أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الهنداوي - فتى العراق مظفر النواب















المزيد.....



فتى العراق مظفر النواب


حسين الهنداوي

الحوار المتمدن-العدد: 4477 - 2014 / 6 / 9 - 09:48
المحور: الادب والفن
    


فتى العراق مظفر النواب

بقلم: د. حسين الهنداوي *

"كُلُّ الأشّيَاء رَضيتُ سِوى الذُّلْ
وَأنْ يُوضَعَ قَلبِيَ في قَفَصٍ في بَيْتِ السُلطانْ".

همّ الحرية هو الاقوى في كل ما سطره مظفر النواب من شعر ومن حياة. ثمة مسحة حزن، وعراقية تحديدا، تطغى لا شك هنا او هناك، وضربات تسامٍ ثوري تستلهم الرمز الكوني للشهامة والإباء علي ابن طالب كما تأخذ من جيفارا ومن تاريخ الثورة في جنوب العراق، وسطوة عشق يوغل في الصوفية او في الحسية حسب الحال، لكن الحريّة هي الخيط المرشد والحد الفاصل والمفتاح. اما العراق، فهو القلب والنبض والجرح المفتوح الذي لا يضاهيه جرح في اعماق هذه الملحمة البديعة، ملحمة شاعر "الريل وحمد" الذي ينبغي على الدولة العراقية تكريمه، وهو على قيد الحياة وهو يطرق الثمانين، اذا كانت كريمة، بنصب او جدارية في كرخ بغداد مسقط رأسه.

فالنواب، في عالمنا الخاص، رمز متفرد لكنه ملموس ويتحرك بيننا كل يوم تقريبا رغم ثقل الثمانين. بل يندر منا من لم يمر بـ "مرينه بيكم حمد" او "روحي" او "البنفسج" او لم يتقاطع معه في لحظة او اخرى عبر سجن او وقفة او قصيدة او لوحة او فرحة او بكاء قلب. وهذا منذ منتصف القرن العشرين ولحد الآن. فطوال هذه العقود المليئة بالانكسارات التي لم تعد تحصى والاعياد القليلة والمنعطفات الدائمة، لم يكف هذا الشاعر من الحضور بشكل او آخر في همومنا الوجدانية او السياسية او كليهما، وغيرهما ايضا، وبشكل حميم غالبا، ولو بين آونة واخرى متقاربة او بالاحرى متباعدة كما هو الامر في الغالب بسبب سعة ارض الله التي تشتت وتشتتنا فوقها والتشتت ضرب من القيد كما يعرف الهائمون.

لقد ظلت الكتابة عن أبي عادل تراودني دائما، وطوال ما ينيف على اربعة عقود من الزمن امضينا معظمها في المنفى الاضطراري مبعثرين هنا او هناك. الوفاء، ازعم، كان الدافع الاساس لدي. وجاء مبكراً. الا انني حذرت التطفل مبكرا ايضا وبنسق ثابت. واذكر جيدا انني بدأت الكتابة عنه بمقالة اولى اثارت اهتماما، وكان ينبغي ان تنشرها مجلة (الهدف) الفلسطينية في نهاية 1974، فقيل ان صحفيا صادر حق نشرها لسبب ما يخص "سياستها". ولم احاول ان اعرفه بتاتاً. مسودات المقالة الاصلية أبت ان تكتمل بعدئذ، وكل مرة لسبب عارض لعل منها غياب نافذة نشر لها في عالم عربي تحكمه زمر قمع كانت، في كل بلدان مشرقه وحتى مغربه، تتكتم على اسم هذا الشاعر كما لو انه كان يضعها امام حقيقتها القاتمة. لكن المعطى الآخر الذي سيتأكد لي مع الايام هو ان ظاهرة مظفر النواب اكبر من ان يحيط بشتى عوالمها متابع هاو مثلي.

الادهى، ان كل تلك العوالم فيه لا تكشف عن نفسها بيسر دائما. واقول تكشف ولا اقول تولد. لانها خصال اعرف شخصيا بوجودها منذ امد طويل واعرف عنها الكثير وان بشكل مشتت ومبعثر ايضا. فمظفر النواب ليس فقط الشاعر العربي الكبير والمجدد باللغتين الفصحى والعامية العراقية معاً، كما تعلنه مجموعات شعرية عديدة وذائعة الصيت كـ "الريل وحمد" و"حجام" باللغة العامية العراقية، و"وتريات ليلية" و"أربع قصائد" ثم "المساورة امام الباب الثاني"، اضافة الى عشرات القصائد الاخرى المنشورة في فسحة او أخرى او المسجلة، وعشرات قصائد جميلة غيرها كان يقرأها لنا ولم تر النور بعد او لن ترى النور ابدا ربما. بل هو ايضا الكاتب والمناضل والسياسي والفنان المتعدد المواهب في الرسم والموسيقى ذو الصوت الرخيم المتعالي والريشة المترفةوالرفيق والصديق والعراقي الاصيل قبل وبعد كل شيء. فالعراق ما غاب لحظة عن جوى مظفر النواب عبر ما ينيف على اربعة عقود من التشرد:

