أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - عودة الروح وعودة الوعى















المزيد.....


عودة الروح وعودة الوعى


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 4494 - 2014 / 6 / 26 - 11:04
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


انتهى توفيق الحكيم من كتابة روايته البديعة (عودة الروح) عام 1927وصدر الجزء الثانى بأبيات من كتاب (الخروج إلى النهار) الشهير فى ترجمته الخاطئة ب (كتاب الموتى) ولأنّ تلك الفترة التى أعقبتْ ثورة شعبنا فى شهر برمهات/ مارس19 كانت فترة انبعاث قومى ، لذلك خصّص الحكيم فصلا فى كتابه (تحت شمس الفكر) الذى نـُشرتْ طبعته الأولى عام 38بعنوان (البعث) ويبدأ هذا الفصل بنداء حورس إلى أبيه أوزير((انهض يا أوزير. أنا ولدك حورس . جئتُ أعيد إليك الحياة.. جئتُ أجمع عظامك.. وأربط عضلاتك.. وأصل أعضاءك.. أنا حورس الذى يُـكـّون أباه.. حورس يُعطيك عيونـًا لترى.. وأذنـًا لتسمع وأقدامًا لتسير. وسواعد لتعمل.. ها هى ذى أعضاؤك صحيحة. وجسدك ينمو. ودماؤك تدب فى عروقك.. إنّ لك دائمًا قلبك الحقيقى)) ثم ردّ أوزير (الميت) قائلا ((إنى حى.. إنى حى)) وكان تعليق الحكيم ((وحورس ليس إلاّ الشباب ، يُعيد الحياة إلى ماضيه الميت ، نعم هو الشباب الذى يُـكـوّن أباه الوطن))
000
وبعد كارثة أبيب/ يوليو52 سرتْ أسطورة مؤداها أنّ ((عبد الناصر قرأ رواية (عودة الروح) فى شبابه وتأثر بها ورأى فى نفسه أنه (حورس) المُـخلــّص الذى سينقذ مصر ويُعيد إليها شابها ومجدها)) ولا أحد يعلم كيف تكوّنتْ الأسطورة ومن الذى اخترعها وروّج لها.
وفى عام 72 (بعد وفاة عبد الناصر) رأى الحكيم أنْ يرصد ماحدث خلال العشرين سنة منذ تولى الضباط حكم مصر، فكتب كتابه (عودة الوعى) الذى انتقد فيه ما حدث من كوارث ضد شعبنا ، وبمجرد صدور الكتاب من المطبعة (دار الشروق- عام 74) سنّ الكهنة فى كل معابد الناصرية أسلحتهم ليشنوا حملة هجومية (غير أخلاقية) ضد توفيق الحكيم ، وكانت حجتهم الوحيدة (السطحية والبلهاء) أنّ الكتاب صدر بعد وفاة عبد الناصر((ولماذا لم ينتقده فى حياته؟ وهل من الشجاعة انتقاد الموتى؟)) وإذا كانت تلك الأسئلة تبدو بريئة فى شكلها السطحى ، فإنّ الكهنة تجاهلوا شيئيْن 1- أنّ عبد الناصر شخصية عامة وبالتالى من حق الشعب معرفة ما كان يجرى فى عهده 2- التجاهل التام لكل ما أورده الحكيم فى كتابه ، وهل الوقائع التى ذكرها صحيحة أم لا؟ وهل تحليلاته صائبة أم تجاوزتْ النقد الموضوعى إلى التجريح؟
