت...
- لن أفتح هذا الموضوع ثانية معك.
- لقد تم كل شيء بسرعة. كانت كيلي تعيش على أعصابها...
- أرجو أن تضاجع جيدًا، هذا كل ما هنالك.
- وكنت أنا بكل بساطة مع العمل الجديد لا أعيش، كنت لا أعيش...
- أرجو أن تضاجع جيدًا، قلت لك. لم تنتظر عودتي، لم تشأ أن أكون هنا، كنت أظنني أخًا كبيرًا لك، حتى أنك لم تأخذ رأيي. بعد فعلتك هذه أنت مشكوك فيك!
أشار إلى الأستاذ جوزيف ماكدويل، وقال:
- يكفيني أن يكون معي سيد كل العادلين!
وأنا أقول لنفسي لم أعد إلهام الشيطان لذاتي، ولا نفث المني له، قام مغادرًا صالون الشرف، وكلنا نتبعه. كالكلاب. كانت في جسد ماك كتيبة من المقاتلين، لهذا السبب استطاع التغلب على حالات في أقصى التعقيد، واستطاع تحدي الكون، تحدي الجميع.

* * *

حان الوقت للطرق على باب التاريخ.
حال عودة ماكبث، بدأ حملته الأولية للانتخابات الرئاسية على صدر الحزب الديمقراطي، كان شعاره: الماليون للشعب. شعار ذكي جدًا. لم يقل الأموال للشعب. قال الماليين للشعب. له. لخدمته. لتكريس أموالهم من أجله. كان يقصد نفسه. كان يقصد كل طبقة رأس المال. كان يقصدها دون أن يمسس أموالها. لكن أموالها ظلت الهدف المراد بلوغه. لم يرفع شعارًا ديماغوجي البعد مثل "التغيير ممكن"، أو غير ملموس مثل "من أجل أمريكا الغد". كان شعاره "الماليون للشعب". شعار يبهر، ويقنع، خاصة إذا ما جاء من العبقري المالي والاقتصادي ماكبث.
أما الصدمة الكبرى، أعني المفاجأة الكبرى، فأنا أستعمل المصطلح بمعناه الإيجابي، عندما قرر ماك أن يكون نائبه في سباقه إلى البيت الأبيض مروحة الورق الأبيض، المسئول المالي في الثالوث. لقد سبق وكان أحد رؤساء الولايات المتحدة، أحد الرؤساء وليس أحد نواب الرئيس، لقد سبق وكان أحد رؤساء الولايات المتحدة أسود، إذن فليكن نائبه صينيًا. لِمَ لا؟ ليكن صينيًا. الطائفة الصينية كبيرة، وهي تتمتع بكل حقوق المواطنة كأي طائفة أخرى. وعدا عن الحنكة المالية لمروحة الورق الأبيض، أن يكون صينيٌ نائبَهُ، هذا يعني أن كل الصين ستقف إلى جانبه، وهذا البلد العملاق ببشره واقتصاده كان يريد ماكبث اقتحام سوقه بنفس الطريقة التي يقتحم فيها السوق الأمريكية، أو، على الأقل، الوصول إلى توازن مالي بين العملاقين. كانت النظرة بعيدة المدى ذكية ومدهشة.
بدأ جولته في كاليفورنيا، ولم يكن الاختيار عشوائيًا، اختار كاليفورنيا لأن نسبة التعددية اللغوية فيها تصل إلى 40 بالمائة. دومًا ما كانت نظرة ماك تعددية، كونية، كما كان في كل فعل ينجزه، مالي أو غير مالي. كانت نظرته متعددة في الشمول، وشمولية في التعدد. كان كونيًا. وكان إنسانيًا. لهذا عندما كان يقول أمريكا كان الأمريكي يرى الكون، كل الكون، وعندما يقول الكون، كان هذا الأمريكي ذاته، أينما كان موقعه، وأيًا كانت مهنته، كان يرى أمريكا، وبشيء من الفخار، لأنها أمريكا جورج واشنطن، وأمريكا أبراهام لينكولن، وأمريكا تيودور روزفلت، وأمريكا جون كنيدي، وخاصة جورج واشنطن الذي ارتبطت صورته بالدولار، والدولار هو العصب الأساسي للحياة، شيء كالحبل الشوكي، في أمريكا والعالم، هو الشبق في الفراش، الدعوة إلى الحب، كالدعوة إلى الموت.
أمام جمهوره في لوس أنجلس، قال هذه الكلمات:
- كلما فكرت أن المال من صنع الإنسان دون أن يكون في خدمته غَضِبْتُ أشد ما يكون، على المال أن يكون في خدمة الإنسان، المال في خدمة الإنسان يزداد أكثر فأكثر، فينعم الماليّ، ويزدهر الإنسان. لهذا أقول لزملائي في أمريكا والعالم ألا يخافوا على أموالهم، ستكون أموالهم دومًا لهم، لكنها ستكون في الوقت ذاته لنا جميعًا عندما نرمي إلى الاستثمار والاستثمار والاستثمار في أمريكا وكل العالم.
وتقريبًا كان يكرر الشيء نفسه وسط عاصفة من التصفيق في كل الولايات المتحدة، في تكساس، وفي تكساس الجديدة، وفي الأريزونا، وفي النيفادا، وفي الكولورادو، وفي فلوريدا، وفي الإلينوا، وفي بنسيلفانيا، وفي ميتشيغن، وفي المينزوتا، وفي المونتانا، وفي... وفي... وفي... وفي نيويورك، وفي واشنطن. وفي واشنطن ألقى بين جحافل مؤيديه:
- سيقول لنا الجالس على كرسيه المريح في المكتب البيضوي إن الأزمات كلها، على رأسها الأزمة المالية، لسوف يحلّها خلال الأربع السنوات القادمة، هذا وعد من رئيس يفي بكل وعوده، وخلال السنوات الأربع الماضية، لماذا لم تحلّها كل هذه الأزمات، يا سيادة الرئيس، فهل وفيت بوعودك؟ أنت لم تحل أية أزمة، ولن تحل، بل فاقمتها، وأنت ترمي بالأسباب على ظهر غيرك، وأبدلت حياة الأمريكيين بالجحيم.
وفي كل مرة، بعد الخطاب، وبعد عواصف التصفيق، كان يدعو الحضور إلى مأدبة عملاقة، فيأكلون المشاوي، ويحتسون الجعة، وشتى أنواع الكحول. بالنسبة لي، كان كل هذا شيئًا رائعًا، أروع من رائحة اللحم المشوي وقت الجوع، وألذ مما هو عليه بين أسنان الآلهة. كنت على استعداد أن أعطيه لحمي، لكن ماكبث، أهملني تمامًا. أهملني، وأبعدني عنه. كنت أراه كيف يسترقّ غيري من مقربيه، فأحسدهم على ذلك. كان مجرد أن يعملوا تحت إمرة ماك شيئًا سحريًا، كان ماك صنمًا، نوعًا من الآلهة الوثنية، بفكره المادي، بفكره المالي، ولكن في الوقت ذاته كان قدسيًا، وأُلوهيًا. تركتني أذهب معه من ولاية إلى ولاية، بعد أن عهدت بمنصبي كرئيس لبلدية نيويورك لنائبي، واحتملت كل جفائه عليّ. كنت أنظر إلى معاملته لجوزيف ماكدويل بعين الحسد، وعندما كنت أحاول الاقتراب منه، منهما، أن نكون معًا نحن الثلاثة، كما كان عهدنا في الماضي، كان يأمرني بالابتعاد، ويسبني، لأني "أعبث" كثيرًا بين قدميه. كنت أعيقه عن الحركة كما يجب، على حد قوله، ولهذا كان لا يريدني أن أبقى قربه. وعندما كنت أبدي انزعاجي، كان يكلفني بالإشراف على عد أصوات الناخبين التي كانت معظمها في صالحه وصالح نائبه، لأن منافسيه كانوا دون مستواه، لا كاريزما لديهم، وكانوا يتهربون من مواجهة الأزمات الداخلية وتقديم الحلول لها بالحلول الخارجية، مثل تضييق القبضة على آبار النفط، أو شن الحرب على الإرهاب. لم أستسلم لإرادة الاستسلام التي كانها أيضًا ماك، فيلعن الله، ويلعن الكون، ويلعن أمه، يلعن دانكان، يلعن مالكولم، ويصرخ بي أنه بحاجة إلى كل هدوئه وكل رأسه.
- هل هذه أنت، يا جين؟ سأل ماك.
- هذه أنا، أجابت جين.
- الآن تجيئين؟
- تأخرتُ قليلاً، فمعذرة.
- تأخرتِ قليلاً.
- تأخرتُ قليلاً.
- تأخرتِ قليلاً.
- ليس أكثر مما يجب.
- ليس أكثر مما يجب.
- لم تصبح بعد رئيسًا للولايات المتحدة.
- حقًا إذن، ليس أكثر مما يجب.
- مم أنت خائف؟
- مم أنا خائف؟
- لا تخف، يا حبيبي.
- أنا... أنا خائف، يا حبيبتي.
- لا... لا تخف، يا حبيبي.
- أعيش حياة القاتل.
- لهذا أنت خائف؟
- لهذا أنا خائف.
- لا تخف، يا حبيبي... أنا هنا الآن، يا حبيبي.
- حياة القاتل.
- عدم الوجود.
- عدم تقدير العواقب.
- يعضل الداءُ الدواءَ.
- الإنسان كائن مجرم.
- ماذا تفعل هذا المساء؟
- أقتل.
- تتعامى عن الخطر.
- عن حسن نية.
- تأخرتُ قليلاً، يا حبيبي.
- تأخرتِ قليلاً، يا حبيبتي.
- ليس أكثر مما يجب، يا حبيبي.
- ليس أكثر مما يجب، يا حبيبتي.
أخذها بين ذراعيه، وبكى على كتفها. سمعته يهمهم: ماما، معذرة، يا ماما.

* * *

قبل عدة أسابيع من الانتخابات الرئاسية، كان الرئيس ومستشاروه يسترخون بقمصانهم النصف الكم في مقاعدهم هنا وهناك من المكتب البيضوي، كانوا يفكرون في موضوع سبق لهم وتناولوه حسبما يبدو. بعد عدة لحظات من الصمت، فتح الرئيس فمه، وقال:
- حقًا غدت الطريق إلى البيت الأبيض مفتوحة لماكبث، لكن هذا لا يعني أن كل الشروط الرابحة في حوزته. هناك ناحية هامة في حياة الأمريكيين: الأمن، يمكننا استغلالها.
ابتسم نائب الرئيس:
- فكرة جيدة، يا سيادة الرئيس!
تدخل المستشار الأول، وهو يبتسم بدوره:
- بل فكرة جهنمية، يا سيادة الرئيس!
قال المستشار الثاني عابسًا:
- ألا تزنون سوء مغبة ما يمكن أن يقع؟
طلب الرئيس:
- دعنا نفكر في الأمر.
تدخلت المستشارة:
- رجال الإف بي آي لن يقبلوا أبدًا، يا سيادة الرئيس.
- بالطبع لن يقبلوا.
- والقانون يمنعك من دفعهم إلى ذلك.
- أعرف.
- إذن ماذا، يا سيادة الرئيس؟
- لم أقصد هم.
ابتسم نائب الرئيس من جديد:
- لستَ رئيسًا ببلاش، يا سيادة الرئيس.
نظر الرئيس إلى كل واحد، وأوضح:
- لنترك غير الإف بي آي يفعل بمعرفة الإف بي آي.
صاح المستشار الثاني محتجًا:
- وإذا ما افتضح الأمر؟ الرابح الوحيد سيكون ماكبث. لست متفقًا معك، يا سيادة الرئيس. وفوق هذا، أنا أحذرك.
قال المستشار الثالث متجاهلاً كلام زميله:
- مجانين الله كثيرون، يا سيادة الرئيس، وبعضهم تحت الحراسة المشددة، التخفيف من هذا، مع مهمة للتحريض عواء مواقعنا "الإرهابية" المبثوثة هنا وهناك، سيدفع ذلك أحدهم إلى ارتكاب الحماقة التي نريدها.
صاح المستشار الثاني محتجًا من جديد:
- لست متفقًا، يا سيادة الرئيس. ستكون هناك ضحايا، هل فكرتم في هذا، يلعن دين، سيسقط أبرياء.
تنفس الرئيس الصعداء:
- إنه داعي المصلحة العليا مع الأسف.
ثم، توجه بالكلام إلى مستشاراته:
- في الواقع يا بنات، الحق أني أريد عهدة ثانية، أنا أفضل هذا على كتابة مذكراتي، "رجال حياتي"، احفظن جيدًا هذا العنوان.
نهض، وراح يربط ربطة عنقه، ويقول لنائبه:
- أنا لا علاقة لي بالأمر، هل تفهم؟ أنا لا أعرف عن الموضوع شيئًا، أوكي؟ اتصل بأصحابنا في الإف بي آي، ورتب الأمر معهم.
أنهى ربط ربطة عنقه، ارتدى جاكيته، وتوجه إلى الحضور:
- سيداتي سادتي خلال خمس دقائق سأستقبل رئيس الوزراء البريطاني.
خرج الكل، وقبل أن يخرج نائب الرئيس بدوره، أمسكه الرئيس:
- بعد أن يقوم الأهبل بفعلته، يجب تصفيته في الحال، ومحو كل أثر، مفهوم؟
- وإذا لم تجر الأمور كما نريد؟
- يجب أن تجري الأمور كما نريد، ودون أية زلة قدم.
- هذا ما أتمناه، يا سيادة الرئيس.
وذهب عابسًا، دون أن يسلم على رئيس الوزراء البريطاني الذي كان يقف في فوهة الباب.
هتف الرئيس مرحبًا:
- سيد رئيس الوزراء!
وتقدم ليسلم عليه بحرارة، بينما أغلقت السكرتيرة الباب.

