أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وليد المسعودي - مقدمة حول المعرفة التاريخية















المزيد.....



مقدمة حول المعرفة التاريخية


وليد المسعودي

الحوار المتمدن-العدد: 4515 - 2014 / 7 / 17 - 15:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يعتمد التاريخ في علاقته مع المعرفة في المجتمعات العربية على أساليب السرد والتقليد والتثبيت والتمثيل العضوي ، بالرغم من التعدد في المذاهب والعقائد والأفكار والأنظمة السياسية ، وبالرغم من الإضافات الحديثة في مجالات مختلفة من التربية والتعليم والثقافة والسياسة ، إلا إن علاقة التاريخ مع المعرفة ظلت أحادية الجانب ، تخاف من المجهول ، ولا تمكث في سياقات المساءلة والانفصال ، وما هو غائب عن هذه العلاقة يشمل عناصر مرتبطة ، بالمراجعة والنقد والقطيعة والتزامن والتراكم وسبر عوالم المجهول فضلا عن بناء الأنساق الجديدة .
إن التاريخ العربي يعيش ضمن خطية مستقيمة ، دون متعاقبات أو انحناءات بين الصعود والنزول والاختلاف ، أي بين غائية محددة بشكل مسبق ، سواء تمثلت لدى الأمة المؤمنة بالدين أو القومية . الأولى يشكل الماضي أساس جوهري لوجودها ، من حيث التمثيل وإعادة البناء ، والمستقبل مرهون بالحاضر المعلق ذاته بالأصول القديمة للماضي ، ضمن دائرة مغلقة الزمان والمكان ، والثانية متعلقة بالتجارب الأولى للفاعلين الاجتماعيين من " الرجال العظام " منتجي الهوية الأولى للمجتمع أو الدولة ذات الإطار القومي ، ضمن دائرة مغلقة عن الانفصال والقطيعة . ومن خلال هذين النموذجين تضيع الكثير من الوقائع والحقائق ، تلك التي تؤكد إن المعرفة كإنتاج بشري تتدخل في تكوينها الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية ضمن زمنية الولادة والانتشار . حيث لو تتبعنا ظهور الكثير من المدارس والفرق الدينية في المجتمع العربي ، قديما وحديثا على حد سواء ، بدءا بظهور الإسلام وانتهاء بالأزمنة الراهنة سوف نجد إن أكثر هذه المدارس نشأت بفعل تأثير العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة ، فضلا عن وجود المؤثرات الخارجية من عناصر ثقافية وسياسية واجتماعية .. الخ ، فالخوارج بسبب وجودهم الطبقي ضمن جماعات فقيرة مهمشة قبل الإسلام ، امتلكوا لغة القطع مع الأشياء والعالم ، دون قابلية للتسامح " فمن ارتكب ذنبا كبيرا أو صغيرا بطل إيمانه فكان كافرا يجب قتله " (1) وهنا تظهر المعرفة ضمن سياقها النهائي ليس بسبب تمثل حرفية النصوص والأفكار ومحاولة إسقاطها على الواقع بل لتمسكهم بفكرة " الحق " متطابقا مع فطرتهم البدائية ، دون الأخذ بنظر الاعتبار عوامل المتغيرات السياسية والاجتماعية فضلا عن التطبيق المادي والمعنوي لسلطة المعرفة ضمن حيز المجتمع وما يحمل من إمكانية في الرفض والقبول ، أو كون سلوكهم يتطابق مع النصوص الدينية أو العكس ، فمنهج الخوارج مستمد من تاريخهم المعاش ما قبل الإسلام من نبذ وتهميش وإقصاء ومن واقع المجتمع الإسلامي فيما بعد ، الذي انحرف نحو حكم الأقلية الارستقراطية من قريش ، وما آلت إليه أوضاع المسلمين من تراجع في اختيار الحاكم ومن سوء في استغلال السلطة والثروة لدى هذه الأقلية الارستقراطية ، في حين يختلف " التشيع " من حيث النتائج المستقبلية والتحولات عن مدرسة الخوارج ضمن جميع مراحل تطوره ، بدءا بترسيخ مبدأ الوراثة وانتقالا إلى التنصيب الإلهي بالرغم من تعددية الفرق والطوائف ، وكلها تمتلك مؤثرات وعوامل التكوين والنشأة ، سواء لأسباب داخلية تتعلق بطبيعة الصراع السياسي والاجتماعي ، بين قوى السلطة المدعومة عقائديا بقواعد الجبر الإلهي والخضوع الأعمى للخليفة سارق الخلافة والحكم بقوة السيف ومظاهر البطش والجور وبين قوى المعارضة المسلحة ماديا ومعنويا من اجل الإصلاح وتحقيق العدل والإنصاف ، أو تعلق الأمر بطبيعة المؤثرات الثقافية الخارجية ، وخصوصا حول ما يتعلق بفكرة المنقذ والوراثة الإلهية للسلطة والحكم ، والتي بدأت تاريخيا مع " محمد بن الحنفية " كتسلسل ثالث بعد الإمام الحسن والحسين ، إذ يقول السيد الحميري في كتاب الأغاني
ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنية هم أسباطه والأوصياء (2)
