أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - قراءة في كتاب -بغداد ... أمس- للكاتب البروفيسور الدكتور ساسون سوميخ















المزيد.....



قراءة في كتاب -بغداد ... أمس- للكاتب البروفيسور الدكتور ساسون سوميخ


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 4508 - 2014 / 7 / 10 - 12:39
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


اسم الكتاب: بغداد أمس
المؤلف: البروفيسور الدكتور ساسون سوميخ
المترجم: د. محمود عباسي (الكتاب بالأصل باللغتين العبرية والإنجليزية وترجم عن اللغة العبرية).
دار النشر: دار المشرق للترجمة والطباعة والنشر م.ض. – شفاعمرو/ إسرائيل
سنة النشر: 2011
عدد الصفحات: 176 صفحة بضمنها مجموعة من الصور للنصف الأول من القرن العشرين بالعراق.
ملاحظة: يشير الكاتب إلى إن كتاب بغداد أمس “Baghdad Yesterday”هو الجزء الأول، في حين ستصدر ترجمة الكتاب الثاني الموسوم „Life after Baghdad“ تحت عنوان " الحياة بعد بغداد“ في صيف عام 2014-01-10


المدخل
نحن أمام شخصية أدبية كبيرة، أمام عالم رائع في الأدب العربي والنقد الأدبي، كتبه وكتاباته الأدبية ودراساته العميقة تجسد ذلك لمن اطلع على أبرز كتابات هذا الأديب اليساري والحداثي في آن (راجع الملحق رقم 1 في نهاية هذا المقال). لهذا فالكتابة عنه لن تكون سهلة بأي حال، ولست طامعاً في ذلك بل سأحاول أن أقرأ بعناية كتابه المترجم من الإنجليزية إلى العربية والموسوم "بغداد أمس". إنه كتاب قيم وأصيل وكتب بلغة أدبية رائعة.
والكاتب البروفيسور الدكتور ساسون سوميخ من مواليد بغداد 1933 وعاش فيها مع عائلته حتى العام 1951 حين هاجر العراق إلى إسرائيل بعد صدور قانون إسقاط الجنسية عن يهود العراق. ولد في عائلة متوسطة الحال وعلمانية، وهي عائلة كبيرة ومعروفة عراقياً، كما انتشر أبناء هذه العائلة في بقاع كثيرة من العالم منذ النصف الأول من القرن العشرين حتى الوقت الحاضر. إلا إن أبرز شخصيات هذه العائلة القدامى هو الحاخام الكبير عبد الله سوميخ، في حين أبرز أبناء وبنات العائلة في الوقت الحاضر هو البروفيسور الدكتور ساسون سوميخ. وقد كتبت عنه في كتابي الموسوم "اليهود ومحنة المواطنة العراقية" ما يلي: " بعد بضعة قرون من التقهقر في ميدان التعليم الديني بدأت الطائفة اليهودية ببغداد بفتح مدارس دينية على مستوى عال عرفت باسم (تلمود توراه) أي دراسة التوراة، وقد تم تأسيس أولى هذه المدارس عام 1832 أعقبها تأسيس أول كلية دينية (يشيبا) عام 1840 وقد ترأسها الحاخام عبد الله سوميخ وبلغ عدد تلاميذها عام 1848 الستين" . كما كتب عنه الدكتور سلمان درويش في كتابه الموسوم " كل شيء هادئ في العيادة" ما يلي: "الحاخام عبد الله كان احد ثلاثة الحاخامين الذين تقلدوا سلطة القضاء الديني اليهودي في بغداد حيث كان التعليم الديني فيها راقياً وفيها مدرسة دينية يتولى هو رئاستها ويقوم بهذا العمل البار مجاناً، كما كان مرجعاً للرد على اليهود في مختلف الأقطار كالهند والصين وإيران والشام بالإضافة إلى بلاد ما بين النهرين من تفسيرات وإيضاحات دينية في تحليل أو تحريم مأكولات ومشروبات عصرية ومخترعات مختلفة. وكان بعيداً عن التعصب وعرف بمجاراته لروح العصر والتقدم ومتطلبات التطور الفكري الاجتماعي".

درس ساسون سوميخ الابتدائية في مدرسة "مدام عادل" الأهلية ثم درس المتوسطة والثانوية في مدرسة "شماش". وفي المدرستين أكثرية من أبناء وبنات العائلات اليهودية ولكنها ضمت مجموعة من المسيحيين والمسلمين أيضاً. حين تخرج من الثانوية كانت الأبواب قد أغلقت بوجه أبناء وبنات اليهود في التعليم العالي أو الوظائف الحكومية بل حتى الوظائف في القطاع الخاص. مما وجد الشباب اليهودي أن مستقبله قد أغلق بوجهه وفقد حرية الحركة هي أقسى ما يمكن أن يعاني منه الإنسان في بلد لا يعترف بالهوية العراقية بل بالهويات الفرعية ويميز بنها لصالح هوية فرعية واحدة وجزئية ضد الهويات الفرعية الأخرى، وهي الحالة التي لا تخلق المواطنة الموحدة والمتساوية، بل تدفع به إلى الهامش والهجرة إن أراد صيانة حريته وكرامته ورعاية مستقبله.
تعرف على الرؤية العلمانية للمجتمع في علاقات عائلته وفي موقفها من الدين أو الدولة أو إزاء الديانات الأخرى وكذلك في المحيط الذي كان على احتكاك به، وخاصة عبر بعض المدرسين الذين درسوه في المدرسة الثانوية ويعتز بذكر البعض منهم سواء أكان من أتباع الديانة اليهودية أو الإسلامية أو المسيحية، منهم على سبيل المثال لا الحصر أستاذ الكيمياء نسيم عزرا نسيم، والكاتب الأستاذ محمد شرارة والدكتور حسين مروة، صاحب كتاب النزعات المادية في الإسلام" الذي اغتيل بتاريخ 17 شباط 1987 في منزله ببيروت من أعداء الحزب الشيوعي اللبناني والحركة الوطنية اللبنانية. تعرف على الكثير من الأدباء والشعراء العراقيين ومنهم بشكل خاص محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وبُلند الحيدري وعبد الرزاق عبد الواحد ورشيد ياسين ووأكرم الوتري وحسين مردان وغيرهم من شعراء تلك الفترة. بدأ بكتابة الشعر مبكراً ونشر بعض أشعاره في الصحف العراقية حين كان تلميذاً في مدرسة شماش الثانوية. لم يكن مغموراً بالسياسة كالكثير من أبناء وبنات جيله، كما لم يكن عضواً في حزب سياسي بالعراق، ولكنه كان ديمقراطي النزعة وتقدمي التوجه صوب الحداثة واليسار.
حين هاجر إلى إسرائيل كان عمره 17 سنة. تسنى له الدراسة بعد مرور عدة سنوات في جامعة تل أبيب وحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العبرية والتاريخ من جامعة تل أبيب في العام 1962 ومن ثم على شهادة الماجستير في اللسانيات في قسم اللغات السامية في الجامعة العبرية بالقدس في العام 1965. ثم انتقل إلى جامعة أوكسفورد بلندن لينجز رسالة الدكتوراه التي حاز عليها في العام 1968 وكانت تبحث في أدب نجيب محفوظ وثلاثيته الشهيرة بين القصرين (1956)، قصر الشوق ((1957، السكرية (1957). وقد حازت دراسات وكتابات البروفيسور سوميخ على تأييد كبير وتقدير استثنائي من الروائي والكاتب الكبير والحائز على جائزة نوبل للآداب، إذ كتب رسالة بخط يده موجهة للأستاذ ساسون سوميخ بتاريخ 12/10/1978 وموقعة بـ "المخلص نجيب محفوظ"، القاهرة، جاء لضمنها المقطع التالي: (راجع الملحق رقم 1 ويتضمن صورة رسالة نجيب محفوظ بخط يده).
"الأستاذ ساسون سوميخ
إليك صادق تحياتي وشكري وبعد
لقد اطلعت على رسالتك بسرور صادق ، إعراباً عما أكنه لك من شكر لعنايتك الكريمة بدراسة أدبي ، وقد صرحت في أكثر من مجال بأن كتابك عني يعتبر عملاً نقدياً عميقاً وشاملاً ، وإنه يعتبر من أفضل ما كتب عني إن لم يكن أفضلها جميعاً. وطبيعي إنني لمست فيه حبك للأدب العربي ولاجتهاداتي فيه لا تحرياتك عن عقلية عدو. بل إن دراستك كانت غنية في المقام الأول وإنسانية بالمعنى الشامل والدقيق."
قبل إنجاز رسالة الدكتوراه عين سكرتيراً علمياً لمجمع اللغة العبرية. وبعد التخرج عمل محاضراً في مادة الأدب العربي ثم رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في جامع تل أبيب في الفترة الواقعة بين 1972- 1984، ومنح درجة الأستاذية في الأدب العربي والنقد الأدبي في العام 1980. وفي الفترة الواقعة بين 1982 -2003 شغل كرسي الأستاذية للأدب العربي في جامعة تل أبيب. وبين عام 1996-1998 شغل مركز رئيس مركز الأكاديمية الإسرائيلية بالقاهرة. وفي العام 2004 حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة بن غوريون.
لقد عمل الأستاذ ساسون سوميخ أستاذا زائراً في جامعات كثيرة منها "جامعة برنستون، كلية سانت أنتوني في أكسفورد ، ومعهد بحوث أننبرغ ، جامعة نيويورك وجامعة أوبسالا."
حاز الأستاذ ساسون سوميخ على وسام إسرائيل، وهو أرفع وسام يمنح في إسرائيل لدوره العلمي الكبير في مجال الآداب واللغة. كما كرم بعضوية شرف في مجمع اللغة العربية بإسرائيل تقديرًا له على ما قدّمه للأدب العربي الحديث من دراسات وأبحاث قيّمة أغنت المكتبة العربيّة. وهو أول كاتب وأديب إسرائيلي ممتميز من أصل يهود العراق ينال هذه الجائزة الكبيرة. وفي هذا الاحتفال تحدثت الدكتور كلارا سروجي- شجراوي التي قدمت نبذة عن حياته وأعماله القيمة كما تحدث أساتذة وأدباء بهذه المناسبة التكريمية، إضافة إلى الأستاذ ساسون سوميخ الذي قدم كلمة بهذه المناسبة. والبروفيسور سوميخ عضواً فخرياً في مجمع اللغة العربية بإسرائيل، وكان من مؤسسي هذا المجمع المهم الموازي لمجمع اللغة العبرية.
منذ انتقال ساسون سوميخ إلى إسرائيل التصق بالتيار الفكري اليساري دون أن ينتمي إلى حزب سياسي، فنشر في جريدة الاتحاد ومن ثم في مجلة الجديد ونشر عشرات المقالات حول الأدب العربي والنقد الأدبي متخذا مساراً واقعياً ومحفزاً لقراءة الأدب العربي أو الدعوة للمشاركة في الكتابة العربية. لقد أتقن اللغة العبرية مما ساهم في مشاركته في ترجمة الكثير من الشعر العربي الحديث، إضافة إلى مساهماته الشخصية. إن مقالاته عن الأدب العربي بشكل عام والفلسطيني منه بشكل خاص في الصحف العبرية والمجلات المتخصصة جلبت انتباه الكثير من القراء واكتسبت أهمية خاصة لنشر الأدب العربي، ومنه الشعر العربي. كصحيفة "هآرتس" ومجلة "عتون 77" ومجلة "كيشت" ومجلة "موزنايم" وغيرها. ويجد الباحث مقالات له في مجلة الكرمل المتخصصة باللغة والأدب والتابعة لكلية الآداب في حيفا، حيث نقرأ لساسون سوميخ فيها مثلاً : فن الشعر العبري في ظل فن الشعر العربي في القرون الوسطى، وبدايات الترجمة الأدبية في القرن التاسع عشر ومشكلة الأسلوب القصصي. كما كان ينشر الكثير من مقالاته في جريدة الشرق الشفاعمرية.

