أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزيز العصا - أحمد غنيم في روايته -الشيخ ريحان-: يُطرز لوحة للقدس بأزمنتها الثلاثة















المزيد.....


أحمد غنيم في روايته -الشيخ ريحان-: يُطرز لوحة للقدس بأزمنتها الثلاثة


عزيز العصا

الحوار المتمدن-العدد: 4510 - 2014 / 7 / 12 - 08:03
المحور: الادب والفن
    


بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد غنيم في روايته "الشيخ ريحان":
يُطرز لوحة للقدس بأزمنتها الثلاثة
عزيز العصا
[email protected]
"أحمد زيد غنيم"؛ كاتب-مناضل.. فلسطيني-مقدسي.. يعرف، جيداً، ماذا يكتب، ولمن يكتب، وعما يكتب.. وفي هذه المرة؛ (يستل) قلمه ليوثق، ويُجزل التوثيق، لكي ينير الطريق للأجيال الفلسطينية والعربية والإسلامية وأحرار العالم أجمع، إلى قدسهم؛ التي تشكل رمز عزة الكل الفلسطيني، وقبلة الأمة، وهي تقاوم الظلم الواقع على تاريخ البشرية جمعاء، من قبل لصوص التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا.
قدر لي أن أقرأ لهذا المقدسي المنتمي إلى "قُدسهِ-مسقط رأسه؛ أباً عن جد" روايته "الشيخ ريحان" الصادرة عن "دار الجندي للنشر والتوزيع"، وهي لوحة تأريخية-سردية-توثيقية متماسكة؛ تتكون من ثمانٍ وأربعين سردية، تتوزع على ثلاثة فصول تغطي (509) صفحات من القطع المتوسط، تربض بين غلافين بأرضية توثق (بالصورة) لعروبة القدس، وتحمل ملامح "الشيخ ريحان" الرابض في باطنها منذ (1400) عامٍ ونيف، ويودعنا "غنيم" وهو "يَشْتَمُّ رائحة الياسمين وهي تدلي جدائلها من خلف سناسل". إنها القدس التي يرى "غنيم" "أن التاريخ يحيا داخل أناسها، ويحيا أناسها داخل التاريخ الذي تُشتم أنفاسه في كل زاوية وزقاق".
لكل فصلٍ من فصول هذه الرواية عنوانٌ تتكئ عليه عدد من "السرديات". فقد جاء الفصل الأول، بعنوان: بائع الحليب، الذي "يحتضن" (29) سردية تشكل، في مجموعها، حال القدس وأحوالها خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين والنكبة التي تلتها. والفصل الثاني، بعنوان: نهرٌ بلا ماء، الذي "ترفده" (9) سردياتٍ؛ تصور، بالكلمة المكتوبة، القدس خلال حقبة الحكم الأردني عليها. وأما الفصل الثالث، فيوثق لممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد القدس وأهلها، على مدى (11) سردية تنتهي بـ "صلاة على يافعات القدس". إنها القدس التي تحكي حكايتها أشجار الصبَّار: مدينة تدمرت، كلياً، مرتين، وحوصرت (23) مرة، وهوجمت (52) مرة، وتم غزوها واحتلالها (44) مرةً.
من خلال قراءتي التي قمت بها، لساعات طويلة، بشكل متواصل؛ لكي لا أنقطع عن الأفكار وجدت أنني أمام نصٍّ متقن، قلّت فيه الأخطاء، بل ندُرت، مما يوحي بأن خلف هذا النص من هو مؤمن بضرورة أن ينتقل الكاتب العربي بالقارئ من عالمِ تبعثر النصوص وعدم الانضباط والفوضى، إلى عالمِ النص الذي يحترم عقل القارئ، واحتياجاته المعرفية، ووقته الذي يبذله في القراءة والتمعن.