* * *

شقت دراجة السكوتر شوارع نيويورك من هارلم إلى مدرسة خاصة في بروكلين، وعلى متنها شاب ملتح يحمل على كتفه قِرابَ كَمان جهير. كان الوقت ظهرًا، والأطفال يعودون مع آبائهم إلى بيوتهم من أجل طعام الغداء. الأطفال، الحمام، الأحلام. أوقف الشاب الملتحي دراجته، وأخرج من قِرابِهِ سلاحًا رشاشًا. سلطه على أبٍ مع صغيرِهِ، وأمٍ مع صغيرتيها، وأرداهم قتلى. التين الأحمر، الزيتون الأحمر، الغضب الأحمر. أعاد وضع سلاحه في القِراب، وصوّر الجريمة الفظيعة بفيديو هاتفه المحمول. امتطى دراجته من جديد، وغادر المكان كملاك من ملائكة الجنة. كان الهلع بين صغار المدرسة وذويهم قد وصل أقصاه، وبعد قليل جاءت سيارات الشرطة.
لم ينتبه أحد إلى المختبئ في الوجه المقابل، وهو يتكلم في لحيته. ومع أول لفة قام بها المجرم، لاحقته سيارات الشرطة وطائرات الهيلوكبتر. تركوه يذهب حتى دخل شقته في الطابق الثاني من بناية متواضعة في هارلم، وحاصروه من كل ناحية، من فوق، ومن تحت، ومن جنب، من كل ناحية: بوليس، وإف بي آي، ومارينز، وعشرات القنوات التلفزيونية، وكلها تركز على أمن الأمريكيين، وكلها تردد أن الإدارة الأمريكية على رأسها الرئيس لا هم لها سوى أمن الأمريكيين، وهي تبذل أقصى ما تستطيع عليه من قوة في سبيل ذلك: أمن الأمريكيين. وفي الوقت ذاته، ألقت الحملة الإعلامية بكل بؤس الأمريكيين على أكتاف أولئك الجهاديين المجرمين، برابرة القرن الحادي والعشرين. حضر سكرتير الدولة للدفاع بنفسه كي يقود عملية الأخذ والرد مع المجرم الملتحي، ووصلت المساومة بينهما إلى أن يسلم الإسلامي نفسه على الساعة الحادية عشرة والنصف مساء. الوقت، الفضاء، الخراء.
أقامت المجزرة الدنيا ولم تقعدها، أدان البيت الأبيض الحادث بشدة، وعبر عن هم الرئيس الأول الذي هو حماية مواطنيه. قال الناطق بلسان الرئيس إن هذا لن يساوم الإرهابيين في شيء، وإنه بكل الخبرة التي لديه والتي ليست لغيره سيقاتلهم بسلاحهم، وسيقلعهم، سيقتلعهم من جذورهم، وهو في سبيل دم الضحايا الذي ذهب باطلاً مستعد لتقديم دمه دون أدنى تردد. الديماغوجية، النعامة، البجعة.
كانت اللعبة بائنة لماك ولنا جميعًا، فاجتمعنا كلنا في الكلب اليقظ، كلنا وأعمدة الملاك الأصفر. رافقتني زوجتي كيلي لجسامة الأمر، وشاركَتْ في النقاش الذي تركز على كيفية مواجهة هذا الهجوم العنيف من طرف رئيس الولايات المتحدة الحالي. ثلاث كؤوس ويسكي ناشف شربتُها كي أفكر جيدًا، كان ذلك في حانة ليست بعيدة، وتأملتُ رؤوس البيسونات المحنطة.
قالت كيلي لماكبث:
- هذا الهجوم، لأنه عنيف، في صالحك، الناس ليسوا كلهم نعامًا، وقت الخطر، هم لا يدفنون رؤوسهم في الرمل، إن لهم رؤوسًا تفكر على الرغم من كل شيء.
قلت لماكبث:
- مهما يكن مدى هذا الهجوم، فهو لن يؤثر في الرأي العام كثيرًا الذي يعطيك 75 بالمائة من الأصوات دومًا.
انتهرني ماكبث:
- أنت ثمل، أضف إلى ذلك أنا لم أطلب رأيك!
وراح بي متهكمًا:
- مهما يكن مدى هذا الهجوم!
ثم طردني:
- يلعن دين! أخرج في الحال، واهتم بأمر الحراسة!
قمت على التو، وقامت كيلي إلا أن ماك أوقفها:
- أنت تبقين، اتركيه يذهب وحده.
بادلتني زوجتي نظرة قانطة، وعادت إلى مكانها، بينما تركتهم يتابعون نقاشهم. وأنا قرب الباب، سمعت الأستاذ جوزيف ماكدويل يقترح:
- وإذا ما ذهبت أنت، ماك، لمساومة الرئيس في ذلك؟
قال ماكبث:
- بل أنت الذي سيذهب لمساومة نائبه. يجب أن يتوقف كل هذا، كل هذه الحملة الهستيرية، قل له، وإلا سنفعل ما سنفعل.
على الحادية عشرة مساء، نصف ساعة قبل أن يسلم القاتل نفسه، رأينا على الشاشة الصغيرة كيف تم الانقضاض الذي استعملت فيه كافة الأسلحة حتى الثقيلة منها، فتهدمت الشقة المقصودة وطرف من البناية. أخرجوا جثة الشاب الملتحي من تحت الأنقاض، كان كله مخرقًا، فطلبت المذيعة من المتفرجين إبعاد أطفالهم. الأطفال، الحمام، الأحلام.
على الساعة الثانية عشرة مساء، أي عند منتصف الليل، انفض الاجتماع في الكلب اليقظ، مع صعود بنات الكباريه على خشبة المسرح. كانت العلبة كعادتها ملأى بالزبائن، وكأن لا شيء يجري في هارلم، وكانت الآنستان مارتن وستون تتابعان كل صغيرة وكبيرة، وتقبل الشقراء والسمراء بعضهما من الفم من فترة إلى أخرى. قال ماك إنه يريد أن يكون وحده، فتركناه يذهب. بقي قليلاً في بيته، الوقت اللازم لوضع المساحيق على وجهه، الباروكة على رأسه، المنقار العريض على فمه، ثوب النعامة على جسده، ثم أخذ تاكسي إلى غرينويتش فيلاج، وصعد مع أول عاهرة.
- ماذا تريدني أن أفعل، يا رجل؟ سألت العالمة، وهما في السرير.
لكنه بقي صامتًا دون حراك.
- إنه لا يحسن النطق، يا ابنة القحبة، قالت لنفسها. تصرفي إذن، يا ابنة القحبة.
خلعت عنه ثوب النعامة، وبعد ذلك تناولته بفمها، ولا سبيل إلى رجولته. كانت الدموع تسيل على خديه، والعالمة تهمهم لنفسها: إنه امرأة، يا دين الرب!
ونبرت:
- إذن لماذا، يا دين الرب؟
اعتدل، وجعلها تتناوله من جديد، وراح يضغطها بكل قواه، فصاحت:
- إذا كنت تريد هذا، فلتنتظر.
تناولته بين أسنانها، وراحت تعض، وماكبث يصرخ، ولما أرخته خشية، أخذها بعنف، فعادت تعضه، وماكبث يصرخ من جديد دون أن تبالي هذه المرة بصراخه. غرزت أنيابها في عضوه حتى تفجر دمه، وهو يصرخ أعظم ما يكون. تراخى في الأخير، وذهب نائمًا كفرخ النعام.


* * *

قال جوزيف ماكدويل لنائب الرئيس هادئًا:
- لعبتكم واضحة، يا سيد نائب الرئيس.
أجاب نائب الرئيس مبتسمًا:
- أثبت أنها لعبتنا، يا أستاذ ماكدويل.
- إنها لا تحتاج إلى إثبات. أنا أتوجه إليك، وأنا أعلم أنك تعرف أني أعرف، وبوصفك تعرف أني أعرف أبلغك ما يطلبه ماكبث منكم، أنت والسيد الرئيس وباقي الشلة هنا في البيت الأبيض، أن توقفوا الحملة الإعلامية الدائرة حول الأمن في الحال، وإلا جعل ماكبث من أمنكم الشخصي أمره. هذه الدسائس الدنيئة لا تمشي عليه، دسائس دفع الأبرياء ثمنها غاليًا. وهو لهذا يجد نفسه في الموقع المناسب من أجل الدفاع عنهم والثأر لدمهم.
ظل نائب الرئيس مبتسمًا:
- استطلاع الرأي العام اليوم يعطي للسيد الرئيس عشرة بالمائة زيادة، الشعب الأمريكي سيقف إلى جانبه.
- هل هذا ردك على ماكبث.
- هذا ردي.
وقف المحامي ماكدويل ليغادر هادئًا دومًا، ولكن كلماته كانت تتفجر عنفًا:
- ها أنا، باسم موكلي، أنذركما، أنت والسيد الرئيس، إذا لم توقفا كل شيء آخر أجل حتى الغد مساءً تصرفنا.
وأغلق الباب بهدوء من ورائه.
لم تتوقف الحملة الإعلامية حول الأمن وشجاعة رجال الأمن وخاصة شجاعة الرئيس قائد الأمن الفعلي، وإقدامه من أجل الدفاع عن الأمريكيين في أمريكا والعالم. واصلوا طرحه كالبديل لنفسه في الانتخابات القادمة، فأهليته الأمنية هي الأساسي مقابل الأهلية المالية لخصمه، ماكبث، أضف إلى ذلك ما ليس لخصمه، سلطته وخبرته ونفوذه، وأن على الأمريكيين أن يختاروا بين أمنهم وخبزهم، وهم على التأكيد سيختارون أمنهم.
عندما عاد نائب الرئيس إلى فيلّته في تلك الليلة الحالكة من الليالي الأمريكية، ليلة دون قمر ولا نجوم، وجد صديقه الذي يتقاسم حياته معه مكممًا ومربوطًا على كرسي في المطبخ. ذهب لنجدته مضطرباً، وإذا بعملاقين أسودين يظهران من ورائه. أراد أن يضرب بقدمه على زر يربطه بالإف بي آي إلا أن أحد العملاقين الأسودين اقتلعه، بينما أمسكه الآخر بصلابة. فرش العملاقان الأسودان أصابعه على طاولة الأكل، وأطلق كل منهما طلقة على يد من كاتم صوته. ألقياه على الأرض، وهو يزحف في دمه، ويصرخ صراخ المعتوه، وغادرا المكان سرًا كما دخلا.
توقفت الحملة الإعلامية حول الأمن تحت ذريعة المصلحة العليا للشعب الأمريكي، هكذا خرج نائب الرئيس بيديه المضمدتين للناس على شاشة التلفزيون معلنًا، ولتجنب الأخطار المحدقة بحياة الأمريكيين. بعد أسبوعين، كانت الانتخابات الرئاسية، وكان النصر، بالطبع، حليف ماك، بأغلبية ساحقة.
في الصباح الباكر، غادرنا كلنا المقر العام للانتخابات، وتفرقنا في شوارع العهدة الجديدة من التاريخ الأمريكي. كنا تعبين جدًا، حتى الأحلام في رؤوسنا كانت تعبة جدًا، أحلامنا كانت ترغب في النوم مثلنا، والأمواج كانت ترغب في الراحة مثلنا. كان البحر في رؤوسنا في جزر، جسده المتلاطم منذ قليل، والذي كان بتسونامي سلطته يسحق العالم، كان يتراخى على ضفاف خيالنا كما يتراخى على ضفاف هاواي. قرب بائعة الزهور، أوقف ماك ليموزينته، ودخل الدكان بقدمين مثقلتين. كانت الزهور لم تزل في كراتينها في تلك الساعة من الصباح، والفتاة الجميلة تعمل كل ما في وسعها على إفراغها. غاب الرئيس الجديد للولايات المتحدة لبعض الوقت، كأي فرد عادي، ثم ما لبث أن عاد بباقة من الورود البيض، وهو يشمها، وهو يضمها، وهو يبتسم ابتسامة الموناليزا.

* * *

مضت عدة أشهر على ماك رئيسًا للولايات المتحدة، عين ميراندا ماكماهيليان وزيرة للخارجية، كانت أصغر وزيرة للخارجية في كل تاريخ أمريكا، وأجمل وزيرة للخارجية، وأذكى وزيرة للخارجية، جعل من زوجتي كيلي مستشارة له، بل كبيرة المستشارين، وجوزيف ماكدويل مديرًا عامًا للبيت الأبيض، أما أنا، فلا شيء، قال لي احتل مكتبك في بلدية نيويورك، ولا ترني وجهك إلا عند الضرورة القصوى. جين كانت أسعد مخلوقة على وجه الأرض، وهي مشغولة، جد مشغولة بصبغ حجرات البيت الأبيض التي لا تعد ولا تحصى، وفي كل مرة تبدل رأيها، فتعيد صبغها، كانت تقضي معظم وقتها في إعادة صبغها. والأهم من كل هذا؟ سيسألني أحدهم. الأهم من كل هذا كان تأسيس ماكبث نظام مالي عالمي جديد، لم يَعُدْ بالمال الوفير على الماليين، كما كان يَعِدُ في برنامجه الانتخابي، وهو لهذا أثار كل خصومه ضده، في كل مكان، في الإدارة، في الجيش، في القطاع الخاص، وخاصة في أوساط رأس المال، لدى عظماء نادي جورج واشنطن أول هذه الأوساط، في كل مكان، في كل مكان، حتى في أعماق الأرض، حتى في أعالي السماء، في كل مكان، في كل مكان، في كل مكان. حاول البعض الاتصال بي عندما عرفوا ما بيني وبين ماك من توتر لتحريضي عليه، وذهب البعض إلى حد الطلب مني العمل معهم على "إقصائه"، والإقصاء يعني من بين ما يعني تصفيته الجسدية، فهددتهم، وقلت لهم إذا مس أحد شعرة من شعره كان حسابه عسيرًا معي. لم يكونوا يعلمون أن ماك وإن أساء إليّ يحسن صنعًا بي، وإن شح عليّ يكرمني. ذهبت عنده في المكتب البيضوي، فرأيته، وهو يدفن رأسه في ملفاته. قبض على مخلب نعامة، وشبك قدميه في وجهي، وهو يستمع إليّ. نقلت إليه كل شيء، وفي النهاية، قلت له هذا هو سر الأسرار، فانتبه إلى نفسك، وأردت الخروج، لكنه راح يهمهم كمن يكلم نفسه:
- المجهول للنقود كالمجهول للقبلة، لمعرفته عليك أن تمضي إلى الفعل، ولكنك تفاجأ بأسراره الكثيرة، فتذهب من سر إلى سر، على لسانك طعم المالنخوليا اللذيذ، وفي رأسك حيرة الرياضيين أمام مشكلة عويصة، لأن الأسرار كثيرة، جِدّ كثيرة، أسرار لا تعد ولا تحصى، وذهابك من سر إلى سر لا يكشف عن مجهول النقود، مجهول القبلة، فلا تتوقف، تداوم على امتطاء جوادي اللذة والحيرة، وتطارد الإبهام وقد غدا اللذة، وقد غدا الحيرة، تطاردك الكآبة، يطاردك القلق، القلق كإحساس ميتافيزيقي. هل يَصْدُقُ الإحساس بجزيل النعمة على شواطئ الكانكون؟ كان عليّ أن أقبِّلَ أكبر عدد من الفتيات، وإلا فلن أقف على كل أسرار المجهول للقبلة. فْرِنْشْ كِسْ، قبلة فرنسية، كان الشرط أن تكون قبلة فرنسية، أن أدخل لساني في فم الربة، وأن تدخل الربة لسانها في فمي، وأن نعقدهما في الجحيم الخَضِلِ، وأن نقرضهما. قبلة فرنسية كنت أصرخ، كبائع الفطائر. قبلة فرنسية. كانت هناك من الثغور ما تقبل، وكانت هناك من الثغور ما ترفض. قبلة فرنسية. هذا الثغر، وهذا اللسان، وهذا السر، وهذا القتل، وهذا الموت، وهذا الخلق من عدم، وهذه المحنة، هذه المحنة، هذه المحنة، هذه المحنة، هذه المحنة، هذه المحنة. قبلة فرنسية. كن يضحكن. كن يعتذرن. كن يغنجن. كن يقدمن شفاههن للذبح مجانًا. وأنت ما أن تقف على سر حتى تظهر لك أسرار، كما هو عليه الحال في البورصة. قبلة فرنسية. تنسى نفسك. تنسى أنك تسعى لفك أحاجي قبلة. تتذكر أنها عابرة. قبلة عابرة. قبلة واحدة. قبلة وحيدة. لن تتكرر. تتذكر، وكأن الحاضر الذي أنت فيه قد مضى. وكأن الحاضر هو الماضي. كجسدين يتعانقان على مقربة هناك، فوق الرمل الناعم الأبيض، الأبيض الناعم، ليس بعيدًا، وفي انعكاس أشعة الشمس يبدوان جسدًا واحدًا. تسقط في بحر المالنخوليا، وهذه المرة، لا لذة هناك لطعمها على لسانك، بل لذة طعم الملح، لذة طعم القلق، لذة طعم الكآبة. كل كانكون عالم للكآبة. وأنت تهرق دم قبلة من أحلى القبلات. كل المكسيك عالم للقلق. كل النقود في العالم لا تساوي شيئًا. هذا هو سر الأسرار الذي لن نعرفه عندما يتعلق الأمر بالمجهول في أحلى ثغر وفي أثرى بورصة.
نادى على ميراندا، وأبلغها ما أبلغته، فلم تجد ميراندا شيئًا آخر تفعله غير ما تفعله على طريقتها. اكتشفت عجزه، فانفجرت تبكي مرددة أن لا حظ لها معه. اقترحت عليه وصفة لذلك، وصفة عن أمها. لحم النعام. بيض النعام. خراء النعام. لم تنتظر منه جوابًا، إذ سارعت إلى طباخ البيت الأبيض تبلغه أمر الرئيس. على الفطور بيض النعام. على الغداء لحم النعام. على العشاء خراء النعام. وهذا كل يوم لأربعين يومًا. وصفة أمها. لأربعين يومًا. امتلأت حديقة البيت الأبيض بالنعام، وصناديق قمامته برؤوس النعام المذبوحة وسيقانه المقطوعة. أكل الرئيس من لحم النعام حتى ملت أسنانه، حتى التقزز، حتى جيشان النفس، و... دومًا دون فائدة. كانت عاهرة غرينويتش فيلاج ملاذه الأخير، أنيابها، طريقتها في العض، في إهراق الدم، اللذة الوحيدة التي بقيت له، كلما كان لديه بعض الوقت، وهو كان لديه الكثير من الوقت، لا كما يقال عن رئيس أعظم دولة في العالم. أضف إلى ذلك، نيويورك لرئيس الولايات المتحدة كانت على مرمى حجر، وكل وسائل النقل الجوية والبرية والبحرية التي كانت تحت تصرفه. عندما علم شيوخ بلدان الخليج الفارسي بحب الرئيس للنعام، جاءوه ببيضة نعامة ضخمة من الذهب الخالص. قالوا إنها هديتهم مقابل بعض الملفات الصغيرة عن قضايا العرب التي يريدون حلها: مصر، سوريا، لبنان، الأردن، العراق، السودان، الصومال، النعال، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، البحرين، اليمن، الغائط، وإن شئت الخراء... فلسطين. بعض الملفات الصغيرة. ودون أن يطلب منهم الإذن، فتح الرئيس سرواله، أخرج عضوه، وشخ عليها، وهم يقهقهون، بينما هو يهمهم مرتاح البال، هانئ الضمير: لم يعد ينفع إلا لهذا.

