أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - ماكبث المِصراع الثاني القسم الثالث















المزيد.....



ماكبث المِصراع الثاني القسم الثالث


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4511 - 2014 / 7 / 13 - 13:04
المحور: الادب والفن
    



تركنا الدولارات الملايين المائة تحت تصرف ماك، فقال لي أَدْخُلُ بها شريكًا معك في تجارة المطاط. لم يكتف بالبرازيل كمصدّر للخام، لأن معارفه تتعدى هذا البلد إلى كل أنحاء العالم. غدت القارات الثلاث أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا تصدر لنا المطاط سائلاً، ونحن في مصانعنا نجعل منه مادة لعمل كل شيء من المُغّيطة إلى عجلة الطائرة. احتكرنا السوق في أمريكا وأوروبا وكل العالم في أشهر قليلة، وأخذت ثروتنا بالتضخم. أخذت ثروتنا بالتضخم، بالتضخم. أحذت ثروتنا بالتضخم، بالتضخم، بالتضخم، ولم تعد كل المشاريع في العالم تكفي ماكبث. كان كل ذلك بقدر عقله الجبار، وكان أهم المشاريع قاطبة استخراج المطاط من النفط، فعلاقاته القديمة مع أساطين بلدان الخليج الفارسي كرسها كلها في سبيل ذلك، صنع المطاط من النفط. بتكلفة أقل، وسعر أكثر، فتضخمت ثروتنا على تضخمها. تضخمت. تضخمت. تضخمت. تضخمت ثروتنا أكثر فأكثر. كان يقول لي النفط روح حضارتنا، لهذا حضارتنا رائحتها كريهة كرائحة النفط. حضارة رائحتها كريهة، لأنها حضارة مصنوعة من هذه القذارة التي لا تقدّر بثمن والتي اسمها النفط، وأنت عليك أن تكون قذرًا مثلها وإلا ما كنت على قدر المسئولية التي تلقى على كتفيك. أن تكون قذرًا. عليك أن تكون قذرًا. وأنا على طريقتي كنت قذرًا عندما دفعت المرأة الحمراء في البركة، وأذبتها. لم تعد تظهر لي، فقعدت لأنتظرها. إلى اليوم، وأنا أنتظرها. في أحد النهارات، قال لي ماك تعال، سنقوم بزيارة لبانكو، للرئيس المدير العام للبنك العالمي الذي كان مساعدي وأقالني ليأخذ مكاني دون أي احترام لافتراض البراءة. ذهبنا مع ماك أنا والآنسة ستيوارت والأستاذ جوزيف ماكدويل وكل الحراس الخاصين بمن فيهم كارل الحارس الخاص لجين إلى ناطحة السحاب شارع ويليام ستريت، وصعدنا إلى الطابق السابع والعشرين الذي اخترقنا قاعته الكبرى تحت وطأة الصمت المتنامي، وكل هؤلاء الموظفين يقعون على ماكبث لأول مرة بعد قضية أقامت الدنيا ولم تقعدها حتى بعد الحكم بالبراءة شهورًا عدة فيما بعد. اقتحمنا مكتب السيدة ماكماهيليان، فأرادت التصدي لنا، لكن رجال ماك عقدوا فمها بمنديل تحت عيني ابنتها ميراندا التي راحت تنطنط، وتصفق. وعندما رموا الأم على مقعدها، وسقطت للدفعة القوية على الأرض، ضربتها الابنة بقدمها، وانضمت إلينا. دفع ماك بقدمه باب بانكو المحتل لمكتبه، ودخل عليه دخول الصاعقة، ونحن كلنا من ورائه.
ردد الرجل، وهو يزلق في مقعده، ويدفن رأسه بين يديه:
- رويدًا ماك، رويدًا!
جذبه ماك من ربطة عنقه، وهدده:
- جئت فقط كي أقول لك إنني سأهدم هذا البنك على رأسك، وسأجعل منك شحاذًا في الوول ستريت.
نادى صديقي ميراندا كي تبصق عليه، فبصقت عليه، وهي تنطنط وتصفق. رماه بربطة عنقه، وأعطاه ظهره، ونحن فعلنا مثله. وبينما كنا نجتاز حجرة السيدة ماكماهليان من جديد، سمعنا صرخاتها المكتومة، ورأينا قدميها من تحت المكتب، وهي تضرب بهما، وميراندا عادت تنطنط وتصفق وتكركر. الشيء نفسه كان مع الموظفين، ضجة، فصمت بالتدريج، وصمت مطبق. انطبق باب المصعد علينا وميراندا معنا، وهبطنا إلى الطابق الأرضي، فالخارج، ومن هناك أخذنا طريقنا إلى الملاك الأصفر.
لم تكن ياما هناك، ولا رأس التنين الجديد. نزلنا إلى الطابق التحت الأرضي، فكانوا كلهم هناك، كل طبقات الثالوث كانت جالسة على الأرض هناك. وما أن رأوا ماكبث يدخل عليهم، حتى نهضوا كلهم، وانحنوا له طائعين، بمن فيهم العود الأحمر. انقض عليه رجال ماك، وهو يبرر ما فعله بالصينية. أدنوا فمه من نعل ماكبث، فمد لسانه، ولعقها. أشار ماك إلى اثنين من رجاله الصينيين، إلى اثنين 49، فعرفا في الحال ما عليهما أن يفعلا. جذبا العود الأحمر بعنف، وصعدا به لست أدري إلى أين.
أمر ماكبث ياما بالاقتراب:
- تعالي هنا، يا 438!
فتلعثمت:
- لا تلحق بي الأذى، يا 489.
- أريدك فقط أن تلبسي هذا الحذاء الحديدي كما كانت النساء يفعلن في الصين القديمة وذلك من أجل الاحتفاظ بقدمين صغيرتين جميلتين.
- ستلحق بي الأذى، يا 489.
- كل هذا فقط لجمال قدميك، يا 438.
- في عمري هذا ستلحق بي الأذى، يا 489.
- ولماذا لم تفكري في هذا من قبل، وأنا أكاد أموت بين قضبان ريكرز آيلاند، وأنا أعاني كل آلام البشر لا ككل البشر؟ لماذا لم تقولي سيُلحق بي الأذى لأني لم أعمل على الحيلولة دون أذاه، لماذا يا ياما؟
ركعت بين يديه، وراحت تقبله من قدميه، وهي تهمهم:
- لقد أخطأت، ولن أعود إلى ذلك أبدًا.
أشار ماك برأسه إلى مرافقيه غاضبًا، فرفعوها، وهي تصرخ، وزرعوا قدميها في الحذاء الحديدي الصغير والقدمان الكبيرتان تتكسران بعظمهما والدم يسيل كالنبع منهما. لم تحتمل الآنسة ستيوارت المشهد، ولا ميراندا التي خرجت بها. حملوا المعذبة إلى حجرة داخلية، وأقفلوا عليها بالمفتاح. كان حقد صديقي كبيرًا، هائلاً، لا يضاهيه حقد، حقد العظماء عندما يسقطون، ولا يجدون أحدًا إلى جانبهم. لم يكن حقد المتوعك، كان حقد المتعذب. أمس كان موضوعًا للتراجيديا، واليوم التراجيديا من صنعه. أعداؤه هم موضوعها. كل أعدائه واحدًا واحدًا، كلهم، كل واحد آتيه دوره. ليس الانتقام، التراجيديا. تحقيق ما يكمن لنا على بعد خطوات منا منذ مولدنا تحت شرط أن نرتكب خطأنا. لا، ليس الانتقام، فالطيور الخوافة تعرف كيف تُنهي خوفها عندما يضطرها الأمر إلى ذلك، وليس تراجيديًا أن تصنع تراجيديات الآخرين في سبيل أن تحول دون تراجيدياها. ليس الانتقام، التراجيديا. دانكان. مالكولم. كل الآخرين. جلسوا على الأرض كلهم، وراحوا يصغون.
قال مروحة الورق الأبيض:
- الأموال تضاعفت مع النظام الجديد، يا 489، بعد أن ضاعفنا الأسعار باتفاق مع كل صالونات التدليك في نيويورك، لكننا سنعود إلى ما عودتنا عليه في الماضي.
فاجأ ماك الجميع:
- ليستمر النظام الجديد، يا 415... والكل يطلق صيحة التعجب والاستغراب.
- نحن في حاجة إلى الكثير من الأموال، أوضح صديقي، هذا ما توجبه الظروف الجديدة، نحن بحاجة إلى الكثير الكثير من الأموال.
عادت ميراندا والآنسة ستيوارت، وراحتا تصغيان بانتباه. أضاف ماكبث:
- إذن لنترك العفة والطهارة جانبًا طالما يدر علينا هذا بالأرباح...
قاطعه مروحة الورق الأبيض:
- بالأرباح الطائلة.
- بالأرباح الطائلة. وسيكون الأمر ذاته في كل الفروع التي سنفتتحها إضافة إلى الفروع التي لنا في نيويورك وشتى المدن الأمريكية. والآن إليكم الثالوث الجديد: الطقوس والمجندون سيد البخور، 438، يحتفظ بمهماته...
نهض سيد البخور وهتف بالصينية ثم انحنى بين يدي ماك سمعًا وطاعة قبل أن يعود إلى مطرحه.
- المالية والإدارة مروحة الورق الأبيض، 415، يحتفظ بمهماته...
نهض مروحة الورق الأبيض وهتف بالصينية ثم انحنى بين يدي ماك سمعًا وطاعة قبل أن يعود إلى مطرحه.
- العلاقات والاتصالات صندل القش، 432، يحتفظ بمهماته...
نهض صندل القش وهتف بالصينية ثم انحنى بين يدي ماك سمعًا وطاعة قبل أن يعود إلى مطرحه.
- النظام والأمن العود الأحمر، 426، لا يبقى في مكانه، وسيحل محله...
أشار إلى حارس جين الخاص:
- كارل روجرز.
هب كل الصينيين واقفين احتجاجًا، فكارل روجرز ليس صينيًا، ليس كماكبث عبقريًا، ولما صمتوا يأسًا، قال ماك لحارس زوجته الخاص، وأمارات عدم التوقع وعدم الفهم كثيرة على وجه هذا الأخير:
- أنت العود الأحمر، 426، يا كارل روجرز.
- لكني لا أعرف الصينية.
- سيكون لك مترجمك ريثما تتعلمها... أما نائبة رأس التنين، 489، والتي ستحل محل ياما، 438، فهي ميراندا ماكماهيليان.
لم يصح أحد من الصينيين الموجودين احتجاجًا، بل ابتسموا كلهم على صرخات ميراندا الفرحة وكركراتها.
- وسيكون للآنسة ميراندا مترجمها ريثما تتعلم الصينية.
أخذت ميراندا تقول أي شيء كان مقلدة الصينيين في كلامهم، فضحك الجميع.
غادرنا الملاك الأصفر، وكل الموجودين ينحنون لنا إكبارًا وإجلالاً، تركنا بالطبع ميراندا هناك، وهي تودعنا مع مرؤوسيها حتى الباب الخارجي.
في علبة الليل، الكلب اليقظ، تمت تصفية أعداء ماك بسرعة، وبجرأة، وبحنكة من له باع طويل في صنع التراجيديا، منذ شكسبير، منذ راسين، منذ سوفوكل، منذ آلهة الإغريق الدمويين، من له من الإرث كل دم البشرية. بعد تحييد الحراس المافيويين في الممر من طرف العمالقة البيض، فاجأنا ثلاثي الشر، وهم يشربون، ويعربدون مع كلوديا. رأت المرأة ماك، وهو يخرج عليها كالجنيّ من قمقمه، فدقها الرعب، وسارعت بإلقاء نفسها من النافذة.
- سنشرب نخب أباطرة الكلب اليقظ، أيها السادة، هتف ماك، وهو يشير بيده إلى الأستاذ جوزيف ماكدويل.
أخرج المحامي زجاجة كحول من جيب سترته، وتقدم بها إلى ماكبث، ففهم رؤوس الشر كل شيء. حاول كل منهم إخراج سلاحه، لكن تحييدهم كان بسرعة، وبجرأة، وبحنكة من له باع طويل في صنع التراجيديا، في صنعها كما يجب، ليس بالدم فقط، بالخراء أيضًا، خراء أحمر، وخراء أصفر، وخراء أبيض، وخراء أسود، وخراء زهري، وخراء فستقي. تراجيديا الدم. تراجيديا الخراء. إن الأمر سيان. جلب ماك ثلاث كؤوس من البوفيه، وسكب فيها السائل المميت. قدم الكؤوس للمجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، ودون أن يضطرهم إلى ابتلاع ما فيها تحت تهديد السلاح، أفرغوها في حلوقهم، فتساقطوا بعد دقيقة واحدة الواحد تلو الآخر كالأجنحة التي لا حياة فيها. كان ذلك مصير الكواسر من الطيور، مصير تراجيدي، لكنه مصير عادي. لم يكن مصير العظيم مصيرهم، لم يكن المصير العظيم.
وبينا ينظف رجال ماك المكان منهم، توجه صديقي بالكلام إلى الآنسة ستيوارت قائلاً:
- آنسة ستيوارت، ابتداء من هذه اللحظة ستأخذين مكان كلوديا، وستُبقين على النظام الجديد، كحول، وكحول، وكحول... نريد الأموال الكثيرة، الأموال الكثيرة، الكثيرة، الأموال الكثيرة، الكثيرة، الكثيرة، وسيكون الأمر ذاته في كل الفروع التي سنفتتحها في نيويورك وشتى المدن الأمريكية.