رغم الحجم الضخم لهذه الرواية، إلا أن القارئ يجد نفسه يتجول في بستانٍ جميل، متعدد المحتويات، مما يجعلك لا تمل التجوال والمتابعة حتى النهاية. فقد وجدت أن هذه الرواية، بجسدها الضخم، "ترتكز" على مجموعة قواعد، تميزها عن غيرها من النصوص الروائية، تتمثل فيما يلي:
أولاً: جزالة اللغة، دقة الوصف وقاموس المفردات:
حيث بذل "غنيم" جهوداً جادة لكي يحفظ للنص العربي هيبته وحضوره في نفس القارئ؛ فوردت الرواية، رغم حجمها الكبير هذا، بلا أخطاء تُذكر. فتميزت بجزالة اللغة، ودقة الوصف، والانتقال السلس في الأفكار؛ دون أن يربك القارئ أو يجعله يفقد الرؤية. فأينما تقرأ في سرديات "غنيم" في روايته هذه لا يدعك تغادر إلا وقد اكتملت لديك الفكرة، وتكاملت عناصر الصورة التي أرادها؛ بلغة جزيلة وتشبيهات "متينة"، لا تحتمل التأويل. ففي وصفه للقدس إبان الانتداب البريطاني يقول:
"تتواصل البيوت يحضن بعضها بعضاً، حجر يحتض حجراً، ونافذة تهامس أخرى، وسطح يسامر سطحاً، وقبة تمتد إلى أخرى، ومقام ينادي مقاماً، حتى تلتف المدينة على نفسها وتتشابك حاراتها وأسواقها، أحياؤها وأمواتها، ماضيها وحاضرها، بعضها يحتوي بعضاً، تتداخل أحياؤها؛ كأنها نسيج كائنٍ أسطوري".
لقد قام "غنيم" باستحضار الأحداث والشخصيات التاريخية في مشاهد تبدو وكأنها "متحركة"؛ صوتاً وصورة، عندما جعلها تدور في أزقة القدس وحاراتها، وتقيم الصلاة في المسجد الأقصى. كما استحضر مقاهي القدس "القديمة" وما فيها من قصص وحكايات. أما الاحتلالات المختلفة التي داهمت القدس، وفق سرديات "غنيم"، فقد كان لممارساتها العدائية بحق المقدسيين صور "شبه ناطقة" بدءاً بالجنود البريطانيين الذين يستبيحون حرية المقدسيين وانتهاءً بالمداهمات الوحشية لجنود الاحتلال الاسرائيلي، مروراً بما جرى للمقدسيين في السجن الصحراوي.
كما حرص "غنيم" على أن يعيد القارئ العربي إلى جذور لغته الجميلة، بما تتميز به من خصائص وسمات جعلت الكاتب يتجلى في وصف الأحداث ومتابعتها حتى النهاية. فقد تضمنت الرواية قاموساً جميلاً احتوى حوالى (150) مفردة ومصطلحاً كما هي في أمهات الكتب والمراجع في جذورها الأصلية، تلك (الكتب الصفراء) "المهترئة" من كثرة الغزوات التي تعرضت لها القدس عبر أزمانها المختلفة. وقد عزز ذلك بأن وضع تفسيراً لجميع تلك المفردات التي استخدمها على مدى روايته، بأن ذيّل بتوضيح معانيها المعاصرة؛ بما نفض عن النص غبار الحيرة التي يمكن أن تنتاب القارئ. ومن تلك المفردات التي ساقها لنا "غنيم" و(طَوَّعها) في النص:
"عَطَرَّدُ"؛ تعني طويل القامة، "دَرْدَبَ"؛ تعني أن المرء يعدو عدو الخائف إلى الخلف (يعدو ويتلفت)، "دَوَش"؛ تعني ضعف في البصر، "فقفق وفطفط"؛ تعني أن المرء يهذي ويثرثر دون فائدة (يلغو)، "راعوفة"؛ تعني صخرة عند البئر يجلس عليها المستقي، "قِرْقِس"؛ تعني البعوض أو حشرة تشبه البق، "الَمْوشِيَّة"؛ تعني البقرة ذات اللون المختلف، "ثُمام"؛ وتعني طيف العشب، كما بين لنا "غنيم" أن "الجونة" هي أحد تسميات الشمس.