* * *

كان الاجتماع في مكان سري لا يعرفه أحد، لم يكن في البنتاغون، ولم يكن في السي آي إيه، ولم يكن في الإف بي آي، كان في مكان يجهله حتى الحاضرون من كل أجهزة الدولة والكارتلات والرأسماليين، وكان أهم الحاضرين نائب الرئيس، مروحة الورق الأبيض. بدأ الكلام أحد جنرالات الجيش:
- أيها السادة، اجتماعنا اليوم، سيغير مجرى التاريخ، وسيكون من الواجب علينا أن نتخذ قرارات خطيرة تتوقف عليها مصائرنا ومصير أمريكا والعالم. النظام المالي العالمي الجديد الذي يعمل على إنشائه رئيس الولايات المتحدة الحالي، يهدم بين ليلة وضحاها كل ما بنته أمريكا خلالَ قرونٍ من العمل والتضحيات. السياسة السياسية والسياسة الاجتماعية والسياسة الاقتصادية التي تم ترسيخها بعرق ودم مواطنينا إلى عشرات السنين بل مئات الأعوام يُختلق اليوم غيرها لنجد أنفسنا نهبًا للشك والضياع. الدفاع عن الوطن والموت في سبيله غَدَوَا لا شيء يُذكر أمام الدفاع عن أوطان الغير والموت من أجلها. النظام المالي العالمي الجديد يعني أن تأخذ الدول التي هي تحت سباطنا اليوم مكان أمريكا، وحكام تلك الدول الذين كنا نقول لهم ارفضوا، فيرفضون، اقبلوا، فيقبلون، لأنهم كلابنا، عملاء لنا، وهم في خدمتنا، يستخدمون شعوبهم لحماية مصالحنا، هؤلاء الحكام سيملون علينا إرادتهم، وسيستخدمون شعوبهم بكل الوسائل وتحت كل الأشكال حتى الأشكال التي يقال عنها ديمقراطية وثورية لحماية مصالحهم هم لا مصالحنا نحن. أيها السادة، بعد هذا العرض القصير، فلتُفرش كل الاقتراحات على الطاولة!
قال أحد جنرالات المخابرات:
- فليسمح لي الحاضرون، أعتقد أن كل الاقتراحات يمكن إيجازها في اقتراح واحد: قتل الرئيس.
ضجت القاعة بالصرخات بعضها موافقًا وبعضها معارضًا، ونائب الرئيس، مروحة الورق الأبيض، يرسم على شفتيه ابتسامة شاحبة. انتظر جنرال المخابرات إلى أن عم الصمت:
- مع النظام المالي القديم، النظام بلا زيادة، تتغير الأشياء أو لا تتغير، وعندما تشتد الأزمة نقوم بإصلاحات تطيل من عمر النظام دون أن تزيل الأزمة، فالأزمة تبقى أزمة، الأزمة إلى الأبد ستبقى، ونحن نعيش معها، دونها تكون نهايتنا. هذا ما يجري اليوم، الرئيس الجديد يحاول استئصال الأزمة ونحن معها.
قال أحد عظماء نادي جورج واشنطن:
- أوافق على التحليل ولا أوافق على التنفيذ. قتل الرئيس مخالف لمُثُلنا وقوانيننا!
عاد جنرال المخابرات إلى القول:
- إنها الطريقة الوحيدة للتخلص منه فورًا، والأسهل من أية طريقة أخرى.
قال أحد جنرالات الأمن:
- موافق، ولكن كيف؟
تدخل أحد الموجودين من رؤساء الكارتيلات:
- انتظروا، أيها السادة! لم نصل بعد إلى كيف. مصرع الرئيس ماكبث بعد مصرع الرئيس كنيدي ليس بالأمر الهين، حتى وإن كان تنفيذ ذلك سيتم بأسهل الطرق. أعني أن النتائج ستكون وخيمة العاقبة، سينهار كل النظام القديم، ونحن معه، وربما كان ذلك مدعاة للذهاب بنظام ماكبث إلى أقصاه، وفي كل الأحوال ستكون نهايتنا.
علق جنرال الجيش:
- ستكون النتائج وخيمة العاقبة ولكن ليس إلى هذه الدرجة، أنتم تنسون، أيها السادة، أن نائب الرئيس، الذي هو معنا هنا، سيؤدي اليمين في الحال بعد مقتل ماكبث، سيمسك زمام الحكم بقبضة قوية، وسيعيد كل الأمور إلى نصابها.
نظر الجميع إلى مروحة الورق الأبيض ليسمعوا منه تأكيدًا أو تعليقًا، لكنه داوم على رسم ابتسامته الشاحبة على شفتيه.
سأل العظيم الرأسمالي:
- ولماذا لا نرغمه على الاستقالة؟
- نرغمه على الاستقالة كيف؟
- نحن لن نرغمه على الاستقالة.
- الدستور.
- الدستور لن يرغمه على الاستقالة.
- الدستور معه.
- إذا بدرت عنه تصرفات المجنون، الدستور لن يبقى معه، الدستور سيرغمه على الاستقالة.
- ليس هناك أعقل من ماكبث، أيها السادة.
- إذا ما لوحنا للملأ أن كل هذه الإجراءات مضرة على الزمن البعيد، وأيدتنا وسائل الإعلام، اتهمناه بالجنون، وقضينا عليه دون أن نقتله، وفي كل الأحوال، نائبه جاهز لأخذ مكانه (بينما يواصل مروحة الورق الأبيض رسم ابتسامته الشاحبة على شفتيه). أما إذا أردتم أن يكون بالفعل مجنونًا، فالوسائل كثيرة للضغط على طبيبه الشخصي.
- أُفَضِّلُ هذا، أحسن من قتله، وتلويث أيادينا بدمه.
- ولكنكم، أيها السادة، كما أرى، تبتعدون عن الموضوع كثيرًا.
- لنقتله إذن، ولكن كيف؟
- لنقتله إذن.
- ولكن كيف؟
- ولكن كيف؟
- لن أكشف لكم عن الخطة، ستبقى خطتي، وستظل سرية إلى الأبد، قال جنرال السي آي إيه. ولكن هناك نقطة اعتراض واحدة.
- ما هي؟
- نائب الرئيس.
- ما له نائب الرئيس؟
- ألا ترون أنه صينيّ؟
انفجروا كلهم ضاحكين، ومروحة الورق الأبيض يداوم على الابتسام بشحوب إلى ما لا نهاية.
- نرى أنه صينيّ، رئيس سابق للولايات المتحدة كان زنجيًا، وماذا يعني ذلك، صيني أم غيره؟ وحتى عربي، ماذا يعني ذلك؟ في كل مرة نوحي مع المحتل للمكتب البيضوي أن هناك عهدًا جديدًا، والواقع أن النظام القديم هو نفسه دومًا، بوجوه جديدة، وهلم جرا، منذ جورج واشنطن.
- صينيٌّ أم غيره الأهم هو إدارة الأزمة، أيها السادة.
نهضوا جميعًا، ومروحة الورق الأبيض يداوم، يداوم، يداوم على رسم ابتسامته الشاحبة على شفتيه.

* * *

لم يكن أحد في ممرات البيت الأبيض، ومن النوافذ، في الليل، كانت الأشجار لا تتحرك، وكأنها من شمع. كان الصمت هو المهيمن، لم يكن صمت المتاحف، ومع ذلك كانت رائحة الماضي في كل مكان. كان الماضي في المرايا، وكان يبتسم مع زهو الألوان. كانت للماضي ابتسامة شاحبة، وكان الماضي لا يتوقف عن الابتسام. لم تكن جميلة، ابتسامة الماضي، ولم تكن لتستفز أحدًا، فلم يكن أحد هناك، في ممرات البيت الأبيض، عند تلك الساعة البعيدة من الليل. ما عدا... إدي وبوبي، العملاقين الأسودين. كانا واقفين كتمثالين أمام باب غرفة نوم الرئيس. كانا يقومان بالحراسة، ولم يكونا يتحركان. كانا كتمثالين أفريقيين من تماثيل الاسترقاق، وكانت على عينيهما نظارة سوداء لا يبين الحاضر منها.
وعلى حين غرة، جاء رجلان من رجال السي آي إيه، جاء أحدهم من طرف، والثاني من الطرف الآخر، جاءا كلهبين أبيضين من جحيم المستقبل، فالتفت كل من إدي وبوبي إلى الاتجاه المضاد. ورجلا السي آي إيه على مقربة منهما، أخرجا كاتم صوتهما، وبسرعة البرق أطلقا، أطلق كل منهما في رقبة الدائر رأسه نحو الآخر. فتحا باب غرفة نوم أقوى رجل في العالم، ودخلا على رؤوس أصابع رجليهما، فلم يكن الرئيس في سريره، كانت جين. استولى على جين الرعب، وتفجرت عيناها بصمت، كما هو عليه في الأفلام الخرساء. غابت عن الوعي، عندما جاء رجلان آخران من رجال السي آي إيه، وقتلا زميليهما، ولم تر كيف جاء رجلان آخران بعد الآخرين من رجال السي آي إيه، وقتلا هما أيضًا زميليهما، ورجلان آخران، ورجلان آخران، ورجلان آخران. كل هذا بينما كان الرئيس في غرينويتش فيلاج يمارس إهراق دمه، وهو يصرخ من الألم واللذة. وككل مرة بعد قتل الروح، عاد يرتدي ثوب النعامة، ليعود خِفية كما جاء خِفية. لكنه، وهو في الزقاق، لم ينتظر اعتداء بعض السوقيين عليه. غصبوه نقوده، واغتصبوه، بينما هو يردد: أنا الملكة مارغو! أنا الملكة مارغو! وعلى سماع نفير سيارات الشرطة، امتطوا أجنحة الظلام.
- ماذا قلتِ لي، يا داناوي؟ سأل ماكبث ودانكان ترفعه بين ذراعيها.
- أردت أن أشاهد سقوطك، أجابت داناوي وهي تسكّن بأصابعها أوجاعه.
- في نظرتك ليس غير الاحتقار.
- الوضوح.
- حقًا! لا شيء غامض ابتداء من اليوم.
- أية شجاعة شجاعتك، يا ماك!
- تقولين عن الجبن شجاعة؟
- وأية قوة، وأية بصيرة!
- كلماتك الحلوة.
- أية مسئولية!
- أية لامسئولية!
- أية عقلانية!
- أية لاعقلانية!
- أية أُبالية!
- أية لاأُبالية!
- لعبت بك الهموم.
- تلاعبت بي الرياح.
- لم تدرِ بمن تلوذ.
- هل هي دعوة إلى الموت؟
- أنتَ لن تفضل الموت؟
- أريد أن أبقى معك.
- تعرف أن هذا مستحيل.
- لا شيء مستحيل وقد اكتملت النبوءة.
- ولكن لا أريدك أن تبقى معي.
- أما أنا، فأريد.
- أريدك أن تبقى معك.
- مسؤولية كبيرة أن أبقى معي.
- والوضع هذا لهذا.
- مدي لي يد العون.
- يلازمني النحس.
- تتملصين من واجبك.
- تُثَقّل على كاهلي ما تريد.
- تحيطين بكِ الالتباس.
- تُلْزِم نفسي بتضحيات.
- تلقين بنفسي في مأزق.
- تتمخض الليلة عن صباح أسود.
- داناوي!
- ...
- داناوووي!
- ...
- داناووووووووووووي!
في مركز شرطة غرينويتش فيلاج، عرف رجال الأمن في المعتدى عليه رئيس الولايات المتحدة، فذُهلوا. شاهد الأمريكيون رئيسهم في ثوب النعامة على شاشات التلفزيون، وهو يقدم استقالته، فقام العالم على الخبر ولم يقعد: مئات آلاف سيارات الإف بي آي والبنتاغون والسي آي إيه، مئات آلاف الأضواء الزرقاء والحمراء والصفراء والخضراء والبيضاء والسوداء والبرتقالية والقهوية والقمرية والقهرية والقبرية والزَّهْرية والزُّهَرية، مئات آلاف القنوات الناقلة لصور ماكبث في ثوب النعامة، ومزيد من الصور، ومزيد من الصور، ومزيد من الصور، الصور، الصور، الصور، سلطة الصور، ربوبية الصور، عبادتها، عبوديتها، السجود لها، التبرك بقدسيتها، بأُلوهيتها، بعهريتها، بشيطانيتها، بخرائيتها، بقيئيتها، المزيد من صور العار، المزيد من الصور الخلابة لرقصته، رقصة العار، في حفل الإغواء الإعلامي، رقصته المذهلة، المزيد من صور رقصته الفريدة، رقصته الغائطية، ومزيد من الصور، ومزيد من الصور، ومزيد من الصور، كان العار صورًا لانهائية، وكان العار على الرغم من كل دمامته فاتنًا أقحبَ خلابًا. وفي الليلة نفسها، أدى نائب الرئيس اليمين كما تحتمه الإجراءات الدستورية، وغدا مروحة الورق الأبيض، أول رئيس من أصل صيني للولايات المتحدة الأمريكية.