* * *

ماما، من فضلك، يا ماما، كان ماك، وهو صغير، يقول لأمه كلما أراد أن يطلب منها شيئًا. من فضلك، يا ماما. لم يكن يحتاج إلى أن يأخذ إذنًا من أمه، ومع ذلك كان يقول لها، ماما، من فضلك، يا ماما. حل عن ظهري، يا حبيبي، كانت أمه تقول له. ماما، من فضلك، يا ماما. حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري، يا حبيبي. ماما، ماما. حل عن ظهري. حل عن ظهري. ماما، يا ماما، من فضلك، يا ماما. حل عن ظهري، يا حبيبي، حل عن ظهري، حل عن ظهري.
في ذلك المساء، والرقيب أول كانون جونيور يترك ريكرز آيلاند بسيارته، وكذلك يفعل الرقيب أول ماكنامارا، بحيث أخذ كل منهما الطريق التي من العادة أن يأخذها إلى مسكنه، رأى الرقيب أول كانون جونيور وجهًا جهنميًا ينبثق من الظلام فجأة، مما اضطره إلى الدعس على الفرامل والتوقف.
- ماذا تفعل هنا في قلب الطريق، أيها الأحمق؟ رمى الرقيب أول كانون جونيور، وهو ينزل من سيارته. ألا تخاف من أن تمزق جسدك عجلات سيارة سائقها لا يحسن القيادة؟
وإذا بكرة حديدية وزنها عشرة كيلوغرامًا تلطمه من خلف رأسه، وتفلقه. نظر الأسودان العملاقان، إدي وبوبي، إلى الدماغ الرمادي اللون، وهو ينط، ويلغو، ويكشر، وفي الأخير، وهو يفتح فمه، ويقيء، ويتحشرج، ويقيء، ويقيء، ويتحشرج، ويقيء، ويقيء، ويقيء، ويتحشرج، ثم حملا الجسد، وألقيا به في حفرة مثل جرذ. استقلا سيارة الرقيب أول كانون جونيور، وغادرا المكان.
حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري، كانت أمه تصرخ في الأخير، وهي تستشيط غضبًا، حل عن ظهري، حل عن ظهري، هل تفهم؟ حل عن ظهري. ماما... حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري. من فض... حل عن ظهري، يا دين الرب، حل عن ظهري. من فض... يا دين الرب، يا دين الرب، حل عن ظهري، قلت لك، حل عن ظهري، حل عن ظهري. من فض... يا دين الرب، يا دين الرب، يا دين الرب، حل عن ظهري، حل عن ظهري، حل عن ظهري...
في الوقت نفسه، كانت سيارة سوداء فيها أربعة من بيض علبة الليل "الكلب اليقظ" العمالقة، تسير على طول الإيست ريفر، وتجيء في أعقاب سيارة الرقيب أول ماكنامارا، ثم ما لبثت، في بخار النهر، تضرب سيارة الضابط المجرم، ضربات متتالية تزداد ضربة عن ضربة عنفًا، فأخذت سيارة الرقيب أول ماكنامارا تسير متعرجة، والرقيب أول ماكنامارا يكاد يفقد صوابه، وبضربة أخيرة، سقطت السيارة في النهر الرمادي، وأخذت تبقبق بصاحبها حتى ابتلعتها المياه.
من فض... حل عن ظهري، حل عن ظهري، حل عن ظهري. سأحل عن ظهرك إلى الأبد، هكذا كان ماك الصغير يقول لنفسه، إلى الأبد، سأحل عن ظهرك إلى الأبد. لكنه ظل متوقفًا عليها، على إذن منها، لم يكن يحتاج إلى أن يأخذ إذنًا منها، ومع ذلك لم يتوقف عن التوقف عليها، لهذا كانت كل علاقاته، النسائية وغير النسائية، بسببها، لأنها تريده أن يحل عن ظهرها، لهذا غدت علاقاته النسائية كل حياته، وغير النسائية إضافية، تبدو من الخارج كل حياته، بينما هي لا صلة لها بحياته في شيء.
سمعتُ لهثاته، فذهبت أجري لأرى ما به، وجدته عاريًا، وهو يمارس الاستمناء، أردت الانسحاب، فاستوقفني، وهو يهمهم، ويحرك هاتفه المحمول في وجهي: أولاد القحبة، الفاسدون في ريكرز آيلاند، لقد جاءني خبر أجلهم على يديّ، ها أنت ترى إذن كيف أنجح في كل شيء دون أن آخذ منها إذنًا.
أخذ يقذف في يده، وهو يصرخ مناديًا أمه. كان يقول: ماما، أين أنت؟ كان يقذف، وهو يبكي، ويهمهم: ماما، لماذا تركتني وحدي؟ رفع أصابعه الملوثة بالمني إلى مستوى عينيه. كان يرتعش. لماذا متِ؟ كان يهمهم. سحب من علبة الكلينيكس عدة مناديل، وراح يمسح يده بعصبية. أراني إياها قبل أن يلقيها، وقال: وكما ترى، هذه القذارة هي الإنسانية. منذ قليل كان يبكي، والآن راح يقهقه. هون عليك، ماك، رجوته، فنبر: أتظن أن الأمر يزعجني كثيرًا أن تكون أمي في جهنم الآن تنظر إلى ما أفعل، وهي عاجزة عن ألا تعطيني إذنًا لأقل فعل من أفعالي؟ سأصب لك كأسًا، قلت له. وأنا أصب الويسكي في كأسين، سمعته يقول: لقد أخذ مني أمي، القذر. زوج أمي، لقد أخذها مني، وأنا بالمقابل أخذت كل النساء. أعطيته قدح الويسكي، فجرع منه القليل، الكثير، حتى أفرغه. لغسل القذارة التي فينا، قال. صب لنفسه ما ملأ الكأس، وكشف لي لأول مرة: هل تعرف ماذا كنت أفعل، وأمي تصرخ مع زوجها من اللذة؟ كنت أدفن رأسي في المخدة. ثم كنت أسمع ضحكاتهما، فأرفع رأسي، وقد عاد لي بعض الاطمئنان. خلال الليل، كنت أتذكر ما كان قد قاله لي زوج أمي ساخرًا مني: عندما تكبر، لن تجد امرأة واحدة تحبك، فلا أنام طوال الليل، وأنا أفكر في قتله، لكني كنت لا أريد رؤية أمي تبكي، كانت دموع أمي أعظم مأساة بالنسبة لي. شرب كأسه الثالثة، وهمهم: ستكون مجنونًا تمامًا لو فكرت يومًا أنني نجحت في حياتي العملية من أجل أن تعجب النساء بي. همهمت بدوري: لكنك كرست عبقريتك، كل عبقريتك، من أجلهن، فانفجر يقهقه لست أدري مني أم منه. كان بطلاً من أبطال موليير أيضًا، أو متفرجًا على أبطاله، التراجيديا لما تغدو كوميديا.
وللذين يتكالبون على ماك سأقول لهم إنه مصنوع هكذا، شرطه صنعه هكذا، طفولته، نجمه، حياته. لست بحاجة إلى فرويد كي أقول كل هذا، وفي جميع الأحوال، ماك يحب النساء، سيحبهن دومًا، فاتركوه وشأنه. إنه إله. كل شيء مسموح للآلهة. ليس الأمر واحدًا إذا ما تعلق بشخص آخر، بشخص عادي، ليس نفس الإذن، ليس نفس اللغز.