وبصدد الأدب الفلسطيني واهتمام الأستاذ ساسون سوميخ به كتب البروفيسور محمود غنايم مقالاً موضوعياً ومهماً نشر في جريدة الشرق الأوسط وبتاريخ 4 أيلول/سبتمبر 2001 بعنوان "من «اعرف عدوّك».. إلى البحث الاستشراقي، جاء فيه :
"أما أهم باحث في تقديري للأدب الفلسطيني فهو بلا شك البروفسور ساسون سوميخ، أستاذ كرسي الأدب في جامعة تل أبيب. وسوميخ من أصل عراقي جاء إلى الجامعة من الحياة الأدبية. فقد كان في شبابه من النشيطين في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وقد كتب في مجلات الحزب وعرف العديد من الأدباء الفلسطينيين عن كثب وأقام علاقات ودية مع هؤلاء الأدباء، أمثال راشد حسين وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وإميل حبيبي وحنا أبو حنا وغيرهم الكثير.
ودراسات سوميخ الأكاديمية انطلقت من وجهة نظر فنية، حيث انشغل بقضية اللغة في الأدب. وتكتسب دراسات سوميخ أهمية خاصة لأنها لم تبق محصورة في أروقة الجامعة، بل له العديد من المقالات والدراسات التي نشرت في الصحافة الإسرائيلية: العربية والعبرية. يضاف إلى ذلك رصيد كبير من الترجمات إلى العبرية لأدباء فلسطينيين، مثل غسان كنفاني، راشد حسين، إميل حبيبي، محمود درويش، ميشيل حداد، سهام داوود وغيرهم.
والبروفسور سوميخ، صاحب مدرسة في الأكاديميا الإسرائيلية، وقد تخرّج على يديه العديد من الطلاب الذين انتشروا في عدة جامعات داخل إسرائيل وخارجها. وكاتب هذا المقال أحد تلامذته الذين اهتموا اهتمامًا خاصًا بالأدب الفلسطيني. وقد أصدر سوميخ كتابًا عن الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود وكتابًا آخر عن إميل حبيبي، وكتابًا ثالثًا باسم «المدار الصعب: رحلة القصة الفلسطينية في إسرائيل».
ولا بدّ أن نذكر للبروفسور سوميخ جديته وموضوعيته في دراسة الأدب الفلسطيني، وكذلك معالجته لموضوعه عن حبّ للأدب العربي لا من منطلق التعالي على هذا الأدب أو التعامل معه كشهادة سياسية ـ اجتماعية فحسب، وتحتل جامعة تل أبيب اليوم مكان الصدارة في دراسته هذا الأدب، وإذ يدرّس فيها أساتذة عرب يفردون حصة لا يستهان بها لدراسة الأدب الفلسطيني. وفي كل سنة لا يخلو المنهج الدراسي من مساق أو عدة مساقات لدراسة هذا الأدب".
لقد أخذت هذا المقتطف الطويل من مقال البروفيسور غنايم لأهميته في تشخيص العلاقة السليمة بين البروفيسور سوميخ والأدب الفلسطيني والأدباء الفلسطينيين والقائمة على الندية والتفاعل والحب الخالص للأدب العربي عموماً والفلسطيني والمصري على نحو خاص.
نشر الأستاذ ساسون سوميخ الكثير من الكتب الأدبية التي يمكن ذكر العديد منها فيما يلي:
"عالم نجيب محفوظ" و "دنيا يوسف إدريس"و لغة القصة عند يوسف إدريس، كما صدر له عن إسهامات الأدباء اليهود الأدبية والفكرية في مصر وكتاب آخر يستعيد فيه ذكرياته عن العراق، عراق الفكر والثقافة. ولد كتاب آخر عن الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود وآخر عن أميل حبيبي. ثم توج إنتاجه بكتاب يعتبر قمة في البحث الأدبي الأكاديمي يتطرق فيه إلى تطور لغة الأدب في المنجزات الأدبية الحديثة.
ترجم البروفيسور ساسون سوميخ الكثير من الشعر لشعراء عرب منهم الشاعر الفلسطيني محمود درويش. جاء في مقال كتبته مايا جاغي عن سيرة حياة محمود درويش ورد النص التالي المأخوذ عن سوميخ حول العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في شعر محمود درويش :
"وعند ساسون سوميخ, الباحث الإسرائيلي في الأدب العربي في جامعة تل أبيب والذي عرف درويش في ستينات القرن العشرين ويترجم القصيدة إلى العبرية " تهدف القصيدة إلى الحوار: إنها لا تتكلم عن الإسرائيليين كمجرمين, بل تقول : لم لا يفهمون ؟ لا معنى للقول أن هذا الرجل يكرهنا". وهذا الموقف يجسد الفكر الإنساني الذي يحمله ويتمتع به الأستاذ ساسون سوميخ.