* * *
لا يوجد شر في ذاته، إنها الظروف التي تجعل من شخص خَيِّرًا أو سيئًا، أو من الشخص ذاته خَيِّرًا وسيئًا.
أول عمل قام به الرئيس الأمريكي الجديد المجيء إلى البيت الأبيض بالثالوث الذي كان يعمل معه: كارل روجرز أو العود الأحمر نائبًا، صندل القش للعلاقات والاتصالات، سيد البخور للطقوس والتجنيد. طرد كل من يعارض سياسته، وأبقى كل من يوافق عليها، طرد زوجتي كيلي، وأبقى ميراندا، ورمى الأستاذ جوزيف ماكدويل في ريكرز آيلاند، وأكثر من أي شيء، ملأ البيت الأبيض بجنود سيد البخور. أخذت تتصاعد رائحة العفن من البيت الأبيض، رائحة قديمة كانت حبيسة، رائحة مزكمة للأنوف غلبت على كل الروائح الأخرى كرائحة الأري المحترق أو رائحة البط المبرنق أو رائحة أزهار البرقوق، الرمز الوطني للصين. حتى ما هو عديم الرائحة كفضة القمر في المساء أو ذهب الشمس في النهار كانت له رائحة عفنة مزكمة للأنوف. كانت كل صفحات التاريخ التي كتبت في البيت الأبيض تند عنها رائحة عفنة مزكمة للأنوف، وكل ظلال العظماء الذين يعرفهم هذا المكان المَعْبَد اختلطت بظلال الحكام الألاعيب ورائحة نعال الجلادين الذين نفذوا بالحديد والنار في شعوبهم من الجرائم ما يُثقل الذاكرة. لم نعد نسمع في الممرات غير اللغة الصينية، ولم نعد نرى غير الظلال الصفراء، ولم نعد نقرأ على أبواب المكاتب غير أرقام تشير إلى هوية من يشغلها: 438 لسيد البخور، 432 لصندل القش، 426 للقطب الأحمر، 438 لنائبة رأس التنين، 489 لصاحب المكتب البيضوي، إلى آخره، إلى آخره، والكثير من 49 حيث يقيم الجنود. كان الله صينيًا في البيت الأبيض، وهو ككل شيء فيه كالأدوات المنزلية المتحركة بالكهرباء كالسيارات كالمسلسلات التلفزيونية كالفساتين القصيرة كربطات العنق يفوح برائحة عفنة تزكم الأنوف.
بدأت البنوك تعلن إفلاسها واحدًا تلو الآخر، وكان لهذا الوباء علاج وحيد يقوم به مروحة الورق الأبيض، ألا وهو الاستدانة من الصين، فتراكمت الديون، وغدت أضعاف أضعاف ما كانت عليه، وتضخمت الفوائد، والفوائد على الفوائد. لم يعد بالإمكان دفع الرواتب إلا بالأموال الصينية، لم يعد بالإمكان صيانة الجيش إلا بالأموال الصينية، لم يعد بالإمكان تشغيل المصانع إلا بالأموال الصينية، وبكل بساطة لم يعد بالإمكان العيش (الأكل الشرب اللبس النوم العمل التنفس الشخ التغوط التضاجع) إلا بالأموال الصينية. احتلت الصين أمريكا بأموالها، وكانت تلك الخطوة الأولى قبل اجتياحها، ونحن نرى دباباتنا صدئة، ومدافعنا صدئة، وبوارجنا صدئة، وحاملات طائراتنا مهجورة، وطائراتنا دون قطع غيار. كان الخطر كل الخطر يصدر عن قنابلنا النووية وصواريخنا العابرة للقارات، إذن ما تبقى لدينا من قوة خصصناه لها، لأن عدم الاعتناء بها يعني انفجارها، بيدِ طفلٍ يمكن انفجارها، وانفجار أمريكا والعالم معها. كان تفكيك هذه الأجهزة الجهنمية، يكلف أكثر مما كلف صنعها، لهذا فضل الجنرالات صيانتها بانتظار، بانتظار ماذا؟
في أحد الأيام، أمام ضعف المارينز وتدني عتادهم بالمقارنة مع العتاد الصيني، عتاد النانوتكنولوجيا، آخر طراز، وكذلك لاضطرار الجنرالات إلى التعاون مع الصين، وذلك بسبب اجتياحها المالي للولايات المتحدة، اجتياح القوي الذي لا يتزعزع، ولا يؤثر فيه شيء مهما عظم، تمامًا كما كانت أمريكا منذ عدة عقود، نزلت في موانئ نيويورك فرق جيش تحرير الشعب غير بعيد من تمثال الحرية، وذهبت في عرضٍ لها في الشارع الخامس، من سنترال بارك إلى ميدان واشنطن. كان الرئيس الأمريكي الصيني الأصل بابتسامته الشاحبة على المنصة هناك لمشاهدتها، وهي تسير في رتلٍ يتلو رتلاً، وكان يحرك يده لها علامة الرضاء والإعجاب، وإلى جانبه المرأة الحمراء. كان كل هذا يدعى بتوسع "الفار ويست" الجديد على حساب الأمريكيين، كل الأمريكيين، ففي الأزقة المؤدية إلى الشارع الشهير، كانت اعتقالات المحتجين بالعشرات، بالمئات، بالآلاف، والمظاهرات تقمع بالحديد والنار والتين الأصفر.











































المِصراع الثالث












القسم الأول

في علبة الليل "الكلب اليقظ"، أحاط بماكبث أبناء مافيا الجيل الرابع، لاكي لوتشيانو وفرانك كوستيللو وجو أدونيس، كانوا يحتسون الكوكتيل تي جي في، الشبان الثلاثة باعتدال، وماك كالحوت القادر على ابتلاع البحر، وكأنه بفعله الصغير يسعى إلى التخفيف من عبء الماء ليمكنه القيام بفعله الكبير: مواجهة الحكم المطلق. على طريقته. بعد أن خبا خبو الشُّهُبِ، وعنت به الأمور، فنعى حياته، كما تنبأت أمه، في عالم السياسة.
- ماك، كفى، طلب لاكي لوتشيانو، نحن لم نزل في أول المساء.
- هذا أيضًا جزء من الحكم المطلق، لوتشيانو، طن ماكبث.
- أردت فقط أن...
- أنت تخريني بنبرتك المتعالية، لوتشيانو!
- دعه ينفذ إلى كل مطلق، ويفجره، يا لوتشيانو، قال كوستيللو.
- نعم دعني كالخازوق أنفذ، فأفجر خراء السياسة، عاد ماكبث يطن.
- كل مطلق، يا ماك، عاد كوستيللو يقول.
- وخراء أخلاق الغرينويتش فيلاج، أضاف ماك، أخلاق كل نيويورك، وخراء الهللويا، وخراء الله يحمي أمريكا، وخراء السبب الأول، وباقي الأسباب الخرائية، الجحيمية، العاهرية، طبيعتي ابنة القحبة هي هذه، خراء هوليودي.
- كل طبيعة ابنة قحبة، أيد أدونيس.
- أنا وأنت أبناء قحبة، أدونيس، ألقى ماك، لهذا ستصبح قريبًا كما أصبحت رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية. ستكون إلهًا ملعونًا كما لم أكن، عارفًا كما لم أعرف، لهذا السبب سقطت أنا في الخراء، ولن تسقط أنت، ستنقذك فلسفة الخراء، وسترشدك في أفعالك من أجل استرداد حرية هذا البلد المهيض الجناح، ورفع أعلامه من جديد على مسارح البرودوي.
- ماك، تدخل لوتشيانو، الأعلام الصينية ترفرف اليوم على كل سطوح نيويورك.
- يا دين الرب! لعن ماكبث.
- ليس إلى زمن طويل، أكد كوستيللو.
- الاغتيالات إلى أين وصل بها رجالكم، أدونيس؟ سأل ماك.
- الاغتيالات لا تكفي، ماك، أجاب هذا، الأثرياء التحقوا بالحاكم الصيني، ومن واجبنا العودة إلى أيام زمان، أيام كان الصراع الطبقي هو المحرك لكل شيء.
- مارسوا الإرهاب على الفقراء إذن، واجعلوا كل واحد منهم ثوريًا، اقترح ماكبث.
انفتح الباب، ودخل غريغوري رامزي وزوجته كيلي.
- أنت ثمل، يا ماك، همست كيلي في أذنه، وهي تقبله من وجنتيه.
- إنه خرائي الميتافيزيقي، همهم ماك.
- ستغادر كيلي الليلة إلى باريس، أعلن غريغوري.
- الكوكتيل تي جي في؟ عادت كيلي تهمس.
- البيت الأبيض.
- سنستعيده.
- ليس الأمر سهلاً.
- لم يكن الأمر أبدًا سهلاً.
- كالخراء الميتافيزيقي.
- كما تقول، كالخراء الميتافيزيقي.
- كيلي، ماك، هلا أصغيتما إليّ؟ طلب غريغوري، لا أريد تي جي في، رفض الكوكتيل المقدمه أحد رجال المافيا، أعطني واحد سكوتش ناشف، ولكيلي...
- واحد سكوتش مع ثلج، كثير من الثلج، طلبت كيلي.
- تي جي في هذا هاته، أمر ماك، وأنهى القدح الذي في يده.
- ماك! رجت كيلي.
- لا تخافي على خرائي الميتافيزيقي.
- قلت الليلة ستغادر كيلي إلى باريس، أعاد غريغوري القول.
- الحديث عن إنزال القوات الفرنسية اليوم سابق لأوانه، علق لوتشيانو.
- بكل بساطة يجب الاستعداد لكل التوقعات، برر غريغوري.
- يجب اغتيال مروحة الورق الأبيض، فينتهي كل شيء، ولن يكون بنا حاجة إلى أي إنزال، قال ماكبث، ولاغتيال الرئيس الأمريكي الأصفر يجب الإصغاء إلى عواء الذئاب.
- أنا لا أسمع أي عواء، قال غريغوري.
- هذا لأنك لا تصغي!
- ماك!
- تمثال الحرية يعوي، يا دين الرب!
- تمثال الحرية ذئاب؟
- نهر الهدسون يعوي، الشارع الخامس يعوي، البرودوي يعوي، كل نيويورك تعوي.
- أفهم ما تعني، ماك، قال أدونيس.
- أنا لا أفهم، قال كوستيللو.
- شكرًا، قال غريغوري بعد أن تناول قدحه ودون أن تنبس كيلي ببنت شفة وهي سارحة تفكر فيما يقوله ماكبث.
- ليس لأنها ترفض الاحتلال، لأنها ترفض قيمنا، حقائقنا، خراءاتنا.
وأخذ يعوي، يرفع عنقه، ويعوي، يمد بوزه، ويعوي، يضرب بمخلبه، ويعوي، وجميع الحاضرين يتبادلون نظرات حائرة.
- لم أفكر يومًا كإيطالي، قال أدونيس، كأمريكي نعم لأجل حرية الأمريكيين، وكبشري لأجل حرية البشر.
- على عكسك، أنا لا أشعر بكوني أمريكيّ الكون، أشعر بكوني كوني، ذئبًا ملقى على هامش الكون، همهم ماكبث.
- حال وصول كيلي إلى باريس ستذهب لمقابلة الرئيس الفرنسي، أوضح غريغوري.
- بعد ذلك، مُرّي على برج إيفل، كيلي، وضاجعيه، تهكم ماك، أنا في شبابي ضاجعت قوس النصر، والنتيجة تعرفينها.
- ماك، رجا غريغوري، لقد كنتّ رئيسًا عظيمًا.
- كنتُ رئيسًا عظيمًا من قفاي الميتافيزيقي! هل تعرف أي قفا؟ قفا النعامة، أيها الغبي! لوتشيانو، يا لوتشيانو! ماذا فعلت؟ ما هي أخبارك مع ميراندا ماكماهيليان؟
- جيدة.
- جيدة من قفاي!
- لم تتمكن بعد من تعييني نائبًا لها، ولكن هذا لن يتأخر كثيرًا.
- نريد اغتيال ابن القحبة في عقر داره، في مكتبه البيضوي.
- إياك والحماقات، يا ماك، نبه غريغوري، لننتظر عودة كيلي من باريس.
- ثم... لا تنسي المرور على الكريزي هورس، وضاجعيه، بالأحرى ضاجعيها، إلهاته، عاد ماك إلى القول.
- أنا لا أحب البنات كما تحبهن الآنسة ستون والآنسة مارتن، ماك، ابتسمت كيلي.
- خذي قضيبي معك.
قهقهت كيلي.
- كوستيللو أنت، أشار ماكبث إلى زعيم المافيا الشاب، سيضع رجالك السيارات المفخخة في البرونكس، في كل مكان في البرونكس، فالبرونكس لا يعوي، نريده أن يعوي كما لم يعو ذئب.
- البرونكس سيعوي كما لم يعو ذئب، أكد كوستيللو.
- أولاد القحبة علينا أن نقتلهم لنجعل منهم ثوارًا.
- في سبيل حرية أمريكا نقتلهم.
- وشبكة المخدرات التي لنا هناك؟
- تستعصي على كل علاج.
- ولكنها ليست مرضًا، يا ماخور الخراء!
- في الظروف الحالية أرباحنا تضاعفت، قال لوتشيانو.
- وزعوا المخدرات مجانًا على كل من يلتحق بصفوفنا، أمر ماك، ولتكن روح التعاون روحكم، كالإخوة كونوا الذين لم يولدوا من بطن واحد.
دخلت الآنستان ستون ومارتن، والواحدة تلتف بذراع الأخرى، قبلتا الجميع من الفم بمن فيهم كيلي.
- أعطني كوكتيل خراء آخر، صاح ماكبث برجل المافيا.
- الرواد هذا المساء معظمهم صيني، قالت مارتن.
- اطرديهم! طن ماك.
- ليس من العقل طردهم، تدخل غريغوري.
- سأطردهم أنا.
نهض ماكبث، وهو يترنح. كاد يسقط، لولا كوستيللو.
- مشكل الشر مشكلي، يا دين الرب! أم أنك تراني شيطانًا في ثوب نعامة؟ أنا النداء الحيواني للعقل، وإلا ما كنت أنا، عواء تمثال الحرية، ونكران خرائي.
خرج إلى الاحتلال، وراح يدفع الصينيين واحدًا واحدًا، جنديًا وقائدًا وقوادًا. تحداه ضابط، وهو يصرخ صراخ المعتوهين، وَقَلَبَهُ، فسقط على الأرض. صوّب سلاحه إليه، فوقفت ستون ومارتن بين الضابط الصيني وماك.
- اقتلنا نحن أولاً، لهثت الآنستان.
- لا تجلب المشاكل لنا، حذر ضابط ثان.
بعد لحظة من التردد، أعاد الضابط الأول تعليق سلاحه على خاصرته، وسارع إلى الخروج خلف الضابط الثاني.

* * *

حطت الطائرة بكيلي في مطار رواسي، وقلادة ذهبية تتعلق على صدر السماء. عُنيت بالأمريكية خلية الأمن في الإليزيه، فوضعتها في سيارة رونو مصفحة لا يُرى شيء من وراء زجاجها القاتم، وفتح رجال الدرك لها الطريق حتى لفتها حدائق القصر الرئاسي بأغصانها. حدائقٌ الطيور فيها لا تغني، والأشجار لا تتحرك.
- مدام رامزي، هذا شرف عظيم لي أن أستقبلك في هذه الظروف الصعبة، قال الرئيس، وهو يطبع شفتيه على ظاهر يدها.
- أنت تقبّل يد كل الأمريكيين، يا سيادة الرئيس، مالت كيلي.
- يا ليتني ظفر لواحد من أصابعها!
- سيدي الرئيس!
- هل أُدخل قائد الجيش، يا سيادة الرئيس؟ طلب رئيس التشريفات.
- ليس بعد، أمر الرئيس الفرنسي بصوت خشن، واخرج أنت، اتركني وحدي مع مدام رامزي.
- تحت أمرك، يا سيادة الرئيس!
- بعد أن تركنا هذا القذر، فلنتصرف بحرية، قال الرئيس بصوت ناعم.
- إلى هذه الدرجة لا تشعر بالحرية، يا سيادة الرئيس؟ احتارت كيلي.
- كل هؤلاء رموز للبيروقراطية، وأنا لم أعد أحتمل.
- لن تستقيل، يا سيادة الرئيس.
- لن أستقيل إلا بعد أن أحرر أمريكا.
- كنت أعرف، يا سيادة الرئيس، أنك ستحررنا، صفقت كيلي وطبعت قبلة سريعة على ثغر الرئيس أداخته.
جذبته إلى كنبة حمراء، وأجلسته لصق فخذها.
- أريد أن أجعلكِ تذوقين شمبانيانا.
- فيما بعد.
انقضت على ثغره، ومن عنف العناق، سقطت على الأرض معه، لكنهما لم ينفصلا إلا بعد أن مارسا فعل العشق على السجادة.
- ها أنت ترى كيف أخون غريغوري زوجي لأجل أمريكا.
- هل خيانةٌ الإخلاصُ لبلدك؟
- سيدي الرئيس، أقل شبابًا كنت في فرنسا، وأنا أعرف عقليتكم.
- أنت تعرفينها جيدًا جدًا، يا مدام رامزي.
- كيلي.
- يا مدام كيلي.
- كيلي وفقط.
- كيلي وفقط. وأنا أنطوان.
- سأدعوك طوني.
- طوني وكيلي.
- كيلي وطوني.
- إنزالنا لتحريركم مقابل إنزالكم لتحريرنا، لا شيء في هذا من خراء ميتافيزيقي سيقول لك ماك.
- ماكبث يريد أن يكون الفرنسيون على أهبة فيما لو لم يكن اغتيال الرئيس الأمريكي الأصفر كافيًا كما يتوقع، وأن ينتظروا منه أول إشارة.
- قولي له سأصدر أمر توجه أسطولي إلى جزيرة الورود البيض، المارتينيك، هذا المساء، أقرب الشواطئ منكم، بعد أن نتعشى معًا في إحدى العَبّارات-المطاعم التي تمخر نهر السين.
- لا، يا طوني، أنا لا أريد إزعاجك، ثم عليّ الرجوع إلى نيويورك، هم يحتاجون إليّ هناك.
- كيلي، أريد أن أثبت لك أني فرنسي بالفعل.
- أنت فرنسي بالفعل، أقسم لك، أسعدتني أكثر من زوجي، ولأول مرة في حياتي أشعر بذروة النشوة الجنسية عدة مرات متتالية.
- هذا شرف عظيم لي، يا كيلي.
- إذن إلى يوم آخر، يبقى على قيام طائرتي بضع ساعات أقضيها في حضن ذكرياتي الباريسية.
- كما تريدين، يا عزيزتي.
- لن أنساك، يا عزيزي.
وطبعت كيلي قبلة أخيرة على ثغر الرئيس.