ثانياً: المقدسيون يحاربون الجهل ويشيعون القيم والمثل العليا:
فقد جاءت السرديات مشبعة بالصور والمشاهد التي تشير إلى أن المقدسيين هم من سلالة حضارة تتصل بالحضارات الإنسانية كافة. فها هو "غنيم" يصف النزعات الإنسانية الرائعة التي تميز بها المقدسيون في رفقهم بالحيوان، كقصة "عمر"/ بائع الحليب، الذي يرتبط مع بقراته بعلاقة ملؤها الرفق والرقة والحنان والعذوبة والحرص على نظافتها؛ حتى أنه يعرف ما يرضي تلك البقرات وما يزعجها، لينبثق عن ذلك أنها "تحنّن عليه كما يحنن عليها"، وكذلك فاطمة التي "تنادي كل أفراخ القن" التي "تدعو باري الكون لساقيها". كما أن الحيوانات مصدر إلهامٍ للوحدة والتعاضد، "فالعصافير تستطيع الأكل وحدها، لكنها تعشق الغناء معاً".
ولم يترك "غنيم" مناسبة إلا و"نثر" بذور النصائح، والقيم، والمثل العليا في نفس القارئ، كدرس الجدة لحفيدها بأن لكل مخلوق رسالة، ولكل شئ أوان وحضن ومكان، بقولها: "يا ستي، علشان تفقس البيضة وتصير كتكوت، لازم تبقى تحت الدجاجة وقت كافي". وقوله بأن "التاريخ هو الصراع المتواصل، محرك الأحداث"، "لكن التاريخ لا يُكتب على سطحٍ واحدٍ مرتين". والرؤيا التي أراد بائع الحليب بثها في نفس نجله، بضرورة مقارعة الأعداء بما يمتلك من أدوات، بقوله: "الإرادة سلاحي، سأضربهم بعصاي هذه، قد يضعف الجسد ويشيخ، أما الإرادة فلا تشيخ يا بني".
وأما المسؤولية عن هزائم الأمة، فإنها تتوزع على أبنائها، فها هو الشيخ ريحان في حواره مع عمر يقول: "أقسم برب العزة ليسألنكم الله، فرداً فرداً، عن هذا الهوان". كما يحثنا "غنيم" على الوعي والفهم الدقيق لما يجري حولنا، فبالعلم، الذي مثلته "فاطمة" في روايته هذه، يأتي الوعي الذي يطفئ عيون الظلام".
ثالثاً: رمزيات الأسماء والأماكن:
لقد اختار "غنيم" أسماء أبطال روايته بدقة وعناية، لكي يبقى إسم على مسمى؛ حاملاً لمعناه أينما حل وارتحل في المشاهد والأحداث كافة، كما يلي:
1) مجد: هو الأمل الذي بقي يوم اختلفت الأمة وضلت وعجزت واستكانت؛ فذلت وهانت. إنه نداء الشهداء، ورائحة الدم الزكي الذي سال حتى قنأ منه الثرى، إنه مجد الذي يقول فيه محمد الإخشيدي: "لو كان مجد في جنباتكم يومها ما هُزِمتم قط". أما في القدس فهو "سيد فرقة التدمير، مجد الصغير".
2) عمر: نجل شهيدٍ حمّله أمانة تتمثل بشقيقتيه وأمه، فعلّم "فاطمة" وأجلّ "نرجس" وأحاطها بالحنان الأبوي المفقود. وأنجب أبناءً مناضلين يحمون "قدسهم" بالعرق في بنائها، وبالدم دفاعاً عنها.