خصائص هذا الكتاب
حين فتحت كتاب "بغداد أمس" قرأت الإهداء الآتي الذي خصني به الأستاذ ساسون سوميخ "الأستاذ كاظم حبيب، من بغدادي إلى أخيه، محبتي واعتزازي، 6/10/2013". جملة مكثفة محملة بمشاعر الود والحنين إلى مدينة بغداد وأهليها وما فيها. حينها قررت الكتابة عن هذا الكتاب. ولكن انشغالي بإنجاز كتابي الموسوم "لمحات من عراق القرن العشرين" الذي صدر أخيراً بأربيل عن دار آراس، أعاقني عن البدء بإعادة قراءة الكتاب والكتابة عنه. وحين عدت إليه قرأته أكثر من مرة وتمتعت به وأعادني إلى أجواء بغداد الحبيبة. وقبل البدء ببعض التفاصيل بودي أن أشير إلى بعض الانطباعات التي تشكلت في ذهني حال انتهائي منه.
الذكريات التي كتب عنها ساسون سوميخ والتي يتراوح عمرها بين 65-75 عاماً تشعرك بحيوية الكاتب وطراوة الذكريات التي يتحدث عنها واعتزازه بها، ففي هذه الفترة بالذات تكونت في واقع الحال شخصية الأستاذ سوميخ الأديب الشاعر والكاتب والباحث والأكاديمي المميز والمترجم والناقد الأدبي الكبير وتكاملت عبر العقود المنصرمة بمعارف جمة وتراكم خبرات هائلة وجهود دؤوبة لم تعرف الكلل أو الملل.
يقدم الكاتب في كتاب لا تتجاوز صفحاته 160 صفحة (عدا الصور الأرشيفية) معلومات تحليلية غنية جداً عن حياة يهود الطبقة الوسطى العراقية، عن حياتها اليومية وعلاقاتها وزواجها والمشكلات التي تحيط بها ودورها، وعن حياة أطفال تلك العائلات ودراستهم والأجواء المحيطة بهم. إنه تكثيف رائع لمن يرغب في الحصول عن حياة الطبقة الوسطى بالعراق في الأربعينات من القرن العشرين. فالكتاب يعتبر وثيقة تاريخية مهمة جداً عن حياة الطبقة الوسطى من يهود العراق، ولكنها تنقل أيضاً لوحة قاتمة عن حالة اليهود والمسلمين الفقراء والمعوزين في مناطق سكن بائسة تؤكد التمايز الاجتماعي الطبقي في المجتمع العراقي عموماً وبين اليهود باعتبارهم جزءاً من هذا المجتمع.
وأهمية الكتاب تبرز في قدرة الكاتب في أن ينقل بعفوية عالية جداً وبلغة جميلة بالأصل إلى القارئ حياة المثقفين العراقيين في سنوات العقد الخامس التي تميزت بالتواضع والعلاقة الحميمة والرغبة في المساعدة لدى الشعراء والأدباء والأساتذة حينذاك لمن يحتاجها ويطلبها من التلاميذ والطلبة والتي يجدها مجسدة في شخصية أستاذه في ثانوية شماش الأديب اللبناني العراقي المعروف محمد شرارة والذي يكن له جل الاحترام والاعتزاز.
وأهمية الكتاب تقدم رؤية صادقة وموثقة في مصادر كثيرة أخرى بأن الغالبية العظمة من يهود العراق كانوا مخلصين جدا للوطن العراقي الذي عاش فيه أجدادهم منذ ما يزيد عن 25 قرناً، وإن هذه الوطنية الخالصة لا تقل حباً والتصاقاً بالمجتمع والعراق عن أتباع بقية الديانات والمذاهب بالعراق. ويمكن أن نجد مصداقية ذلك في ما كتبه في دفتره الامتحاني في وصف التغييرات التي طرأت على العراق منذ الحرب العالمية الأولى حتى أواخر الحرب العالمية الثانية، وكان متأثراً بفكر أستاذه وصديقه الحميم محمد شرارة حيث كتب ما يلي: "باشرت على الفور أكتب أشياء من روح محاضراته الثورية ، وأكثرت من استعمال تعابيره الماركسية. أتذكر أنني كتبت خلاصة تسويغاتي وتبريراتي، قائلاً: بأن العراق لم يحظ أبداً بالاستقلال، لأن الاستعمار البريطاني قد تعامل مع العراق كمستوطنة له، رغم المؤشرات الخارجية للاستقلال السياسي، وأضفت والآن تبدأ مرحلة كبت مرير آخر، يتمثل بتأثير الاستعمار الأمريكي" وأضاف في كتابه ما يلي: "من كان يتخيل في تلك الأيام احتلالً أميركياً للعراق، كما حدث فعلاً في عام 2003).
وعند قراءة استهلال الكتاب تواجه القارئة والقارئ أفكاراً جوهرية تعبر عن مدى التصاق يهود العراق حين كانوا بالعراق بوادي الرافدين، ببلاد ما بين النهرين، كما إن الكثير منهم ما يزال يمتلك الزخم نفسه حتى الآن في تتبعه لأحداث شعب العراق رغم افتراقه عنه أكثر من ستة عقود. فيهود العراق كانوا "يفتخرون ويتباهون، كما يقول سوميخ، بأقدميتهم في بلاد الرافدين"، فهم قد عاشوا على هذه الأرض الطيبة أكثر من 2500 سنة وسبقوا العرب إليها. كما إنهم يفتخرون لما أنجزوه أو شاركوا في إنجازه، سواء أكان في الجوانب الدينية أو الثقافية العامة وفي ما حمله يهود العراق من ثقافية رافيدينية صوب بلدان العالم الغربي والشرقي. ولا شك في أن يهود العراق لهم الحق الكامل بالافتخار بأنهم أول من أدخل المدارس الحديثة إلى العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومن بين هؤلاء تبلورت تدريجياً الاتجاهات المدنية والعلمانية في حياة المجتمع العراقي، إضافة إلى دور المسيحيين في هذا الصدد.
إن من تبقى من المجموعة الكبيرة من يهود العراق التي أجبرت على الهجرة وانتقلت إلى إسرائيل أو الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا ما زالت ترتبط روحياً وثقافيا بالعراق وثقافة العراق والناس بالعراق وتتأثر بأحداثه. فعلى سبيل المثال لا الحصر يشير الأستاذ سوميخ إلى ما يلي:
" أنشأت مجموعة مثقفين إسرائيليين من أصل عراقي عام 1994 تقريباً جمعية جديدة تهدف إلى استعادة استذكار الماضي العراقي ليهود بغداد وعلى الأخص حياتهم إلى جوار جيرانهم المسلمين والقيام بذلك على قدر الإمكان، دون التأثر بالنزاع العربي الإسرائيلي". (ص 10).
يتحدث ساسون في هذا الكتاب عن شعبه العراقي، الذي عاش في أحضانه حتى بلوغه السابعة عشر سنة، بلغة كلها حب وتقدير وتعبير عن إدراك حقيقي لطبيعة هذا الشعب ومشكلاته وطموحاته ولا يحمّل هذا الشعب بغالبيته مسؤولية تهجير اليهود أو هجرتهم الجماعية بعد صدور قانون إسقاط الجنسية عن اليهود، بل يحمل جهات أخرى مثل هذه المسؤولية. وقد أشرت إليها في كتابي عن يهود العراق والتي لا اعتقد أنه يختلف فيها معي في هذا الصدد والتي لخصتها بثلاث قوى تتحمل هذه المسؤولية: هي الحكومة العراقية والقوى القومية الشوفينية المتعصبة، والحكومة الإسرائيلية والحركة الصهيونية والموساد الإسرائيلي والحكومة البريطانية والدور النشط لسفارتها ببغداد، إضافة إلى دعم مباشر من جانب الولايات المتحدة. إن الكتاب يسجل ذكريات الصبي ساسون سوميخ وتتركز تقريباً بين سن العاشرة ومغادرة العراق، وهي غزيرة بمضامينها الديمقراطية والاجتماعية ذات الخلفية السياسية غير المعبأة بالحزبية أو بأيديولوجية محددة.
لقد كان يهود العراق مندمجين بالمجتمع العراقي، فهم يعيشون مع مسلمين ومسيحيين وأتباع ديانات أخرى ويعملون معهم ويسكنون في مناطق مختلطة، إذ لم تعرف بغداد أو المدن الكبيرة الأخرى حيثما وجد اليهود العراقيين "غيتوات" خاصة بهم، كما كان الحال في أغلب الدول الأوروبية. لقد كانوا يعيشون بصورة مشتركة، وكان الإنسان يجد في منطقة الشورجة ثلاثة دور للعبادة: مسجد للمسلمين وكنيس لليهود وكنيسة للمسيحيين، وكانت تشكل أركاناً ثلاثة لأكبر الديانات من حيث العدد بالعراق. وكان للصابئة والإيزيديين وغيرهم دور عبادتهم أيضاً ومراقد أوليائهم الصالحين. وعلينا أن ننتبه إلى إن هذه الظاهرة الإيجابية كانت لا تعني أنه لم يكن بالعراق تمييز ديني أو طائفي ينطلق من الفئات الحاكمة ومن بعض شيوخ الدين، ولكنها كانت محدودة ولا تتحرك إلا بفعل الحكام أو بعض الأوغاد الذين يجدون في القومية أو الدين مرتعاً خصباً لمعاداة الآخرين. ونجد في كتاب "بغداد أمس" ما يؤكد على الحياة المشتركة إذ كتب سوميخ يقول:
"ويهمني أساساً أن أوجه القراء إلى تأمل تاريخ المعاصر ليهود العراق من خلال رؤية مستفيضة، أي ليس من خلال كون هذه الجماعة مجموعة بشرية منطوية على نفسها، منفصمة عمّا يجري في الدنيا, زاهدة عن التواصل مع جموع المسلمين والمسيحيين في البيئة التي تعيش فيها". (ص 11) ونجد مصداق ذلك في فصول الكتاب والعلاقة بين المثقفين من أتباع الديانات كافة.
ومن الجدير بالإشارة إلى إن المتعلمين والمثقفين من يهود العراق والمتحدثين بأكثر من لغة أجنبية، إلى جانب العربية، ونتيجة لعلاقاتهم الواسعة بأوروبا ودول الشرق الأخرى، ومع القوات البريطانية والإدارة البريطانية إلى العراق وتشكيل الدولة العراقية في العام 1921 نشأت بفترة مبكرة النواة الجديدة بين يهود العراق قبل غيرهم للبرجوازية المتوسط العاملة في ثلاث مجالات أساسية في الإدارة وفي التجارة والبنوك والثقافة والتي أصبحت حاملة للرؤية المدنية والعلمانية للدولة والمجتمع. وقد التحقت بها ذات الجماعات من أتباع الديانات الأخرى، وخاصة المسيحيين والمسلمين.