* * *

لم تأتني المرأة الحمراء على الرغم من مرور الأيام، وأشغالنا الرئيسية الثلاثة، صناعة المطاط، الملاك الأصفر، الكلب اليقظ، تسير من حسن إلى أحسن. أضافت الآنسة ستيوارت لمساتها الخاصة على علبة الليل، وذلك بإضفاء زاوية كباريه ابتداء من منتصف الليل، وجعلت ميراندا في صالون التدليك جناحًا خاصًا بالمدلكات الأمريكيات، بينما راح ماك بفضل الأستاذ جوزيف ماكدويل يقتني كل شركة أو مؤسسة أفلست أو مهددة بالإفلاس، ومن جديد ينفخ فيها روح الحياة. راحت الأموال تتساقط علينا كالمطر بغزارة، ولما كثرت جدًا قرر ماك إنشاء البنك العابر للقارات. كان شعاره: القروض بأقل الفوائد وأقصر الآجال والتوفير بأعلى الفوائد وأطول الآجال. لم نبدأ بعد، أو بالأحرى بدأنا على إنترنت، وإذا بالعالم أجمع يأتي إلينا من كل القارات، وإذا بالأموال تتكدس في خزائننا بعشرات عشرات الملايين بل بمئات مئاتها، وعما قريب بآلاف آلافها. استطاع ماكبث أن ينشل كل زبائن البنك العالمي، فأعلن هذا البنك إفلاسه. وفي الحال، احتللنا مكانه في ويليام ستريت، ويوم الافتتاح كان في القاعة الكبرى كل رجال الأعمال، كل أصحاب البنوك، كل رؤساء البنوك، كل الأثرياء في أمريكا والعالم، كل المحللين الاقتصاديين، كل المحللين السياسيين، وكان هناك كل أعضاء الثالوثات الصينية، وكل أساطين المافيات على شتى أنواعها، وفي مقدمتها المافيا الإيطالية، وكل زعماء السود، وكل زعماء اليهود، وكل زعماء العرب، وكل زعماء البورتوريكويين، وكل زعماء الحزب الديمقراطي، والبعض من زعماء الحزب الجمهوري، وكل زعماء... وكل زعماء... وكل زعماء... هل أقول كل زعيمات؟ كانت النساء في كل مكان هنا وهناك.
دخلت على ماكبث في مكتبه قبل خروجه إلى قوة رأس المال في العالم، وأنا أمرّ بمكتب الآنسة غرين، مديرة ديوانه الشابة الجديدة، الرائعة السوداء، شجرة التين الأسود، بعد أن غرقت السيدة ماكماهيليان، أم ميراندا، في الكحول. لم تذهب الإف بي آي بدعواها ضد ماك حتى المحاكم من أجل قُبلة، وقُبلة كانت من خمس سنين، وألغت الدعوى دون أن أدفع سنتًا واحدًا.
قلت لصديقي:
- لاكي لوتشيانو جيل رابع وفرانك كوستيللو جيل رابع وجو أدونيس جيل رابع ينتظرون في الخارج ليرفعوا لك آيات الطاعة والولاء.
كان جوزيف ماكدويل عنده، وبعد أن تبادلا نظرة تعني الموافقة، أمرني بإدخالهم، فسارعت إلى إدخالهم أولاً في غرفة الآنسة غرين، ثم في مكتب معلم البنك العابر للقارات. ثلاثة من الشبان كانوا في كامل أناقتهم، أخذوا يسلمون على ماك، وهم يقبلون يده، وماك يحيطهم بذراعي الأبوة، ويحييهم واحدًا واحدًا، يسأل عن صحتهم وأعمالهم، ويبدي لهم كل عطفه. لم يبقوا طويلاً لضيق وقت القوي، القوي جدًا، ماكبث. انحنوا بين يديه، وخرجوا، وأنا معهم احترامًا لاحترام ماكبث لهم، وهم في بالغ السعادة. عدت لأصحب الرئيس المدير العام صاحب البنك العابر للقارات مع الأستاذ جوزيف ماكدويل إلى القاعة الكبرى. ونحن على عتبة مكتبه، جاءت جين. لم تكن في أبهى حللها كما يستوجب الحفل، كانت أتعس مخلوقة على وجه الأرض. قبلت زوجها من خده، وهمست في أذنه كلمات لم أسمعها، لكني رأيت على شفتي صديقي ذات الابتسامة في ذلك اليوم، ونحن نصعد على درج محكمة نيويورك، ابتسامته للنساء التي شلتهن، ابتسامة موناليزا أو ربما أجمل ابتسامة للشيطان، لست أدري. عرفت في الابتسامة مع ظرف اليوم ماذا يعني التربع على قمة المجد، فابتسمت بدوري، على الرغم من غمامة الدمع في عيني جين. كانت بسمتي العادية، بسمة كل يوم، ولكن في ذلك الظرف الاستثنائي كان لها طعم خاص. ونحن ندخل القاعة الكبرى مع ماكبث، أنا وجين والمحامي جوزيف ماكدويل والآنسة غرين ورجال الأمن والحرس الخاص، إذا ببنات ميراندا المصفوفات على المنصة يهتفن بصوت واحد: أهلاً وسهلاً، يا ماك! ويأخذن هن وجموع الحاضرين الواقفين كلهم بالتصفيق الحار المتواصل، وفي المقدمة هناك كان لاكي لوتشيانو جيل رابع وفرانك كوستيللو جيل رابع وجو أدونيس جيل رابع. كان الكل يصفق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثٍ صنعوه من أجسادهم إجلالاً وإكبارًا. التحقت ميراندا والآنسة ستيوارت بنا، بينما صعد ماك على المنصة، وأخذ الكلام:
- العالم كله هنا، أيتها السيدات والسادة! العالم كله نحن!
عاصفة من التصفيق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مُثَلَّثِهم الحيويّ أجلالاً وإكبارًا.
- في الماضي كنت أقول لا أزمة مالية عالمية إلا في الرؤوس، وفي الحاضر أقول أن لا أزمة في أي مكان لا على الأرض ولا في أي رأس من رؤوس البشر.
ومن جديد عاصفة من التصفيق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثهم الحيوي أجلالاً وإكبارًا.
- الاستثمار في بلدنا وفي العالم نحن من ورائه، وبالتالي البطالة في تناقص، والأزمة، بالأحرى الأزمات، من مخلفات التاريخ...
بعض التصفيق هنا وهناك لكنه أكمل خطابه:
- النظام العالمي الجديد سيكون غيره، ومصالحنا ستكون أقوى وأوسع، والحريات في العالم سيكون الدولار في خدمتها، وليس العكس، أي كما كان متبعًا لغاية اليوم.
عاصفة أخرى وأخرى من التصفيق، وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثهم الحيوي أجلالاً وإكبارًا، وبعض الهتافات هنا وهناك: ماكبث رئيسًا!
- أيتها السيدات... أيها السادة...
رحت أنظر إلى أقدام بنات الملاك الأصفر واحدة واحدة وأرى أن لكل منهن قدمين عاديتين إلا من واحدة قدميها صغيرتين بصغر قدمي طفلة، عندما رفعت رأسي، وجاءت عيناي في عيني الفتاة، وجدت ياما تنظر إليّ، وهي تقطر ابتسامًا.