وهنا مازالت الوراثة الإلهية في طورها الأولي والمنتهية الصلاحية مع " محمد بن الحنفية " الذي أصبح يعيش ضمن مزدوجتين ، من الموت المؤقت والحياة الغائبة والمنتظرة بشكل غير معلوم . لتنتقل فيما بعد ضمن إشكال خماسية وسباعية واثني عشرية وفقا لتطور التشيع وانتقاله من مراحل المعارضة المسلحة بشكل مباشر إلى المعارضة الضمنية والمختفية تحت عباءة جهاز " التقية " بسبب تراكم عوامل الاضطهاد والتعذيب والظلم ، بدءا بالزيدية التي حددت الإمامة ضمن شروط " مباينة الظالمين والتجرد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " (3) وهذه الأوصاف تنطبق على ذرية الإمام الحسن والحسين على حد سواء ، بدأت مع الإمام زيد بن علي بن الحسين وابنه يحيى وارتبطت بجميع من يتصف بشروط مواجهة الظلم والظالمين من الولاة والحكام ، ومع الإسماعيلية انقسمت الإمامة إلى سباعية خالصة مع إسماعيل بن جعفر الصادق ، ومن ثم ، مع ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر ، الذي تعده طائفة " الدروز " اليوم " أول الأئمة السبعة المستورين ويطلقون عليه الناطق السابع ، ونشير هنا إلى إن فكرة الإمام المستور لم تظهر مع الإسماعيلية بل يعود تاريخ ظهورها مع محمد بن الحنفية ، ومرة أخرى مع الإمام جعفر الصادق الذي أصبح غائبا ومستورا لدى فرقة تسمى " الناووسية " بصفته " الإمام القائم المهدي " (4) وهكذا الحال مع الأمامية ألاثني عشرية التي تشكل الأساس الحيوي اليوم لانتشار التشيع في العالم ، والتي تختلف بدورها عن الزيدية والإسماعيلية في كونها تبنت الجهاز العقائدي الأصولي ، المعرفي ، ضمن استقلالية متواصلة عن جهاز الدولة الرسمي وإيديولوجيتها ، فضلا عن كونها أقفلت باب الإمامة والسياسة عند الإمام الثاني عشر الغائب والمستور ، مشكلة بذلك عهدا جديدا من المعارضة المعرفية المختفية تحت عباءة " التقية " بعد الابتعاد عن السياسة نتيجة الممارسات المتواصلة للاضطهاد والتعذيب والقتل ، وخصوصا في زمن الإمام جعفر الصادق الذي يعد مؤسس المذهب وجامع الأحاديث النبوية فضلا عن التعليق عليها وبناء الثوابت التي سوف يعتمد عليها المستقبل الشيعي بشكل عام . وهنا لا ننسى أن نقول إن الأمامية قد حفرت في ذهنية الأجيال المتتالية تاريخا متواصلا من العذاب والألم معتمدة على مواكب الحزن و التعزية والبكاء ، استذكارا لمشاهد مأساة الحسين وأهل بيته ضمن تراجيديا موروثة ومتنقلة ، ظهرت قبل الإسلام وبالتحديد في بلاد الرافدين ضمن توليفة تجمع في طياتها عناصر البكاء والصلاة والتكفير عن الذنوب منتشرة على نطاق واسع في المجتمع العراقي القديم (5) لتستمر في التواصل والتأصيل أكثر فأكثر مع تواصل تأبيد نماذج السلطة المستبدة ، تلك التي تتداول وجودها بواسطة أساليب القهر و الاستلاب لكرامة الإنسان ووجوده من جهة ، وكذلك من خلال تأبيد نماذج المعرفة الأصولية والثابتة سواء لدى السلطة الحاكمة أو لدى المعارضة على حد سواء .
مع المعتزلة سوف نشهد الاختلاف عن رؤية ( أهل السنة والخوارج) من حيث اتخاذهم طريق الحياد بخصوص المسألة الخطيرة ، والمتعلقة " بالفاسق " ما حكمه ؟ هل هو كافر أم مؤمن ؟ إذ سوف يكون الجواب متمثلا في " منزلة بين المنزلتين " ، تلك التي حددت تسميتهم ضمن الاعتزال ، بسبب اعتزالهم الرأي واتخاذهم طريق محايدا وبعيدا عن الصراع السائد أو الحرب الدائرة بين الإمام علي ومعاوية حول الخلافة (6) ، ويخالف المعتزلة في أصولهم الخمسة " التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " جميع الفرق بدءا بالمعطلة والدهرية والملحدة والمشبهة في باب التوحيد ، وأهل الجبر في باب العدل ، وانتهاء بالمرجئة في باب الوعد والوعيد ، والخوارج في باب منزلة بين المنزلتين والأمامية في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبذلك شكل المعتزلة طبقات متواصلة من الجهود الفكرية والفلسفية التي قدمت آراء وتصورات مختلفة عن السياق التقليدي الاجتماعي ، في مجالات مختلفة من السياسة والاجتماع والفلسفة .. الخ ، فمفهوم العقل لديهم يتفوق على الشرع وهو في النهاية " أداة المعرفة " ليس للمظاهر الطبيعية المحسوسة فحسب بل حتى " للمظاهر المجردة كالإلهيات ، إذ يجعلها " الجاحظ " في مرتبة متأخرة عن الطبيعيات ، منتجة العلل وصاحبة الأسباب (7) ، ومفهوم التوحيد والعدل يختلفان أيضا عن سياقاتهما التقليدية مع " القاضي عبد الجبار " من حيث طرح الأول ضمن صور بعيدة عن " إثبات الذات والصفات والأفعال " ومن حيث تعلق الثاني بقدرة الإنسان وإرادته ، دون الاصطدام بمبدأ القدرة الإلهي (8) ، وهكذا الحال مع مسألة الجبر والاختيار والمنزلة بين المنزلتين ، فقد كان لهما أبعاد سياسية بالدرجة الأساس من حيث كشفهم عن إن تجريد الإنسان من الإرادة والأفعال يصب في النهاية في مصلحة الحاكم ، خصوصا إذا تم تثبيت نظرية الجبر الإلهي وإلغاء دور الإنسان ، أما فيما يخص " المنزلة بين المنزلتين " تلك التي وضحت عدم جواز إمامة الفاسق وتحديدها ضمن صفات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبالتالي جعل الإمامة دون ارتباط الهي ، بشرية الحضور ، وقائمة على مبدأ الشورى (9) . ومن أهم المؤثرات المكونة لمدرسة الاعتزال تكمن في
1- الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة بالمسلمين الأوائل وما تبعها من صراع وحروب داخلية ، مادية ومعنوية حول الخلافة والحكم .
2- ظهور حركات كالقدرية والجهمية ، تلك التي تقول بحرية الإنسان في اختيار أفعاله وسلوكه ، متمثلة بالقدرية ويرأسها الحسن البصري ، وتلك التي تقول في " مسائل كالصفات وخلق القران ومسالة الحسن والقبيح العقليين وفي منهج التأويل العقلي للنصوص الإسلامية " متمثلة بالجهمية ويرأسها جهم بن صفوان . (10) .
ويختلف " الاشاعرة " عن المعتزلة في تكوينهم المعرفي من حيث اعتمادهم على الوحي والنقل والسماع ، فضلا عن إقصاء العقل والمعرفة الحسية التي يعتبرها أبي الحسن الأشعري " مظنة الخطأ " ، وبذلك تغدو المعرفة غير معرضة للتأويل حتى مع الوحي بسبب النظر إلى القرآن بشكل ظاهري ، لا يمكن أن يتم تجاوز ما هو ظاهر إلا من خلال الحجة أو الدليل ، إذ يقول " القرآن على ظاهره ليس أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة " (11) ، وبالتالي هنالك عودة مستترة للعقل صنعها الأشعري بشكل تبريري وتوفيقي إلى حد بعيد من اجل محاربة المعتزلة بالتعاون مع السلطة الرسمية متمثلة بخلافة المتوكل تلك التي استثمرت إمكانيات الأشعري في تسقيط الخصوم وتثبيت ملامح الحكم الجديد متمثلا بتزاوج " الفقه والسلطان " الذي سوف يعتمد كثيرا عليه المذهب السني ، مع استثمار الأشعري لأفكار الحنابلة وأهل الحديث بشكل انتقائي ، وخصوصا فيما يتعلق برفضهم لعناوين أساسية اعتمدتها مدرسة الاعتزال متمثلة بالعقل والمنطق ، ليكون البديل قائما على ثقافة النقل والسماع واعتماد الموروث المعرفي من السلف ، دون وجود القدرة على نقد الحاكم وسياسته من جهة ، ودون نقد البناء العقائدي والمعرفي من جهة أخرى . فالتوحيد مثبت في اتجاهين ، الأول معني بالصفات كالعلم والقدرة والإرادة ضمن مستوى المطلق منها منكرا بذلك أي ادوار معينة للإنسان ، والثاني يراد منه " تمجيد السلطان " بشكل مستبطن من أجل تثبيت دعائم الحكم ، وضمان وجوده ، حتى لو كان حاملا لصفات الجور والظلم ، مادامت القدرة والإرادة خارجة عن سياقهما البشريتين (12) . أما رؤيته للعدل فقد حددها من خلال نظرية " الكسب " تلك التي تقول إن الله " خالق لأفعال العباد ، وهو مريد لكل ما يصدر عنهم من خير وشر " ، وان وجدت هذه الأفعال ، فهي مصاغة بقدرة " الله " وإرادته ضمن سنن ثابتة لا تتغير ، وهذه الرؤية لا تدع للإنسان مجالا للاختيار ، الأمر الذي يضعنا في النهاية داخل نظرية الجبر الإلهي . (13) ، وهذه الرؤية يختلف معها " النظام " ألمعتزلي في كون الإرادة مرتبطة بالعلم فحسب ، وذلك لان " الله " قد وضع سياقات معينة للمعرفة ، حدد الايجابي منها والسلبي ، وبالتالي لا يتدخل في صناعة الأفعال بل يمتلك العلم في زمنية حدوثها فحسب ، وهنا يشكل ذلك نفي للإرادة عند " النظام " سواء كانت إرادة " الله " في صناعة أفعاله أو أفعال الإنسان (14)
وهكذا الحال مع مرتكب الكبيرتين ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقف الأشعري معهما موقفا يتماها مع السلطة الحاكمة الجائرة ، متمثلا بعدم التعرض لها أو اتهامها بالكفر أو الفسق ، وبالتالي يكون الإصلاح موجها عن طريق النصح وليس عن طريق السيف ، الأمر الذي يجعل من النظرية الاشعرية نظرية النظام الحاكم وأيديولوجيته ، تلك التي ثبتت واختيرت بوسائل وأشكال إلهية وغير بشرية إلى حد بعيد .