قراءة في كتاب "بغداد أمس"
يشتمل الكتاب على استهلال و25 فصلاً يستند كاتبها البروفيسور ساسون سوميخ على ذكرياته التي ما تزال حية طرية شاخصة أمام ناظريه بكل أحداثها وأبعادها ونتائجها أو عواقبها، كما تضع القارئ والقارئة في أجواء العقد الخامس من القرن العشرين، أجواء الأربعينات التي تميزت بالحركة والتطور السريع للبنات الأولية لبناء المجتمع المدني العراقي الجديد. إن ما يختزنه من ذكريات يعود لهذه الفترة بالذات وما وصل إليه عبر عائلته أو المحيط الذي تحرك فيه وتعامل معه والشخصيات التي أثرت فيه وتفاعلت معه إن ما يقدمه لنا في هذا الكتاب الكثيف يعتبر لوحة صادقة ومعبرة وصافية عن العراق الملكي، العراق الذي لم يهرب هو منه، بل أُجبر على مغادرته حين سدّت أبواب المستقبل بوجهه ووجه الكثير من شباب وشابات اليهود العراقيين في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن العشرين حيث ترك العراق في تلك الفترة بشكل خاص ما يزيد عن 120 ألف عراقي من أتباع الدين اليهودي وقبل ذاك وبعد ذاك أنتقل إلى فلسطين أو إلى إسرائيل بعد 1948 أو إلى أوروبا والولايات المتحدة ما يتراوح بين 20-30 ألف مواطنة ومواطن عراقي يهودي الدين. لقد صدرت قرارات من الحكومة العراقية بمنع قبول خريجي المدارس الثانوية في الكليات والمعاهد العراقية في جميع أنحاء العراق: كما منعوا من التوظيف في الدوائر والمؤسسات الحكومية وفصل أو أحيل على التقاعد من كان ما يزال يعمل فيه، ثم أصبح العمل في القطاع الخاص صعباً للغاية لأغلب يهود العراق. وكانت هذه القرارات الظالمة والسيئة هي من بين الأسباب الرئيسية، إضافة إلى قانون إسقاط الجنسية السيئ الصيت، إلى هجرة اليهود، وخاصة الشبيبة منهم في البداية ومن ثم الهجرة الجماعية. لقد كان هناك موقف واضح لدى الحكومتين البريطانية والإسرائيلية بضرورة تهجير يهود الدول العربية كافة إلى إسرائيل والتي أقرتها الحكومة الملكية العراقية في حينها وعملت هذه الدول وحكوماتها على تنفيذ القرار وبإصرار عجيب. ومن يطالع الصحافة العراقية القريبة من الحكومة العراقية والقوى القومية اليمينية المتشددة حينذاك، والصحف العربية، وخاصة في نهاية الأربعينات وفي أعقاب تأسيس الدولة الإسرائيلية وحرب العام 1948 حتى وفي العامين 1950 و1951، ومنها الصحف التالية: " النبأ، الأمة، الحصون، اليقظة، الأخبار، لواء الاستقلال، الزمان، الحواداث، الدفة، النهار، الفخ والآراء." ، سيجد إنها كانت مليئة بمقالات وإعلانات لكتاب معروفين بالهجوم العنصري والمناهض ليهود العراق والتي كانت تؤلب الرأي العام العراقي ضد اليهود وتدعو إلى عزلهم ومقاطعتهم وكأن يهود العراق هم المسؤولين عما حصل في فلسطين من تقسيم وإقامة الدولة الإسرائيلية على وفق القرار الصادر عن مجلس الأمن والأمم المتحدة في العام 1947 وتنفيذه في العام 1048 وبدء الحرب العربية الإسرائيلية.
في الفصول الأربعة الأولى يتحدث سوميخ عن فترة الصبا والعائلة وزواج العم عزرا ويتجاوز الطفولة، ولكن لم ينس حبه الأول وهو ما يزال طفلاً صغيراً. وهي إشارة جميلة إلى إن الحب يبقى الهاجس الأساسي لدى الإنسان والذي يصل إلى الطفل بصورة عفوية وطبيعية مع حب وحليب الأم. ويتذكر ساسون حين كان يتمدد في سريره على سطح الدار كيف كان يتطلع بإعجاب ودهشة بالغة وانتعاش كبير وتساؤلات كثيرة دون إجابات يسمح بها العمر والمعرفة والخبرة إلى سماء بغداد الصافية المفروشة بملايين النجوم المتلألئة المضيئة، وهي تبعث الطمأنينة في نفسه وتنشط الخيال. وحين يشير بشكل عفوي إلى الناموسية التي كان تستخدمها العائلة على سطح الدار يتعرف الإنسان على إن العائلة متعلمة ومتوسطة الحال وقادرة على شراء واستخدام الناموسية للخلاص من البق الذي لا يرحم في لسعاته الشديدة وامتصاصه دم العراقيين. وقد قال "أبو إسحاق الصابي" في وصف ليلة شديدة الحرارة وكثيرة البق فيقول:
وليلة لم أذق من حرها وسناً كأن في جوها النيران تشتعل
أحاط بي عسكر للبق ذو لجب ما فيه إلا شجاع فاتك بطل
من كل شائلة الخرطوم طاعنة لا تحجب السجف مسراها ولا الكلل
طافوا علينا وحر الصيف يطبخنا حتى إذا نضجت أجسادنا أكلوا
وكان ساسون الصبي وهو ينظر إلى السماء والنجوم تدور في ذهنه الكثير من الأسئلة حيث كتب يقول: "من الطبيعي، أن تدور في دماغي الصغير، في تلك الليالي، وأنا داخل الناموسية تساؤلات "وجودية" مَن الذي خلق هذه الأشياء؟ متى وكيف؟ كان من الواضح لي، آنذاك، إن ما جاء في سفر التكوين ...غير "منطقي" وغير "علمي". ويبدو إن ساسون قد احتفظ بهذه الأفكار لنفسه، في حين بادرت إلى السؤال عن هذه الحالة على النحو التالي:
حين كنت في الصف الرابع الابتدائي سجلت في "المدرسة الإرسالية الإنكليزية السورية" ببيروت. وكنت أسكن مع أخي في شقة مقابلة لساعة الجامعة الأمريكية ببيروت حيث كان أخي ييدرس الطب هنا. في البيت كنت أصلي صلاة المسلمين، وفي المدرسة كنا نصلي جماعياً وعلى أنغام البيانو صلاة المسيحيين وكنت أدعو معهم، وهي ما تزال في الذاكرة كما في الذاكرة صلاة المسلمين: "أبانا الذي في السموات. ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك. كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا الذي للغد أعطنا اليوم. وأغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا. ولا تدخلنا في تجربة. لكن نجنا من الشرير. بالمسيح يسوع ربنا لأن لكَ الملك والقوة والمجد إلى الأبد. آمين.". وقد فكرت وأنا الصغير في هذا التباين في أسلوب الصلاة وأسبابه ولماذا نصلي ولمن. فسألت أخي مرة: هل هناك رب أو ألله؟ فكان قد حصدت صفعة ليست قوية ولكنها كانت كافية لتسكتني في تلك اللحظة. ولكن لم يخل السؤال عن بالي. وحين عدت إلى العراق أتذكر أني كتبت قصة قصيرة وأنا في الصف الخامس الابتدائي تحوم حول الموضوع ذاته وفيها نكران لوجود الله, رغم صلاتي اليومية وقراءتي للقرآن الذي ختمته عشرات المرات في أشهر رمضان، وإلا لكان عليه أن لا يكون بين الناس فقيراً أو مريضاً، إذ كان لنا بعض الجيران المرضى والفقراء وكان ذلك ينغصني كثيراً. وأتذكر أني حرقت تلك القصة خشية أن تقع في يد عائلتي وأتقلى علقة أو "بسطة" عراقية. وذاك التساؤل هو الذي جعل مني ما أنا عليه الآن مع احترامي الكامل لأتباع كل الديانات والمذاهب ودفاعي عن حقهم في العبادة وفي اختيار الدين الذي يجدون فيه ضالتهم.
ويشارك سوميخ كل يهود بغداد، سواء من يعيش في إسرائيل أم في بلدان أخرى، في حنينهم لبغداد ونهر دجلة والسباحة فيه وشارع أبو نواس والليالي المقمرة والسمك المزگوف، ولكن ليس كلهم يستطيع أن يصف جلسة المزكوف العراقية بامتياز وعمل رجل الموقد حيث كتب يقول: "كنا نصل إلى إحدى الزوايا الهادئة لهذه الأرض البتول بالبلم، وكنا نجلب معنا للترفيه بالإضافة إلى آلات العزف (أو الغرامافون)، الأسماك الكبيرة من نوع "الشبوط" التي تعد من أفخر وأجود اسماك نهر دجلة . كنا نشعل الموقد بالأخشاب الصغيرة التي كنا نعدها مسبقاً. كان رجل الموقد المتخصص في شواء الأسماك على الموقد، يعدها للشواء المكشوف بعد تعليقها على اسياخ تحيط بالنار المتقدمة. بعد ذلك كان ينّزل السمك عن النار ويتبلها بأنواع البهارات المختلفة (على الأخص الكاري الهندي) وشرائح الطماطم. كنا نهش ونبش وتنبسط أساريرنا في انتظار السمك الذي كان شواؤه في مراحل النضوج ... وحين كانت تتناهى إلى خياشيمنا روائح خليط البهارات ، كنا ندرك إن ساعة الاحتفال قد دنت". (ص 32).
وإذا كان الكثير من الصبية في مثل عمر ساسون حينذاك يهتمون باللعب والرياضة وأشياء مسلية أخرى، كانت سلوى الصبي ساسون القراءة واقتناء الكتب من مصروف جيبه اليومي المحدود أو إجراء الاختبارات الكيماوية التي كف عنها بعد إحداثه انفجاراً في البيت كان يمكن أن يورطه مع التحقيقات الجنائية العراقية التي كانت حين ذاك تشك بكل يهودي عراقي وكأنه صهيوني وعدو للعراق، وكانت على خطأ فاحش.
لقد عشق الكتاب، وخاصة الكتاب الأدبي نثراً وشعراً، وراح يبحث عنه وعن الكتاب والشعراء، فكان له العون في مدرسة شماش الثانوية التي عينت أساتذة عرب مسلمين يدرسون فيها اللغة العربية والأدب العربي والأحوال المدنية، ومن بينهم بشكل خاص الأستاذ محمد شرارة وحسين مروة، وهما لبنانيان جاءا إلى العراق ليدرسا في الحوزة الدينية في النجف وتحولا إلى صف اليسار العراقي، وهما كاتبان وأديبان متميزان. نشأت صداقة حميمة بين سوميخ وشرارة استمرت روحياً رغم انقطاعها الفعلي، وتواصلت مع بنات شرارة في الخارج. لقد كانت لقاءاته في مقهى حسن العجمي بصحبة الأستاذ شرارة ذات أهمية في تطوره الفكري والأدبي والتصاقه المبكر بالفكر اليسار، ومنها لقاءاته بشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري الذي كتب عن ذلك يقول:
"بعد انتهاء اليوم الدراسي، استجمعت قواي، وذهبت مع الأستاذ شرارة إلى مقهى حسن العجمي. كان الشاعر يجلس وحيداً يدّخن ويشرب الشاي"الكسكين". كنت مرتبكاً ومتوجساً. لم أعد أتذكر اليوم فحوى محادثتنا وما دار فيها، سوى أني أتذكر أن الموضوع "اليهودي" قد أثير في هذه الجلسة. حكى لنا الجواهري، كيف وجد نفسه في عام 1937 بين قضبان السجن بسبب دفاعه عن فقراء الجالية اليهودية"، (ص 136). ثم يسرد سوميخ الحكاية ويذكر الأبيات الأتية ضمن قصيدة كتبها الجواهري بعد توقيفه بتهمة "زرع الفتنة الطائفية" وهو بعيد عنها كل البعد بعد خروجه من السجن في حينها:
يا عابثاً بسلامة الوطن العزيز وبالأماني
ومفــــــرقـاً زمـــــر اليــهـــود كــــلا لـــــشـان
ما أنت والكاشير والطاريف من بقرٍ وضان
ثم يقول: "أثار بي اللقاء مع الجواهري شهيتي الأدبية، كما أدى الدفء الإنساني الذي طوقني به، إلة أن أغوص عميقاً في قراءة الأدب العربي، وعلى الأخص الشعر، وصرت أتخيل نفسي شاعراً." (ص 136). وبالمناسبة فقد كانت لي علاقات حميمة مع الشاعر الجواهري وأهداني قصيدة جميلة "إلى أبي سامر" من 31 بيتاً شعرياً ضمن ما يطلق عليه بـ "الإخوانيات" في العام 1987، وقد نشرها الصديق الفقيد الدكتور محمد حسين الأعرجي في كتابه الموسوم "الجواهري دراسة ووثائق" الصادر عن دار المدى 2002. وجاء في البيت الأول قوله:
يا أبا سامرٍ ، وأنت حبيبٌ تتخطى الأحبابَ والأسمارا
لكَ مني شوقٌ يدغدغُ نفسي كنسيم ٍ يُدغدغُ الأسحارا