- …الأيام القادمة ستكون أيامًا حاسمة أكثر لأمريكتنا الغالية على قلوبنا ولكل بلدان العالم، ونحن كما كنا دومًا سنكون إلى جانب كل من يطلب منا عونًا في كل مدينة وقرية من مدننا وقرانا على امتداد كل الولايات المتحدة، لن نخيب آمال شعبنا، ولن نخيب آمال شعوب العالم بنا... والآن إلى الرقص والشرب والاستمتاع بأجمل اللحظات.
عزفت الموسيقى تحت صيحة الكل: هورا! وكل أعضاء الثالوثات الصينية ينحنون في مثلثهم الحيوي أجلالاً وإكبارًا. دخلت بنات كباريه الكلب اليقظ، وهن يغنين، ويرقصن. اختلط الحابل بالنابل، ورقص الكل مع الكل ما عدا الأستاذ جوزيف ماكدويل الذي اعتلى مكانًا، ومن حوله أربعة من عمالقة علبة الليل "الكلب اليقظ" البيض، واثنان من العمالقة السود، إدي وبوبي، راح يراقب منه الكل. رقص ماك مع جين، وهي دومًا تعيسة، جهمة الوجه، ورقصتُ مع الآنسة ستيوارت. قالت لي بحب وحنان: تعال بين ذراعيّ، أيها الأرمل التعس! وقبلتني من فمي. رأيت ميراندا تختطف ماكبث من بين ذراعي زوجه، وتذهب به بعيدًا عنها. بدت جين لي حائرة، ضائعة، لا تدري ما تفعل، إلا أنها لما وقعت على كارل روجرز، ذهبت تترامى بين ذراعيه.
وجد ماك نفسه وحيدًا مع ميراندا في مكتبه.
- هذه المرة، أنا من سيغتصبك، ألقت ميراندا مهددة قبل أن تنقض على ثغره، ذاهبة معه في قبلة كبيرة.
خلعت فستانها، خلعت بنطاله، رمته فوق ملفاته، وامتطته، وهي تهمهم:
- انتظرتُ هذه اللحظة خمس سنين، نعم انتظرتها، وها هي تتحقق اليوم.
لكن جين قطعت عليها رغبة غالية على قلبها، عندما دخلت مكتب زوجها، لتقف مكتوفة اليدين خلفهما. اضطرتهما إلى الاعتدال، وإلى ارتداء ثيابهما، وبسرعة، اتجهت ميراندا نحو الباب، ليتحاسب الزوجان.
- سأتركك، يا حبيبي، همهمت جين.
- ستتركينني، يا حبيبتي، همهم ماك.
- سأتركك.
- ستتركينني.
- أنت لا تتقن كره النساء، لهذا سأتركك.
- وأنت؟
- وأنا ماذا؟
- هناك التي أحبتني، وبعد ذلك كرهتني أشد كره، وهناك التي أحبتني، وتركتني، لكنها بقيت على حبي، وهناك التي لم تحبني ولم تكرهني.
- أعتقد أنني من هذا النوع الأخير.
- لم تحبيني ولم تكرهيني.
- لم أحبك ولم أكرهك.
- لهذا السبب.
- لهذا السبب.
- بعد كل تلك السنين التي قضيناها معًا.
- ولأني سأعطيك الحرية كاملة.
- كنت قد أعطيتني إياها كاملة، الحرية، كل تلك السنين التي قضيناها معًا.
- اليوم أعطيك إياها للمرة الثانية.
- وكارل، عشيقك؟
- كان حارسي الخاص، ولم يكن عشيقي. كان يحصل أن أرغمه على فعل ما لم يكن من اختصاصه، المسكين، بسببك. إنه كسائر الرجال، المرأة لا تهمهم، ما يهمهم الشيء الذي بين فخذيها.
- لكني كافأته على ذلك، وجعلت منه عودًا أحمر. عندما أكون مع واحدة أخرى، كان يؤدي لي خدمة كبيرة، بشكل من الأشكال.
- الوداع، يا حبيبي.
- انتظري، جين...
أمسكها من ذراعها، وضمها بقوة. أوجعها، وهو يضمها بقوة. رمى رأسه على كتفها، وبكى. سمعته يهمهم "ماما، من فضلك، يا ماما". أبعدته عنها، كان يبكي، كان يذرف دمعه بغزارة. طبعت قبلة على خده، أعطته ظهرها، وسارت نحو الباب. فتحته، فعلا ضجيج المحتفلين بالمجد، وبكل هدوء، أغلقته من ورائها.
- مهما علوت، سيتركك الكل وحدك، جاء صوت دانكان من مكان لم يحدده ماكبث.
- داناوي! هتف ماك.
- كما لو كنتَ ميتًا.
- اظهري لي، داناوي!
- هل اشتقت إليّ؟
- كثيرًا.
- كان عليك أن تقتلني كي تشتاق إليّ.
- لم أكن أعلم.
- أنك ستشتاق إليّ؟
- أنني سأقتلك.
- ولو كنت تعلم؟
- لقتلتك.
- لتشتاق إليّ؟
- لأتعذب.
- هل عذابك حاد إلى هذه الدرجة؟
- حاد وعظيم بعظمة الجبال التي تدفن قممها في الغمام.
- لا أستطيع أن أفعل شيئًا من أجلك مع الأسف.
- اظهري لي، داناوي!
- مالكولم لا يريد.
- ابن القحبة، هو الذي يحرضك عليّ!
- لأنه يغير منك.
- لم أكن أعلم أنكما أنتِ وهو...
- كنتُ آمرُهُ عندما تكون مشغولاً.
- كجين وكارل.
- ولكنه أبدًا لم يفجر أنوثتي مثلك.
- كان عليّ أن أقتلك من فرجك مملكة روحك.
- أبدًا لم يشعرني بكوني عاهرة مثلك.
- كان عليّ أن أداوي مرضي.
- مريضًا كنتَ؟
- ولم أزل.
- بي؟
- بابنة القحبة.
- من؟
- أمي.
- لقد أحسنت تربيتك، أمك.
- كعرص.
- لهذا كنتّ نجيًا.
- لهذا.
- طيب، سأذهب.
- ابقي، داناوي!
- ولن أعود ثانية.
- ابقي أيضًا بعض الشيء. بما أنك لن تعودي ثانية.
- مالكولم كذلك لن يجيء. لقد تعب منك.
- أنا لم أتعب منكما.
- اعتن بتدبير أمورك.
- أموري؟
- أمورك. اعتن بتدبير أمورك.
- كمن يتحسس طريقه في الظلمة.
- على حافة الخراب.
- ألن تظهري لي؟
- أنا أخفى عن البصر.
- اظهري قليلاً.
- ثديي هذا مثلاً.
- أوه! داناوي، ثديك أمي.
- وهذا الثاني.
- أبي.
- وبطني هذا.
- بنوك العالم.
- وفرجي هذا.
- كل عذابات البشر.
- لا تبكِ، ماك!
- دعيني أحتفل بجسدك.
- لا تتعذب أكثر، ماك!
- أكثر من كل عذابات البشر؟
- لم تكن خائفًا من نتائج أفعالك.
- أبدًا.
- الآن أتركك لترتاح.
- أبدًا.
- كن ما أردتَ دومًا أن تكون.
- أبدًا.
- كما تشاء.
- لم أشأ تشويه الوقائع وشوهتها.
- تشويه الحقيقة.
- تشويه الفكرة.
- تصرفت كما تشاء.
- بكل حرية.
- بدون روية.
- كرجل شريف.
- كسيد.
- أحسنتِ الظن فيّ.
- أسأتَ الظن فيّ.
- عللت نفسي بالآمال.
- بالأوهام.
- غربتي الروحية.
- غرابة ذهنك.
- أصدق برهان على ذلك أن...
- سأذهب.
- كل ما جرى إساءة فهم.
- إحسان فهم
- قدر محتوم.
- قدر أعمى.
- قفزة إلى المعلوم.
- قفزة إلى المجهول.
- كتمتُ سرك، فاكتمي سري.
- مع السلامة.
- داناوي...
- الوداع.
- داناوي... داناوي...
- الوداع، يا ماك.
- داناوي... داناوي... داناوي...