سؤال الحاضر

إن الهدف من عرض هذه المدارس والفرق الإسلامية بشكل مختصر ، يكمن في وضع مجموعة من الأسئلة أمام المجتمع العربي في صورته الراهنة من اجل محاولة فهم الحاضر وإبراز أهم المعوقات والعوامل التي ساعدت على نسيان وتجاهل المعرفة التاريخية في ثرائها وتنوعها الكبيرين ، فضلا عن عدم الحصول على معرفة تاريخية عابرة للأثر الديني التقديسي ، مفكر فيها ضمن زمنية النشأة والظهور والتطور ، وخاضعة لمقاييس العلوم الإنسانية الحديثة ، والأسئلة تتمثل في : -
1- ماذا تبقى من هذه المدارس والفرق الإسلامية كأنظمة عقائد وسلوك اجتماعي وثقافي وسياسي .. الخ ؟
2- كيف يفهم المجتمع العربي في صورته الراهنة ، هذا التنوع التاريخي والثقافي الإسلامي ؟
3- ما هي سياقات تداول المعرفة التاريخية
4- كيف تعاملت الحداثة العربية مع التاريخ العربي الإسلامي ؟

أصوليات موروثة

من حيث المحتوى والمضمون بالنسبة لوجود المدارس والفرق الإسلامية في الأزمنة الراهنة لم يتبقى منها سوى النماذج المكتملة ، والأصولية ، سواء تلك المرتبطة بالمذهب السني ، " من حيث كونه داعم للسلطة السياسية السائدة ، وقابع ضمن حدود العقيدة التي تعتمد النقل والموروث أكثر من اعتمادها على العقل ، فضلا عن غياب البعد التاريخي في النظر إلى الإسلام ، متوافقا مع صيغ التحولات في السياسة والاجتماع ، أو متزامنا مع الظروف المحيطة ، صاحبة النشأة والظهور والتطور من شكل إلى آخر ، أي غياب نظرية التزامن السياسي والاجتماعي والاقتصادي في تأثيرها على الإسلام ، من حيث الانقسام إلى مدارس ومذاهب وطوائف مختلفة فيما بينها .
كذلك الحال مع التشيع من حيث كونه لا يستطيع الخروج أيضا من " زمنية الإطار " ليس بسبب التماثل مع نسخ الأصول المتنوعة ، تلك التي تعتمد على عصبية الوراثة في الحكم فحسب بل هنالك " النزوح " إلى مكتسبات الآخرين من ثقافة وأبنية فلسفية ومعرفية تلك التي تتعلق بمفاهيم العصمة والمنقذ والانتظار.. الخ ، وكل ذلك يشكل إضافات للمقدس وتكثيف للمعنى المطلق الذي يلغي الوقائع الملموسة والمعاشة ، صاحبة الإنتاج والظهور . وهكذا نقول لم يتبقى اليوم من تراث الخوارج الايجابي شيئا يذكر ، وخصوصا فيما يتعلق بصيغة التلازم التاريخي " البراكسيس " ربط العمل والفكر في هوية واحدة ، تلك التي مكنتهم من تحقيق نجاحات مرموقة في المغرب ، وبناء " جمهوريات تسووية " كما يسميها أحمد صادق سعد (15) ، معتمدين على الروح الثورية التي يمتلكونها بشكل دائم ضد الحكام والولاة الجائرين ، إذ إن وجودهم اليوم لا يشكل أثرا مشاركا في زحزحة الثنائية السنية والشيعية في الأزمنة الراهنة ، بعد الكثير من الحملات والتصفيات التي أنهت وجودهم السياسي والثقافي المعرفي ضمن فرق متعددة كالازارقة والصفرية والنجدية ، حيث تمكث " الاباضية " آخر المتبقي منهم في مناطق محدودة من عالمنا العربي في عمان وبعض المدن الصغيرة في المغرب العربي ، وكذلك الحال مع المعتزلة ، أصحاب النظر العقلاني في الإسلام ، لم يتبقى منهم أي أثر معرفي واجتماعي ثقافي ، بسبب العداء المتواصل لهذه المدرسة التي جمعت في طياتها الكثير من الجدة والحداثة في تفكيرها وطرحها المعرفي ضمن أشكال متقدمة على ظروف عصرهم ومجتمعهم ، متمثلا بالنتائج التي توصل إليها المعتزلة بخصوص قضايا كالعقل وحرية إرادة الفعل والترك لدى الإنسان ، وهذه القضايا لم توجد داخل الفضاء الاجتماعي إلا من خلال تعدد أو كثرة المنافذ المعرفية لشعوب مختلفة وثقافات متنوعة ، فرضتها طبيعة التطور الاجتماعي العربي من حيث " تنامي حركة الترجمة والتعريب لألوان شتى من الثقافات " (16) ، فضلا عن وجود السلطة السياسية الداعمة إلى التفكير العقلاني والاغتناء بأساليب الجدل والمناظرات الفلسفية لرؤى وثقافات مختلفة فيما بينها ، لم تستطع القوى التقليدية ، المحافظة ، القضاء عليها ، إلا بعد توافر شروط التحولات في طبيعة النظام السياسي من شكل الانفتاح إلى شكل الانغلاق متمثلا بخلافة المتوكل ، التي ساعدت على طمس تراث الاعتزال ، والعودة إلى أبنية العقل المستقيل ، ذلك الذي يؤمن بالتقليد والتسليم الأعمى دون استعمال النظر والعقل ، فكان هنالك " جوقة " من المساندين والداعمين له من رجال الحديث من أهل السنة ، الذين مدحوا " المتوكل " بالرغم من كونه من أظلم الخلفاء ، الأمر الذي ساعد كثيرا على انتشار وتثبيت النزعات السلفية المحافظة أكثر فأكثر بسبب سيطرتها على الفضاء السياسي والثقافي والقضائي بشكل دائم ومستمر ، وصولا إلى تصفية التراث العقلاني ألمعتزلي بشكل نهائي ، إذ لم يتبقى من ذلك التراث الغني بالمصادر والكتب ، أي نتاج موثق سوى كتاب " الانتصار " لأبي منصور الخياط ، ألمعتزلي ، وما تبقى موجود في نصوص المعارضة كردود للنقد والذم من مثل " مقالات الإسلاميين " لأبي موسى الأشعري وغيرها ، وذلك إن دل على شيء فانه يدل على وجود التحالفات المتواصلة بين " السلطة والفكر" في تأبيد النماذج وإبقاء الأصوليات الموروثة التي تلغي دور الإنسان من النظر والإبداع والتغيير .