3) فاطمة: شكلت رمز الوعي لكل ما يجري حولها، ورمز الصبر بانتظار الوعد الذي سيتحقق يوماً ما، ورمز ذاكرة الوطن والأمة عندما وثقت لمعارك فلسطين التي تجاوزتها الأحداث, وحتى عندما انطوت على نفسها كانت نموذجاً رائعاً "لإسناد كل صاحب شكوى أو بلاء والتعاطف معه".
4) نرجس: شقيقة فاطمة؛ ابنة شهيد ثورة البراق، لم تتعلم ولكن ذكاءها الفطري الذي صقله رعاية شقيقها وشقيقتها ووعي والدتها المؤمنة، إيمان العجائز، كان له بالغ الأثر في أن أصبحت الرقم الصعب في الأحداث، فتزوجت من عِلية القوم، وأضحت رمز المقاومة في جميع المراحل، رمز التحدي ورمز الفداء الذي بذل الاحتلال جهوداً مضنية لاختطافه، في العام 1948، وإخفائه والقضاء عليه وانتزاعه من نفوس أبناء فلسطين. إنها ذلك الإسم الوحيد الذي يوقظ فاطمة، "نرجس" التي قالت فيها فاطمة: "نرجس وأولادها؛ لن تعيدهم الأمم المتحدة، ولا الصليب الأحمر".
5) وعد: رمز الثورة المستمرة وموقدها في وجه الظلم والظالمين، من محتلين ومستعمرين وجواسيس وعملاء للمحتل. إنه ذاك الذي "ما زال على عهده الذي قطعه لـ "فاطمة"؛ بأن يُزيل الاحتلال ويأتي إليها بفرسه الأبيض ليحملها نحو الحرية والمجد وعش الزوجية".
6) فيكات: عجوز "تركية" الأصل والفصل، والدة الفدائي زيد، ووالدة "أدهمية"؛ زوجة عادل التي لم تتمكن، منذ النكسة، من العودة إلى حارة الشرف لا هي ولا زوجها ولا ابنها. تشكل "فيكات" رمز الصمود في حي الشرف والصبر على المكاره، والتشبث بأرض الآباء والأجداد، وحفظ أمانتهم التي تركوها والدفاع عنها، في مواجهة "يعقوب اليهودي"؛ الذي كان يقتات على ما تعطيه من الطحين. وبعد النكبة تموت سارة-اليهودية؛ تلك الجارة المخلصة، ويبقى "يعقوب" الذي يحضر بعد النكسة على رأس قوة لكي ينقض على "فيكات-أم نصرت" والقبر والدار التي كان يسترزق منها قوت عياله؛ خائناً لعهد الجيرة فتواجهه "فيكات" بعنادٍ رغم قلة الحيلة.
رابعاً: لعروبة القدس جناحان كانا حاضرين في الرواية:
لا تكاد سردية، من سرديات "غنيم" تخلو من توصيف دقيق لما يتمتع به المقدسيون من حالة التواد والراحم والتعاطف والانصهار، التام، بين بعدي المجتمع المقدسي؛ المسلمون والمسيحيون ليشكلا الجناحين اللذين يرتفعان بالقدس ويحفظان لها عروبتها في مواجهة عملية التهويد التي تداهمها منذ حوالى القرنين من الزمن. ونظراً لازدحام الرواية بما يثبت قولنا هذا، فقد سلطت الضوء على المشاهد التالية، تاركاً للقارئ سبر أغوارها على طريقته:
1) لم يغب "أبو جريس-المسيحي" عن المشهد كمقدسي-وطني-مخلص لأبناء جلدته الآخرين من المسلمين. فهو من القلة الذين يعلمون عن مكان اختباء الفدائيين: سعيد راضي ووعد اللذان كانا يقاتلان الجيش البريطاني، بل هو واحد من أولئك الفدائيين الذين يشنون العمليات ضد الجيش، وهو الرسول المؤتمن على نقل الرسائل بين القائد وعد والمرأة الشجاعة "فاطمة" الموصوفة أعلاه، وهو وفيٌّ للجيرة والجيران؛ فعندما زار بيت عمر المسجون في سجن القشلة البريطاني، تعلق بنرجس عندما "مدّ لها يداً ولْهى، فارتعشت ومدّت يداً راجفة"، فكان نموذجاً للوفاء عندما "فاضت مروءة الواجب" فأخذ دور عمر؛ بأن باع الحليب في حارات القدس وأزقتها.