لقد كان محمد شرارة الشخصية التي ساعدت سوميخ للوصول إلى أبرز الشعراء والأدباء وأصحاب الصحف المحلية في تلك الفترة وكتابها، وبشكل خاص الجواهري والسياب وحسين مروة ومحمد حسن الصوري وغيرهم. وكان لهذا الأثر الكبير والأساسي في البدء الفعلي لنشوء الشخصية الأدبية الكبيرة ساسون سوميخ الذي أعتز بصداقته الجديدة.
يستحث الأستاذ محمد شرارة هذا التبجيل الكبير الذي يكنه له صديقه المبكر ساسون سوميخ، فهو إنسان جليل وكاتب وأديب مرموق نشر العديد من الكتب والمقالات ذات الأهمية الفائقة في حياة ونضال الشعب العراقي وعلى امتداد عشرات السنين. لقد التقيت بالأستاذ محمد شرارة في بيت ابنته حياة شرارة وزوجها الصديق الدكتور محمد صالح سميسم. لقد دعيت على وجبة غذاء في بيتهم وقد كان ذلك بعد إطلاق سراحي من مديرية الأمن العامة ببغداد وبعد تعذيب كاد يودي بحياتي في حينها. وقد استقبلت بحفاوة اعتز بها كثيراً وتحدثنا عن الوضع العام بالعراق والعواقب الوخيمة لاستمرار ذلك. وكان الأحبة الثلاثة وأنا معهم قد اتفقنا على إن على الحزب الشيوعي العراقي أن يترك الجبهة مع البعث لأن البعث يمارس التعذيب والقتل بحق الشيوعيين واليساريين ويحاول أن يتستر بالجبهة القائمة. ومن المحزن تأكيد واقع أن الرفيق العزيز محمد صالح قد استشهد على أيدي البعثيين الأوباش مسمّماً ومات بعد أن أطلق سراحه بفترة قصيرة في العام 1982 وكنت قد غادرت العراق بطلب من المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. ولقد سبق استشهاد الدكتور الطبيب محمد صالح سميسم وفاة الأستاذ محمد شرارة في العام 1979. وفي أول آب من عام 1997 وقع انفجار في بيت حياة شرارة استشهدت على أثره حياة وابنتها الكبرى مها ونجت البنت الصغيرة زينب. وتشير بعض المعلومات إلى إن البعث هو الذي دبر هذه الجريمة النكراء.
يتحدث ساسون سوميخ في هذا الكتاب عن مسألتين مهمتين باتجاهين مختلفين في العقد الخامس من القرن العشرين تحت عنوان مشترك "بين الفرهود والوثبة" وهما حدثان وقعا في العام 1941 و1948 على التوالي. وقد عشت الأولى ببغداد وأنا صبي صغير لا يتجاوز السادسة من عمره، شاركت في الثانية وأنا بعمر الثالثة عشر في كربلاء دون أن أعي تماماً أهمية الحدث. كتب عن الحدث المأساوي الأول يقول:
"لقد انهار النظام القصير الأمد المحابي للنازية, وفرّ قادته ليجد الكثير منهم ملاذاً خارج العراق. في حين تلكأ الجيش الإنجليزي وولي العرش العراقي في فرض سيطرتهم على العاصمة العراقية من جديد. في تلك الأيام التي خلت فيها المدينة من سيطرة النظام والقانون، عاثت جماهير المشاغبين فساداً وفوضى وكان معظمهم من أبناء القبائل البدوية الذين توطنوا في ضواحي المدينة، فنهبوا وقتلوا دون تمييز في الأحياء اليهودية، خاصة الأحياء القديمة والفقيرة، وقد انضم إلى المشاغبين بعض الجنود الفقراء، بعد أن تشتت وحداتهم وتفرق شملها. ومن حسن الحظ أن المشاغبين لم يصلوا إلى معظم الأحياء الجديدة التي شيدت في الثلاثينات والأربعينات وسكن فيها عشرات الآلاف من يهود المدينة". (ص 106) ثم كتب ما يليك: تدفقت الأنباء عن أعمال النهب والقتل والاغتصاب، في أوساط يهود بغداد. لقد ذبح المشاغبون الكثير من اليهود (حوالي 150 شخصاً) دُفنوا فيما بعد في قبر جماعي، وهكذا ظلت تتوارد، على مدى شهرين، أخبار الفظائع الرهيبة وأعمال التنكيل وعبث المشاغبين والقتل بالدم البارد، واغتصاب الفتيات اللائي أحاق بهن الويل والدمار." (ص 106/107) وللحقيقة نقول بأن هناك تبايناً في عواقب تلك الفاجعة. فالتحقيق الخاص الذي قامت به رئاسة الطائفة اليهودية توصل إلى ما يلي: "كان عدد اليهود الذين قتلوا 179 قتيلاً، كما جرح 2118 شخصاً آخر، وبلغ عدد الدور التي نهبت في الفرهود حوالي 1000 دار، وعدد الحوانيت التي أفرغت 2500 حانوت، كما بلغ عدد اليهود الذين مسهم الضرر في قليل أو كثير 40 ألف يهودي" ، في حين سعى التقرير الحكومي الرسمي إلى تقليص عدد القتلى إلى 120 قتيلاً فقط.
ويشير الأستاذ سوميخ إلى العواقب النفسية والاجتماعية على يهود العراق، خاصة وأن الفرهود قد وقع بالبصرة أيضاً دون وقوع قتلى وجرحى في الأوساط اليهودية، بما يلي:
"حلت على جميع أبناء جالية بغداد صدمة عنيفة، بمن فيهم أولئك الذين لم ينلهم الأذى خلال فواجع "الفرهود" وويلاته (هكذا سمى سكان بغداد هذا الحدث الأليم ولا أدري لماذا) وقد دهمتهم الأحداث وباتوا مفجوعين مشدوهين. ترى كيف حدث أن انقلب جيران الأمس إلى وحوش ضارية؟ وهل الفرهود سيبقى حدثاً طارئاً. لن يتكرر أبدا؟ أم أنه سيكون فاتحة لعصر جديد مثير للمتاعب، في العلاقات بين المسلمين واليهود في بلاد الرافدين؟ (ص 107). ثم يواصل فيكتب:
"تجدر هنا الإشارة أن الكثير من المسلمين القاطنين في جوار اليهود في المناطق القديمة من بغداد قد دافعوا عن اليهود، ولم يترددوا في منحهم الحماية والملاذ، رغم المخاطر التي تعرضوا لها من جراء ذلك. ورغم كل هذا، قل وتضاءل الشعور بالأمن الذاتي، الذي رافق يهود بغداد". (ص 107).
هنا بودي أن أشير إلى بعض الملاحظات المهمة بعد دراستي المستفيضة والمستمرة لأحداث فاجعة وجريمة الفرهود ببغداد، وأخف من ذلك بالبصرة.
1. لقد قاد حزب الشعب، الذي تأسس في العام 1940 ببغداد برئاسة مفتي الديار الفلسطينية الحاج أمين الحسيني، ومعه رشيد عالي الگيلاني والعقداء الأربعة ويونس بحري، الذي سمى نفسه حزبياً "فرهود"، الانقلاب على الشرعية حينذاك وشكل حكومة الإنقاذ الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني دوراً كبيراً في تأجيج الدعاية ضد يهود العراق واليهود عموماً. كما لعبت العلاقات التي بدأت قبل ذاك ومنذ منتصف العقد الرابع بين القوى القومية العراقية، وخاصة نادي المثنى بن حارثة الشيباني الذي تأسس في العام 1936 ببغداد، وبين النظام النازي الهتلري دوراً كبيراً في نشر الدعاية المضادة لليهود بالعراق وخاصة ببغداد، ولعب الدكتور فرتز غروبا, الوزير الألماني المفوض ببغداد دوراً كبيراً في تطوير هذه العلاقة وفي تبادل الوفود الشبابية وفي إلقاء المحاضرات في النادي، كما لعبت إذاعة برلين (هنا برلين حيى العرب) والمذيع الضابط النازي العضو في قوات الـ SS يونس بحري (Johannes Bahri) دعايته المضادة لليهود، إضافة إلى دور حكومة رشيد عالي الگيلاني والعقداء الأربعة ويونس السبعاوي الذي ترجم كتاب هتلر المعروف "كفاحي" إلى العربية، وكان وزيراً للاقتصاد وشكل ثلاث منظمات شبابية شبه عسكرية، بضمنها "فدائيو يونس السبعاوي. وقد طرحت في كتابي في النسخة التي ستطبع في ربيع هذا العام عن محنة يهود العراق ما يلي:
1. وقعت في يومي الأول والثاني من حزيران عام 1941 القوى الشوفينية المتطرفة ذات العلاقة الوثيقة بقوى حركة رشيد عالي الگيلاني المناهضة لليهود حملات عدوانية شرسة منظمة وواعية وهادفة ضد المواطنات والمواطنين اليهود ببغداد تميزت بالعنف والشراسة واستخدام مختلف الأسلحة الخفيفة والجارحة تساندها جمهرة غبية وغير واعية وجاهلة من الأوساط الشعبيةً ومن الرعاع الذين يتحينون أية فرصة للمشاركة في النهب والسلب والقتل الذي حفل به تاريخ العراق القديم والحديث، التي حركتها تلك القوى المنظمة سياسياً، وعصابات الجريمة والنهب والسلب. أي تلك القوى التي تأثرت كثيرا بالدعاية النازية والفاشية بالعراق والموجهة لمعاداة اليهود والتي أصيبت بخيبة أمل نتيجة انهيار الانقلاب العسكري وعودة قوات الاحتلال البريطانية للسيطرة الكاملة على العراق وتوقيع العراق على اتفاقية الهدنة التي اعتبرها القوميون الشوفينيون العرب مذلة للجيش العراقي والعراق. أطلق على هذه الحملة بـ "فاجعة الفرهود" . وكان المشاركون في حملات العنف هذه، التي اقترنت بعمليات السلب والنهب والقتل والتدمير ضد العائلات اليهودية وبيوتها ومحلات عملها ومصالحها الاقتصادية ببغداد، يهزجون في شوارع بغداد:
"حلو الفرهود كون أيصير يومية"
" حلو الفرهود كون ايصير يا خاله"
" أذاني أطرشت من كسر القفاله"
" حلو الفرهود كون أيصير يا عمه"
" أنظر على الشباب اشلون ملتمه".
هذه الأهزوجة باللهجة العراقية العامية تعني: (حلوة هي عمليات السلب والنهب والقتل وإشعال الحرائق ضد اليهود عساها أن تتكرر يومياً، أذناي يا خالتي أصيبتا بالبكم من كثرة أصوات كسر أقفال المحلات والبيوت .. وأن عمليات النهب والسلب والقتل والتدمير حلوة يا عمتي، إذ أرى كيف أن الشباب يتجمعون لممارسة الفرهود أيضاً)!! إنها تعبر عن روح الشر والغزو البدوي الذي لا يرحم والكراهية الدينية المقيتة الناجمة عن تربية دينية مشوهة ومزيفة.
لم تكن جمهرة من الجنود وحدها وراء هذه العمليات الإجرامية فحسب، بل وجمهرة من الشرطة المسؤولة عن أمن المواطنات والمواطنين والمدنيين وبتأييد من بعض الضباط وبعض رجال السياسة من المعسكر القومي الشوفيني، إضافة إلى كتائب الشباب التابعة للحركة الانقلابية وأتباع يونس السبعاوي.
2. أتفق تماماً بأن عدد كبيراً من أهالي بغداد الذين عاشوا مع مواطنيهم يهود العراق قد دافعوا عنهم وسعوا إلى حمايتهم من غضب الرعاع حقاً. وهناك وثائق كثيرة تؤكد ذلك. ولكن كان هناك من خان الجيرة وشارك في عمليات النهب والسلب والاغتصاب والقتل. وكان ساسون على حق حين تساءل: "ترى كيف حدث أن انقلب جيران الأمس إلى وحوش ضارية؟ رغم إن البعض من الباحثين اليهود العراقيين بإسرائيل يعارضون ذلك، وأعتقد أنهم ليسوا على حق، فالكثير من الكتابات التي نشرت من قبل كتاب يهود عراقيين أشاروا بوضوح إلى حقيقة محاولة عائلات عراقية سعت واستطاعت حماية البعض من يهود العراق ممن تعرضوا إلى تلك الفاجعة المريع. كتب السيد مير بصري عن هذه الفاجعة وبهذا الصدد ما يلي: "كان الحاج طاهر محمد سليم من أشراف بغداد عائداً إلى داره المطلة على شارع غازي (الذي سمى بعدئذٍ شارع الكفاح) فرأى شباب يهود ينزلون من السيارات العامة ويذبحون, فتجري دماؤهم البريئة على قارعة الطريق. أسرع في سيره ودخل مركز الشرطة وقال للشرطة: ألا ترون المذبحة أمامكم, فأين شهامتكم المسلكية وغيرتكم العربية؟ لكنهم سخروا منه وقالوا له: أذهب إلى دارك, أيها الحاج, فلا شأن لكَ في الأمر, وخرج يجر أذيال الخيبة, وحاول عبثاً ردع الرعاع, ولم يجد بداً من المضي إلى داره كئيباً." وهذه الحقيقة المتواضعة لا تنفي الهمجية التي مارسها هؤلاء المجرمون بحق المواطنات والمواطنين اليهود في مذبحة الفرهود.