كان من أبرز الذين هاجموا توفيق الحكيم الكاتب محمد عودة فى كتابه (الوعى المفقود) الذى ارتكز فيه على محوريْن الأول : ما يُسمى انجازات (ثورة يوليو52) ومع ملاحظة أنّ كل (إنجاز) يحتاج إلى تعليق بسبب توابعه الكارثية (تأميم قناة السويس ثم تدمير مدن القناة نموذجًا، السد العالى ورفض عبد الناصر البدائل التى طـُرحتْ عليه ورفضها. وكانت ستـُجنـّب مصر الكارثتيْن اللتيْن تنبّأ بهما الجيولوجيون أصحاب المشاريع البديلة ، وهما حرمان التربة المصرية من طمى النيل ، و(تطبيل الأرض المصرية) بسبب تسريب مياه السد وفقــًا لنظرية الأوانى المستطرقة.. وهو ما حدث بالفعل- نموذجًا ثانيًا) والمحور الثانى فى كتاب أ. محمد عودة هو الهجوم غير الموضوعى على توفيق الحكيم ، وهدْم كل تاريخه الإبداعى والفكرى واتهامه ب ((الرجعية والنفاق)) الخ وتوالت كتب الكهنة الناصريين مثل حسنين كروم فى كتابه (عبد الناصر المفترى عليه) ومحمود مراد فى كتابه (الحكيم ووعيه العائد) بخلاف عشرات المقالات فى الصحف والمجلات للكهنة الناصريين أمثال : مصطفى بهجت بدوى، كامل زهيرى، لطفى الخولى، أبو سيف يوسف، أحمد عباس صالح وحسين عبد الرازق الخ. ووسط هذه (الغوغائية) كان كتاب لويس عوض (أقنعة الناصرية السبعة) هو الكتاب الوحيد الذى ابتعد عن التجريح ، واختلف مع الحكيم فى أشياء واتفق معه فى أشياء ، وانتقد الكثير مما حدث فى المرحلة الناصرية. ولكن يبقى السؤال المـُعلــّق : ماذا كتب الحكيم ، ولماذا هاجمه الكهنوت الناصرى ؟
فى الصفحات الأولى من كتابه (عودة الوعى) ذكر الحكيم أنّ صديقــًا صحفيًا من المُـقرّبين من الضباط قال له ((إنهم يقولون إنّ الأمر يُشبه مسرحيتك بجماليون)) وكان تعقيب الحكيم ((هل كان أحدهم قرأ مسرحيتى أم سمعوا عنها ؟ ومهما يكن من أمر فإنّ بجماليون حطــّم تمثاله. وهذا بالضبط ما فعلوه مع تمثالهم محمد نجيب)) فهل تجنى الحكيم على الحقيقة؟ إنّ كل ضباط يوليو الذين كتبوا مذكراتهم اتفقوا على أسلوب الغدر الخسيس الذى اتبعه عبد الناصر ضد نجيب حتى تمكن من إقصائه تمامًا. بخلاف المعاملة اللاإنسانية بعد اعتقاله (الاسم المهذب لتحديد الإقامة) فى فيلا زينب الوكيل بالمرج. كما أنّ بعض لواءات الجيش والسياسيين نصحوا نجيب بأنْ يُبادر بالتخلص من (هؤلاء الشبان المُـتهوسين ولكنهم كانوا أسبق منه فتغدوا به قبل يتعشى بهم) وأنّ الشعب السودانى كان مع نجيب (نظرًا لجنسية أمه السودانية) وعلى الاستعداد للوحدة مع مصر. ولذلك أسرع الضباط للعمل على عرقلة الوحدة مع السودان ، وكان الاطاحة بنجيب أحد عوامل العرقلة. ورغم ذلك فإنّ الحكيم يعترف بأنه كان ((مبهورًا بالضباط الذين طردوا الملك.. أما الحياة الدستورية اتى ضاعتْ فلم نلتفت إلى خطورة ضياعها)) كما أنّ الحكيم أيـّـد مشروع (الإصلاح الزراعى) الأمريكى لتفتيت الرقعة الزراعية. ومع تحديد الملكية بحد أقصى مائتىْ فدان . وكان تعقيبه ((كنا مُـتحمسين للتطرف)) (ص25) بل إنه أيّـد محاكم (الثورة) ضد السياسيين القدامى وخاصة قيادات حزب الوفد ، وشبّهها بما فعله محمد على ضد المماليك (مع الفارق