2) إنه أنطون "أبو جريس" الذي وضع المعلومات المتوفرة لديه، عندما عمل سائقاً لدى الإنجليز تحت تصرف الثوار المقدسيين، والذي كان، دوماً، يدعو (بإسم الرب) لانتصار الثورة على الاحتلال، وقد اكتوى بلهيب صحراء السجن الصحراوي إلى جانب ثلة من المقدسيين الآخرين، والذي فُصل من عمله من المدرسة الرشيدية؛ بسبب "أفكاره الخطرة وتأثيره الوطني على التلاميذ".
3) لقد داهمت النكبة والنكسة كلاً من المسلمين والمسيحيين؛ فكان كل منهما ظهيراً وسنداً للآخر، فقد "سقطت قذيفة على على كنيسة القيامة، وطالت قذيفة جوار المسجد الأقصى، واستهدفت ثالثة دير اللاتين ودير المار متري".
4) "العمة روز"/ أم جورج؛ كانت مثالاً حياً وتسطيراً تاريخياً لمدى التآخي والتلاحم الأبدي والتعاضد بين جناحي فلسطين الموصوفين أعلاه. فقد رأت "نرجس" فيها الملاذ لإبنيها وأوصتهما بالتوجه لها؛ بصفتها "الصدر الحنون" عندما اشتد أوار المعركة التي استهدفت عروبة فلسطين.

خامساً: سردٌ تاريخي-متكامل قلما تجده في الكتب:
فقد جاءت رواية غنيم هذه مشبعة بالشواهد والمشاهد والأحداث التي تشكل، في مجموعها، مجموعة من الحقائق التي توفر للقارئ-المتمعن رصيداً (ضخماً) من البيانات والبينات التي تحكي حكاية القدس عبر (1400) عام ونيّف، جمعت بين الشيخ ريحان ومجد الصغير المولود في سنة ما بين النكبة والنكسة. فكانت حوارات هادئة هادفة بين الأجيال التي مرّت على القدس فعمرتها وشيدت فيها الحضارات، ومن أجمل تلك الحوارات، وأكثرها أهمية، ما جرى بين "الشيخ ريحان" وعمر (نجل شهيد ثورة البراق)، الذي انتهى بأن "رقَّ قلبُ الشيخ لحال عمر، نظر إليه، سكب الروح في المدى أملاً، مدَّ يده، أمسكها عمر ونهض".
كما استدعي "عمر" إلى "مؤتمر أولياء القدس" فالتقى سادة الفتح العظيم (الشيخ ريحان، عبادة بن الصامت، وخالد بن الوليد، وبقية) وشهداء القدس بقيادة عبد القادر الحسيني، وتداولوا عن "مجد" ومصيره، وتعاهدت الأجيال على أن تتعاون لاستعادة هذا الـ "مجد" ليكون فيهم في القادم من الأيام.
بذلك؛ نجد أن عمقنا الحضاري والديني على هذه الأرض، وسِيَرِ الأولين يشكل، للأجيال القادمة، حافزاً للعمل على مواجهة الظلم والضيم، كما يعتبر رافعةً حقيقية تسندهم لتحقيق حالة من الوحدة والتعاضد، وتشكل دروساً في كيفية إدارة الأزمات وعندما يدلهم الخطب.