* * *

خرج ماك من مقر البورصة في الوول ستريت محاطًا برجاله، كان النهار مشمسًا، شمس خضراء بلون الدولار كانت هناك، وكانت هناك رائحة زكية للنقود، كرائحة الدم طلية. وقبل أن يركب ماك الليموزينة، لاحظ شحاذًا هناك عرف فيه بانكو، نائبه القديم والرئيس المدير العام للبنك العالمي الذي أقاله وأخذ مكانه. زلقت به سيارته، وموكب رجاله من ورائه، ومن أمامه، ثم توقفت قرب الرجل المخلوع. نزل الزجاج الأوتوماتيكي على ماك، وهو يمد قطعة فضية للشحاذ الذي جاء يجري، وهو يشكر، ويشكر: شكرًا، يا سيد ماكبث! شكرًا، يا سيد ماكبث! وفي اللحظة ذاتها، انطلقت رصاصة كانت موجهة للزعيم المالي الكوني أودت بحياة الشحاذ بانكو. ركض رجال الشرطة باتجاه الرجل الذي أطلق الرصاصة وهرب، وهم يصفرون، بينما سارع موكب ماكبث أسرع ما يقدر عليه من الإسراع إلى مغادرة وول ستريت نحو ويليام ستريت، مقر البنك العابر للقارات.
تم القبض على رجل الرصاصة بعد مطاردة دامت أكثر من ساعة في الأزقة المجاورة للوول ستريت، وكاد زلمة محاولة القتل يُسحق، تحت عجلات السيارات، أكثر من مرة. لم يتم القبض عليه لجدار في طريق مسدود، ولا على سطح إحدى البنايات، أو لأن سيارة للشرطة اعترضت طريقه. بعد أكثر من ساعة طويلة من المطاردة المستميتة، قرر الرجل فجأة تسليم نفسه. توقف فجأة، واستدار، وهو يرفع يديه لاهثًا إلى أعلى، فسقط عليه رجال الشرطة، وراحوا به ضربًا وشتمًا، ضربًا وشتمًا، ضربًا وشتمًا، بِغِلّ الآلهة الأشرار. والأكثر من هذا أنه اعترف لمفوض الشرطة بكل شيء وبكل بساطة، قال إن رئيس البلدية هو من كلفه بالقتل. كل هذه السهولة في القبض عليه والاعتراف حيرت المحققين، لم تكن لديهم أية بينة ضده، وكان من الممكن، والحال هذه، أن توجه التهمة إلى أي شخص كان، إلى رئيس بلدية نيويورك كما إلى رئيس الولايات المتحدة. عذبوه، فكرر ما قال. سألوه إذا كان رئيس البلدية هو بنفسه من طوَّعه، أجاب هو بنفسه. هل كان أحد معكما؟ قال لا أحد. هل دفع لك؟ قال لم يدفع. ولماذا ماكبث؟ قال لم يقل لي. أما عن القتيل، فلم يكن ذنبه، ذاك الشحاذ، المسكين بانكو، هو من وضع نفسه بين المسدس وماكبث. قتل خطأ. خطأ إجرامي تافه. أراد القاتل أن يفعل شيئًا، ففعل شيئًا آخر. كل هذا فبركة من مضطرب في عقله. في آخر المطاف، طلبوا له واحد همبرغر مع كوب كوكا كبيرة، وأطلقوا سراحه.
لم يرق ذلك لماكبث، كنا ثلاثتنا في مكتبه، أنا وماكبث والمحامي جوزيف ماكدويل.
- آنسة غرين، اطلبي من ابن القحبة، مفوض شرطة الوول ستريت، أن يحضر في الحال، قال ماك على الهاتف لمديرة ديوانه.
- محاولة الاغتيال من ورائها الكل، ماك، قلت لصديقي. لهذا السبب، تم الاتصال بهذا المجرم بشكل فردي جدًا ومحدود جدًا وعالٍ جدًا.
- لن يصدق أحد أنه رئيس البلدية، قال الأستاذ ماكدويل. لهذا السبب، اعتبروا الاعتداء كفبركة من مريض وبما أن القتل لم يحصل. صحيح وقع بانكو كضحية بدون سكن ثابت هو في عُرف القانون من أوقع عن طريق الصدفة في الفخ نفسه، فأطلقوا سراحه.
- لم يكن من اللازم إطلاق سراحه، قال ماك بعصبية، كانت هناك محاولة اغتيال. وإذا ما كان المحاول قد فعل بإرادة منه دون أن يطلب ذلك منه أحد؟ هذا المجرم يجب إيقافه، وزجه في السجن، ومحاكمته. أنا، أبناء القحبة، أرسلوني إلى ريكرز آيلاند من أجل نصفِ قدحِ مَنْيٍ في فم تلك القحبة، أسقيتها إياه بمحض إرادتها، وابتلعته كله لزكاوته، أرسلوني، أبناء القحبة إلى جهنم، وهذا الوغد يطلقون سراحه، لأنهم اعتبروا الاعتداء كفبركة من مريض. لا، يا ماكدويل، أنت تخيب أملي، تخيب أملي كثيرًا.
- إذن ارفع شكوى، وابن القحبة هذا سيُرمى في الريكرز آيلاند في الحال، قال المحامي الشخصي لماكبث.
- لن أرفع شكوى، رد ماك، اليوم إذا آذاني أحد أنا من يحكم وأنا من ينفذ، هكذا أنا اليوم بعد أن يئست منهم كلهم، أبناء القحبة، ومن نظامهم.
- ماذا تريدني أن أفعل؟ طلبتُ من صديقي، هل أذهب إلى رئيس البلدية، وأتفاهم معه على طريقتي؟
- لا، ليس أنت، لأنك أنت ستأخذ مكانه.
- ماذا؟! ماك ماذا تقول؟ أنا عمدة نيويورك؟ هذا آخر ما يخطر على بالي.
- ستأخذ مكان ابن القحبة هذا، وقصتي معه ومع غيره لن تكون طويلة.
- ومع غيره؟ سألت.
- إذا تعلق الأمر برئيس البلدية ابحث عمن يختبئ خلفه.
- تقصد البيت الأبيض؟ سأل الأستاذ ماكدويل.
- التحقيق في الرأي العام عاد ليكون في صالحي كما كان قبل ريكرز آيلاند، مما يزعجهم، يزعجهم كثيرًا، هم وكل حزب الخراء حزبهم، أريد القول كل المافيا التي تحكم اليوم.
دخلت الآنسة غرين بعد أن طرقت الباب:
- السيد مفوض الشرطة هنا.
- دعيه يدخل ابن القحبة!
وشبك قدميه على مكتبه.
دخل مفوض الشرطة، وهو يحيي مرتبكًا، وتقدم ليسلم على ماك، فرفع له قدمه التي شد عليها.
- بحرارة، أمره ماكبث.
فشد عليها بحرارة.
- تطلق سراح مجرم حاول اغتيالي، يا ابن القحبة القذر!
- دعني أشرح لك، يا سيد ماكبث.
- أنا في حِلّ من شرحك، الآن تعيد القبض عليه، وترميه في ريكرز آيلاند، والأستاذ ماكدويل سيوافيك بالشكوى... بره!
وخرج مفوض الشرطة كما دخل مرتبكًا.
- لن تذهب أنت للقاء ابن القحبة الآخر، رئيس البلدية، يا غريغوري، ستبقى أنت بعيدًا، لا أريد أية شبهة تدور حولك. سيذهب ماكدويل، فهو محاميّ، وسيطلب منه الاستقالة وكل فريق الخراء المنتخب بالرشوة تاعه، لتكون انتخابات جديدة ستخوضها، وستكسبها.