سجون العقائد

إن تحديد المعرفة التاريخية في تنوعها ، جغرافيا ، في المجتمع العربي ، مرتبط بطبيعة الأجهزة الثقافية والسياسية والاجتماعية ، التي تباشر عملية التربية والتلقين والحفظ ، وبما إن هذه الأجهزة أو الأنساق تحمل في داخلها الكثير من الانقسام والتعدد ، معرفيا ، بين المغلق عقائديا ، لهذه الطائفة أو تلك ، وهذه الايدولوجيا أو تلك ، وبين الموجه معرفيا نحو غايات وأساليب وطرق معينة للتربية ، تعتمد على الانتقاء والإخفاء ، الاستبعاد والجذب ، وفقا لما يناسب جهاز الدولة المعرفي ، دون وجود قواعد تربوية تتسم بالمرونة والحياد والحرية في تتبع المعرفة العلمية حول التاريخ وما يحمل من ثراء ثقافي متنوع إلى حد كبير ، فالنموذج الأول ينشغل فيه النظام الطائفي ، فتكون المعرفة التاريخية خاضعة ومنحصرة ضمن حدود الطائفة وما تحمل من ثوابت ومعتقدات ، يتم ترسيخها منذ الطفولة ، بدءا بأصغر خلية مرتبطة بالأسرة ، وانتهاء بمحيط الخلية وفضاءها الكبير متمثلا بالمجتمع ، وعادة أو كثير من الأحيان تكون المعرفة الطائفية سطحية الجذور ، وهامشية المحتوى والمضمون ، تركز على المظاهر والطقوس في تأثيرها الاجتماعي أكثر من تركيزها على البناء المعرفي ، العقائدي ، في حين يكون النموذج الثاني ، وهو النموذج القومي ، الموجه الذي يوظف التنوع التاريخي خدمة للايدولوجيا التي يمتلك ، وبالتالي هنالك كما ذكرنا أعلاه القابلية في الانتقاء والإخفاء ، الإبعاد والجذب ، وكلا النموذجين قد غيبا المعرفة التاريخية ، واحدثا المزيد من القطائع المعرفية ، فضلا عن عدم المساهمة في حل مشاكل الصراع الطائفي وبناء مجتمعات التعايش . والأمثلة اليوم زاخرة في عدم فهم ومعرفة التنوع التاريخي المعرفي ، اجتماعيا وثقافيا لدى المجتمع العربي ، داخل النظام الطائفي أو خارجه ، حيث أجرينا استطلاعا حول المعرفة التاريخية في تنوعها الثقافي والسياسي مع مجموعة من الكتاب والمثقفين في بغداد ، تضمن بعض الأسئلة حول الاختلافات العقائدية في الإسلام ، وتاريخية المدارس والفرق الإسلامية من حيث النشأة والانتشار ، فضلا عن دور الفاعلين الاجتماعيين في تنمية الأصول وتكاثر التفرعات والاختلافات فيما بينها ، فكانت النتيجة متباينة بين ( معرفة محدودة جدا ، وأخرى ناقصة غير مكتملة ، وأخرى تابعة إلى جهاز الطائفة الثقافي ، وأخيرة تتكئ على رؤى وتصورات ثابتة تلغي المعرفة التاريخية ، تحت مسميات الحداثة والتقدم .. الخ ) هذه النتيجة تثبت غياب المعرفة التاريخية في تنوعها وتعددها ، ليس لدى الناس العاديين المحاطين ب" سجون " الأجهزة الثقافية والسياسية السائدة وما تمارسه من " تنويم " اجتماعي متواصل ، بل لدى النخب المرتبطة بعملية إنتاج الثقافة والمعرفة ، وهذا الأمر يكاد أن ينسحب على المجتمع العربي بشكل عام ضمن حدود النسبي من حيث وجود التشابه والاستنساخ في غياب المعرفة التاريخية المتنوعة والقطيعة معها ، فضلا عن سيطرة الأجهزة الثقافية السائدة وما تحمل من ثوابت تعيق بناء الاختلاف وتمنع تداول المعرفة التاريخية ضمن زمنية النشأة والظهور ، بعيدا عن تراكم الأثر التقديسي ، وغياب أثر الإنسان في صناعة الأحداث والتصورات .
إن سياقات تداول المعرفة التاريخية في الأزمنة الراهنة محجوزة ضمن حدود التفسيرات الضيقة والموروثة لدى هذه الطائفة أو تلك ، بسبب الاعتماد المتبادل على الثوابت المطلقة للمصادر الثقافية ، الموروثة ، والتي عادة ما يهيمن عليها مجموعة عناصر مرتبطة بالنقل والتقديس والجمود العقائدي وغياب الرؤية النقدية والانفتاح على تجارب الآخرين ، ليس ضمن حدود الإسلام فحسب بل ضمن التجارب الحديثة لدى المجتمعات المتقدمة ، فالشيعة والسنة يقدمان اليوم نماذج أحادية عن المعرفة التاريخية ، ليس بسبب هيمنة عوامل النقل والتقديس والجمود العقائدي .. الخ فحسب بل بسبب هيمنة الموجهات السياسية في الأزمنة الراهنة ، من حيث القدرة على ترسيخ الدعم العقائدي لهذه الطائفة أو تلك ، فضلا عن جمود وتخلف المؤسسات الدينية والاجتماعية ، بعد فشل مشروع الحداثة العربية وانزواء النموذج القومي ، الوطني ، نحو سياسات الانغلاق والاستبداد ومحاربة الحرية والعقل والإبداع .