* * *

كما قال لها ماكبث، ذهبت كيلي خِفية إلى برج إيفل. وقفت تحت قدمه الميتافيزيقية، واستعادت ذكرى حبها المشئوم. كان سِدْرِك قد التقطها في الحي اللاتيني، وبعد ليلة حمراء، ساقها إلى حجرته المعلقة على أكف عمارة قديمة في حي شاتليه. تركته يفعل في جسدها ما يشاء، فهي في باريس، وككل أمريكية كانت تحلو بالحب الفرنسي: حب بربري في ثوب من الحرير. مزقها، وكانت أسعد لحظات حياتها. لكنها تفاجأت بعد أن انتهيا بالباب وهو ينفتح، ويدخل منه شخصان آخران، أعطيا لسِدْرِك حزمة من النقود، فتركهما وحدهما معها.
في ذلك الوقت البعيد، جاءت لتقف تحت هذه القدم الميتافيزيقية كما تفعل اليوم. أمس ودت لو تسحقها القدم، واليوم لو تسحق القدم هي. ضربتها بقدمها، فأوجعتها قدمها. ضربتها أيضًا، أيضًا وأيضًا، والناس ينظرون إليها، ويقولون لأنفسهم "أي جنون!" بكت كيلي، وألقت بجسدها على القدم، وعانقتها. قبلت أصابعها، واهتاجت. وضعت أصابعها فيها، واختنقت. وهي ترى الناس ينظرون إليها، خجلت من نفسها، ونهضت. ذهبت إلى قوس النصر، وفي ظله وقفت، وبكت. هنا اغتصبها صيني كان عابرًا، ولم يعد عابرًا. عبرها بأعلامه الحمراء، بماو، بثورته الثقافية، ومزقها تمزيقًا. كان بإمكانها أن تصرخ، فلم تصرخ، أن تطلب نجدة أحدهم، فلم تطلب نجدة أحد. كانت تريد أن تقطف الزهور الحمر التي زرعها آخر أباطرة الصين، فجرحت أصابعها الأشواك.
في الكريزي هورس، كانت الراقصات يتدربن لأجل عرض المساء، لم يكنّ ينتمين إلى البشر لجمالهن، وكانت الأضواء خلابة بسببهن، والألوان، والزهور المستعارة. سحبتها إحدى الراقصات إلى مقصورتها، كانت شبه عارية، فقالت لها كيلي إنها أرادت الانتحار من فوق برج أيفل، وهي كانت أقل شبابًا، فجعلتها الراقصة تلمس نهدها، وجعلتها تلمس بطنها، وجعلتها تلمس فرجها. سحبتها إلى سرير، ومددتها. همست الراقصة في أذنها "سأعلمك الانتحار!" تمددت إلى جانبها، وتركتها تسقط عليها بجسدها من سماء برج إيفل.

* * *

- خذي واحد تي جي في معي، يا ميراندا، اقترح ماكبث بلسان ثقيل، وهو يحتسي كوكتيله المفضل.
- لا أريد أن أعود إلى واشنطن على نقالة، قالت ميراندا، وهي تقبله من كل وجهه.
- أنا سآخذ معك، قال لوتشيانو.
- ولا أنت، أصرت ميراندا، أنت اليوم نائب سكرتيرة الدولة، غير ما تتوقف عن تقبيل ماك هذه المرة من كل صدره.
- بفضل صعودك على قضيبي، قهقه ماك.
- ليس كما أتمنى، نفت ميراندا، وهي تواصل تقبيله من كل بطنه.
- تتمنين كيف؟
- أن أصعد عليه كل ليلة، وإلى ما لا نهاية.
أرادت أن تفك سرواله، وهي كالكلبة لسانها يتدلى متناسيةً أمر عجزه، فرفعها.
- لهذا السبب طغياني طغيان الفاقد الشخصية.
- لهذا السبب كل الضغط الذي أنا فيه.
- خذي لك قدحًا مثل هذا يزول ضغطك، إنه سائل سحري، لا أعرف ما فيه، لكنه سحري بالفعل، كل ما يأتينا من بلاد الحب سحري، وما سيأتينا سيكون الأكثر سحرية.
- نحن ننتظر كيلي على أحر من جمر الغَضى، همهمت ميراندا.
- أنتَ لا تعرف ما في الكوكتيل تي جي في، قال لوتشيانو.
- خراء.
- تيكيلا وجن وفودكا.
- إذن خراءات.
- لهذا هو سحري.
- سحري بحق. احضر ثلاثة تي جي في، واحدًا لي بعد واحد واثنين للسيدة الوزيرة ولنائب السيدة الخراء، أمر ماك رجل المافيا، فكل هذا ينهار، كل هذا ماضٍ للماضي، كل هذا صيني قديم.
- سيتم اغتيال مروحة الورق الأبيض على يد لوتشيانو في مكتبه البيضوي تمامًا كما تريد ومتى تريد.
- كل هذا الوجود لا يستحق الوجود، تهته ماكبث. لهذا لا معنى لكل هذا، وبلا جدوى، الضغط، الطغيان، الأماني، لا معنى لكل هذا، وكل المعنى للتشاؤم، والتشاؤم يدفعنا إلى التصرف، لهذا سنغتال وسنفجر وسندمر لنحرر أمريكا، بدافع التشاؤم.
- أنت لست حانقًا على الحياة، ماك؟ ارتعشت ميراندا.
- رجل سياسي محنك مثله حانق على الحياة؟ سخر لوتشيانو.
- لم أعد بين خيارين، جمجم ماكبث.
- أنتَ خير الناس، أكدت سكرتيرة الدولة.
- أنتِ خير النساء، أكد رئيس الولايات المتحدة السابق.
- وصل الكوكتيل تي جي في، أعلن نائب سكرتيرة الدولة.
- هاتِ قدحي، عجل، يا دين الرب! هتف ماك.
- تقول تي جي في؟ تلعثمت ميراندا، وهي تأخذ جرعة.
- تي جي في، همهم ماك.
- كالقطار عند الفرنسيين، شرح لوتشيانو.
- كالخراء عندنا، ألقى ماكبث.
- إنه أكثر من سحري، كركرت ميراندا.
- كالقضيب، كركر ماكبث.
- كالذئاب، كركر لوتشيانو.
- هناك ذئاب في علب الليل، أوضح ماك بلسانه الثقيل، تحمل الأرصفة لتنام معها في المواخير.
- لا تحمل الأرصفة، يا ماك، رجت ميراندا.
- كل تلك الذئاب جنودي.
- هل تسمعني، يا ماك؟ لا تحمل الأرصفة.
- بدافع العجز.
- هل تسمعني؟
- بدافع العجز سنحرر أمريكا.
- لم تجب.
- بدافع المضاجعة. تحمل الأرصفة لتنام معها في المواخير. إنسان أدنى. سيحرر أمريكا الإنسان الأدنى.
تتفجر السيارات المفخخة في عشرات الأحياء، وتصلهم بعض الصرخات.
- يجب أن نعود إلى واشنطن في الحال، ارتعشت ميراندا، في الوقت الذي دخلت فيه الآنستان ستون ومارتن.
- كارل روجرز يريد رؤيتك، ماك، قالت الأولى.
- قال لأمر عاجل، قالت الثانية.
- خذ حذرك، ماك، حذرت ميراندا، وهي تلف رأسها بالتل الأسود لئلا يراها روجرز، ولوتشيانو يُغرق رأسه في قبعته، كارل تبدل، وهو مستعد للموت من أجل رئيسه الصيني.
- لتغادر ميراندا ولوتشيانو من الباب الخلفي، أمر ماكبث ستون، وأنتِ، مارتن، اتركي كارل روجرز يدخل.
وميراندا في الممر، التقت عينها بعين نائب الرئيس الأمريكي، تعثرت قدمها، ثم عجلت الذهاب.
- أليست ميراندا؟ سأل روجرز أول ما دخل على ماكبث.
- قفاي، أعطى ماك كجواب.
- قفاك يُخفي وجهه تحت التل الأسود ويسارع إلى الاختفاء في الممر؟
- هكذا هو قفاي، غريب السلوك.
- لا بد أنه شرب العديد من أقداح تي جي في.
- فليأخذ قفاك واحدًا.
- لا، هذا قوي على قفاي.
- واحد سكوتش إذن.
- بالصودا.
- واحد سكوتش بالصودا لقفا روجرز وواحد تي جي في لقفاي، أمر ماك رجل المافيا.
- لما يعتاد المرء على عدم التحضر، ألقى كارل روجرز، يشرب كوكتيل الفرنسيين هذا، ويفجر السيارات المفخخة تفجير الأعمى.
- ما أغرب عدم التحضر عن التحضر، رد ماكبث.
- لأن كل هذه العدمية تحضر؟
- خراء، كل هذه العدمية خراء!
- عدم.
- خراء.
- لهذا السبب نحن نشم رائحة خرائك من واشنطن ويكاد يغمى علينا.
- يبدو أنني نجحت في حمايتكم.
- حمايتنا رائحة خرائك!
- من رائحة خرائكم.
- شكرًا، قال كارل روجرز لرجل المافيا، وهو يتناول قدحه.
- في المرة القادمة ضاعف لي هذا الخراء، أمر ماك رجل المافيا.
- أنا لن أحملك على كتفي، يا دين الكلب، همهم روجرز عابسًا.
- على قضيبك.
- على قضيبي أقل.
- روجرز، ماذا لديك؟ اخرأ!
- مروحة الورق الأبيض يهددك، يقول لك توقف، أمريكا صينية، وإلى الأبد.
- يهددني هذا الخرع؟
- يهددك.
- لم يعد يهددني أحد، لم يعد يهددني شيء. كل ما قالته أمي في رؤاي وقع، ولم أعد أرى أمي. أنا لا أُقهر، عدم يولد من عدم. معجزة الموت أنا، فلم أعد أنتظر الموت، لم يعد الموت ينتظرني. حضوري غياب، فراغي امتلاء، سكوني عواصف. اللذات قدحي، الرغبات عجزي، الانتماء خرائي الإنساني. أنا جيش لا يُهزم، أنا حجة قاطعة، أنا عقبة كأداء. خالد. كالآلهة الوثنية. يقرع الآلهة والشياطين كؤوسهم بكأسي، ونشرب نخب موت البشر ونهايتهم على الأرض، نهايتهم الأبدية، فلا شيء في السماء يدهش، وعلى الأرض لم يعد الانحطاط مُلكًا لأحد غيري. ليس هناك أحد غيرى من سيخلد في ضمير البشر، ليس هناك أحد غيري من سيعيش بعد كل الشرور.
- فلنر إذا ما كنت لا تُقهر، نبر كارل مخرجًا مسدسه، وفي نفس اللحظة أحاطت صدغه عشرات الفوهات الفضية.
- يا ابن القحبة! يا ابن القحبة! ردد ماكبث ضاربًا بسلاحه بعد أن خلصه إياه.
رماه أرضًا تحت أقدام رجاله، ولولا وصول جين لأنهوا عليه.
- أنت لن تفعل هذا في كارل، ماك، صاحت جين، وهي تأخذ روجرز بين ذراعيها، كفاك منه غيرة، هو اليوم في واشنطن، وأنا لا أراه إلا مرة أو مرتين في الشهر.
- غيرتي من عدم غيرتي في هذا العدم.
- كيف لا تكون ماكبث وأنت ماكبث؟
- لا تسألي ماكبث عن ماكبث، اسألي ماكبث عن جين.
- تركت جين ماكبث.
- كل الرجال ماكبث.
- كل الرجال كارل.
- أكرهكما! صاح ماكبث، وهو يستشيط غضبًا، ليبتلعكما الجحيم، أنتما الاثنان! روحا إلى ما لا يروح المرء إليه! ابتعدا عن نظري! ألعنكما! بَرّه!