ووثبة كانون الثاني/يناير 1948 هي المسألة الثانية التي يتحدث عنها الأستاذ ساسون سوميخ، والتي نجمت عن محاولة بريطانيا عقد اتفاقية جديدة هي اتفاقية بورتسموث (نسبة على ميناء بورتسموث بانجلترا) لتحل محل معاهدة 1930 التي رفضها الشعب العراقي باستمرار في وقت كان صالح جبر رئيس وزراء العراق، وكانت الطبخة قد تمت بين الثلاثي عبد الإله ونوري السعيد وصالح جبر وبالتنسيق والتعاون الكاملين مع السفارة البريطانية وقادة القوات البريطانية في الحبانية والشعيبة. وقد استطاع الشعب بوحدته إسقاط هذه الاتفاقية ولكن لم يستطع إلغاء المعاهدة إلا بعد نجاح ثورة تموز 1958. وفي هذه الوثبة شارك يهود العراق، كبقية الموطنات والمواطنين من أتباع الديانات والمذاهب والقوميات والاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى في المظاهرات وتكللت بالنجاح. ويشير الأستاذ سوميخ بصواب كبير إلى وحدة الشعب العراقي حينذاك وعن الاحتفال الذي ألقى به الجواهري قصيدته الرائعة "أخي جعفر" في جامع الحيدرخانة، والذي شارك فيه طلاب مدرسة "شماش" حيث كتب:
"وما زلت أذكر كيف استقبل منظمو الاحتفال طلاب مدرسة "شماش" اليهود وأنا من ضمنهم، بحفاوة بالغة، حتى إن المنظمين حاولوا إدخالنا إلى ساحة المسجد في الداخل، ولكنهم لم يفلحوا في ذلك إثر الازدحام المذهل. لقد أرادوا أن يؤكدوا لنا ولغيرنا بأن اليهود أيضاً وطنيون عراقيون. وأنهم يفرقون بين اليهودية والصهيونية". (ص 111). وهنا أستطيع أن أجيب عن استفسار الأستاذ سوميخ حين كتب عن والديه يقول: "بين حين وآخر ، كلما انتابتني ذكيات تلك الأيام، صعوبة جمة في العثور على شرح مقنع، لحقيقة عدم تفكير والديّ في يوم من الأيام على مدى الأربعينات بالهجرة إلى الولايات المتحدة مثلاً." (ص 109). إن سبب عدم تفكير والديه بالهجرة إلى بلاد أخرى غير العراق يكمن في التصاقهما الشديد بأرض الأجداد والآباء منذ قرون وقرون، إنه وطن الولادة ومرابع الطفولة والصبا، بلد الحب الأول والزواج وولادة الأطفال والعمل والأصدقاء...، هذه وغيرها تجعل الإنسان لصيقاً بأرضه التي ولد فيها وشرب من مائها وعانى الحلو والمر فيها، إنهما وطنيان عراقيان بكل معنى الكلمة وليس غير ذلك.
كان الحزب الشيوعي العراقي، كما يشير إلى ذلك الأستاذ سوميخ بصواب كبير، هو الفاعل الكبير في وثبة كانون الثاني ومعه منظمة "عصبة مكافحة الصهيونية" بالرغم من منع نشاطها، إلى جانب مشاركة بقية القوى والأحزاب الوطنية، رغم مشاكسة وإساءة القوميين اليمينيين والشوفينيين العرب للشيوعيين واليساريين. ولهذا سعى حكام العراق للانتقام بوحشية كبيرة من الحزب الشيوعي لفشلهم في عقد الاتفاقية الجديدة فقرروا إعدام خمسة من قادة الحزب الشيوعي العراق، هم يوسف سلمان يوسف، السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي، وزكي بسيم وحسين محمد الشبيبي، عضوا المكتب السياسي للحزب، إضافة إلى يهودا صديق وساسون دلّال. وقد نفذ الحكم في الأربعة الأوائل في شباط من عام 1949 في حين أعدم الأخير في مايس/أيار من العام نفسه. وأتفق هنا تماماً مع الأستاذ سوميخ في إشارته إلى الظلم الذي أراد حنا بطاطو إلحاقه بـ "ساسون دلّال" حين ارتكب خطأً فادحا في إشارته غير الموضوعية وكأن ساسون دلّال كان يعمل بدوافع صهيونية. وهنا يمكن الإشارة إلى ثلاث ملاحظات مهمة حول ساسون دلّال وهي:
• لقد كان ساسون دلّال شاباً حيوياً وذكياً ومخلصاً حين وصل إلى قيادة الحزب نتيجة اعتقال عدد كبير من قادة الحزب الشيوعي العراقي وكوادره، وبالتالي كانت تجربته التنظيمية والقيادية محدودة.
• كان ساسون دلّال شاباً متحمساً ونشطاً وفعالاً في نضاله في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، ولكنه كان في الوقت نفسه ثورياً يتسم باليسارية، أو ما يطلق عليه بـ "مرض الطفولة اليساري" في ممارسة السياسة والتي تجلت في نداءاته التي كان يوجهها من خلال التنظيم لرفاق الحزب. ولم يكن الوحيد قد اتسم باليسارية حينذاك. ففي انتفاضة تشرين الثاني 1952 رفع المتظاهرون شعار "بس تأمر باسم العرش انشيلة", أي حالما يأمر بهاء الدين نوري، وكان في العام 1952 سكرتيراً للحزب وكان اسمه الحزبي حينذاك باسم, نطيح بالملكية أو بالعرش مثلاً
• وكان الخطأ الذي ارتكبه ساسون دلاّل يكمن في عدم انتباهه أو إدراكه السياسي الضروري لواقع "الجزر" الذي كانت تعاني منه الحركة اليسارية خصوصاً والحركة الوطنية العراقية بشكل عام حينذاك، وبالتالي كانت المظاهرات التي دعا لها ونفذها بالهيكل العظمي للحزب لا تنسجم مع واقع الحركة وقدرات الناس على التظاهر، وكانت تلك التظاهرات تنطلق بالشيوعيين وحدهم وليس بالجماهير التي يفترض أن تكون محيطة بهم. ونتيجة ذلك كانت أغلب الاعتقالات تقع على أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي.
وعلينا أن نؤكد بأن هذه السياسة لم تكن متعمدة أو بهدف إيذاء الحزب الشيوعي، بل تعبر عن ضعف في الوعي وعن فكر يساري صبياني خاطئ حينذاك.
وحين حاول نوري السعيد مساومته وإنقاذ رأسه من الموت رفض ساسون دلال ذلك وهتف من على أعواد المشنقة بحياة الحزب الشيوعي العراقي، إضافة إلى ما سجله ساسون سوميخ عن الرسالة التي كتبها عشية إعدامه والتي جاء فيها: "إنني أبتهل إلى الله ألا يضيع كفاحي هباءً. لن تستطيع القوى الرجعية السيطرة إلى الأبد، إنني مُقدِم على الموت غدراً لأنني آمنت بأن للناس الحق في تقرير مصائرهم بالديمقراطية والسلام والحياة المتكاملة. إنني إنسان حر لأنني أعرف الحقيقة." (سوميخ، ص 104).
من المآسي الكبيرة التي نفذها البعثيون القتلة ونظامهم الاستبدادي كان الهجوم المجرم في العام 1973 على عائلة يهودية ببغداد، الذي كتب عنه ساسون سوميخ في كتابه "بغداد أمس"، والذي نفذته أجهزة أمن النظام الاستبدادي حين عمدت إلى ذبح عائلة يهودية من أصل سوري سكنت العراق واعتبرته وطنها، حيث كتب يقول:
"حدثت هذه المصيبة حين داهم جنود أو رجال شرطة بيتهم وذبحوهم ذبح النعاج، الوالدين وأولادهم الثلاثة الذين كانوا معهم في البيت، وقد نجا الأولاد الثلاثة الآخرون بأعجوبة". (ص 150). وقبل ذاك كان قد نفذ البعثيون أحكاماً بالإعدام ضد يهود عراقيين بتهمة العمل لإسرائيل، كما قتل الكثير من المسلمين بتهمة العمل لصالح الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا، وكل التهم كانت باطلة والأحكام ظالمة متعسفة.
إن كتاب "بغداد أمس" يقدم شهادة آسرة عن أوضاع العراق في الأربعينات من القرن الماضي يستحق القراءة ويستحق كاتبه الشكر الجزيل على ما وفره لي من متعة في قراءة الكتاب والكتابة عنه. وأتمنى أن يحظى بما يستحق من اهتمام من القراء والقارئات ونقاد الكتب الأدبية والمذكرات.
كانون الثاني / يناير 2014 البروفيسور كاظم حبيب
الملحق رقم 1: قائمة أهم كتب البروفسور ساسون سوميخ للفترة
1972-2014، جامعة تل ابيب