بالطبع) ولكن بعد عشرين سنة وهو يتذكر ما حدث كتب ((كانت لعبة الحكام الجُدد المفضلة أنْ يضربوا هذا بذاك ، ويتلذذوا بمنظر هؤلاء الكبار الفضلاء وهم يترامون على الأقدام خوفـًا وطمعًا فى حلبة التزلف والملق)) (ص29) واستطرد ((أخذ الستار الحديدى يُسدل بين الشعب وتصرفات الحاكم المُطلق . كنا نحبه ولا نعرف دخيلة فكره ولا الدوافع الحقيقية لتصرفاته)) وعن الانبهار بالزعيم كتب أنّ عبد الناصر كان ((يتحدث الساعات الطوال ويُظهرنا أبطالا بقيادته. ويُظهر الدول الكبرى حولنا فى صورة أقزام . فكنا نـُصفق اعجابًا وخيلاء. وعندما قال عن دولة تمتلك القنبلة الذرية ((إذا لم يُعجبها تصرفاتنا فلتشرب من البحر)) كان يملؤنا الفخر)) ثم يعترف بخطئه فكتب ((ولكن العجيب هو أنّ شخصًا مثلى محسوب على البلد من أهل الفكر، وقد أدركته (الثورة) وهو فى كهولته أنْ ينساق خلف الحماس العاطفى)) وكان من بين أسباب (العاطفة) أنّ عبد الناصر أرسل إليه نسخة من كتاب (فلسفة الثورة) وعليها إهداء مع الصحفى اللامع صديق عبد الناصر(هيكل) وأضاف ((أدهشنى بعد ذلك ما جاء فى بعض الصحف العالمية : أنّ كتاب (فلسفة الثورة) تتولى توزيعه فى الخارج جهتان فى نفس الوقت : السفارات المصرية والسفارة الإسرائيلية)) (ص38)
واعترف الحكيم أنّ عبد الناصر منحه أعلى وسام لا يُمنح إلاّ رؤساء الدول فكتب ((كيف لا أحب رجلا يُحبنى)) ولكن هذا شىء وما حدث للديمقراطية شىء آخر، فأعضاء (المؤتمر القومى) لزموا الصمت المُطبق لا فى المؤتمر وحده ولكن فى الحياة العامة. والزعيم يخطب بالساعات لا يـُـقاطعه غير صياح هستيرى ((ناصر.. ناصر.. ناصر)) وعن أسطورة أنّ عبد الناصر قرأ رواية (عودة الروح) وتأثر بها كتب الحكيم ((ما الذى كان يُعجبه فى الرواية ؟ هل الفقرة التى تروى ما معناه أنّ مصر تحتاج دائمًا إلى معبود من بينها ؟ فلما قرأ ذلك وهو شاب حلم بأنْ يكون هو المعبود ؟ وليس ذلك بالشىء المكروه ، ولكن المكروه بل الخطر هو أنْ يكون للمعبود البشرى من القداسة ما يجعله معصومًا من الخطأ . لذا لم يجرؤ أحد على أنْ يقول رأيًا يُخالف رأى الزعيم المعبود)) (ص43) ورغم أنّ الشعب الفرنسى كان يُحب ديجول لدرجة التقديس، فإنّ ذلك لم يمنع من وجود المعارضين لرأيه فى البرلمان وفى الصحف والكتب. وكان ديجول أول الضاحكين لما يُرسم له من كاريكاتير ونكت وانتقادات تسخر منه. وكانت أقسى الصحف هجومًا عليه وعلى سياسته الداخلية والخارجية مجلة (الأوبزرفاتور) وكان يكتب فيها رئيس تحريرها معارضًا بعنف آراء ديجول . ولم يُعتقل أو يُحارب فى رزقه. أما فى مصر فإنّ نقد عبد الناصر من المحرّمات . وجعلتنا أجهزة الدعاية نرى أنفسنا دولة صناعية كبرى ورائدة (العالم النامى) والزعيم يخطب بالساعات ولا أحد يُـناقشه أو يُراجعه بينما تلتهب الكفوف بالتصفيق . ولم يكتف