يا وحشـةَ الطرقات
لا خبر يجيء من العراق
ولا نديم يُسكر الليل الطويل
مضـت السنين بدون معنى
يا ضياعي
تعصف الصحرا وقد ضل الدليل
لم يبق لي من صحب قافلتي سوى ظلي
وأخشى أن يفارقني
وإن بقي القليل
هل كان عدلٌ أن يطول بي السُّرى
وتظلُّ تنأى أيها الوطن الرحيل
كأن قصدي المستحيل
نفثت بي الأحزان كل سمومها
فرفعت رأسي للسماء صلابة
ورسمت رغم السم
من عودي لها ظلاً ظليل
وتحاول الأيام
مما جرعتني اليأس
ثم هضمته أملاً
تضاعف جرعتي
فأضاعف الصبر الجميل
إني أرى يوم انتصار الناس
رغم صعوبة الرؤيا
وأسمع من هتافي في الشوارع
سيما في ساحة التحرير
نخبك يا عراق
وليس ذي أمل كليل..

يوم انتصار الناس جاء اخيراً ولو مثلوماً، ولو متأخراً جداً.

و"نخبك يا عراق" سترتفع في ساحة التحرير ذاتها كما انتظر مظفر النواب ولو ان بربرية جديدةً سارعت الى كسر الفرح في عيون الناس. لكن الهتاف في شوارع بغداد لاسيما في ساحة التحرير لم يعد نبوءة بل لم يعد محض امل. بيد ان مظفر النواب الذي انهكه الهجر والهجرة لم يهجر بيته المتواضع الفقير في ضاحية دمر في دمشق معلناً رفضه العودة إلى وطنه عندما كان محتلا، بل لم يعد الى العراق كاسرا منفاه الا بعد ثمان سنوات من انهيار الطغيان البعثي السمج والا بعد رحيل الغزاة الامريكيين عنه، ولم يعد الا عودة رمزية والى شعبه مباشرة ساخرا من اولئك، ايتام الدكتاتورية البعثية خاصة، الذين دعوا الناس الى رفض الانتخابات وحمل سلاح مقاومة لم يحملوه هم في حياتهم ابداً. ولكم كانت فرحتي بلا حدود وفوضوية وانا التقي بمظفر النواب عائدا الى بغداد نحو ربيع 2011، عودة عابرة وربما اخيرة وتشبه الصلاة الى وطن احلى ما فيه حبنا له بينما هو موغل بالاحباط والضياع من جديد ومرة تلو اخرى. ومثل نورس متيّم جريح، راح صوت مظفر الخافت هذه المرة يستفزّ ذات الحيرة الاولى وربما الابدية التي عبر عنها دائما من قبل.

مظفر النواب المناضل الوطني والأممي

لست هنا بصدد تقديم دراسة تقييمية للحالة الشعرية الكبيرة والخاصة التي يمثلها مظفر النواب انما، اريد فقط الاشارة عابرا الى بعض من إشراقاتها ومنعطفاتها، وابدأها بقضية البعد السياسي فيها والذي شكّل دائما خاصية فيها تميزه عن كثير وربما معظم الشعراء العرب. فالتجربة الثرة والحيوية والمعقدة والمعطاء بعد لهذا الشاعر، هي ايضا تاريخ شائك وشجي وسعيد وحزين في آن، وقد حالفني الحظ ان اتقاطع معه مرارا وطويلا وعن كثب احيانا، تقاطعا صار هو ذاته تاريخا اذا جاز القول، ومنذ مرحلة الدراسة الثانوية.

فقد كنا في ثانوية الشعب في الكاظمية فتية بعد في 1964، حين سمعت للمرة الاولى بمظفر من زملاء لنا قادمين لها من متوسطة كان فيها استاذهم الذي اختفى فجأة منذ اللحظات الاولى لقيام انقلاب 8 شباط 1963 الدموي الذي نفذته زمرة من القتلة باشراف المخابرات الامريكية، وهو اختفاء لم يكن ليمر مرور الكرام على بعضنا نحن تلاميذ الكاظمية التي تشبعت طرقاتها بدماء قادة مقاومتها الشعبية ضد ذلك الانقلاب الجبان ومنهم الشهداء ناظم جودي حمد وعبد الامير الحائك ومحمد الوردي وابراهيم الحكاك وسعيد متروك القائد النقابي اليساري الذي ظل يقود المقاومة في منطقة ام النومي حتى نفذ عتاده فكبله القتلة وسمروه على حائط ثانوية الشعب قبل ان يمزقوا جسده بوابل من رصاصات ظلت آثارها محفورة لمدة طويلة على حائط مدرستنا تلك ليغدو مزارا بعد طرد البعثيين من الحكم اثر انقلاب لرئيس جمهوريتهم عليهم في 18 تشرين الثاني 1963.