القسم الثاني

سافر ماكبث في قطاره تي جي في، ونادى: "جين، لا تتركيني!" طرد كل رجال المافيا الذين يسهرون عليه، ويلبون مطالبه، وارتدى ثوب العزلة في عتمة عالمه، عزلة زحف منها البرد إلى كل جسده، فاقشعر، وما لبث أن جمد خلف مكتبه، وهمس: "جين، تعالي نعمل دورة في حياة العبث حياتي! لم يعد لدي ما أعطيك، فثمن الجريمة كان غاليًا. ماذا يبقى للمرء بعد أن يفقد رجولته؟ لا شيء من العلو حتى ولو كان واقفًا على أعلى القمم. لم تكن الرياح تقوى على زحزحتي، وكان العالم يرزح تحت قدمي، الأشجار في وضع العبادة، والأنهار في وضع الحيايا، والنساء في وضع الولادة. كانت كل النساء حبلى مني، وكنت سيدها الأوحد، وبعد أن زارتني الوطاويط، ونهشت بأنيابها لحمي، ساقت النساء إلى المواخير، فامتلأت من غيري بعد أن امتلأت مني، وجاءت إلى الحياة بقوافل منها. ربما كنت وطواطًا دون أن أعلم، أعلم أن أمي كانت وطواطة، فهل أنتِ وطواطة مثلها، يا جين؟ اذهبي إلى... أريد أن... القمر ليس... يريد القمر أن... في هذه العتمة القمر غائب والبرد دائم. أيها القمر، اتركني أضاجعك بينا جين تنظر إلينا، ربما أثرت في قلبها بعض الغيرة لتعود إليّ."
دخل لاكي لوتشيانو، وقال:
- يقوم أصحاب الشوربة الشعبية بإضراب.
- ضد الاحتلال، قال ماك.
- ضد الشوربة الشعبية.
- هل يريدون شوربة كافيارية؟ الشوربة الشعبية أفضل من أكل الخراء، والخراء أنواع، الصيني ألذها. كم هو طيب الرائحة، الخراء الصيني! أمي لم تعرف هذا، عرفت الخبز الفرنسي. ماما، كم هو طيب الرائحة، الخبز الفرنسي! كنت أصيح إعجابًا. سأصنع لك منه كل يوم، ماك، كانت ماما تقول لي. ماما، رائحة الخبز الفرنسي رائحتك، لهذا هو طيب الرائحة، كنت أقول لماما.
- يقوم أصحاب المصحات بإضراب.
- ضد الاحتلال.
- ضد المصحات.
- هل يريدون مخدرات نأتيهم بها من كولومبيا؟ المصحات أفضل مكان يجدون فيه حُقَن المورفين. تعذبت أمي كثيرًا دون أن تأخذ حقنة مورفين واحدة، لهذا لم تمت هنيئة البال، لم ترتح في حياتها، ولم ترتح في مماتها. ماما، كيف أريحك؟ أريد أن أمرض عنك، كنت أقول لماما. لا أريدك أن تريحني، يا ماك، كانت ماما تقول لي. ماما، أريد أن أتألم عنك، ألمك كثير، وأنا أريد أن أقاسمك إياه، كنت أقول لماما.
- يقوم أصحاب المقطورات بإضراب.
- ضد الاحتلال.
- ضد المقطورات.
- هل يريدون البيت الأبيض مسكنًا؟ المقطورات أفضل من النوم في العراء على الأرصفة، بلاط الأرصفة بارد جامد لا قلب له كقلب أمي. ماما، هل أنام إلى جانبك قليلاً؟ كنت أقول لماما. لا، يا ماك، أنت كبير اليوم، كانت ماما تقول لي. هناك من يريد خنقي، شيطان بثلاثة رؤوس وست أذرع. كنت أقول لماما. الشياطين طيبة لا تسبب الأذى لأحد، اذهب، والعب معها، كانت ماما تطلب مني. لا أريد أن ألعب معها، أريد أن أنام قليلاً إلى جانبك، كنت أقول لماما.
- ماذا سنفعل؟
- اكسر الإضراب بالقوة، وابعث بكل أبناء القحبة هؤلاء إلى الجحيم!
دخل فرانك كوستيللو، وقال.
- يقوم أصحاب الشوربة الشعبية بمواجهة جنود الاحتلال.
- ضد الشوربة الشعبية، قال ماك.
- ضد الاحتلال.
- هل يريدون أن يُقتلوا عن بكرة أبيهم؟ الاحتلال أفضل من البنوك. ماتت ماما، وجعلتُ من أحد البنوك أمي، ملأت خزائنه بالنقود، ولجأت إلى كل الحيل الشيطانية في سبيل ذلك، إلى كل الوسائل الجهنمية، أحرقت المدن بالشموس، وألهيت البشر بالحروب. كنت من الطيبة لدرجة أني فعلت ما لم أفعل في حياة أمي، ما لم أجرؤ على فعله.
- يقوم أصحاب المصحات بمواجهة جنود الاحتلال.
- ضد المصحات.
- ضد الاحتلال.
- هل يريدون أن يهدموا المصحات على رؤوسهم؟ الاحتلال قلبه أكثر رأفة من كل الأطباء. ماتت ماما، والأطباء كانوا هناك، يمضغون العلك فوق رأسها، ولا يفعلون شيئًا للتخفيف من أوجاعها. كانوا يتحاورون، ويتضاحكون. وضعتُ رأسي على صدرها، وسمعت دقات قلبها الوانية، ثم توقف قلبها عن الدق.
- يقوم أصحاب المقطورات بمواجهة جنود الاحتلال.
- ضد المقطورات.
- ضد الاحتلال.
- هل يريدون أن يُلقوا بهم تحت قدمي تمثال الحرية؟ الاحتلال أكثر حرية من كل سفن النفط الراسية في ميناء نيويورك. ماما، أريد أن أعمل معهم، كنت أقول لماما. لا، يا ماك، لا أريد أن تعمل مع هؤلاء الناس، لا أريد أن أشم رائحة العرب من جسدك، كانت ماما تقول لي. رائحة العرب رائحة الزمن الحاضر، كنت أقول لماما، رائحة الحرية الأمريكية، فاتركيني أكن أمريكيًا حرًا، يا ماما، اتركيني أكن أمريكيًا ثريًا.
- ماذا سنفعل؟
- قُد كل المافياوات إلى جانب المنتفضين، بانتظار قدوم الفرنسيين الحاملين بنادقهم بيد وبيد فروج نسائهم!
دخل جو أدونيس، وقال:
- يقوم أصحاب الشوربة الشعبية بالاعتصام في الكنائس.
- ضد الشوربة الشعبية.
- ضد الكنائس.
- هل يريدون تبديل الله بالله؟ الكنائس تبقى بيوت الله. لم تنقطع ماما عن الذهاب إلى قداس يوم الأحد مرة واحدة إلى أن ماتت. كان عليها أن تموت لتموت علاقتها بالله، وكم كنت سعيدًا بموتها. حررني موتها من العبادة، فلم أعد أذهب إلى قداس يوم الأحد. تحررت من علاقتها بالله، وأقمت علاقتي بكل ما هو ليس مقدسًا، الجنس أول شيء، والنقود، والسلطة. جعلت من ثلاثتها آلهتي الثلاثة، ومن العالم كنيستي التي يقام فيها القداس كل يوم.
- يقوم أصحاب المصحات بالاعتصام في الكنائس.
- ضد المصحات.
- ضد الكنائس.
- هل يريدون الصلاة وهم يديرون ظهورهم لله؟ على الله أن يرى وجوههم ليعرفها يوم القيامة ويُدخلهم الجنة. لم يكن هذا رأي ماما، كانت أمي تقول لا توجد جنة على الأرض، ولا توجد جنة في السماء. ماما، إذن لِمَ الذهاب إلى القداس كل يوم أحد؟ كنت أسأل ماما. لاحتمال جحيم الأرض، كانت ماما تجيب.
- يقوم أصحاب المقطورات بالاعتصام في الكنائس.
- ضد المقطورات.
- ضد الكنائس.
- هل يأملون بالكنائس مسكنًا؟ الكنائس مليئة بساكنيها الذين هم الملائكة. لم يكن هذا رأي ماما، هم الشياطين، كانت ماما تقول لي. ساكنو الكنائس هم الشياطين، لهذا السبب كانت الكنائس أكثر رحمة من أي مكان آخر. الشياطين هم الذين يسكنون الكنائس بعد أن تركوا الأرض للبشر يعيثون فيها فسادًا، كانت ماما تضيف. والنساء؟ كنت أسأل ماما. النساء لسن شياطين ولسن ملائكة، كنبيذ البوجوليه النساء، يشربهن الرجال ليكونوا ملائكة أو شياطين، كانت ماما تجيب.
- ماذا سنفعل؟
- لا شيء، اترك الله يفعل مكانك.
فجأة، انفجر ماكبث باكيًا.
- هل تبكي من أجل أمواتك أم من أجل أحيائك؟ سأل جو.
- أبكي من أجل جين.
- هل تركتك هذه المرة نهائيَا؟ سأل فرانك.
- نهائيًا.
- ماذا ستفعل؟ سأل لاكي.
- في حياتي، همهم ماكبث، حاولت أن أضاجع كل نوع من النساء، ولكن لم يكنّ كجين، كان هناك شيء ناقص.
- ما هو؟ سأل جو.
- آه! لو كنت أعرف.
- كل مُحَرَّرٍ لا يعرف، قال فرانك.
- آه! لو كنت مستَرَقًا.
- كل حريق في كاليفورنيا لا يُعرف من المجرم فاعله، قال لاكي.
- أما أنا فأعرف المجرم.
- لماذا لا تشي به؟ سأل لاكي.
- لا أستطيع.
- لماذا تتركه حرًا؟ سأل فرانك.
- أنا لا أتركه حرًا.
- إذن كيف؟ سأل جو.
- يرتدي الناس كلهم ثياب النعامة، فهل هذه هي الحرية؟ أنا أرتديه، أحيانًا هو يرتديني، أنا لا أبحث عمن ينقذني من خرائي.
- أنقذنا لاكي، أنا وفرانك، من الموت ضربًا، روى جو أدونيس، فخلعنا ثوب النعامة، وارتدينا ثوب الوطواط، كان زعران البرونكس على وشك أن يقتلوه ليلة عيد الميلاد، وكان وحيدًا مع موعد في أرض معادية. ونحن ننتظره في السيارة، سمعنا صرخاته، لكننا لم نتحرك من مكاننا، كنا نتدرب على إنسانيتنا لما فجأة رحنا نركض، وأطلقنا النار، هرب من هرب، وسقط من سقط، كان لاكي على وشك أن يلفظ نفسه الأخير.
- وفي إحدى المرات، تابع فرانك كوستيللو، رمى رجال مافيا عدوة جو في الهدسون، وجو لا يتقن السباحة. لم نكن أنا ولاكي نحب جو كثيرًا، رأيناهم، وهم يرمونه بين أسنان الموت، ونحن نتخبأ خلف عمود. ذهبوا، وشيئًا فشيئًا أخذت دوائر الماء تتراخى، وتكاد تتلاشى، فقفزنا في النهر، وأخرجنا جو، وعلى الرصيف جعلناه يبصق ما ابتلعه من شخاخ النيويوركيين.
- لكن فرانك كان متينًا صلبًا كالحديد، قال لاكي لوتشيانو بدوره، ولولا ذلك لما استطاع الصمود، وكل إبر الخراء التي أفرغوها في جسده. وجدناه، أنا وجو، ملقى بين صناديق القمامة، فحملناه إلى أقرب مصحة، وأعطوه كل المضادات التي ردت إليه الحياة. في شقتي، احتفلنا بالحياة على طريقتنا نحن الثلاثة، عندما مارسنا الحب كالآلهة. كنا إخوة ما بيننا، وكنا عشاقًا.
- كنا عشاقًا ليس لبعضنا، وسّع جو أدونيس، ربما كانت في هذا بعض الحقيقة، كنا عشاقًا لسلفانا. تلك النابوليتانية الخارقة الجمال، ابنة أنطونيو أنطونيو، أكبر مافيوزو في البلد.
- الجمال خارق لأنه جمالها، سلفانا، فصّل فرانك كوستيللو، شعرها الأسود المنسدل، عيناها العسليتان الفحميتان، وجهها الأسمر الأرقق، قامتها الطويلة الرشيقة.
- الحب مجنون لأنه حبها، سلفانا، أضاف لاكي لوتشيانو، قبلاتها الملتهبة، لمساتها المثيرة، لَذّاتها الربانية، مراكبها المحطمة للأمواج.
- أحبتنا نحن الثلاثة، سلفانا، عاد جو أدونيس إلى القول بعد أن نشق خطًا من البودرة، وقدمتنا واحدًا واحدًا لأبيها أنطونيو أنطونيو ليختار لها، فلم يختر لها، أعجبناه كلنا، وتركنا في ذلنا. اكشفي لي ثديك، يا سلفانا، فتكشف، اكشفي لي بطنك، يا سلفانا، فتكشف، اكشفي لي فخذك، يا سلفانا، فتكشف.
- في البداية، كنا نذهب معها واحدًا واحدًا إلى مُلكهم الواسع، عاد فرانك كوستيللو إلى القول بعد أن نشق خطًا من البودرة، ثم أخذنا نصطحبها نحن الثلاثة. لم يكن الأمر طبيعيًا، لكن عائلتها لم تبد أي تذمر. بدا أنطونيو أنطونيو راضيًا على وضع لن يقبله أب في الوجود، فيكثر من أوامره بمد الموائد وفتح القناني. المسي لي ثديي، يا سلفانا، فتلمس، المسي لي بطني، يا سلفانا، فتلمس، المسي لي فخذي، يا سلفانا، فتلمس.
- كان الاحتفال بنا نحن الثلاثة احتفال إيطاليا بخطيب الابنة المدللة، عاد لاكي لوتشيانو إلى القول بعد أن نشق خطًا من البودرة، فأيّنا الخطيب، وأيّنا الزوج القادم، سلفانا لن تتزوجنا نحن الثلاثة. غطي لي ثديك، يا سلفانا، فتغطي، غطي لي بطنك، يا سلفانا، فتغطي، غطي لي فخذك، يا سلفانا، فتغطي.
- احتدمت المنافسة ما بيننا لأجل الظفر بسلفانا بعد الظفر بقلبها، وكانت السمراء النابوليتانية تنفجر ضاحكة على مرآنا، كان يسعدها أن ترانا نتصارع عليها، ولتغذي الصراع، كانت تمنع جسدها عن الواحد وتهبه للآخر، كانت تتلاعب بنا على هواها.
- وصلت المنافسة ما بيننا إلى حد تهديد أحدنا الآخر بالقتل، وكأن سلفانا كانت تريد ذلك، فمنعت جسدها عن ثلاثتنا، بينما ضاعف أنطونيو أنطونيو، أبوها، من الاحتفاء بنا.
- في أحد الأيام، اتخذ كل منا القرار ذاته، تصفية الآخر، فكانت المواجهة بين المافيات الثلاث التي لنا، سقط الكثير من رجالنا، وقبل أن يصرع الواحد منا الآخر، فتحنا أعيننا، واسترشدنا بعقلنا.
- ثبنا إلى رشدنا بعد أن ذهبنا برشدنا.
- بحثنا عن الأسباب.
- من يسبب كارثتنا.
- من يريد هلاكنا.
- من يسبب لنا المتاعب.
- المسبب للاضطرابات ما بيننا.
- أنطونيو أنطونبو، أبو سلفانا.
- بسلفانا أراد الصعود على أكتافنا، والصعود في مفهومه الإجرامي سقوط.
- اتحدنا نحن الثلاثة وقتلناه.
- صعدنا على كتفيه.
- سلفانا، المشمئزة من الحياة، لم يعد يمكنها التصبر على الألم. أصبحت يومًا، فإذا بجسدها ملقى في أحضان الموت.
- الآن وأنتِ لي، سلفانا، انتحب جو أدونيس، ها أنا بين ذراعيكِ مستسلمًا لذراعيكِ، على سطح ناطحة السحاب هذه طائر هو أنا يحلق بأمركِ فوق السحاب، فهل ما بعد السحاب مكان يذهب إليه العاشق بسلفانا؟ ثديك السحاب، وبطنك، وظهرك! أرفع ثديك، وأكتشف جوهر الحياة، أدخل في بطنك، وأكتشف معنى الأشياء، أخترق ظهرك، وأكتشف سر الملذات. أضيع على جسدك، فترشدينني بقدمك إلى الطريق، أذوق مر الويل من يدك اليمنى، وباليد اليسرى تذيقينني حلو العيش، أرثي لأحزان غيري، فيرجِعُ عَوْدي على بّدئي.
- الآن وأنتِ لي، سلفانا، انتحب فرانك كوستيللو، ها أنا تحت قدميك ذليل قدميك، على عتبة ناطحة السحاب هذه كلب هو أنا ينبح بأمرك بين كلاب الأرض، فهل ما بعد الكلاب أمساخ يكونها العاشق بسلفانا؟ ثديك الأمساخ، وبطنك، وظهرك! أنزل بثديك، وأرى وحل الحياة، أخرج من بطنك، وأرى دم الأشياء، أقذف على ظهرك، وأرى بأس الديدان. أطارد جسدك، فتوقعينني بقدمك في الشَّرَك، أبادلك الشر بالشر، أنا وأنت شر الناس، تشترطين عليّ الضعة طريقةً في العيش، وتضعينني في موضع الخطر.
- الآن وأنتِ لي، سلفانا، انتحب لاكي لوتشيانو، ها أنا في ظلكِ غريق ظلكِ، في مضيق الإيست ريفر سمكة هي أنا تختنق بأمرك وأسماك نيويورك، فهل ما بعد الأسماك المختنقة سمكة يكونها العاشق بسلفانا؟ ثديك الأسماك، وبطنك، وظهرك. أقطع شفتيّ على حلمتك، وأسعى لتحقيق هدف الانطفاء، أحطم أصابعي على بطنك، وتنهار البنيان، اغتصب الشياطين على ظهرك، وأكون في وضع دفاعي. أبحث عن جسدك، فيوليني ظلك ظهره، يعاملني ظلك معاملة الزائل من الوجود، كنتُ زوال المملكة قبل الزوال، وبعد الزوال الشكوك والضجر.
- لم أسيطر على أهوائي، اعترف جو أدونيس.
- سيطرت على أهوائي، اعترف فرانك كوستيللو.
- لم تعد لي أهواء أسيطر عليها، اعترف لاكي لوتشيانو.
- الصرامة لا تقبلها إلا الصرامة.
- الصرامة تقبلها الصرامة.
- لم تعد لي صرامة تقبلها أو لا تقبلها الصرامة.
- أظهرت ادعاءاتي.
- لم أظهر ادعاءاتي.
- لم تعد لي ادعاءات أظهرها.
- الأهواء والصرامة والادعاءات كانت أشياء للنفس ولا أشياء.
- أنفاس للنفس ولا أنفاس.
- أعباء، دون سلفانا أعباء.
- سلفانا!
- سلفانا!
- سلفانا!
- كانت هناك ثلاث سلفانا.
- انتهت الغربة الروحية ، وبدأت غرابة الذهن.
- كان علينا واجب التشارك في المسئولية.
- كنا ثلاثة وغدونا واحدًا.
- لصوننا من عثرات الحياة.
- فللضرورة أحكام.
أطل ثلاثتهم من النافذة، كان ليل نيويورك بين ناطحات السحاب أساطيل من الزنوج المبحرة، ولم يكن الزنوج شيئًا آخر غير النجوم. كانت النجوم السوداء تتلألأ كالماسات الشقراء، وتتنفس كالصدور البيضاء، وكانت الحلمات السوداء، الباحثة عن شفاه شهاب، لا تعرف النوم دون عناق. تفجرت الأسئلة في رؤوس الأصدقاء الثلاثة، فالرغبة كانت أقوى من كل شيء، أقوى من العلو، أقوى من الدنو، أقوى من الفناء. كانت الرغبة قدر الإنسان، والهوى قدر الشيطان، لهذا السبب كان هواهم المجنون بسلفانا. هواهم الملعون. لهذا السبب كان جرمهم المشئوم بسلفانا، ضعفهم العقلي، نكاحهم الخالد، فجسد سلفانا كان الليل الأبيض الذي لم تعرفه نيويورك، ولم تجهله مواخيرها. وبينا هم كذلك، انبثقت من قلب ليل نيويورك الأسود ثلاثة شهب على صورهم، وراحت أقدارهم تحترق هناك. ثلاثة أقدار كانت في الحقيقة قدرًا واحدًا، وثلاث ملاحم، وثلاث فواجع.