النظام بتصفيق (النخبة) وإنما كان يعتمد على التنظيم والتدبير. وكتب الحكيم ((وقد رأيتُ بنفسى ولم أصدق عينى. قابلتُ ذات يوم رجلا من أهل الريف أعرفه. سألته عن سبب وجوده فى القاهرة . فقال إنه متصل بلجنة الاتحاد الاشتراكى فى قريته. وأنهم أحضروه هو وزملاء له فى القطارات باستمارات سفر للاحتشاد فى استقبال عبد الناصر عند عودته من الخارج . وأنّ إقامتهم وطعامهم على حساب الدولة. وعليه هو وزملاؤه أنْ يهتفوا له طبقــًا للشعارات المطبوعة والموزعة عليهم . وأخرج من جيبه ورقة أطلعنى عليها. فدُهشتُ . لقد كان مكتوبًا عليها : هتاف جماعى : ناصر.. ناصر.. ناصر)) ثم هتاف آخر ((فليحيا ناصر العروبة)) و((فليحيا زعيم الأمة العربية)) الخ وأضاف الرجل الريفى أنّ كل مجموعة لها (قائد) يُشير إليها بالبدء . فكان تعليق الحكيم ((كنتُ أظن (الشعبية) تنبع من القلب. ولكنى ما كنتُ أظن أنها يمكن أيضًا أنْ تـُصنع وتؤلف تأليفـًا وتـُوزع لها أوراق هتاف كأنها نوتة موسيقية للغناء . ومع ذلك كيف استطاع شخص مثلى أنْ يرى ذلك ويسمعه ويظل على شعوره الطيب نحو عبد الناصر؟ أهو فقدان للوعى ؟ أهى حالة غريبة من التخدير؟)) (ص 48، 49)
وعن وثيقة جلاء الإنجليز عن مصر، فإنّ عبد الناصر وافق على ما رفضته كل الأحزاب قبل يوليو52 مثل العودة لاحتلال مصر بحجة (إذا تعرّضتْ المنطقة لأخطار الحرب)) وكان من بين الذين عارضوا مشروع السد العالى المهندس الكبير د. عبد العزبز أحمد ، وقد شعر بغضب عبد الناصر عليه ، فغادر البلاد ، وكان مرشحًا لجائزة الدولة التقديرية ، وبعد الإعلان عن فوزه بها رفض عبد الناصر منحه الجائزة ((ولم نعرف بشكل مفصل أسباب معارضته مشروع السد العالى ، لأنّ الآراء المُعارضة حتى فى المسائل العلمية لا تأخذ حقها من النشر)) فى حين أنه عند إنشاء خزان أسوان فإنّ المشروع تمّتْ مناقشته علنـًا ، وحدث أنْ عارض المشروع أحد المهندسين المصريين وفسر رأيه بالرسم والأرقام على سبورة وفنــّـد وعارض رأى المهندس الإنجليزى (ولكوكس) ومصر وقتئذ تحت الاحتلال الإنجليزى ولكن ذلك لم يمنع مصر من أنْ تخلق لنفسها الرأى العام الذى يسمع ويناقش ويميز ويحكم . ولكن بعد (الثورة) التى أحببناها وأيدناها بقلوبنا لم يُسمح لنا بمناقشة أى مشروع بما فى ذلك السد العالى . وكان الاعتماد فى البداية على أمريكا التى وقفتْ بجوار (الثورة) عند قيامها وأسكتتْ الإنجليز المرابطين فى القناة ، وإلاّ لجاءوا بدباباتهم وطائراتهم وأجهضوا (الثورة) فى نصف ساعة. وبعد أنْ سحبت أمريكا تأييدها لتمويل السد ، كان الرد الانفعالى المعتاد بتأميم القناة مع دفع التعويضات ، رغم انتهاء مدة الإمتياز بعد 12سنة وعودتها قانونـًا إلى مصر بدون دفع أى تعويض)) ثم يعترف الحكيم أنه كان مؤيدًا للتأميم رغم من قالوا له إنّ ((هذا التأميم جنونى وكارثة على مصر)) فكان الحكيم يغضب منهم. ولكنه يندم عندما يتذكر خطبة عبد الناصر التى قال فيها أنه ((لم يكن يتوقع أنّ بريطانيا ستشترك فى العدوان مع إسرائيل)) بحجة أنّ ذلك من وجهة نظره سيُعرضها ((لغضب العرب)) وأنه لم يعرف باشتراكها إلاّ بعد العدوان . فقلتُ لنفسى ((صح النوم . كيف كان رئيس دولتنا يجهل هذا الأمر؟ بينما أنا كنتُ على يقين من أنّ بريطانيا لن تسكت . خصوصًا بعد أنْ قرأتُ البرقيات التى تتحدث عن اجتماعات إيدن بقواده . وإصدار الأوامر للسفن الحربية فى مالطا والقاعدة الجوية فى قبرص بالاستعداد . فهل كان عبد الناصر يعتقد أنّ بريطانيا كانت (تهوش) {هذه الكلمة يمكن ترجمتها للعربى بمعنى أنها غير جادة فى دخول الحرب رغم كل ما قامت به من استعدادات) وكيف غاب عن عبد الناصر أنّ إيدن انتهز الفرصة لإعادة النفوذ البريطانى إلى مصر؟ وبعد تدمير مدن القناة تمّ انسحاب الجيوش المعتدية بفضل الإنذاريْن الأمريكى والروسى ((فالأسدان الكبيران ما كانا يريدان السماح لبعض وحوش صغيرة أنْ تبسط نفوذها على الشرق الأوسط وتتحكم فى قناة السويس)) ولكن ما لم يقله الحكيم أنّ الانسحاب لم يتم إلاّ بعد ضغط إسرائيل على أمريكا بأنها توافق على الانسحاب بشرط حق المرور فى المياه المصرية. ووجود قوات الأمم المتحدة فى سيناء. وهو ما أعلنته الأمم المتحدة وفقــًا لقرار مجلس الأمن رقم (1) لسنة 57 أنّ انسحاب إسرائيل من منطقتىْ شرم الشيخ وقطاع غزة ((مقابل حرية الملاحة الإسرائيلية والدولية فى خليج العقبة ومضايق تيران))
ثم انتقل الحكيم بعد ذلك إلى المذبحة التى تمّتْ لجنودنا فى اليمن ، رغم أنّ الطائرات المصرية كانت تلقى بزكائب الذهب على جبال اليمن (لمن توهّم عبد الناصر أنهم مع (الثوة اليمنية) كما كانت الطائرات تلقى لجيوشنا أطنان التموين والغذاء من صفائح الجبن والمعلبات واللحوم ولكن الشمس الحارقة وعدم وجود ثلاجات كان يفسد هذه الأطعمة ، فتـُـترك فى مكانها وقد لعب فيها الدود وانتشرتْ منها رائحة العفن . بينما أهل مصر من الجياع لا يعرفون أنّ طعامهم ملقى للحشرات على تراب اليمن . وسمعنا أنّ القبائل اليمنية (الموالية لنا) كانت تأخذ ذهبنا بالنهار وتترصد لضباطنا وجنودنا فى الليل فتصتادهم وتجز رؤوسهم وتبيعها للطرف الآخر غير الموالى (ما ذكره الحكيم عن القبائل التى تظاهرتْ أنها معنا ، كانت تأخذ الذهب والأموال المصرية وفى نفس الوقت تأخذ الذهب والأموال السعودية ، اعترف به عبد الناصر- باب الملاحق فى كتاب ضابط المخابرات المصرى فتحى الديب ، المولع بالعروبة والناصرية، فى كتابه "عبد الناصر وتحرير المشرق العربى- مركز الأهرام للدراسات – عام 2000- من ص520- 522) وأضاف الحكيم أنّ مصر خسرتْ الغطاء الذهبى بسبب حرب اليمن بخلاف عشرات الآلاف من جنودنا الذين ماتوا وأصيبوا فى اليمن . فهل كان الحكيم يتجنى على عبد الناصر؟ أم ذكر الحقائق التى اعترف عبد الناصر ببعضها فى كتاب فتحى الديب؟ وأنّ الأموال التى أنفقتْ على اليمن كانت تكفى لبناء السد العالى مرتيْن وفق كلام هيكل فى الأهرام (21يوليو72)