وفي الجامعة التي دخلتها في 1966، عاد مظفر النواب الى الظهور في حياتنا عبر قصائد كنا نغذي بها قلوبنا الجريحة من حبها الاول الرومانسي المحض والمتخيّل غالباً. قصائد "الرسم بالكلمات" لنزار قباني هي الاكثر يسرا بالطبع، الا ان المقاطع الاشهر من "الريل وحمد" سرعان ما فازت بالرهان، ثم جاءت قصيدة "ريحان" بمطلعها السحري "شـﮕ-;---;-----;-------;----د نده نـﮕ-;---;-----;-------;----ط عظّلعْ ونسيت اﮔ-;---;-----;-------;----ـلك يمته؟" اشبه بمرهمٍ يومي لخيبات شتى لم تتوقف منذئذ ابدا وليست رومانسية بالضرورة. تلتها قصيدة "جنح غنيدة"، التي علقناها على جدران غرفنا بفضل طبعة ملونة لها نشرها الشاعر الراحل يوسف الصائغ في وسط مجلة بغدادية، كما رحنا نتناقل قصة فراره ورفاق له من سجن الحلة عبر نفق حفروه تحت الارض بملاعق الطعام كما في رواية من صنع الخيال.

في كلية الآداب عام 1967، كان حظنا سعيدا حين اكتشفنا فجأة ان بيننا سعدي الحديثي، احد اولئك المناضلين اليساريين الذين كان قد جرى اطلاق سراحهم للتو، وبينهم مفكرون ومربون وفنانون وادباء احرار، بأمر من رئيس الوزراء الراحل عبد الرحمن البزاز الذي شغل منصب رئيس الجمهورية في العراق لمدة ثلاثة أيام من 13 نيسان لغاية 16 نيسان من عام 1966، اثر وفاة عبد السلام عارف في حادثة سقوط طائرته المروحية. سعدي وعبر كبرياء صوته الفطري وضع امامنا كنوز مظفر الاخرى المحظورة النشر من قبل وفي المقدمة "يسعود احنه عيب انهاب يا بيرغ الشرجية"، و"صويحب من يموت المنجل يداعي" و"ايام المزبن" و"تنذل عيونج يالدولة" فيما رحنا نتلاقف عن ظهر قلب مقاطع قصيدة "البراءة" التي بدت لنا ملحمة عصماء بذاتها في اعلاء الصمود على المبادئ والتضحية.

عرفنا ايضا، من هذا وذاك وتدريجيا، ان مظفر عبد المجيد النواب ولد في بغداد عام 1934 واكمل دراسته الجامعية في كلية آدابها، ثم عمل مفتشاً فنياً فمدرسا في متوسطات عدة وانه اضطر على الفرار من بلاده متسللا الى ايران اثر انقلاب 8 شباط البعثي عام 1963 متجها الى روسيا، إلا ان الجندرمة الإيرانية قبضت عليه في الاهواز وسلمته مخفورا إلى سلطة بغداد قبل ايام من انتهاء تلك السنة لتحكم عليه محكمة عسكرية شكلية باعدام خفف إلى سجن مؤبد امضى سنوات منه في سجن السلمان الصحراوي واخرى في سجن (الحلة) الذي سرعان ما فرّ منه مع رفاقه في 1966 بعد حفر نفق أدى بهم إلى الحرية في عملية جريئة اثارت فرح الرأي العام وافتخاره، وسمح لمظفر بالتسلل إلى أهوار الجنوب ثم الى بغداد ومنها الى لبنان في 1969 منتهزا فرصة عفو سياسي لم يلبث الا بضعة ايام.

وسرّا رحنا نتهامس بما يصلنا من اخبار احداث فعلية او متخيلة عن انشطة ثورية له في فلسطين او اريتيريا او ظفار قبل ان تتحقق في نهاية 1973 لقاءاتنا الفعلية الاولى معه التي امتدت لاسابيع وليل نهار غالبا وعلى ضوء الفانوس احيانا وعلى مرمى عصا من قمة واحد من اعلى جبال العراق (شاخ ره ش) حيث امضينا، مع رفاق آخرين، اسابيع عديدة في قرية صقيعية نائية وكريمة في اعالي جبال كردستان العراق كانت تؤوي بحنو بالغ العفوية العشرات من مناضلي حزب القيادة المركزية الثوري اليساري الفالتين من مخالب الذئب البعثي الذي سلط عليهم، هم خاصة، همجية ما بعدها همجية.