1972 (بالعربية): دنيا نجيب محفوظ: الرواية – الأقصوصة – المسرحية - مختارات مع مقدمات-
The Changing Rhythm: A Study of Najib Mahfuz ’ Novels(بالانكليزية): 1973
1973(بالعبرية): نهر الفراش - مجموعة من الشعر المعاصر في سوريا ولبنان – ترجمة وتقديم
Two Versions of Dialogue in Mahmud Taymur’s Drama1975 (بالانكليزية):
1976(بالعربية): دنيا يوسف إدريس من خلال أقاصيصه
1979 (بالعبرية): التراكمات – مختارات شعرية لميشيل حداد
1978 (بالعبرية): تحت المظلة – قصص مصري معاصرة
1981 (بالعربية): مبنى القصة ومبنى المسرحية في أدب يوسف إدريس
1981 (بالعربية): ثلاثة فصول في أدب نجيب محفوظ
1981 (بالعبرية): أعشق بالحبر الأبيض – من إشعار سهام داود
1984 (بالعربية): لغة القصة عند يوسف إدريس
1993 (بالعبرية): الترجمة على جانب الطريق |مداخلا ت في الترجمة الأدبية |
2003 (بالعبرية): بغداد أمس - سيرة ذاتية ج 1 (ترجم للعربية والانكليزية والتركية)
2007 (بالعبرية) : جغرافية بديلة: مترجمة عن الشاعرة المصرية إيمان مرسال
2008 (بالعبرية): أيام غريبة - سيرة ذاتية ج 2 / صدرت له ترجمة انكليزية بعنوان "الحياة بعد بغداد"-
2012 (بالعبرية): حامل المصباح في ليل الذئاب- مختارات مترجمة من شعر سركون بولص
تحت الطبع (بالعبرية): مختارات مترجمة من شعر محمود درويش