أما على مستوى ما تعرضت له القدس خلال العقود التسعة المنصرمة؛ فإن "غنيم" قد وثّق لها على المستويات كافة، منها:
1) الاجتماعية؛ من خلال حالات التعاضد والتعاون والمصاهرة، بين أفراد الأسرة الواحدة، وبين الأسر والعائلات، بمستوياتها الاجتماعية المختلفة. تلك المستويات التي توحدت في مواجهة الاحتلال وغطرسته، حتى أصيح المعيار الاجتماعي يُحدّد بمدى مشاركته في الثورة التي انقضت على المحتل من كل اتجاه. ولعل أبرز مثال على ذلك ما جرى لـ "سعدة" (وهي من "النَّور") التي رفضت والدة صابر تزويجه منها، وظل المجتمع المقدسي يهزأ منها، إلى أن تبين للجميع أنها مرتبطة بصابر-الثائر الذي حُكم عليه بـ (19) مؤبداً، حينئذ؛ أصبحت "سعدة-النّوَريّة" محط اهتمام أم صابر، وأصبح المقدسيون يقولون: "افسح الطريق للأخت سعدة".
2) الاقتصادية: فقد برزت المهن المختلفة التي كانت انعكاساً للحالة السياسية والأمنية في القدس، فكان هناك بائع الحليب، والفرّان، وبائع الكاز، وبائع الحمص، مصلح البوابير، والرسام (الذي اعتبر الجنود خارج المشهد الطبيعي للقدس). هؤلاء، وغيرهم الكثير، شكلوا السور المانع والواقي أمام "تهويد" القدس؛ زماناً ومكاناً وسكاناً..
3) المؤامرة على القدس: فقد تبين من هذه الرواية أن الانتداب البريطاني على فلسطين لم يكن سوى المرحلة التمهيدية للنكبة وللنكسة، ففي أحد المشاهد يظهر أن الإنجليز قد سلّموا لليهود "مئات المركبات العسكرية، والمصفحات، وكثيراً من الذخيرة والسلاح، و(24) طائرة".
4) التوثيق لـ "فظاعة" المشهد في العام 1948؛ فقد وصف "غنيم"، في مشهدٍ مؤلمٍ-مبكٍ، اختطاف "نرجس" وتَرْك طفليها (جمال وفوزي) بلا مأوى ولا راعي، والسيطرة على دار العمة روز وتحويلها إلى "شغّالة" لدى من سرقوا منزلها، وقيام قوات الهاجاناة بـ "التهام" الطعام، ساخناً، الذي كانت قد أعدته "سميرة". ويا لهول الفاجعة بتلك المجندة من الهاغاناة عندما "غاصت يديها في حنايا الصدر، اقتلعت القلب الصغير، وهتفت فرحاً: بيدي هاتين ذبحت فتاة عربية". ويسدل الستار على ما قاله جندي الهاغاناه للعمة روز: "اصنعي لك ذاكرة أخرى في مكانٍ آخر، أو أدفنك هنا مع ذكرياتك البائدة".
5) لقد مكننا "غنيم" في روايته هذه من التجوال في أزقة القدس وحاراتها ومقاماتها وأحواشها وعقباتها وأدراجها ومساجدها وكنائسها ومقابرها. كما أجاد في وصف أشجارها ونباتاتها (كنبات الأضاليا)، لدرجة أنها ظهرت كشواهد، حيةٍ، على عروبة القدس وعمق حضارة المقدسيين، كما أنها ظهرت في المشهد حانية على المقدسيين، بظلالها الوارفة كشجرة التين التي كانت الملاذ لأسرة عمر كلما ادلهم الخطب، والجميزة التي تكرر ذكرها؛ فكانت مصدر حماية للمقدسيين في الصيف وفي الشتاء، وكذلك أشجار الصًّبار والصفصاف التي لم تكترث للمحتلين يوماً وبقيت صامدة على مرّ العصور.
6) أما بخصوص التغيرات، وتبدل الحال والأحوال على المقدسيين؛ فقد أبدع "غنيم" في وصفها، حيث تحول "عمر" (نجل شهيد ثورة البراق) من بائع حليبٍ، الذي استُبدل بـ "حليب تنوفا" إلى عاملٍ لدى الاحتلال في مصنع في دير ياسين، ثم انتهى به الحال ليعتاش على ما تحضره زوجته من راتب التأمين، وأبو رباح/ الفرّان الذي لم يعد فرّاناً بسبب "مخبز البيرمان-الاسرائيلي".