مظفر النواب الشاعر العربي الكبير والمثير

منذ نهاية 1973 لم تكف معرفتي المباشرة بمظفر النواب عن مواصلة التراكم عبر لقاءات متتابعة في بيروت وباريس وبواتيه ولندن وقبلها جميعا في مقهى الهافانا بدمشق المدينة التي عاش كريماً بين بسطاء شعبها ومثقفيها ومنحها محبة راسخة. بيد ان معرفتي بعالمه الابداعي الثري والمتعدد تظل خارجية وضئيلة وتحتاج الى احاطة شاملة ومنهجية ولا اتحدث هنا فقط عن شعره الفصيح الذي راح يهيمن على عطاء مرحلة المنفى كما لو انه الوحيد.

وهناك الآن العديد من الاطروحات الجامعية بمختلف اللغات عن ظاهرة مظفر النواب وعشرات الدراسات المفصلة المنشورة وغير المنشورة عن شعره الفصيح بينها مؤلفات معروفة لكتاب عراقيين وعرب منها على سبيل المثال كتاب "مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية" للناقدين السوريين عبد القادر الحصني وهاني الخير (دمشق 1996)، وقبله كتاب باقر ياسين "مظفر النواب حياته وشعره" (دمشق 1988)، وبعدهما كتاب "الثورة النوابية" لحسين سرمك حسن الصادر في 2010. كما هناك عشرات الدراسات المتباينة في العراق وخارجه عن شعره باللغة العامية تؤكد كلها القضية الجوهرية بلا شك والمعروفة جدا، والتي تميزه قطعا وتعطيه مكانة لامعة في شعرنا الشعبي العراقي المعاصر، وهي ان لتجديد الجمالي الرفيع والخصب الذي حققته القصيدة النوابية في هذا المجال يمثل عالما فنيا وجماليا قائما بذاته فيما تمتلك اهمية خاصة محاولته، في شعره باللغة الفصحى هذه المرة، ان يسحب على فن الشعر مفاهيم تخص فن الموسيقا والحركات السمفونية تحديدا وهو ما عبر عنه بنفسه في مقدمته لديوانه الاول باللغة الفصحى "وتريات ليلية" الذي ضم ايضا مجمل الهموم الفكرية لمظفر النواب وليس الفنية او الشعرية وحدها، فمن خلال متمعنة لهذا الديوان نجد، في موقع او آخر، ثمة مناخ يعبر ضمنا بل صراحة عن هواجس صوفية واخرى تتعلق بموضوع فهم الموت والزمن والذات والمطلق خاصة.

ولعل من الممكن القول ان ما كتب عن المنجز الشعري لمظفر النواب يفوق ما كتب عن منجز اي شاعر عربي معاصر آخر باستثناء الجواهري والسياب ربما.

ومع ذلك، تعرض شعر مظفر الى حصار قاسِ ومتواصل من قبل مؤرخي الشعر "الرسميين" في العراق والعالم العربي. فبرغم انحيازه العميق والجريء الى جانب الثورة الفلسطينية والثورات العربية اجمالا وشعبيته الهائلة، تجنب معظم نقاد الشعر العربي المعروفين دراسة شعره بشكل مناسب او حتى التطرق اليه اما خشية اغضاب نظام البعث العراقي المتحالفين معه احيانا او لاسباب ونزوات ذاتية او اخرى. وهكذا كان حال اولئك الذين هاجموا شعره بالفصحى على اساس قوة نزعة المباشرة فيه وبعض الشتائم، او اولئك الذين اعتبروا، كوجهة نظر نقدية، ان المجد الحقيقي لشاعرية مظفر النواب يكمن في "أرض أخرى: القصيدة العامية" اي في مرحلة تسبق وصول البعث الى السلطة في العراق.

والحال، كل تلك المبررات كانت واهية بشكل فاضح. واذا استثنينا شعر الشعراء المتوصفين والباطنيين المسلمين وغيرهم، تبدو المباشرة سمة اساسية في كل الشعر العربي لفترات ما قبل ظهور حركة الشعر الحديث، مع السياب والبياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري ومحمود البريكان، المتأثرة بالشعر الاوربي الحديث لاسيما تياراته الرمزية والسوريالية والفلسفية الجديدة. ودون التوقف امام استنتاجات وتقييمات اولئك او هؤلاء المؤسسة في العموم على اسباب سياسية او اقليمية او مذهبية حيال شاعر لم يكن اقليميا او مذهبيا قط، والمهزوزة الارضية المعرفية او المنهجية الادبية بشكل صارخ احيانا، ثمة قصائد ومقاطع من شعر مظفر النواب كانت تواصل شق طريقها اكثر فاكثر الى اوسع جمهور من المحيط الى الخليج ناله شاعر حي من قبل. لكنها مقاطع وقصائد تقلق أولي الامر بدعوتها العلنية الى الثورة:

أنبيك عليّاً
مازلنا نتوضأ بالذل
ونمسح بالخرقة حد السيف
ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف
ما زالت عورة عمرو العاص معاصرةً
وتقبح وجه التاريخ
ما زال كتاب الله يعلَّقُ بالرمح العربية
ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء ،
يؤلب باسم اللات
العصبيات القبلية
ما زالت شورى التجار، ترى عثمان خليفتها
لو جئت اليوم،
لحاربك الداعون إليك..

هذا الروح المتسلل الى معظم شعر مجموعته الاولى بالفصحى "وتريات ليلية" يتراجع في مجموعته التالية، "المساورة أمام الباب الثاني"، لائذا بصوفية مستلهمة اول بأول من شعر المتصوفة المسلمين دون غيرهم، ومن هنا مسحتها الفردانية الحميمة الحزينة المقترنة بموسيقى داخلية كان مظفر النواب يحب الكشف عنها تاركا لها الفضاء لتسرح كلما جمعتنا امسية او مقام:

لا تسل عني لماذا جنتي في النار
جنتي في النار
فالهوى أسرار
والذي يغضي على جمر الغضا أسرار
يا الذي تطفي الهوى بالصبر لا باللّه
كيف النار تطفي النار؟
يا غريب الدار
إنها أقدار
كل ما في الكون مقدار وأيام له
إلا الهوى
ما يومه يوم...ولا مقداره مقدار

لكن العشق بمعناه الصوفي هو القضية الجوهرية التي تحرك حياة مظفر النواب كلها ويعتبرها مفتاح العالم كما قال لي مرة في برلين قبل نحو عقدين من الزمان، حيث امضينا عدة ايام معا، خلال حوار طويل لم ير النور من قبل: "العاشق لا ينبغي ان يلام انما ان ينصت له وان تكتشف مع الجمال والغبطة والالم وغيرها من العوالم الداخلية التي تواجهه.. تجربتي الحياتية والشعرية والسياسية هي التي اوصلتني الى اللحظة الحالية من هذا الفهم، وهي ايضا التي دلتني على نصوص المتصوفة فيما بعد وليس العكس. ربما كان لدي استعداد او ميل خفي ومبكر لم اكن اعرف به، فهذا ما اعتقده الان. اذ لاحظت قبل سنوات ان هناك مفردات صوفية تسربت الي لغتي وكياني في حين لم اكن قد اطلعت بعد على مؤلفات المتصوفة، لان تلك المؤلفات لم تكن واسعة الحضور او التداول في الوسط الثقافي الذي ترعرعت فيه. لقد كانت تتوفر بالطبع بعض كتب المستشرقين التي تتحدث عنهم مثل كتابات ماسنيون وغيرها، الا انها لم تكن تستهويني بشكل متميز، وذلك ربما لأنني كنت احس بنوع من النفور من قراءة النصوص التي احبها بلغة اخرى غير اللغة العربية لاسيما النصوص الروحية والجمالية، وحتى الان احب ان اقرأ باللغة العربية وليس في ذلك ادنى افتعال او تصنع بسبب موقف سياسي او ايديولوجي انما لأنني اشعر شعورا وجدانياً بعلاقة خاصة الحميمية مع هذه اللغة التي انفقت سنين طوال في دراستها. اللغة معشوق ايضا، واذا لا تتصرف حيال المعشوق بعلاقة العشق المتواصل لا يلبث ان يهجرك، وهناك بالفعل شعراء بدأوا بعلاقة العشق مع لغتهم ثم تخلوا عنها فوجدوا انها هجرتهم هي الاخرى وهجرتهم نهائياً، والعشق نوع من الانتباه الدائم لكن بعيون حالمة، وهذا ما ينبغي ان يستمر مع اللغة دائما وحقيقياً".

مظفر النواب شاعر الجوى الجنوبي الحميم

ثمة قصيدة لمظفر النواب نحفظها عن ظهر قلب لكثرة حضورها في حياتنا لتعبيرها ربما عن واقع عبثيتها كما عن الجوى العراقي الاكثر صدقاً لا سيما اذا كان جنوبياً:

مــو حزنْ
لاﭼ-;-ن حَزين
مثل ما تنْـﮕ-;-طع جوّه المطر شَدّة ياسمين
لك مو حَزن، لاﭼ-;-ن حزين
مثل صندوق العرس
ينباع خردة عشـﮓ-;- من تمضي السنين
انَه ﮔ-;-تلك مو حزن
لاﭼ-;-ن حزين
مثل بلبل ﮔ-;-ـعَد متْأخّر
لـﮔ-;-ه البستان كلهه إبْلَيّه تين
مو حزن، لا مو حزن، لا مو حزن..