الملحق رقم 2: رسالة الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ إلى الأستاذ ساسون سوميخ
ملاحظة: موقع الحوار المتمدن لالا يمكنه نقل الرسائل المصورة



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من منهما الأكثر عشقاً ونرجسية واستبداداً في حكم العراق؟
- هل من حلول سلمية وديمقراطية للأزمات المتشابكة والمعقدة بالعر ...
- الإصرار على البقاء في الحكم، جريمة بحق وحدة الشعب العراقي وا ...
- حين تكون الهمجية عنوان تنظيم ما، فلا ينُتظر منه إلا الموت وا ...
- المستبدون متماثلون في السيرة والسلوك، صدام والمالكي نموذجاً!
- شروط تغيير اللعبة الطائفية الراهنة إلى عملية سياسية وطنية نا ...
- من أجل دحر قوى الإرهاب والطائفية السياسية المستباح بهما العر ...
- لتنتصر إرادة الشعب، كل الشعب، على قوى الإرهاب والظلام والطائ ...
- نوري المالكي والنهج الطائفي المتشدد والمشين بالعراق
- نحو نقاش هادئ مع السيد أياد عبد الرزاق حول رسالتي النقدية ال ...
- المجرمون القتلة من بعثيين وداعشيين .. يجب أن لا ينجو من العق ...
- رسالة مفتوحة إلى السيد السيستاني وبقية المراجع والهيئات الدي ...
- حكومة الإنقاذ الوطني .. هي الحل الوحيد لوحدة الشعب العراقي!! ...
- لتتضافر الجهود لدحر الإرهابيين بالعراق ... لتتضافر الجهود لد ...
- لننتصر لأهلنا بالموصل والفلوجة ... ولكن من تسبب بالكارثة؟
- نعم لتوفير مستلزمات التعبئة الوطنية لمواجهة الإرهاب ... لا ل ...
- أليست المهمة الملحة .. توفير مستلزمات دحر الإرهاب أولاً؟
- هل هناك من هو أكثر بؤساً وفاقة في الفكر والسياسة من وزير الت ...
- وماذا بعد انتخابات 2014 بالعراق؟
- من أجل تعزيز المشاركة الواسعة في التحضير للمؤتمر الثاني لمنظ ...


المزيد.....




- فن الغرافيتي -يكتسح- مجمّعا مهجورا وسط لوس أنجلوس بأمريكا..ك ...
- إماراتي يوثق -وردة الموت- في سماء أبوظبي بمشهد مثير للإعجاب ...
- بعد التشويش بأنظمة تحديد المواقع.. رئيس -هيئة الاتصالات- الأ ...
- قبل ساعات من هجوم إسرائيل.. ماذا قال وزير خارجية إيران لـCNN ...
- قائد الجيش الإيراني يوضح حقيقة سبب الانفجارات في سماء أصفهان ...
- فيديو: في خان يونس... فلسطينيون ينبشون القبور المؤقتة أملًا ...
- ضريبة الإعجاب! السجن لمعجبة أمطرت هاري ستايلز بـ8 آلاف رسالة ...
- لافروف في مقابلة مع وسائل إعلام روسية يتحدث عن أولويات السيا ...
- بدعوى وجود حشرة في الطعام.. وافدان بالإمارات يطلبان 100 ألف ...
- إصابة جنديين إسرائيليين بجروح باشتباك مع فلسطينيين في مخيم ن ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - قراءة في كتاب -بغداد ... أمس- للكاتب البروفيسور الدكتور ساسون سوميخ