* * *

بدا رئيس البلدية صلفًا وعنيفًا أمام هدوء جوزيف ماكدويل ودماثته:
- لن أستقيل! من قال لك إنني أنوى على الاستقالة؟ سأذهب بعهدتي حتى نهايتها، وأعلمك أنني مزمع التقدم لعهدة جديدة، كل نيويورك تحبني. ألغيت الباركمتر من كل شوارعها، والسكان هذا كل ما يريدون، إلى جانب أنني ضاعفت الأسرّة للذين لا سكن ثابت لهم، والأدوية لمن لا ضمان لهم، والشوربة الشعبية للذين لا يأكلون سوى وجبة واحدة في اليوم. قل لصديقك شوربة الخراء هذه للجوعى خير ألف مرة من كل الأموال التي يكدسها في خزائنه ولا تنفع شيئًا. 75 بالمائة من الرأي العام في صالحه! هل رأيت إلى أية درجة يصل الخداع؟
همهم محامي ماك:
- وليس أنت فقط، بل وكل الفريق الذي معك المنتخب بالرشوة عليه الاستقالة.
فقد العمدة أعصابه:
- بل وكل الفريق الذي مع... أطلب منك، يا أستاذ ماكدويل، الخروج من مكتبي حالاً.
رفع المحامي هاتفه المحمول، وهمس بكل هدوء:
- هلا أتيتم؟
جن جنون رئيس البلدية، فراح يضرب على الأزرار، لكن الرجال البيض العمالقة الأربعة والرجلان الأسودان العملاقان كانوا قد دخلوا قبل ذلك بكثير، وأقفلوا الباب بالمفتاح. أمسكه العملاقان الأسودان من ذراعيه، وفرشا يديه على المكتب تحت تهديد كاتم الصوت.
- هل ستستقيل، يا سيد رئيس البلدية؟
- أبدًا.
أطلق أحد العملاقين النار على ظاهر يده اليمنى، فراح يصرخ:
- سأستقيل.
- أنت وكل الفريق الذي معك المنتخب بالرشوة والمتواطئ في محاولة قتل السيد ماكبث.
- أبدًا.
أطلق العملاق الآخر النار على ظاهر يده اليسرى، فراح يصرخ:
- أنا وكله، وكله.
تقدم المحامي ماكدويل منه بكل هدوء، وطبطب على خده:
- ها أنت تغدو عاقلاً. سأجلس أمام الشاشة الصغيرة، وبعد ساعة تكون الاستقالة. أشار إلى اليدين الغارقتين في الدم المسببتين لألم مبرح، ووضع إصبعًا على فمه:
- شوووووووووت، ولا كلمة واحدة، وإلا... أنت تعرف كل القصة.
بعد ساعة من ذلك، كنا ثلاثتنا، أنا وجوزيف ماكدويل وماكبث، نجلس من حول كمبيوتر هذا الأخير الموضوع على مكتبه، والآنسة غرين تصب لنا السكوتش، وتشعل لنا السيجار، بانتظار نشرة الأخبار، وفلاش من وقت إلى آخر يقول: تصريح هام من رئيس البلدية إلى كافة سكان نيويورك. وقفت الآنسة غرين إلى جانب ماك ليلفها بذراعه، وسمعناه يهمهم على حين غرة: ماما، من فضلك، يا ماما. راح يرفع تنورتها إلى أن وصل إليتيها. من فضلك، من فضلك. داعبها منهما. بدا أنه لا يريد أكثر من أن يداعبها منهما. ماما، من فضلك، يا ماما. كان يتركها أحيانًا، فترفع يده، وتجعله يداعبها منهما. من فضلك، من فضلك. القحبة، نبر ماكبث فجأة، فارتعدت فرائص الفتاة، وأرادت الابتعاد، لكنه جذبها. أمي، همهم ماك. عاملتني ككلب. أدار الآنسة غرين، وطبع قبلة على بطنها، فجلست في حضنه، وجعلته يكشف عن ثدييها. أمي عاملتني ككلب، وزوجتي قاءتني، قاءتني كقذارة، كل النساء اللاتي عرفتهن قئنني كقذارة، كقيح، كغائط، قئنني كغائط، احتقرنني كغائط، كبول، كبول كلب. طنت مقدمة نشرة الأخبار، وظهر وجه رئيس البلدية الدميم، فقهقه ماكبث، وهو يشير إليه. وقهقه أكثر عندما ظهر كله، ورأينا يديه المضمدتين. بدأ عمدة نيويورك يجيب على أسئلة المذيعة، وماكبث يهمهم: كقذارة، كقيح، كغائط، بينما الآنسة غرين تعضعض حلمتيه، تدفن رأسها بين ساقيه، ورئيس بلدية نيويورك يواصل ثرثرته. متى سيقولها، ابن القحبة؟ القحبة، ليست أمي فقط، بل كل البشرية. رفعها من رأسها، وراح يجعل أصابعه في فمها، ويبحث عن لسانها. ماما، كس أمك، يا ماما. أخذ حنكها بعنف، ونبر: سأنيكك! سأنقب قفاك! سأفجرك من جواك! سأجعل منك وليمة للذئاب! وبكلمات حزينة، أعلن عمدة نيويورك استقالته وكل أعضاء المجلس البلدي معه. تناول ماك دبوسًا من علبة على مكتبه، وزرعه في لسان الآنسة غرين، وهذه تبذل أقصى جهدها لئلا تصرخ، ودبوسين آخرين زرعهما في حلمتيها، وهذه المرة لم تستطع تمالك نفسها. لعقها، ليخفف من ألمها. جعلها تستلقي على مكتبه، وزرع دبوسًا في بظرها، وهي تصرخ أشد ما يكون. اخترقها في دمها، وهو يهمهم كمن فقد رشده: سأفجرك من جواك، يا ماما، من جواك، من جواك، من جواك.