تلك سلفا لحظة غنائية عليا في نوعية الشجن الانساني، العراقي وغيره، يسطرها هنا، في هذه القصيدة، مظفر النواب. لحظة تتوازى وتتحد وتتوحد مع النقلة النوعية المثيرة المتعددة الاتجاهات التي حققها الشعر العراقي عبر مثابرة اكثر من نصف قرن؛ جعلت من اسلوب مظفر النواب في شعر الفصحى مثلا، وموقفه النقدي فيه، مدرسة شعرية مثيرة للجدل، فعلا، انما مدرسة رئيسية متنفذة ومؤثرة في كل العالم العربي من المحيط الى الخليج وحتى لدى خصومها احيانا ورغم كل حروب بعض الحساد والصغار الشعواء عليها، فيما، ومنذ فترة اقدم، رفع شعر النواب المكتوب باللهجة العامية العراقية، هذا الصنف من الشعر الشعبي الى مصاف فن خاص متكامل بذاته وعلى درجة رفيعة من النضج والرفعة على صعيدي الشكل والمضمون يتباهى بها حتى مثقفي الفصحى العراقيين، ما جعله على كل لسان تقريبا في بلاد الرافدين بل ومنتشرا، عبر بعض القصائد او المقاطع، في كل دول الشتات العراقي بل في سوريا ولبنان ودول خليجية وعربية اخرى كان بعضها يعتبر اللهجة العراقية محض هرطقة جبلية.

ويقيناً بالنسبة لي ان مظفر النواب كان احد اكبر الشعراء العراقيين، وربما الاكبر، بين الذين اقترن اسمهم بهذا الانجاز الكبير للشعر باللغة العامية. فاهمية شعر النواب الشعبي أكثر من استثنائية في الواقع الى حد اعتباره سفر نضال بذاته. وهي لا تقتصر على تحقيق هذه النقلة وحسب، انما ايضاً، وبجهد ذاتي وواع دائماً، في إنضاجها وتكريسها مأخوذاً في آن واحد بهم المفاعلة غير المبتسرة ما بين الحداثة والاصالة من جهة والعالمية والعراقية من جهة أخرى. ومعه، ومنذ قصائد "الريل وحمد" تحديدا، المكتوبة في حوالي 1959، سيجد الشعر الشعبي العراقي نفسه ولأول مرة في العصر الحديث محط اهتمام عربي واجنبي. فقد نجح هذا الشاعر في احداث قطيعة جمالية حاسمة مع الحالة الماضية. وبغياب دراسة شاملة وعميقة حول العبقرية النوابية في الشعر الشعبي، يكفينا تأمل بعض قصائده كـ"ريحان" أو "حسن الشموس" أو "إبن ديرتنه حمد" أو "حجام البريس" او "روحي" او "البنفسج" او "زرازير البراري" للكشف عن الجوانب الخاصة بهذه العبقرية لا سيما لجهة ثراءاتها المتعددة. وربما يمكننا القول –امام الصرح البديع الذي ارساه هذا الشاعر- ان القصيدة الشعبية النوابية من العسير تجاوزها جمالياً لفترة مهمة قادمة كما هو واضح الآن، لأسباب موضوعية كثيرة ابرزها التأثير الطويل لغيابين: غياب فسحة التنفس- التفاعل الضرورية لتجاوز كهذا نظراً للنزعة العدائية التي ثابر النظام البعثي في العراق، على التلويح بها ضد هذا الضرب من الفن، وغياب عبقرية شعرية جديدة تبزّ فعلاً، أو على الأقل توازي، تلك التي إقترنت، بإعتراف واسع، بإسم هذا الشاعر. ويمكننا اضافة عامل ثالث هو الافراط حاليا في استخدام الشعر الشعبي كوسيلة جاهزة ومجانية للتعبئة الدينية والسياسية التجارية الرخيصة.