7) كما أشار "غنيم" إلى عملية استلاب القدس، فقد "وسِّعت المدينة إلى مدى أخرجها من محيطها المألوف؛ فلم تعد أم ناصر بائعة التين (من قطنة) ولا "أبو النور" بائع الشياه (من السواحرة) جزءاً من المشهد، بل حلّ محلهم صالون "تكفا من بقعات زئيف وكريخيات آرييه من معالي أدوميم" كما أن المخطط العمراني الاحتلالي قد دفع سكان المدينة إلى مغادرتها تحت وطأة الاكتظاظ وعدم السماح للفلسطينيين بالبناء.
8) أما بخصوص محاولات الاحتلال تهويد الثقافة؛ فقد أجاد "غنيم" عندما وصف ممارسات المعلمة "شولا-اليهودية" التي سرقت منزل "العمة روز" في القطمون، والتي تصدى الطلبة المقدسيون لأكاذيبها؛ فطردوها شر طردة من قدسهم، التي هي عنوان عزتهم وكبريائهم الوطني، ليبقى الأستاذ محمود محافظاً على عروبة تلك الثقافة.
9) لقد حرص "غنيم" على إيصال القارئ إلى واقع القدس كما هو، بلا رتوش ولا تجميلات، فها هو يوثق للأسماء كما هي، فقد أثلج صدري أن أرى السرديات تستحضر أصدقائي: د. عبد الله صبري، والمهندس رفعت زيتون، وأحد طلبتي المناضل-المقدسي "طارق الحليسي"؛ ذلك الشاب الرياضي الذي درّسته في المرحلة الثانوية، فكان مثال الرياضي الذي يتحلى بروح عالية ملؤها الرجولة والإباء.
سادساً: للمرأة المقدسية حضور وهي تتقدم الصفوف:
كما لاحظنا سابقاً؛ فإن المرأة حاضرة في جميع أحداث الرواية، وعلى المستويات كافة: ابنة، زوجة، جدة، جارة، مقاومة، مناضلة، مقاتلة، ناصحة، مرشدة، مبدعة، راهبة، واعية، حامية للبيت بوجود الرجل أو بغيابه. لذلك؛ يمكن القول بأن رواية "الشيخ ريحان" هي من النصوص الروائية التي تقترب من نبض الأسرة المقدسية، وهي أبعد ما يكون عن التحليق في عالم الخيال والوهم. فها هي فاطمة ونرجس تشكلان رئتين لجسدٍ واحد، ضفتا القلب الذي شطرته الحرب إلى نصفين"، وها هي فاطمة التي تُقدم على الموت كما تقبل على الحياة، وهي القائلة: "الخوف من الموت لا يطال إرادة حرة تسعى لواجبها، والموت آخر ما يخشاه قلب مثل قلبي". أضف إلى ذلك أدوار المقدسيات في المواجهة المباشرة مع الاحتلالات في مختلف مراحلها، التي أدتها كل من: أم عادل، وجدة عادل، وفكات، وسميرة، وأدهمية و"الست سعدية"، والعمة روز، وأم أنطون، وماري... الخ.
أجمل ما يمكنني وداع هذه القراءة هو الدعوة إلى أن تبقى فينا الأحلام التي راودت "عمر" (نجل شهيد ثورة البراق) وهو يكتوي بـ "جمار السجن الصحراوي": آذان الفجر من المسجد الأقصى، أبواب القدس، أسوارها، قبابها، أجراس كنيسة المهد، الراهبات المقدسات الطاهرات الثلاث: ماري، نرجس والقدس؛ أمنيات ثلاث في حيّزِ ذاتٍ واحدةٍ وحلمٍ واحدٍ ونشيد الملايين في آنٍ معاً.