أما ما حدث يوم 5يونيو67وما بعده فهو آية من آيات السخرية التى تثير الدهشة. كانت الإذاعة تذيع كل ربع ساعة أننا أسقطنا للعدو مائة طائرة. وقال الحكيم أنه مشى فى الشوارع من ميدان التحرير إلى ميدان سليمان باشا فإذا لافتات كبيرة علــّـقها الاتحاد الاشتراكى كـُـتبتْ عليها عبارات النصر، ثم عبارات تقول (إلى تل أبيب) ويعترف الحكيم بأنه كان يُعارض كل من يتشكك فى أننا سندخل تل أبيب بالفعل (حسب ما كان يقال منذ شهر مايو) ولكنه وهو يكتب كتابه يتذكر ((أعياد الثورة والاستعراضات العسكرية. وصواريخ (القاهر) و(الظافر) والخطب عن قوة طيراننا التى لا مثيل لها فى الشرق الأوسط . وأنّ عبد الناصر فى مؤتمر مع صحفيين أجانب قبل 5 يونيو سُـئل عن رد الفعل بعد غلق خليج العقبة فى وجه الملاحة الإسرائيلية فقال ((سيجدون قوة لا يتصوّرونها)) فقال عضو بالكونجرس الأمريكى أنّ عبد الناصر ((رجل بيبلف)) {هذه الكلمة ترجمها الحكيم من الانجليزية إلى لغة شعبنا المصرية ، ومعناها الرجل النصاب كثير الكلام الذى لا يمتلك أى قوة على تنفيذ تهديداته} ثم قال الحكيم ((وعندما رأينا الرئيس فى التليفزيون يُعلن الهزيمة ويخففها بلفظ النكسة (وهى من اختراع هيكل) لم نـُصدق أننا بهذا الهوان وأنّ إسرائيل بهذه القوة. وكان أكرم له لو أنه اختفى عن أنظارنا فى ذلك اليوم . ولكن عادتْ الأناشيد من جديد تـُردد كلمة (النصر) وحاول الإعلام مسح ذاكرتنا لننسى الأرواح التى قــُدرتْ بعشرات الألوف والأموال التى بلغتْ آلاف الملايين ، ومع ذلك لم نـُطلق طلقة واحدة. وقال قواد دولة صديقة : لو أنّ كل دبابة صمدتْ وأطلقتْ طلقة لتكبـّد العدو خسائر ما يجعل الحرب تمتد إلى أجل معقول وجعل الهزيمة إذا وقعت هزيمة بشرف. وذكر الحكيم أنه تلقى عدة خطابات من القراء من بينهم خطاب قال فيه صاحبه أنه ((موافق على إقامة تمثال لعبد الناصر فى تل أبيب لأنّ إسرائيل لم تكن تحلم بهذا الانتصار ولا أنْ تظهر أمام العالم بهذا التفوق إلاّ بفضل سياسة عبد الناصر)) (ص67) وقال الحكيم أنّ إسرائيل تـُريد الحرب وتـُهوش بالسلام ، بينما عبد الناصر يريد السلام ويهوش بالحرب وأضاف ((هذا النظام الدكتاتورى فى جوهره هو الذى هزته الهزيمة هزًا وصفه الرئيس بأنه شرخ . وكان طبيعيًا أنْ يتسع الشرخ وينهار النظام ، خاصة بعد الكلام عن الاشتراكية والاستيلاء على أموال وقصور لتحل فيها طبقة أخرى باسم آخر، تـُماثلها فى الثراء وتتشبّه بها فى الترف. وأصبح كل شىء نصر فى نصر إلى حد مضحك يثير سخرية أى إنسان عاقل وأصبحنا مضحكة العالم.