بيد ان المثير وربما المستغرب هو توقف مظفر النواب عن كتابة الشعر باللغة العامية العراقية بعد مغادرته العراق هاربا من بطش السلطة البعثية في نهاية الستينات الماضية. فلا نكاد نعثر له الا نادرا على قصائد جديدة بالعامية بعد مغادرته العراق كما لو انه اكتشف عالما جديدا لا يتفاعل مع العامية العراقية ما دفعه الى ان يكرس كل طاقته الابداعية للشعر باللغة الفصحى. ولقد احتفظت دائما بمقطع او آخر من بين ما كتبه مظفر بالعامية العراقية بعد مغادرته العراق منها مطلع قصيدة مجهول، على الارجح، بعنوان (سالوفة ابو سرهيد) تمثل احد فصول ملحمة شعرية جديدة كان يطمح الى اصدارها بعنوان (ست سوالف من البو حسن) الا انها لم تر النور ابدا باستثناء ظهور محدود جدا في نشرة نادرة باسم الحزب الشيوعي العراقي القيادة المركزية طبعناها على سفح جبل شاخ رش في كردستان العراق اوائل نيسان 1974.

و(سالوفة ابو سرهيد) كانت في ذم جبهة "تقدمية" وافق فيها الحزب الشيوعي العراقي عام 1973 على الاعتراف للحزب الفاشي الحاكم بمكانة "الحزب القائد" ما اعتبر موقفا معاديا للشعب العراقي وانتحاريا. اما نص القصيدة المكتوبة في ذلك العام نفسه فكما يلي:

ﮔ-;-امتْ هيبة يا بو اللّيل
وخيوط الفجر طرزَنْ وراك اخبار عَالمكشوف
يا خنجر عَلِمياسر عليه اسم الحزب معكوف
يمْوصّل مكاتيب العرس للماوراهم غير الفناجين والديّان
وسالوفة وكتْ غـزلو عليها العمر ريحة صوف
يمسوّي الـﭽ-;-ـلاچ الخيزان أنهار من لون البنفسج
وحدكْ السكّان والشادوف
يلْوحدك من تسولف،
اشوفن كل حرف منّك مشطْ ياكل سبعْ طلقات
وكل ركزة ذهب،
والشين حمالة صبر وسيوف
اسولفلك
اسولفلك
سوالف ليل،
وحصيني نفط،
واحزاب اجاهه الموت
طرگ الله وكراسي بالوزارة..
ولبستْ النفنوف
خل يـﮕ-;-ـعد فهد ويشوف
يغاتي بغيبتك
ﮔ-;-ام الشـﮔ-;-نـﮓ-;- والبثل، والزبل، والخريط
وانته تـﮔ-;-لي لو خيط الفجر بيّن.. الزمو الخيط، ولتعوفوه
ما ﭽ-;-ذّبت!
لكن ﮔ-;-لّي وين الخيط؟ وين الخيط؟


مظفر النواب شاعر وفنان متعدد المواهب

ومظفر النواب الشاعر الكبير فنان نغمي ايضا واسع المعرفة الموسيقية وذو صوت فاتن الدقة والطبقات، كما هو فنان تشكيلي موهوب اقام عدة معارض للوحاته. ولئن انقطع عن الرسم مثلا او تركه يتهمش طواعية بعد اولوية في الهم والاهتمام نالها مبكرا بصحبة حافظ الدروبي الكبير، فذلك لان شاء، او شاءت الاقدار، ان يستحوذ الشعر على كل شيء تقريبا لديه ويصبح منمنمته المفضلة التي يتدوزن فيها بكامل طاقته الجمالية والابداعية. وهو امر نابع ربما من مهنة الحل والترحال التي احترفها او كاد.

ومظفر فنان مسافر، وعلى قلق ايضا، كما عرفته. والحال، وحده الشعر الفن الذي يتماهى مع الترحال والقلق في آن واحد بين الفنون. بل هو الفن الوحيد الذي تحمله دون ضيم صرة الترحال وبلا تأشيرات وبلا جواز سفر. وهذا ما تبوح به رسوم هذا الشاعر الكبير ذاتها التي، وهذه مفارقة وحدها، اختارت لنفسها حجم القصيدة احيانا لتغريه هو المسافر، المسافر الازلي ربما، بان يحملها معه كبعض منه. ثم ما الذي أهمّ، في المحصل الاخير، أكثر من السماح للرغبة الجمالية في ان تتمظهر وتحقق ذاتها ما دامت تلك الرغبة ذاتها، بنظري، حاسة سابعة او ثامنة لا قيمة للحواس الاخرى بدونها اصلا.