بقي القول: أننا أمام نصٍ روائي يوثق للقدس، بما يشكل حماية حقيقية لها أمام عملية التهويد التي تجري، صباح مساء، حتى أنها تطال كل بلاطة في أرضها، بل كل حبة ترابٍ من ترابها الطهور؛ المجبول بدماء الأجداد وهم يذودون عنها، وبعرقهم وهم يشيدون على ثراها أعظم الحضارات. كما أننا أمام نصٍ واضحٍ، خالٍ من التأويل، يصف الأحداث كما هي، فلا يسبب أرقاً ولا قلقاً لكاتب السيناريو عندما يعقد النية لتحويله إلى دراما.
قبل أن نغادر؛ لا بد من الوقوف، بجرأة، أمام حقيقة واقعنا المُعاش، فبعد اتفاق أوسلو قالت العجوز (زوجة شهيد ثورة البراق) للعائدين: صحيح أنكم رجعتم، لكن عادل وأدهمية (نزحا بعد النكسة) وما عادا، و"نرجس" لليوم ما لقيناها، وفاطمة غابت مع حلمها الطويل، منذ النكبة، ولم تعد، وصابر (محكوم 19 مؤبداً) لم يعد كذلك.
بقي القول: سوف نخسر الكثير من روايتنا (الوطنية) حول القدس إن لم تتحول هذه الرواية إلى فيلم سينمائي و/أو مسلسل "تتحلق" حوله الأسر الفلسطينية والعربية؛ لكي تتعرف على عاصمة الأمة (الروحية والثقافية والسياحية) رمز عزتها وكرامتها.. تحية للكاتب-الروائي "أحمد غنيم" على هذا العمل الوثائقي-التأريخي الذي جعلني أذرف دموعاً حارة وأنا أقف حزيناً أمام مشاهد استباحة القدس وظلم المقدسيين.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية



#عزيز_العصا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق القادم: الغلبة فيه.. لمن؟! بقلم: عزيز العصا
- نسب أديب حسين في مجموعتها القصصية -أوراقُ مطرٍ مُسافرٍ-.. تُ ...
- جورج حزبون: ذاكرة وطن وقضية بقلم: عزيز العصا
- أحمد عبد الرحمن في كتابه -عشت في زمن عرفات-: من الذي أضاع ال ...
- مسرحية -المستوطنة السعيدة- لكاتبها أحمد رفيق عوض: مَشاهِد من ...
- عبد الله البديري: كاتبٌ مقدسي.. ترك فينا ورحل قراءة: عزيز ...
- إياد شماسنة في روايته -امرأة اسمها العاصمة-: يتنقل بنا من عب ...
- جائزة نوبل للتعليم.. تكشف مكنونات فلسطين... -محمود داود سلام ...
- كتاب -نصب تذكاري- لمؤلِّفيْه أبو عباية والبيروتي: قصص بطولةٍ ...
- محمد أبو شلباية: فارسٌ ترجَّلَ.. فبقي صَهيلُ مؤلفاته
- بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية لمؤلِّفه د. فيصل درّاج: أف ...
- -أوراق متطايرة- (1)-الفلسطينيون في المنفى لكاتبها د. محمد فر ...
- جماعة الباب الادبية تعقد لقاءً أدبياً-تربوياً في مقر -جامعة ...
- رواية -البيت الثالث- لكاتبها صالح أبو لبن: وثيقةٌ تؤرخ للصرا ...
- قراءة -مختلفة- ل -عزيز العصا- في رواية: امرأة عائدة من الموت ...
- التاريخ السري لفارس الغبار للشاعر إياد شماسنة: ديوانٌ.. لا ي ...
- مَلحَمةُ -كَفْر توُتْ-: وَثيقَةٌ تَارِيخِيَّةٌ.. بِنَكْهَةٍ ...
- مراوغة الجدران.. للكاتبة -نَسَب حُسَيْن- صورٌ حيّة لحبٍ -لا ...


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزيز العصا - أحمد غنيم في روايته -الشيخ ريحان-: يُطرز لوحة للقدس بأزمنتها الثلاثة