*

بعد أن أنهى الثلاثي المافيوي الإضرابات، باسم ماكبث، وبدد قوى المضربين، اجتمع جو وفرانك ولاكي، ودار بينهم الحديث التالي.
- دومًا ما كان ماك قدوة سيئة لنا، بدأ جو الكلام.
- منافس خطير، أكد فرانك.
- ومخادع مستقيم، أضاف لاكي.
- المشكل ليس تحرير أمريكا من الصينيين، المشكل تحرير أمريكا من ماكبث، عاد جو إلى القول.
- الإضرابات كنا من ورائها، ابتسم فرانك.
- دفعنا إليها ضد ماك، وأنهينا عليها بأمر ماك، ابتسم لاكي.
- للتقليل من الشعبية التي من الممكن أن تعلو بماك من جديد، وتعيده إلى البيت الأبيض.
- لتفادي ذلك، لا بد مما ليس بُدٌّ مِنْهُ.
- التحريض على الإضرابات، التحريض على الاضطرابات، التحريض على التمرد، التحريض على التفجر، التحريض على الفجور، التحريض على الموبقات، التحريض على المحرمات، التحريض على الجهل، التحريض...
- على الشر.
- دون تحفظ.
- كيلا نخطئ الهدف.
- ما لا يُدرك كُلُّه يُترك جُلُّه.
- كذا أو ما يزيد.
- سَواء بِسَواء.
- كما نشاء.
- مهما طال المَطال.
- الأمور متعلقة بنا.





























القسم الثالث

بلغ تبادل إطلاق النار أوجه بين فروع المافيا الإيطالية، تبادل إطلاق نار استعملت فيه كل أنواع الأسلحة الأوتوماتيكية، ولم يشعر المتقاتلون بالجيش الصيني إلا بعد أن ضيق قبضته عليهم، وراح يقذفهم بعياراته الثقيلة، فاتحد رجال المافيا جميعًا لصد الهجوم الصيني، ولولا تدفق شباب البرونكس العاطل عن العمل لما استطاعوا فك الحصار، والهرب من النيران الصفراء. نجا فرانك كوستيللو بجلده، وكذلك جو أدونيس، ذهب كل منهما من ناحية، على أن يعودا إلى اللقاء في "الكلب اليقظ".
- ولكنك فاقد التوازن، أدونيس، صاح ماكبث، تريدهم أن يقتلوا الرئيس الأمريكي القادم!
- لم يكن سوى اشتباك صغير، برر جو أدونيس.
- الجيش الصيني برمته، وتقول اشتباكًا صغيرًا!
- الواقع أننا لم نتوقع أن يصمد خصومنا كثيرًا، برر فرانك كوستيللو.
- أنت ترى العالم في أبشع صوره وتسعى إلى أبشع الأبشع مما هو أبشع، لم أكن أتوقع هذا منك، كان عليك ألا توافق جو على ما فعل. تصور أنهم أصابوه، أنا لن أجعل منك رئيسًا بدله.
- هذا آخر ما أفكر فيه.
- وأول ما تفكر فيه؟
- مثلك.
- مثلي ماذا؟
- فرجي.
- كلانا مثل الآخر، وكلانا ليس مثل الكل، ويا لحظ فرجينا!
- ما لم يجدّ طارئ.
- خذ على نفسك النضال ضد الجُرمية.
- لستُ من طراز الأبطال.
- اجمع الكفاءة من أطرافها.
- يتطرق الشك إلى فكري.
- تطلع إلى المستقبل.
- مع الطمع الغرور.
دخلت كيلي، وهي في غاية السعادة.
- أحمل إليكم الحلوى التي تروج سوقها في باريس، قالت أول ما قالت، وهي تمد علبة كبيرة، ضراط الراهبة، فطائر مدورة كالكريات.
تناول فرانك العلبة، فتحها، والتهم بعض الكريات.
- ضراط راهبة بهذه الطيبة أنا لم أذق!
اختطف جو العلبة، والتهم بعض الكريات، هو الآخر.
- لم أكن أعلم أن ضراط الراهبات على مثل هذه الزكاوة!
- وضراط الأسقف؟ سخر ماك.
تناول العلبة رجال المافيا، وراحوا بضراط الراهبة التهامًا.
- اطلب لي واحد تي جي في، يا ماك، هلا أردت؟ قالت كيلي.
- واحد تي جي في للجميع، أمر ماكبث.
- لم يزل المساء بعيدًا، قال جو.
- أفرغي ما في جعبتك بسرعةِ القطارِ الفرنسيّ الكبيرة، حث ماكبث السيدة الشابة.
- طوني...
- تريدين القول الرئيس أنطوان، قاطعها زوجها، وهو يدخل، فتلون وجه كيلي أزرق فأبيض فأحمر.
- الرئيس أنطوان أمر بإرسال الأسطول الفرنسي إلى جزائر الريح، الأنتيي، وعلى التحديد إلى جزيرة الورود البيض، المارتينيك، وهم في طريقهم إلينا.
- فرانك كوستيللو سيقود كل فرق المافيا، وجو أدونيس سيغادر في الحال للاجتماع بقيادة المارينز في الغرب، فالغرب، كما تعلمون، فلت من براثن الاحتلال، وبقي أرضًا أمريكية حرة، التعدي البحري عليه أن يتجاوز مساحات كبيرة حتى يصل إلينا ويعيد بناء الديمقراطية. لا تجرعي تي جي فيكِ دفعة واحدة، وإلا فقدت الرشد، بينما نحن نريد أن نفقد الرشد بتحرير بلدنا دفعة واحدة. احضر لغريغوري ويسكيه الناشف كالعادة، قال لرجل المافيا الذي يقوم مقام النادل.
- شكرًا، قال غريغوري.
- سيتم التنسيق بالطبع مع الإنزال الفرنسي.
- واغتيال مروحة الورق الأبيض؟ سأل غريغوري.
- سيتم أيضًا مع الإنزال الفرنسي، ميراندا أمس كانت هنا، نجحت في تعيين لوتشيانو لها نائبًا، ولوتشيانو يعرف ما ينتظره. لوتشيانو يقرأ ما في رأسي، وينفذ ما في يدي.
- مع الإنزال مروحة الورق الأبيض سينتحر، فلا داعي لقتله وتعريض ميراندا ولوتشيانو للخطر، حلل صديق ماكبث.
- ولكنه لا يملك حس النكتة، قدم ماك، فكيف تريده أن ينتحر؟
- شكرًا، قال غريغوري لرجل المافيا، وهو يتناول قدحه.
- ولا تثمله الدماء، أضاف ماكبث.
- أية فلسفة فلسفتك؟ سخر غريغوري.
- فلسفة الخراء، رد ماك على السخرية بالمثل.
- على أي حال، تردد غريغوري، سيموت رئيسنا الصيني الأصل بشكل أو بآخر.
- بانتظار ذلك يجب أن يعمل رئيس بلدية نيويورك شيئًا، قال ماكبث.
- هذا ما فكرت فيه، قالت كيلي، وقد أنهت قدحها، وداخت، ففضلت القعود.
- هل فكرتِ فيّ، يا حبيبتي، وأنت في باريس؟ سأل الزوج على حين غرة.
- لا!
- أرى أنه لا يسعدكَ ذلك، علق ماك.
- وأنا، اعترف غريغوري.
- لم تفكر فيّ؟ استغربت كيلي.
- فكرت في امرأة أخرى، صهباء، كنتُ أعرفها، كشف الزوج. كنتِ غائبة، وكانت الفرصة. وضعتُ قنينة شمبانيا في الثلاجة، قلت ستأتي، وانتظرت.
- غبتُ يومًا بالجسد وإذا به يخونني بالفكر، حزنت كيلي.
- الخيانة بالفكر لذيذة، الخيانة بالفكر ألذ من الخيانة بالفعل، رمى غريغوري.
- على غريغوري أن يقطع الماء عن معسكرات الجيش الصيني، اقترح جو أدونيس، وهو يضع قدحه فارغًا، ويقول، سأركب أول طائرة ذاهبة إلى لوس أنجلس.
- مع السلامة، هتف ماك، ثم لغريغوري، أنت لن تقطع الماء بل ستلوثه، هذا هو الفعل، فلسفة الخراء الحق.
- وإذا ما شربه بعض الأمريكان؟
- على قفاك!
- على قفاي الأمريكان؟
- كل من لا يعمل من الأمريكيين على تحرير أمريكا على قفاك!
- روحك المعنوية في الحضيض كما أرى.
- نريدهم أن يموتوا بالآلاف، بعشرات الآلاف، بمئات الآلاف، أولئك الصينيون، فيخرأوا في ألبستهم، ويهربوا بمحض إرادتهم. هكذا تتحرر الذئاب، فلا تحمل الأرصفة معها إلى المواخير، هكذا نؤسس لمواخير أخرى رقمية خالية من عبث الحضارة الرصيفية.

* * *

وبينا رجال المافيا يسوقون جو أدونيس إلى مطار جون كنيدي، لمح الرئيس القادم للولايات المتحدة الآنستين ستون ومارتن، وهما تغذان السير، وتتلفتان، فأوقف السيارة، وأخذ يراقبهما عن كثب، وكل نيويورك لا تبالي بهما. عند مفترق الطرق، انفصلتا، فاحتار جو: أية امرأة يتبع؟ قرر أن تكون ستون التي بدأت تركض، وكتفها تدق الأكتاف، وعلى الأرصفة يصفق أجنحته من الرعب الحمام، ويحلق بين ناطحات السحاب. فوجئ جو بدخول ستون إلى مركز قيادة الاحتلال، فلبد بجذع شجرة، لا يدري ما يفعل. حار في أمره، وفكر في حمام نيويورك، وهو يرفع رأسه إلى أعلى، ولم يجده بين ناطحات السحاب. وللمرة الثانية، فوجئ جو بظهور مارتن، وبدخولها كما دخلت ستون إلى مركز القيادة الصينية. جاء رجال المافيا بالسيارة حتى المكان الذي يخفي جو نفسه فيه، وانتظروا الأمر منه. لم يعد الحمام إلى الأرصفة، فكر جو. وفي نفس اللحظة، خرجت الآنستان من مركز قيادة الاحتلال. أول ما لمحتا السيارة السوداء أخذتا تركضان، فصعد جو، وتمكن رجاله بسهولة من القبض على الجاسوستين. حقق ماكبث معهما، فلم تعترفا بشيء. أمر بإلقائهما في كهف "الكلب اليقظ"، وهذه المرة، أخذ جو الطائرة إلى لوس أنجلس.

* * *

غادرت فرقة أولى من الجيش الصيني نيويورك بآلياتها وجنودها إلى الحدود الكندية، فالمعلومات التي في حوزة القيادة تقول "سيكون اقتحام الحلفاء من كندا"، وفرقة ثانية إلى ميامي للمعلومات المكملة "سيكون إنزال أسترالي في ميامي". استولى الرعب على من تبقى من جنود الجيش الصيني، وهم يرون أنفسهم يتساقطون في مرايا نيويورك. كانوا الكائنات التي لم تكن، وفي الأفكار لم يكونوا خالدين. بدّلوا أماكن معسكراتهم، وفي كل مرة كان يقع لهم الشيء ذاته، فذهبوا إلى دار البلدية. لم تنفع الذرائع التي ساقها رئيسها، غريغوري رامزي، أن الأمر يتجاوز إرادته، والدليل على ذلك تسمم أمريكيين شربوا من ماء كان للجميع، ورموه في سجن ريكرز آيلاند. انقض أصحاب دون السكن الثابت على المعسكرات التي أخليت، وكان مصيرهم مصير الصينيين، فعدم الوجود للجميع عدم الوجود.
فتح لاكي لوتشيانو باب المكتب البيضوي بهدوء، كان كارل روجرز ومروحة الورق الأبيض يتهامسان، وجبهة الواحد قرب جبهة الآخر. في الحال، فهم الأمريكي الأشقر كل شيء، فنهض جامعًا الرئيس الأمريكي من أصل صيني بين ذراعيه ليحميه. سقط روجرز صريعًا، ومن الذهول لم يستطع الرجل القوي الصراخ، ولا الضغط على زر من أزراره الواصلة إياه بالأمن. أرداه لوتشيانو بصامته قتيلاً، وعجل الخروح من باب خلفي كانت ميراندا تنتظره في سيارتها عنده. في تلك اللحظة، بدأ الإنزال الفرنسي على سواحل نيويورك.
تقدم رجال الجي آيز بجيش وهمي من المطاط في ظهور الصينيين الباقين في نيويورك حتى اللحظة التي انقضوا فيها بجيش حقيقي على فلولهم. دارت المعركة من الغروب إلى الشروق، معركة من أعتى المعارك، المدافع ملأت الفراغات بنيرانها، فامتلأ الوجود بالوجود، والظواهر لم تعد نسبية، كانت دائمة، كلما تقدم المارينز من الغرب خطوة مقابل تقدم الفرنسيين من الشرق خطوة، كلما اقترب فكا الكماشة من بعضهما، كلما حلمت القروش باللحم الآدميّ. بعد ذلك، لم يكن من الصعب تصفية فرق الجيش الصيني في ميامي وعلى الحدود الكندية، ولم يكن من السهل ذلك. تحقق الانتصار بفضل الآنستين ستون ومارتن، "الجاسوستين" اللتين غررتا بجيش الموت، فحررهما ماكبث. كانتا نيويورك المحررة. بحمامها.