فأهل العصمة والعدالة " الشيعة " تتحدد سياقات المعرفة التاريخية لديهم من خلال النظرية الإلهية لسلطة الإمام المعصوم ، التي تدرجت تاريخيا كما أسلفنا سابقا من صياغة مبدأ الوراثة إلى نظرية الحق الإلهي في الحكم ، حيث تكون المعرفة في تصورها النهائي ، المعني بصفات الله والكون والخليقة والشريعة ذات مرجعية مرتبطة بالنبي محمد في حياته ومن بعده يأتي الإمام المعصوم ، شارحا ومفسرا للناس مضامينها ومعانيها وأصولها ، والإمامة بدورها قد تعرضت إلى التحولات ضمن إشكال مختلفة لتنتهي لدى الإمام الغائب المنتظر ، وهنا تتوقف المعرفة عن النمو والتطور ، ليأتي زمن التقليد للنماذج والتصورات الأساسية للمذهب ، ضمن ذاكرة جمعية ما تنفك تعيد تكوين نفسها بشكل مستمر ومتواصل ، من خلال فاعلية رجال الدين " المراجع " ، حيث الاجتهاد في التشريع " مقيد بالحالات التي لا يوجد فيها نص صريح من القران أو النبي أو الأئمة ألاثني عشر " (17) وحيث العقل لا يستطيع الخروج من الإطار العام للمعرفة الدينية ، وبالتالي هنالك " التحديد الإجباري " لدور الإنسان في مواكبة الجديد ومعرفته ضمن سياقات الماضي والذاكرة الجمعية القديمة .
أما أهل السنة فان سياقات المعرفة التاريخية لديهم تتحدد من خلال الربط الجوهري بين النصوص الأولى ( القران والأحاديث النبوية ) وبين النصوص الثانوية ( أحاديث الرواة للسيرة النبوية ) ضمن تراث مقدس تم توحيده بعد انتصار " أهل الحديث " وهزيمة " أهل الرأي " في المعركة الكلامية التي انقسمت بينهما إلى فريقين احدهما عقلاني " أهل الرأي " يأخذ بعين الاعتبار سياقات التحول المستقبلي ، فضلا عن الدور البشري في صياغته وانسنته والآخر نصوصي " أهل الحديث " يعتمد النصوص جميعها كمضامين سلوك وحياة تحدد مسارات الحاضر والمستقبل على حد سواء ، وكلا الفريقان يستندان على النصوص الأولى من الأحاديث النبوية المقدسة حيث الأول يعتمد على حديث " انتم أدرى بشؤون دنياكم " والثاني على حديث " خير القرون قرني " وبالتالي كانت الغلبة لفريق التراث والماضي على فريق الحاضر والمستقبل ، وكل ذلك تم تحقيقه بفضل جهود " الإمام الشافعي " الذي استطاع أن يوسع مفهوم السنة ليشمل " جميع الأفعال والأقوال والموافقات الصريحة على جميع أنماط السلوك والممارسات الحياتية في زمن النبوة " (18) وهكذا لم يكتمل التوحيد ذاك من خلال جهود الإمام الشافعي فحسب بل كانت هنالك أيضا جهود الأشعري في مجال العقيدة أو أصول الدين ، حيث مناهضة العقل والاعتماد بشكل جوهري على سلطة النقل ، وبالتالي كان كلاهما معنيان بتثبيت سلطة النصوص وتكوين ذاكرة جمعية أساسها عدم الإيمان بالحركة والتطور والمستقبل فضلا عن القدرة على جعل الحاضر يتمسك بشكل دائم بالماضي والتراث كصور وحيدة وناطقة للمعنى والحقيقة واليقين . ولا تكتمل الصورة بشكل نهائي إلا من خلال ما صاغه أبو حامد الغزالي من تثبيت مطلق ونهائي للعالم ضمن صورته الاشعرية خاليا من أية علاقات سببية وإنسانية تمارس فعلها وتأثيرها سواء على الطبيعة أو الوجود الإنساني ، خصوصا بعد المعركة التي خاضها وحسمها لصالحه " أبي حامد الغزالي " مع تيارات العقل والتنوير في الإسلام ، في كتابه " تهافت الفلاسفة " ناقدا لآخر خطوط الدفاع عن العقل ضد هيمنة النقل والتراث وسلطة النصوص متمثلة بالفيلسوف ابن رشد بشكل أساسي . (19)