* * *

"انتخبوا غريغوري رامزي رئيسًا لبلدية نيويورك".
كانت الإعلانات مع صورتي، وأنا أبتسم ابتسامة واسعة، تملأ كل جدران نيويورك، كنت أتقدم بالطبع تحت راية الحزب الديمقراطي، الحزب الذي كان في المعارضة. لم توفرني قنوات التلفزيون، كانت لدي مقابلات يومية، ولم ترحني وسائل الإعلام الأخرى، خاصة الجرائد المجانية، أكثر ما يُقرأ في أروقة وعربات المترو. ما هو برنامجك، يا سيد رامزي؟ عكس كل برنامج رئيس البلدية المستقيل. ماذا ستفعل لنيويورك، يا سيد رامزي؟ عكس كل ما فعله رئيس البلدية المستقيل. عكس كل كل ما فعله رئيس البلدية المستقيل، يا سيد رامزي؟ عكس كل كل ما فعله رئيس البلدية المستقيل. الباركمتر، يا سيد رامزي؟ صاحب السيارة لا يضره أن يدفع بعض السنتات، بنقود الباركمتر سنحقق الكثير من المشاريع. الدواء للذين لا ضمان اجتماعي لهم، يا سيد رامزي؟ سنفتح لهم المصحات. الأسرّة للذين لا سكن ثابت لهم، يا سيد رامزي؟ سنعطيهم سكنًا ثابتًا. الشوربة الشعبية، يا سيد رامزي؟ شوربة الخراء تريد القول، سنخصص للمحتاجين المعونات اللازمة. أضف إلى ذلك، سنستثمر، وسنخلق الأعمال. نيويورك تحت عهدتي لن تكون نيويورك، ستكون شيئًا آخر، أعظم وأغنى وأجمل... ولكن كان الأهم من كل هذا لقاءاتي مع الأساطين والزعماء من كله وكلهم، كل الأساطين والزعماء، لقاءاتي معهم في أي وقت من النهار كالليل. في النهار، خاصة في الملاك الأصفر، وكل ما هو متوقع في هذا المكان، وفي الليل، في الكلب اليقظ، حول طاولات المتعة، وأمام راقصات الكباريه ابتداء من منتصف الليل. في الملاك الأصفر، كانت تأخذني ميراندا بين ذراعيها مهدهدة إياي كطفل من كثرة التعب، وفي المساء، كانت تضمني الآنسة ستيوارت برقة، وتقول لي: أنت تهلك نفسك، يا حبيبي! كل بلدية الخراء هذه لا تعادل ذرة واحدة من صحتك! وعندما يكون ماك هناك، كان يزجرها، ويقول لها: أنت تفسدينه! ما أدراك أنت بلدية خراء أم غيره؟ عليه أن يصبح ملكًا لنيويورك! إنه يكرهني، كانت الآنسة ستيوارت تقول لي. يكرهك، وأنت المرأة؟ كنت أقول للآنسة ستيوارت ساخرًا. إنه يكرهني، إنه يكرهني. إنه لا يكرهك، إذا كان لا يحسن الحب، فهو لن يحسن الكره. الكره لديه شيء آخر، الكره لديه حقد. حقد ميتافيزيقي. لن يصل معك إلى حد هذا الحقد، حقد ما فوق قدرات البشر. شدد ماك عليّ الحراسة، جاءني بالعمالقة البيض، لئلا يقع المحظور، ويغتالوني. كان يقول لي إياك والثقة حتى بظلك! وقبل الانتخابات بثلاثة أيام أمر كارل روجرز، رأس التنين، بفتح الملاك الأصفر وكل الصالونات النيويوركية الأخرى مجانًا لكل من يريد مقابل إعطائي صوته، وكذلك فعل بالكلب اليقظ وكل فروعه، المتعة مجانًا، كان الشعار على كل الشبكات الاجتماعية. مجانًا؟ ليس تمامًا، ففي المقابل أنا، وصوت الناخب. قبل يوم من الانتخابات، جاءت جين. قالت لي إنها تطل عليّ بوصفها صديقة قديمة. لم أسألها عن أحوالها بعد انفصالهما، هي وماك، كانت لها طلعة بهية، فقلت لنفسي أحوالها لا بأس بها. اعتزلت مع الآنسة ستيوارت في زاوية، وراحتا تتحادثان كما لو كانتا طائرين من طيور المسيسبي. كان ماك محور حديثهما. لم أحب ماكبث يومًا، قالت جين. أنا لم يحبني ماكبث يومًا، قالت الآنسة ستيوارت، نعم على عكس كل ما يقال عنه، ربما لأنني لست من نوع المرأة التي يفضل. ليس لديه نوع محدد، قالت جين، إنه يحب كل النساء، سوداء بيضاء، جميلة دميمة، قصيرة طويلة، خادمة أميرة، عاهرة محجبة، صنديدة عاجزة، كل النساء، كل النساء. إذن، قالت الآنسة ستيوارت، لأني أخرج مع صديقه. غريغوري؟ هذا عنده سواء، صداقة أم غيره، كله سواء. إذن لماذا؟ وأخذت تبكي، أنا لست امرأة إذن. ماذا هنالك؟ صحت بهما. لا شيء، ردت جين، شغل نسوان. عندما تبكي امرأة أو تضحك وتقول لك "شغل نسوان" هذا يعني شغل ماك. يوم الانتخابات، كان غزوًا مفتوحًا لناخبي الجمهوريين، غلافات الرشاوي كانت توزع على رؤوس الأشهاد. أنفق ماك عشرات الملايين من الدولارات بل مئاتها، فجاءني خصمي الرئيسي، جون بلايموث، محتجًا. افعل كما أفعل إذا كان باستطاعتك، قلت له.
بقينا ليلة الفرز ننتظر النتائج النهائية حتى الصباح، كانت كل وسائل الإعلام قد أعطتني الفوز الساحق مسبقًا، لكننا انتظرنا عد كل الأصوات. لم يفارقني ماكبث قيد أنملة، كان يقف إلى جانبي طوال الوقت، وينتظر دون صبر النتائج الرسمية، وكأنه هو المرشح لهذا المنصب. همست في أذنه على حين غرة: عما قريب سيكون دورك، وستُنتخب رئيسًا للولايات المتحدة. كنت أظنني سأسعده، لكنه تجهم، وراح يجمجم شاتمني وشاتم الولايات المتحدة ورئيس الولايات المتحدة. رأيت الشرر يتطاير من عينيه، فخلته يريد ضربي بقدمه كمن يضرب أسدًا ضربة قاتلة. أذهلني، وهو يغادر المكان قبل الإعلان عن النتائج النهائية بعدة دقائق. ناديته، طلبت منه أن يعود، لكنه غادر مع حراسه، وهو يدفع العملاقين الأسودين، إدي وبوبي، دفعًا من أمامه، كان يشتمهما، ويشتم العالم، كما وترك الأستاذ جوزيف ماكدويل المكان.
أطلقنا صيحات الفرح حال الإعلان عني رئيسًا لبلدية نيويورك، قبلتني الآنسة ستيوارت من فمي قبلة طويلة على تصفيق الحاضرين المتزايد مع تزايد القبلة إلى أن قطعوها بانتزاعي من الذراعين الحبيبتين. وجدت نفسي أُرفع على الأكتاف، وإلى السيارات ذهبنا، ركبناها، ورحنا في الصباح الباكر نطرق باب البلدية. كان البواب العجوز الأسود نائمًا، فأيقظناه. فتح الباب لرئيس البلدية الجديد، وهو يشتم غير راض كما شتم ماك منذ قليل. اخترقنا غرفة رئيس البلدية، وشربنا كل ما في الخزانة المزججة من كحول، ونحن نرقص، ونغني، ونتعانق. جعلوني أبول على مكتب رئيس البلدية السابق، وبلنا كلنا عليه، حتى البنات بلن عليه، ثم تفرقنا في المكاتب والقاعات، وتضاجعنا قبل أن نذهب كالخرق إلى بلد النعاس.