* * *

حضر لاكي لوتشيانو وفرانك كوستيللو وجو أدونيس إلى مكتب ماكبث، وماكبث يتنكر تحت ثوب النعامة، بينا هو في منتهى السعادة.
- أربعة تي جي في بسرعة، هتف ماك برجل المافيا، سندق أقداحنا بأقداحنا، ونشرب نخب التحرير، الانتصار، الخراء في أجمل صوره.
- الواقع أننا جئنا من أجل شيء آخر، قال جو.
- لا تكن عجولاً، يا أدونيس، الانتخابات الرئاسية أنا أعرف كيف تكسبها. كل شيء يُقَرّر مُقَدّمًا، وبعد ذلك نعالج باليد الناس. سأخترع لك كلامًا جديدًا، على الكلمات أن تتكلم معك، وليس فقط أن تُقرأ. يتكلمون بإسهاب، يعملون سطورًا أنيقة من الكلمات، مذ تركوا شكسبير وراءهم حتى الغد. وعندما يكون لك الحكم، أول شيء ستفعله، ستفتح مكتبات جديدة، وستمنع كل زمر المافيا الصغيرة يمينًا ويسارًا، التي هي هنا باسم الديمقراطية، لكن النظام سيدافع عنها، لأنه رابح معها، بما أنها تُفرق. هكذا أنت توثق الكلام بالفعل، نيتشه بالكبابيد، المال بالمواخير. أضف إلى ذلك لا يوجد تراجيديا، يوجد قتل مجاني، السياسة دون تراجيديا ليست سياسة، كالأدب دون تراجيديا ليس أدبًا. اسأل عارفًا في الأمر مثلي، سُحقت إنسانيته، ودُعست موهبته. أنا لست ثرثارًا، أنا نَكّاح.
- ليست الانتخابات الرئاسية، قال فرانك.
- دعني أحزر، إن لم تكن الانتخابات الرئاسية، فهو تضييق قبضتنا على شبكات المخدرات. هنا لا بد أن يكون جو بقدر فعله بالفعل، فهي مملكات المافيا الكبيرة، والكلام الجديد كالقديم لا ينفع معها، بل قضيب الرجل الذي له.
- ليست شبكات المخدرات، قال لاكي.
- إذن ماذا، يا قحبة الخراء؟ صالونات التدليك بعد أن سحقنا الصينيين. "الملاك الأصفر" سنجعله أشقر، وكل صالونات التدليك في الولايات المتحدة ستكون وسيلتنا لضخ خزائن الدولة بالدولارات، فلا نتوقف على الرؤساء المدراء العامين للبنوك، أولئك المنايك.
- ليست صالونات التدليك، قال أدونيس.
- تطهير مدينة نيويورك من المجرمين.
- لا.
- تقصير طول النعامات التي تتميز باستطالة السيقان.
- لا.
- التظاهر بالشجاعة.
- لا.
- لماذا لا تقولون إنكم جئتم من أجل قتلي لأني لا أستحق أن أكون مجرماً طيبًا؟ فهل أرتضي بالموت؟
- نعم.
- هل أرضخ للأمر الواقع؟
- نعم.
- هل أرد القضية إلى نصابها؟
- نعم.
- كان عليّ أن أجمع أدلة الثبوت، فأُكثر من التجارب ولا أُكثر من الأخطاء. في حال كهذه، حددوا معي الأخطار.
- لا.
- أداوم على جهودي.
- لا.
- أرد الصفعات.
- لا.
- أراني أرى، لقد نجحت في إيقاظ ظنونكم.
- نعم.
- في دغدغتها.
- نعم.
- في بعبصتها.
- نعم.
- سيترامى الأمر إلى الفساد.
- لا.
- لن تزول أمامكم المتاعب.
- لا.
- ستسعون إلى حتفكم بظلفكم.
- لا.
- لا تعقدوا الأمر معي، أيها البُلَهَاء! لم أعبث بالدين يومًا ولا بالمبادئ، عبثت بالنقود، بمبادئها لا بالمبادئ، لهذا أرتدي ثوب العبث، ثوب النعامة، ولا أرتدي ثوب المبادئ والدين، ثوب الوطواط، فخضعت لثوب النعامة الذي احتلني ككيمونو الصين يحتل الولايات المتحدة، احتلال الثوب للجسد.
- هذا هو واجبنا نحوك، تحريرك من ثوب النعامة الذي ترتديه، قال ثلاثتهم بصوت واحد.
- هل تمزحون، يا شباب؟ تحريري من ثوب الخراء الذي أرتديه؟ أعطني قدحي، أمر ماك رجل المافيا، ووزع الباقي. تحريري من ثوب النعامة الذي أرتديه؟ هذا أقل ما توقعت، وممن؟ من الرجال الثلاثة الذين أحبهم كأبناء بل أكثر، وأكثر من أثق بهم في الوجود، ابن قحبة هذا الوجود! هؤلاء القِماء! كان من اللازم أن أثق بالبحر.
- لا نريد، قالوا لرجل المافيا الذي أراد الابتعاد بأقداح الكوكتيل.
- هاتها، أمر ماك، ضعها هنا!
وبعد عدة لحظات.
- ها أنا أرى أنني لم أذهب بالاختلاف إلى أقصاه.
- إحراق ثوبك بعد تحريرك ليُدفئ إلى الأبد لنا الخراء، قال جو، وهو ينشق خطًا من البودرة.
- إحراق ثوبي أم إحراق قفاي؟
- لن تكون هذه حربنا الأخيرة، قال لاكي، وهو ينشق خطًا من البودرة.
- كان من الواجب أن أشن كل حروب الخراء لأنجز هذا الخراء.
- تدق الساعة النصف، قال فرانك، وهو ينشق خطًا من البودرة.
- ولكن لي الفضل في تثوير الانحطاط.
- لكل عالم هفوة، قال فرانك.
- استهترت بهواي.
- كَمُسْتَبْضِعٍ تَمْرًا إلى هَجَر، قال لاكي.
- خطيئتي ليست مميتة.
- موتك الموت الزؤام، قال جو.
أخذ ماكبث يدفعهم صائحًا "برّه!"، فأخرج ثلاثتهم مسدساتهم الصامتة، ولم يتحرك أحد من رجال المافيا الحاضرين.
- ما هذا الماخور؟ أيها الحقيرون! كما أرى، حبي للجريمة حبٌ مُعْدٍ! ضبوا لي فرود العاهرة فرودكم! ولكنكم تنسون تفصيلاً صغيرًا، أنا لا أُقهر، نبر، وهو يجرع كل قدحه دفعة واحدة، ويتناول آخر، أينها الكذابة أمي، ابنة القحبة؟ لماذا لم تقل شيئًا؟ جرع قدحه الثاني، وهو يترنح، وعلى أي حال، حياتي لم تكن مرغوبة يومًا. لنتفق على أن الشوربة الشعبية لم يمش حالها، وربما فضلتم أن أناضل من أجل ضراط الراهبة. كم هم بشعون، هؤلاء الأولاد الجميلون! خراءات هم بُلْهُ المافيا هؤلاء، بُلْهٌ بالفعل، يا لقحبة البُلْه!
أخذ ماكبث يرقص رقصة الموت، يفتح جناحيه إلى أقصاهما، ويضرب بهما، يسدد مخالبه، ويضرب بها، يدفع منقاره، ويضرب به.
- الجريمة شهوة، قال ماك لاهثًا، لهذا نحن قتلة، كلنا أبناءٌ للجريمة. نحن لا نعاقب بعضنا، نحن نضاجع بعضنا. المسألة ليست عدم الوفاء! الرجل ينام مع مائة امرأة ألف مائة ألف والمرأة ولا مع واحد! كانت المرأة حرة قبل القوانين التي سنها الرجل، تنام مع من تريد، وليس فقط مع من تحب أو مع من ارتبطت بعقد، مع واحد. لهذا السبب نحن نقتل بعضنا، يقتل الرجل الرجل ليحرر المرأة والرجل. قوانين سنها الرجل ليجعل من المرأة شيئًا من الأشياء، من خلال نظرته إلى الأشياء. الرجوع إلى عهد ما قبل الحضارة الأولى، حضارة النار، حيث كان الحب على طبيعته، على الطبيعة، والحرية على طبيعتها، على الطبيعة. المسألة ليست عدم الحب! الحب هو الوجه الخفي للكره، لهذا السبب كرهتني أمي. الكره هو الوجه الخفي للحب، لهذا السبب أحببت ثلاثتهم. المسألة ليست عدم الثقة! كانت أمي تقول لي "لا تثق بأحد"، فوثقت بمن لا يستحق ذلك، بمن يقول أي شيء ليبرر قتلي: ثوب النعامة الذي أرتديه! أي سبب فنتزي! تبريري! بينما السبب الأساسي آخر، أنا، عقلي، عقليتي، قدراتي، جرائمي، خراءاتي... أنا الخائن لنفسي، لغيري، لأقرب الناس لي، لمن وثقوا بي، وأودعوني أسرارهم. سلفانا... كل مكان من جسدها دفنت فيه رأسي هناك سر اكتشفته، ولم أبح به لأحد.
- بح بأسرارك وسلفانا لنا قبل موتك، أمر جو.
- بح، أيها النجيّ، أمر فرانك.
- بح، فات الأوان، أمر لاكي.
- ولنفكر أنني اخترتهم، هؤلاء الأوغاد، لأنهم كانوا الأكثر أهلاً للرثاء، لقد كنتُ مخطئًا، همهم ماك لنفسه.
- بح، نبر ثلاثتهم.
- على رقبة سلفانا شامة، كشف ماكبث.
- لم نر شامة على رقبة سلفانا، قال جو.
- أنتم لم ترفعوا شعرها عن رقبتها وتحرقوا عليها شفاهكم، فَنّد ماك.
- وماذا أيضًا؟
- تحت ثدي سلفانا شامة.
- لم نر شامة تحت ثدي سلفانا، قال فرانك.
- أنتم لم تقطفوا حلمتها من حديقة ثديها وتفجروا الأقمار على أبدانكم.
- وماذا أيضًا؟
- خلف رِدف سلفانا شامة.
- لم نر شامة خلف رِدف سلفانا، قال لاكي.
- أنتم لم تفهموا لغة الهوى من الفم الثالث للجسد ولم تجادلوا الفلاسفة فيما كان وجودكم.
- أسرار سلفانا لا يعرفها أحد غير قاتل سلفانا، قال جو.
- ولكني لا أعرف سلفانا.
- كل الأسرار التي تعرفها عنها ولا تعرفها! قال فرانك.
- كذب كلها، فما كان ذلك إلا لأن كل واحد علة ومعلول للشهوة الأكثر جنونًا الأكثر مخالفة للصواب ولأني وقعت في غرامها. إنها المرأة الأولى التي أحببتها دون أن أراها في حياتي مرة واحدة.
- كيف إذن قتلتها؟ قال لاكي.
- لم أقتلها.
- القاتل يُقتل، نبر ثلاثتهم، وهم ينشقون خطًا من البودرة.
- لم أقتلها، يا دين الرب!
- قتلتها.
- قتلتُ آباءكم، ولم تفعلوا لي شيئًا.
- آباؤنا مجرمون يستحقون القتل.
- ولكني لم أقتل سلفانا.
- لو لم تقتلها لما كشفت عن أسرارك وإياها.
- خطأ النعامة الكشف عن أسرارها، هذا هو خطأها الثاني. وخطأها الأول دفن رأسها في الرمل قائلة "كل شي تمام": قتلي لمعلمتي، "كل شي تمام"، خرائي مع عليمتي، "كل شي تمام"، جحيمي مع عالمتي، "كل شي تمام"... ولا شيء تمام. اليوم، أُخرج رأسي من الرمل لأول مرة في حياتي، فأرى، ولأول مرة في حياتي، أقرب الناس إليّ، وهو يريد قتلي، فأعرف أن ليس كل شيء تمامًا، وهذا لأول مرة في حياتي.
في تلك اللحظة، دخل المحامي جوزيف ماكدويل بصحبة غريغوري رامزي بضجة وضحكة أخرستهما فوهات المسدسات.
- كان عليّ إنقاذ أمريكا لإنقاذكما، أبدى ماكبث، بلد البرابرة هذا، وما كان عليّ. وللأمريكان أنفقت وقتي، وها أنا أفقد حياتي، ولا أحد منهم يشتد قلقه عليّ. سأشخ عليهم، سأخرأ على قضيتهم، وسأنيكهم واحدًا بعد الآخر.
- يبدو أنك في خراء حقيقي، تلعثم جوزيف ماكدويل.
- لا تقلقا من أجلي، طلب ماك، وهو يبكي، والأشجار تبكي معه.
- كيف لا نقلق من أجلك؟ عجل غريغوري رامزي القول.
- جئت من الأحلام وسأعود إلى الأحلام، همهم ماكبث، وهو يضحك، والبحر يضحك معه.
- دومًا ما كنتُ طوع إرادتك، عجل جوزيف ماكدويل القول.
- دومًا ما كنتُ مستعدًا لإنقاذك، تلعثم غريغوري رامزي.
- هل هو الرابع والعشرون من ديسمبر؟ سأل الرئيس السابق للولايات المتحدة.
- إنه الرابع عشر من يوليو، أجاب المحامي القديم.
- الرابع عشر من يوليو، أكد الصديق القديم.
- لماذا إذن رائحة الطعام كريهة؟ عاد ماك يسأل بوجه معتم، رائحة الورود البيض؟ رائحة سلفانا؟
تنحى الصديق الدائم، فجذب ماكبث محاميه القديم ليحتمي به، لكن الرصاصات اخترقت صدر هذا الأخير، وألقته فوق أقداح التي جي في.
- غريغوري، همس ماك، إنه الخراء المطلق.
أفرغ لوتشيانو وأدونيس وكوستيللو مسدساتهم في جسد ماكبث، فرفعه صديقه بين ذراعيه، والدم بحيرة خالدة.
- أمي! شهق ماكبث، وهو يحدق في وجه صديقه القديم. الموج، الرمل، أمي، البحر!
- حان الوقت لعدم مقاومتك لقبلات الموت ومداعبات الشيطان، يا ولدي، قالت الأم.
- لماذا تأخرتِ؟
- لبعض الأشغال، يا ماك، فاعذرني.
- بعض الأشغال؟
- أنا لا أتعلل بكلام فارغ.
- كلامك لا يقبل أي اجتهاد كالعادة.
- هذا لأني أتكلم عن دراية.
- لمن ما له عزمة ولا عزيمة.
- أنت ما لك عزمة ولا عزيمة!
- أنا.
- كان عليّ أن أحرر الجحيم من الصينيين، هؤلاء العفاريت، هل تعلم؟
- لم أكن أعلم.
- ها أنت تعلم.
- سيكون الجحيم الذي سأذهب إليه محررًا إذن.
- لهذا لم أنذرك.
- بماذا؟
- بأخذ حذرك من إخوة ثلاثة لم يولدوا من بطن واحد.


الكتابة الرابعة
باريس الجمعة الموافق 2014.07.18















أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011
33) تراجيديا النعامة 2011
34) ستوكهولم 2012
35) شيطان طرابلس 2012
36) زرافة دمشق 2012
37) البحث عن أبولين دوفيل 2012
38) قصر رغدان 2012
39) الصلاة السادسة 2012
40) مدينة الشيطان 2012
41) هنا العالم 2012
42) هاملت 2014

الأعمال المسرحية النثرية

43) مأساة الثريا 1976
44) سقوط جوبتر 1977
45) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

46) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
47) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
48) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
49) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
50) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
51) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
52) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
53) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

54) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
55) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
56) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
57) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
58) بنيوية خاضعة لنصوص أدبية 1985 – 1995
59) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
60) خطتي للسلام 2004
61) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
62) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
63) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
64) الله وليس القرآن 2008 - 2012
65) نافذة على الحدث 2008 - 2012



[email protected]




ماكبث، تراجيديا النعامة، إحدى روايات الأدب المعاصر الكبرى مستوحاة من مسرحية شكسبير "ماكبث" دون أن يكون ذلك تمامًا، فالمؤلف يبتعد في نظرته الخاصة به إلى هذه الشخصية، ليقترب أكثر من النظرة الخاصة بمبتكرها، ينظر إلى أبعادها الكونية كشخصية لا مثيل لها من شخصيات القرن الحادي والعشرين، وإلى أبعادها كشخصية فرد استثنائي، فما وراء الفعل الإجرامي، الفعل الجنسي، فعل مقاومة القوة بالقوة، يسجل أفنان القاسم كل الإحالة الوجودية في عالمنا، ويجعلنا نكتشف ملامح ومزايا ربما ليست في ماكبث، ولكن دون ماكبث ما أمكنه تمثلها، وما أمكنه عرضها كما فعل إلا لأن هذه الشخصية تظل مذهلة، شخصية من شخصيتين، وفعل من فعلين، ولحظة من لحظتين، حتى في أشد لحظاتها بؤسًا وتعاسة، حتى في أعظم لحظاتها تألقًا وعلوًا، فالشرط الإنساني والشرط التاريخي يراهما أفنان القاسم رؤية بول ريكير (Paul Ricœur) كشرط تراجيدي. من هنا كل هذه التراجيدية "المحتَّمَة"، كل هذا التخيل "المتعذِّر"، كل هذا الكلام "اللايُطاق"، وربما كل هذا ليقول المؤلف لنا: حذار، اعرفوا قيمة العباقرة والأفذاذ ولا تتركوهم وحدهم إذا ما غررت الرؤى بهم، وإلا كان مستقبلكم وخيم العاقبة... إنها رواية الصراعات الضارية وسقوط الجبابرة.






* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماكبث المِصراع الثالث القسم الثالث
- ماكبث المِصراع الثالث القسم الثاني
- ماكبث المِصراع الثالث القسم الأول
- ماكبث المِصراع الثاني القسم الرابع
- ماكبث المِصراع الثاني القسم الثالث
- ماكبث المِصراع الثاني القسم الثاني
- ماكبث المِصراع الثاني القسم الأول
- ماكبث المِصراع الأول القسم الثالث
- ماكبث المِصراع الأول القسم الثاني
- ماكبث المِصراع الأول القسم الأول
- شهادات (15) دكتورة ندى طوميش
- شهادات (14) دكتور بركات زلوم
- شهادات (13) دكتور حسام الخطيب
- شهادات (12) دكتور سهيل إدريس
- شهادات (11) دكتور إحسان عباس
- شهادات (10) دكتور جان-فرانسوا فوركاد
- شهادات (9) دكتور محمد بلحلفاوي
- شهادات (8) دكتور جمال الدين بن الشيخ
- شهادات (7) دكتور أوليفييه كاريه
- شهادات (6) دكتور الأخضر سوامي


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - ماكبث النص الكامل النهائي