حداثة التلفيق والترقيع

لم تتغير سياقات المعرفة التاريخية ضمن صورتها المذكورة أعلاه ، إذ حافظت على وجودها بالرغم من سياق التبدل السلطوي بواسطة دولة القبيلة المشكلة من خلال آلية الانقلاب والعنف ، حيث ظل الحاكم الجديد يعتمد على الموروث في تبرير سياسته وسلطته ، وظل المثقف " السلطوي " يعيد إنتاج الماضي وفقا لذات التصورات والرؤى التي تديم سلطة الحاكم المستبد وتوصي " الرعية " بتحمل مظالم الحكام دون الثورة عليها أو محاولة تجاوزها ، وهذه المظالم يحاسب عليها الحكام من قبل الله فحسب دون المحاسبة عليها من قبل الناس أنفسهم ، وبالتالي هنالك التثبيت المستمر لذات المناهج والأساليب في ثلاثية "السياسة والمعرفة والمجتمع " ضمن اتجاهات ثابتة لم تتغير ، بالرغم من محاولات التحديث منذ ما سمي بعصر النهضة ، حيث استطاعت المجتمعات العربية أن تعرفها أي الحداثة عن طريق القوى الغازية والمحتلة ، ومرورا بتشكيل " الدولة القومية - الوطنية " التي اشتغلت على المعرفة الحزبية والنضالية بشكل إيديولوجي أكثر من المعرفة العلمية والإنسانية ، حيث تم " أسلمة " الغرب في النموذج الأول من خلال عبارة الإمام محمد عبده " وجدت هناك إسلاما بلا مسلمين ، بينما يحيا هنا مسلمون بلا إسلام " ومن خلال ما توصل إليه رفاعة الطهطاوي حول سر تخلفنا مرتبط بالابتعاد عن " الإسلام الصحيح " مبررا جميع مكتسبات الحداثة وقيمها المتعلقة بالحرية والمساواة والحقوق المدنية بترحيلها إلى الإسلام من حيث الأصول والمعارف ، ولا يختلف جمال الدين الأفغاني أيضا في إضافة الإسلام كشرط أساس للعلم والتقدم حيث يقول " إذ لا يمكن أن تأتي العلوم والمخترعات بالقران صريحة واضحة وهي في زمن التنزيل مجهولة من الخلق كامنة في الخفاء لم تخرج إلى حيز الوجود " (20) ، وهكذا يغيب عن نموذج النهضة جميع شروط التقدم المرتبطة بالحاضر والمستقبل على حد سواء ، تلك المعنية بالبحث والتحري والاكتشاف والتراكم المتواصل من ناحية ، وتلك المتعلقة بطبيعة الصراع الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي من ناحية أخرى ، ليضل خطاب الإصلاح معني بالاستفادة من التكنولوجيا والعلم الحديث دونما أية محاولات للاستفادة من قيم العلم المتعلقة بالثورة والقطيعة وإعادة البناء ، فالتجديد كما يقول نصر حامد أبو زيد كان " نفعيا " لا يمس الأصول والبناء ذاته بقدر ما هو معني بطلاء القديم وإعادة تكوينه بشكل دائم ومستمر (21) من خلال منهجية انتقائية تعمل على طمس الاختلافات ، فضلا عن نسيان التاريخ المنقسم على نفسه إلى فرق وتيارات مختلفة ومتعارضة مع بعضها البعض الآخر ، وخصوصا لدى الإمام محمد عبده ، الذي تراجع عن رؤيته حول مسألة " خلق القران " من اجل " تجنب الخلافات بين المذاهب الفقهية داعيا إلى التوحيد ودين السلف بعيدا عن الفرقة والافتراق " ، وهذه الدعوة سوف يستفاد كثيرا منها التيارات الأصولية السلفية التي سوف تغادر مشروع الإصلاح المعني بتقديم شروط العقل ضمن مستوى الإيمان وعدم تكفير الآخرين المخالفين في العقيدة ، لتصل إلى حدود القطع مع المجتمع والدولة بشكل عام ضمن نعوت واتهامات الجاهلية والانحراف عن الأصول الصحيحة للإسلام الأولي (22)
هناك في المقابل الوجه الثاني لنموذج النهضة ، الحداثي ، الليبرالي ، العلماني ، ذات الأشكال أو التيارات المتنوعة ، تلك التي حاولت أن تفصل بين منطق العلم ومنطق الدين من حيث الحقيقة والتطور والثبات والمستقبل ، دون العودة إلى نقد التراث والمعرفة التاريخية ، وهنا نشير إلى أصحاب النظرية التطورية الداروينية من مثل شبلي شميل وسلامة موسى وإسماعيل مظهر ، الذين لعبوا دورا كبيرا في إثراء المجادلات بينهم وبين أصحاب النظرية الإصلاحية الدينية ، حيث النزاع الشهير الذي أثاره فرح انطون بترجمته كتاب رينان " حياة يسوع " مع الإمام محمد عبده ، والذي يحسبه محمد أركون " استئناف مسرف السذاجة لثقافة يجهلون هم نشأتها التاريخية ووظيفتها الإيديولوجية " ( 23) وتلك التي حاولت أن تدرس التراث العربي الإسلامي ضمن صيغ وأساليب أدبية حديثة ، لا تخلو من النقد والفحص والجرأة وإضفاء العقلنة على ما هو خرافي وأسطوري ضمن مشروع ثقافي يؤسس من خلال مناهج التربية والتعليم ، وخصوصا مع أدباء وكتاب من طراز رفيع كطه حسين والعقاد وحسين هيكل وغيرهم، ولكنها في النهاية حملت هذه المجموعة صيغ التوفيق بين الحداثة والتراث ، الغرب والعاطفة الدينية للجماهير ، حيث التراجعات المتواصلة عن النقد والتحديث ، فضلا عن الخوف من المستقبل المجهول ، وكل ذلك لا يتحمله جيل الإصلاح والتنوير العربي وحدهم بل هنالك التقلبات المتتالية في طبيعة السياسة والسلطة وأثرها على المجتمع العربي بشكل عام من حيث زوال الحكومات المرتبطة بالغرب الاستعماري التي كانت اشد دعما وتوجيها لمشاريعهم وأفكارهم الإصلاحية والتوفيقية .
مع نموذج الدولة القومية – الوطنية سوف يتم العودة إلى الاستبداد الشرقي القديم ، متمثلا بفرض الصور الأحادية للتفكير والمعرفة ، إلغاء دور العقل في الإنتاج والإبداع من خلال انعدام الحريات المتعلقة بالصحافة والفكر والرأي ، هيمنة متواصلة للايدولوجيا الحزبية والنضالية على المعرفة العلمية ، غياب المشاريع التحديثية والنقدية للمعرفة التاريخية ، سيادة المفاهيم التوفيقية بين التراث والحداثة بشكل تلفيقي ، من خلال السعي إلى الحداثة المادية التكنولوجية دون محاولات تحديث المجتمع العربي ، وجود الأخير ضمن جماعات بشرية مندمجة في أوضاع يحكمها الفقر والجهل ، فضلا هيمنة ورقابة السلطة الحزبية لجميع الحركات والتجمعات والأفكار المغايرة لايدولوجيا " الحزب القائد " وهذا الأخير يملك وحده مفاتيح الحقيقة والمعرفة من حيث القدرة على توزيعها وإدارتها وفرضها على المجتمع بواسطة الأجهزة الإعلامية المتنوعة ، الموحدة في احتواء الجماهير بدءا بقادة وأعضاء الحزب المكلفين بنشر الفكر السياسي والحفاظ على الاستقامة الإيديولوجية ، ومرورا بأجهزة الشرطة والجيش والإعلام المهني المدرب بشكل متميز ، وكل هذه الأجهزة لم تستطع أن تحول الجماهير من الوعي الشعبي الأسطوري إلى الوعي العلمي المعرفي بسبب تأكيداتها المتواصلة على عبادة الفرد وتقديس البطل والرمز ، وكل ذلك ساهم في تثبيت الأنساق المعرفية التاريخية والأسطورية أكثر فأكثر، ونسيان ما تحقق من حداثة هامشية غير راسخة الجذور والبقاء مع ظهور الحركات الأصولية المتطرفة التي تقطع كما أسلفنا مع جميع قيم الحداثة ومكتسباتها المادية والمعنوية على حد سواء . (24)