وإذا كان كهنة الناصرية عابوا على الحكيم سكوته فى عهد عبد الناصر، فإنه عاتب نفسه فى الصفحات الأخيرة (كأنما كان يتوقع تلك الحجة) فكتب ((نحن كهول (الثورة) ما عذرنا ؟ ما الذى خدّر عقولنا ؟ البعض قال الإجراءات العنيفة لمنع تكوين رأى عام ، والرقابة المُـشددة على كل ما يـُنشر ويذاع ، ثم الاعتقالات لمن يُـشتبه فى رأيه المخالف مع ألوان من التعذيب بلغت فظاعتها مبلغ الأساطير. عبد الناصر – كما يقال – تأثر بروايتى (عودة الروح) ولكن بعد عشرين سنة من عمر (الثورة) فإنّ ما تحتاجه مصر ليس (عودة الروح) وإنما (عودة الوعى) لقد نجح عبد الناصر فى أنْ يُدمج مصر كلها فى شخصه. وقام بعملية بارعة فضغط مصر ووضعها فى علبة (الثورة) فخنق مصر وأفقدها الوعى بحقيقة حجمها الهائل . فهل ستسترد مصر الوعى الحر يومًا ؟ لذلك كان لابد لكتاب (عودة الوعى) أنْ يُـكتب فى يوم من الأيام)) وأضاف ((إنّ الحاكم المستبد لا يريد من المُفكر تفكيره الحر، بل تفكيره الموالى . يري أنْ يسمع منه تأييدًا لا اعتراضًا ، بينما رسالة المفكر فى جوهرها الصدق والحرية))
000
إنّ ما ذكره الحكيم أقل بكثير مما ذكره ضباط يوليو فى مذكراتهم ، وما ذكره بعض المؤرخين خاصة طارق البشرى فى كتابه (الديمقراطية ونظام يوليو52- كتاب الهلال- ديسمبر 91) فلماذا كانت مدافع كهنة الناصرية موّجهة ضد توفيق الحكيم؟ وإلى متى ستستمر المعابد الناصرية فى الترويج لمقولة (زعيم الأمة العربية) وإذاعة نشيد (وطنى حبيبى الوطن الأكبر.. يوم ورا يوم انتصاراته بتكبر)) مع إنّ الواقع يقول العكس وأنّ (الوطن العربى) تغيّر وأصبح ((يوم ورا يوم انكساراته ومصائبه بتكبر)) ومتى يتوقف أغلب الماركسيين عن ترديد نشيدهم البائس (أخطاء الناصرية ومزاياها)) وإلى متى سيظل المبدعون يرتعبون من دخول (حقل الألغام الناصرى) كأنّ عبد الناصر لا يزال حيًا؟ وكيف ولماذا يُفوتون على أنفسهم فرصة إبداع كوميديا راقية عن عبثية وسوداودية المرحلة الناصرية؟
***



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مغزى مكافأة أحد كبار الأصوليين
- كوميديا / سوداوية / عبثية / واقعية (2)
- كوميديا / سوداوية / عبثية / واقعية
- الحقوق الإنسانية والإسلام (3)
- الإسلام وحقوق الإنسان (2)
- الإسلام وحقوق الإنسان (1)
- التعصب العرقى والدونية القومية
- الشعر والثقافة العربية / الإسلامية
- عبد الوهاب المسيرى والمدرسة الناصرية / العروبية
- المعيار العلمى للهوية الثقافية
- حدود العلاقة بين التراث والإبداع
- الدين والحياة
- الديانة العبرية ومعتقدات الشعوب القديمة
- الديانة العبرية وأساطير بعض الشعوب (3)
- الديانة العبرية وأساطير الشعوب القديمة (2)
- حق الأقليات الثقافية فى الدفاع عن خصوصياتها
- الديانة العبرية وأساطير الشعوب القديمة (1)
- معوقات الحداثة المصرية
- صناعة النجوم فى الميديا المصرية (5)
- صناعة النجوم والميديا المصرية (4)


المزيد.....




- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- لوموند: المسلمون الفرنسيون وإكراهات الرحيل عن الوطن
- تُلّقب بـ-السلالم إلى الجنة-.. إزالة معلم جذب شهير في هاواي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - عودة الروح وعودة الوعى