* * *

كانت الزيارة الأولى لي من طرف ماك بوصفي رئيسًا لبلدية نيويورك، ترك رجاله في الخارج، وأخذني بين ذراعيه مهنئًا. جلس على كرسيّ، وشبك قدميه على مكتبي واضعًا حذاءه في وجهي.
قال لي:
- أنت ملك نيويورك الآن!
ضحكت، وقلت:
- لقد ورطتني، يا ماكبث.
- لكنك لا تلبث أن تعتاد على ذلك.
- سأعتاد على ذلك، أعرف، وهذا ما يزعجني، أن أعتاد على ذلك، فهل سأكون قادرًا؟
- تأتي المهارة بالمِران! معظم الأعضاء الجدد هم لك، وعليك واجب ألا تجعلهم يعتادون على أي شيء، شغّلهم، واحرث على ظهورهم.
- أعرف، لكن الأمور لن تكون على مثل هذه البساطة، بلدية نيويورك بلا ميزانية تقريبًا، اللصوص سرقوها، وما سيدخل من الباركمتر من أموال لا تكفي لشوربة الخراء، فكيف للمعونات الاجتماعية، كيف لبناء شقق لمن لا سكن ثابت لهم. الضريبة السكنية تكفي بِشِقِّ الأنفس لتنظيف المدينة، والمشاريع التي لنا لا تدر علينا بما هو كاف، أما التي لغيرنا من مقاولين، فالعمولة التي تعود علينا منها تبقى محدودة.
- أفهم من كلامك أنك تريدني أن أفتح خزائني أكثر مما أنا فاتح.
- يجب ذلك، وستكون لك الفائدة فائدتين، ولا تنس أنني لست واحدًا من برة.
- أنا لا أنسى.
ونهض، احتضنني من جديد، فسألته:
- هذا المساء، ماذا لديك؟
- ككل مساء.
- أنا وماكدويل سنحتفل بفوزي معك على طريقتنا.
- أيها الطائران الداجنان، ماذا أعددتما لي؟
- ستكون مفاجأتنا لك.
طبطب على ذراعي، وقبل أن يغادرني هتف:
- إلى هذا المساء إذن.
حضر ماكبث إلى الجناح الذي شهد مأساته في فندق الهيلتون، دق الباب، ففتحنا له، أنا وماكدويل، ونحن نضع على رأسينا باروكتين، ونحن نزوق وجهينا، ونحن نرتدي أرياش النعامة، ونحن نكشف عن صدرينا، ونحن نضع على فمينا منقارين عريضين، ومن خلفنا إحدى وعشرين عاهرة، وهن يرتدين أرياش النعامة، وهن يكشفن عن صدورهن، وهن يضعن على أفواههن المناقير العريضة. أشرق وجه ماك على مرآهن إشراقًا يعمي العالم، وراح يهمهم: أيها الطيران الداجنان، ماذا أعددتما لي؟ ألقى بنفسه بين الأذرع الغريضة، وترك نفسه للأيدي الناعمة تفعل فيه ما تشاء. أخذت بنات الهوى بتعريته تحت عاصفة من الضحكات والغنج والدغدغات بالمناقير العريضة، زوقنه، ووضعن على رأسه باروكة، وعلى فمه منقارًا عريضًا، ألبسنه ثوب النعامة، بينما رحنا، أنا وماكدويل نريق الشمبانيا. شربنا وطعمنا، ضحكنا وصحنا، طرنا وحلقنا، وحلقنا، وحلقنا. رقصن لنا، العاهرات، وجعلننا نرقص مثلهن رقصة الحياة والموت. جئن لماك بقالب جاتو كبير، عليه شمعة واحدة، فقط، شمعة مشتعلة، وهن ينشدن: سنة حلوة يا جميل، فقال ماكبث، والقلق يغزو وجهه: ولكنه ليس عيد ميلادي! أطفأ الشمعة، وقطع التورتة، وهو يرسم الابتسامة الغامضة للموناليزا على شفتيه. بعد ذلك، أحاطت بكل واحد منا سبع عاهرات، وذهبن بكل واحد منا إلى زاوية من زوايا الجناح الكبير. تركنا أنفسنا فريسة عناق جهنمي حتى انهارت على رؤوسنا أعمدة نيويورك، فتهنا كلنا في نوم عميق. في الصباح الباكر، نهضنا على صرخة مدوية آتية من الحمام. صرخة لم تكتمل، ككل شيء تراجيدي. من كل شيء تراجيدي يبقى بعضه يحوم فوقنا ليحيل حياتنا إلى جحيم، ليجعل منا نفوسًا ضائعة، ليردنا إلى التفاهة، التفاهة التي نرفض الاعتراف بها طوال العمر، تفاهتنا الجوهرية، تفاهتنا، تفاهة الإنسان، في اللحظة التي نقف فيها على حقيقتنا، بعد فوات الأوان. في الحمام، كان ماك يرتدي ثوب النعامة، وهو معلق بالحنفية من فرجه، بعد أن ربطه ببنطال قصير، وخصى نفسه بنفسه، وفي كل مكان من حوله التين الأسود.
بعد أسبوع قضاه في المستشفى، أعلمني ماكبث على التلفون بسفره في رحلة تشمل كل بقاع العالم. رحلة عمل قال لي، سيلتقي بقادة البلدان التي سيزورها، قادتها السياسيين وقادتها الماليين، وسيقوم بمحاضرات حول النظام الاقتصادي العالمي الجديد كما يراه. سيفتتح العديد من فروع البنك العابر للقارات في أوستراليا والصين والهند والأرجنتين وأفريقيا الجنوبية وباقي البلدان المنبثقة. أخذت أتابع من التلفزيون أخبار "القوي العظيم الجبار الرجل الفحل الهمام"، فأرى كيف كان يُستقبل من طرف أعظم الناس، كيف كانت شعبيته تتزايد لما يهجم عليه رجل الشارع في البلد الذي يزوره لتحيته أو لأجل أوتوغراف، وكيف كانت النساء تترامى عليه كما تترامى الطيور على كمشة من الذرة. كانت محاضراته كثيرة، وفي كل مرة الموضوعة التي كان يدافع عنها تحت عاصفة من التصفيق أينما حط بجناحيه: أمريكا ستقف إلى جانب الشعوب لا إلى جانب الأنظمة، ستتقاسم أمريكا الثروات معها لا أن تنهبها، ستستثمر أمريكا خارج أمريكا لأجل نمو الشعوب وتقدمها. كان يبدو لي رئيسًا للولايات المتحدة قبل أن يكون الرئيس، وكنت سعيدًا من أجل ذلك ومن أجله، خاصة بعد الذي حصل في ذلك الجناح، جناح التعاسة، من بين كل أجنحة فندق الهيلتون، ليعتاد، لا لينسى، وهو يبدو عليه أنه اعتاد. لكن ما لفت انتباهي أكثر من أي شيء، وجود جوزيف ماكدويل إلى جانبه، وكأنه القوة الجنسية التي فقدها. كان لا يفارقه، وكأنه ظله، كان لا يفارقه أبدًا. لم أتوقف بالطبع عن العمل كرئيس بلدية من أجل نيويورك، اجتماعات يومية مع طاقم العمل أحيانًا ومع الفريق المنتخب أحيانًا، وكان عليّ في كل يوم أن أصنع المشاريع أو أن أساهم في صنعها من أجل المدينة العملاقة. كان العمل هائلاً، يأخذ كل وقتي، فلم أعد ألقى بعض الوقت للذهاب إلى الملاك الأصفر أو الكلب اليقظ، حتى جين نسيتها، ولم أعد أسأل عنها... إلى أن كان يوم، اقتحمت فيه عليّ الآنسة ستيوارت مكتبي. كانت غاضبة، رأيت دمعًا في عينيها، وهي تعاتبني، وتسألني عن سبب غيابي. لم تترك لي فرصة للاعتذار ولا للتبرير. كانت غاضبة، وكانت تحبني. كانت غاضبة لأنها كانت تحبني، وكانت لا تفعل أكثر من ذرف دمعها. أمسكتها كي آخذها بين ذراعيّ، فَطَلَبَتْ مني:
- هلا تزوجتني، يا رامزي؟
لم أتفاجأ على الرغم من أنني لم أفكر في الموضوع بتاتًا.
أعادت:
- هلا تزوجتني، يا رامزي؟
بعد عدة ثوان، وأنا أنظر إلى عينيها الدامعتين، وإلى شفتيها اللذيذتين، ابتسمت سائلاً:
- هلا قلت لي اسمك الصغير، يا مدام رامزي؟
أطلقت ضحكة خرجت من أعماق قلبها، وقبلتني في كل مكان من وجهي، وهي تقول دون أن تتوقف عن ذرف الدموع:
- كنت أعلم أنك ستوافق، كنت أعلم أنك ستوافق...
- وما هو اسمك الصغير، يا حبيبتي؟
- كيلي، اسمي الصغير كيلي، كيلي.
- كيلي. كم هو جميل هذا الاسم الصغير، يا كيلي.
وقبلتها قبلة طويلة طويلة طويلة... دخلت سكرتيرتي علينا من أجل التوقيع على ورقة من الأوراق، وعندما رأتنا ونحن في عناق طويل، ابتسمت، وانسحبت على رؤوس أصابع رجليها.
بعد عدة أيام، تم زواجنا في كنيسة صغيرة، زواج تبعه حفل صغير في شقتي جمع البعض من معارفنا، وكانت جين بالطبع من بين معارفنا. رن جرس الباب، فذهبت أفتح. كانت المرأة الحمراء، رجوتها الدخول، فاعتذرت. قالت إنها ستعود، سألتها متى، فلم تقل متى. قبلتني من خدي، وذهبت.


يتبع المِصراع الثاني القسم الرابع



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماكبث المِصراع الثاني القسم الثاني
- ماكبث المِصراع الثاني القسم الأول
- ماكبث المِصراع الأول القسم الثالث
- ماكبث المِصراع الأول القسم الثاني
- ماكبث المِصراع الأول القسم الأول
- شهادات (15) دكتورة ندى طوميش
- شهادات (14) دكتور بركات زلوم
- شهادات (13) دكتور حسام الخطيب
- شهادات (12) دكتور سهيل إدريس
- شهادات (11) دكتور إحسان عباس
- شهادات (10) دكتور جان-فرانسوا فوركاد
- شهادات (9) دكتور محمد بلحلفاوي
- شهادات (8) دكتور جمال الدين بن الشيخ
- شهادات (7) دكتور أوليفييه كاريه
- شهادات (6) دكتور الأخضر سوامي
- شهادات (5) دكتور دافيد كوهن
- شهادات (4) دكتور جاك بيرك
- شهادات (3) دكتور دانيال ريج
- شهادات (2) دكتور أندريه ميكيل
- شهادات (1) دكتور محمد أركون


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - ماكبث المِصراع الثاني القسم الثالث