المصادر : -

1- فرّوخ ، عمر / تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون / دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الرابعة 1983 ، ص 205 .
2- فلهاوزن ، يوليوس / أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام الخوارج والشيعة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1958 ، ص 247 .
3- بن عباد ، الصاحب / الزيدية / تحقيق د . ناجي حسن / الدار العربية للموسوعات ، بيروت ، الطبعة الأولى 1986 ، ص 160
4- النوبختي ، الحسن بن موسى ، ألقمي ، سعد بن عبد الله / كتاب فرق الشيعة / تحقيق الدكتور عبد المنعم ألحفني / دار الرشاد ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1992 ، ص 77 .
5- هالم ، هاينس / الشيعة / ترجمة : محمود كبيبو / شركة الوراق للنشر المحدودة / الطبعة الأولى 2011 ، ص 60 .
6- بدوي ، عبد الرحمن / مذاهب الإسلاميين " المعتزلة ، الاشاعرة ، الإسماعيلية ، القرامطة ، النصيرية " / دار العلم للملايين ، بيروت 1997، ص 37 .
7- إسماعيل ، د . محمود / سوسيولوجيا الفكر الإسلامي ، طور الازدهار(3) " فكر الفرق – علم الكلام – الفلسفة – التصوف " / مؤسسة الانتشار العربي ، سينا للنشر ، الطبعة الأولى 2000 ، ص 69 .
8- المصدر ، نفسه ، ص 70
9- المصدر ، نفسه ، ص 71
10- مروة ، حسين / النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، القسم الثاني / دار الفارابي 1978 ، ص 638.
11- إسماعيل ، د محمود / سوسيولوجيا الفكر الإسلامي ، ص 83
12- المصدر ، نفسه / ص 84
13- المصدر ، نفسه ص 85
14- مروة ، حسين / النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، ص 664
15- العلوي ، هادي / من تجارب التنظيم السري والعمل الحزبي في الإسلام / مجلة الثقافة الجديدة ، العددين 207، 208، نيسان 2009 .
16- مروة ، حسين / النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، ص 831
17- مروة ، حسين / النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، ص 504
18- أبو زيد ، نصر حامد / النص ، السلطة ، الحقيقة - الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة / المركز الثقافي العربي / الطبعة الأولى ، 1995 ، ص 17 .
19- إن تثبيت الذاكرة الجمعية ضمن توليفة تجمع النصوص المقدسة وشروحها ومتونها وتفاسيرها في إطار مرجعي مغلق ، لم يتكون من قبل جهود الأئمة الثلاثة الشافعي والأشعري والغزالي فحسب بل كانت هنالك الأنساق السياسية المهيمنة والداعمة لهذه التوجهات والنتائج التي ترضي دولة الأمة – القبيلة ، حيث سبق وان ذكرنا تبريرية الأشعري وتعاونه مع السلطان في تثبيت ملامح الحكم الجديد مناهضا المعتزلة وموحدا لجهود ربط الفقه بالسلطة الحاكمة ، ولا يختلف عن الأشعري ، أبي حامد الغزالي الذي كلفه الخليفة العباسي بتأليف كتاب يرد فيه على الباطنية – الشيعة – ناقدا التصور الإيماني حول صفات الإمام ومحولا إياها كصفات لازمة للخليفة العباسي " أبو زيد ، نصر حامد / النص السلطة الحقيقة / ص 59 "
20- برقاوي ، احمد / محاولة في قراءة عصر النهضة ( الإصلاح الديني والنزعة القومية ، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع / دمشق ، الطبعة الثانية 1999 ، ص 62 .
21- أبو زيد ، نصر حامد / النص السلطة الحقيقة ، ص 25
22- أعراب ، مصطفى / الإسلام السياسي والحداثة / أفريقيا الشرق – المغرب ، لبنان – بيروت / الطبعة الأولى 2000 ، ص 31 ، ص 33، ص 39 ، ص 40
23- يشير سلامة موسى في كتابة " حرية الفكر وأبطالها في التاريخ " إلى الإسلام بشكل مختصر ، حيث غياب الفنون والآداب والعلوم كالطب على وجه الخصوص ، مرجحا أسباب ذلك إلى النزعة البدوية المهيمنة على الفقهاء تارة والى الخلافة أو الدين الذي قيد المسلمين عن تحقيق التطور والانفتاح تارة أخرى . راجع كتاب " حرية الفكر وأبطالها في التاريخ / سلامة موسى للنشر والتوزيع / الطبعة الأولى 1935 ، ص 88 -89-90 . بالنسبة إلى أركون راجع كتاب " الفكر العربي / منشورات عويدات ، بيروت – باريس / الطبعة الثالثة 1985 ، ص 155-156 .
24- لقد تم معايشة هذه الحالة في العراق وخصوصا في فترات الثمانينات حيث استخدم النظام البعثي الكثير من الأجهزة الحزبية وغير الحزبية من الأدباء والفنانين والكتاب والشعراء ضمن توليفة إعلامية واسعة النطاق تعمل على خداع الجماهير إبان الحرب العراقية الإيرانية لكسب الحماس والتأييد والإبقاء على المجتمع في حالة الغيبوبة الطويلة عن الوعي والمعرفة العلميتين .













#وليد_المسعودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقدمة حول المعرفة التاريخية 4-4
- مقدمة حول المعرفة التاريخية 3-4
- مقدمة حول المعرفة التاريخية 2-4
- مقدمة حول المعرفة التاريخية 1-4
- دائرة الاحوال المدنية
- مظاهر التخلف التربوي في العراق ( وسائل العلاج والتغيير ) 1-2
- مظاهر التخلف التربوي في العراق ( وسائل العلاج والتغيير ) 2-2
- ظاهرة عمالة الأطفال في العراق ( الأسباب ، المخاطر ، الحلول )
- انتخابات ؟!
- ظاهرة التحرش الجنسي ( الاساليب ، المؤثرات ، العلاج )
- البديل المناسب للمالكي
- بريد باب المعظم
- الطائفية والطبقة العاملة في العراق ( بديل وطني أم مصنع طائفي ...
- سؤال في الهوية العراقية ( البحث عن علمانية راسخة الجذور والب ...
- قواعد ثقافة الاحتجاج
- صناعة المجتمع المفتوح ( مشروع يتجاوز الطائفية في العراق )
- الملك المغتصب او العراق .. الى اين
- الصوت الاخر في العراق .. ولادة عهد جديد
- مثقف السلطة في العراق ( الوظيفة ، الاشكال ، المستقبل )
- الجمهور القارئ وثقافة الكتاب .. المعوقات .. المستقبل


المزيد.....




- الرئيس الإماراتي يصدر أوامر بعد الفيضانات
- السيسي يصدر قرارا جمهوريا بفصل موظف في النيابة العامة
- قادة الاتحاد الأوروبي يدعون إلى اعتماد مقترحات استخدام أرباح ...
- خلافا لتصريحات مسؤولين أمريكيين.. البنتاغون يؤكد أن الصين لا ...
- محكمة تونسية تقضي بسجن الصحافي بوغلاب المعروف بانتقاده لرئيس ...
- بايدن ضد ترامب.. الانتخابات الحقيقية بدأت
- يشمل المسيرات والصواريخ.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع عقوبا ...
- بعد هجوم الأحد.. كيف تستعد إيران للرد الإسرائيلي المحتمل؟
- استمرار المساعي لاحتواء التصعيد بين إسرائيل وإيران
- كيف يتم التخلص من الحطام والنفايات الفضائية؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وليد المسعودي - مقدمة حول المعرفة التاريخية