لا شك ان مظفر النواب كفنان لا يريد ان يحصر متعته في الكلام وحده، لذا فهو يتدفق الى الخطوط والالوان ايضا وكذلك الى الموسيقى لمن يعرف ذلك، وكل وسيلة اخرى تسمح له بنشر حبه للجمال والناس والعراق. لكن الترحال وانتظار الترحال جعل من الكلمة صاحبه الذي لا يخلع. فمظفر في المقام الاول شاعر كبير اما العلاقة مع اللوحة او الموسيقى، فقد تحولت لا اراديا الى علاقة غربة لا تباح، او علاقة تشوق لحبيب ظل بعيدا عن العين لنحو نصف قرن، هو العراق. لكن الحبيب الحبيب يظل حاضرا في كل شيء مهما تفنن في النأي والصد والغياب. من هنا هذا السر في انبثاق اللون او اللحن او النغم مثلا في قصيدة مظفر النواب كما لو انه، او انها، القصيدة ذاتها. بل ان الكثير من رسوم مظفر الفنية ولدت كما لو انها جنين لقصيدة او مقطع شعر في معركة بقاء لم تحسم بعد منذ ان عرفت تلك الاعمال الفنية ان تتحول الى رسوم بالكلمات.

هل من الضروري القول ان الكثير من قصائد مظفر واكاد اقول كلها تحمل همّ الوفاء لطاقة الرسم والموسيقى لديه فتبدو هي نفسها وكأنها رسوم والحان كما لو ان طاقة الخلق لديه تعرف كيف تعبر عن رغبتها بالشكل الذي تحب هي ايضا؟

بداهة لا يعرف غيره جوابا شافيا على هذا السؤال واسئلة كثيرة اخرى حول الطاقات الفنية للشاعر الكبير مظفر النواب. بيد انني ازعم معرفة الكثير عن معرفته الواسعة بالموسيقى الكلاسيكية العالمية والتراث الغنائي العربي والعراقي كما عن طاقته النغمية واطواره الغنائية المفضلة التي صرنا نقلدها احيانا. وكم هي ممتعة الامسيات التي حملتنا على بساط صوته الصافي الى عوالم ألق اخرى واحيانا برفقة الفنان سعدي الحديثي او الشاعر الراحل بلند الحيدري او التشكيلية الراحلة دلال المفتي زوجة بلند او سواهم من الادباء والفنانين والاصدقاء. اما منابعها لديه فمعقدة وقدرية هي ايضا.

بيد ان مظفر يخبرنا مرارا ان التراث الموسيقي العراقي الاصيل هو نبعه الجمالي الاول. والنواب كان قد تعرف الى البيئة الموسيقية لدى سكان الاهوار في جنوب العراق منذ زيارته الاولى للاهوار في منتصف الخمسينيات الماضية حيث استمع الى غنائهم واسترق السمع لحديثهم ولهجاتهم وما فيها من تنغيمات جذبته بشكل ملفت. وذلك ما يؤكده مظفر النواب بنفسه، خلال حديث لصحيفة (الحياة) في 1995: " كنت أسمع فقط الشعر الموجود في بغداد او المغنين الذين نسمعهم في الاذاعة العراقية، الى ان رحت في عام 1955 او 1956 الى أهوار العمارة (احدى مدن جنوب العراق الرئيسية) والتقيت هناك بمغنين هم غرير وجويسم وسيد فالح، وقد ذهلت فعلاً بغنائهم. وتكشف لي عالم مهمل، لكنه مليء بالجمال"، مضيفا في مناسبة اخرى، انه دعي في 1956 وبمشاركة شخصيات أدبية وفنية لامعة كالاديب صلاح خالص والفنان المسرحي يوسف العاني والاقتصادي إبراهيم كبة، الى سهرة على نهر الكحلاء في العمارة حضرها اشهر مغني الهور كرير وجوسيم وسيد فالح ليكتشفوا لأول مرة غناء "غير الذي يغنى بالإذاعة: كان كل شيء ساحرا وآسرا.. وكل شيء كان منتشيا بطبيعة الغناء، لأول مرة اسمع "المحمداوي" من جوسيم. اما كرير فكان شخصية آسرة! له مجموعة من الدفوف، يبدأ يغني نازلا فنازلا حتى يصل صوته عمق الهور، اذ ينقل لك الهور وأنت في مكانك، صوته أشبه بصوت (بول روبسن) عميق جدا، بينما جويسم صوته رقيق جدا وناعم اذ يطوح بالمحمداوي هو وسيد فالح. ومن أصواتهم وغنائهم أحسست بالغنى الموجود في عالم الهور وأبعاده والحزن الذي فيه والشجن والمعاناة والفرح أيضا، كانت عندي رغبة شديدة ان أشاهد هذا العالم، بدأ عندي نوع من النفرة من شعر عامية المدن، لان شعر عامية المدن شعر ساخر ناقد ليس فيه كثير من الصور، صادف في تلك الفترة تعرفي على صديق من تلك المنطقة هو عبد الرحمان شمسي وكان يلقب بلبل الجامعة وهو من قبيلة الشموس التي تقطن في اهوار العمارة، ويملك صوتا جميلا هائلا، كان يغني في حفلات الجامعة، طلبت منه ان نذهب إلى هناك سوية حيث أهله، سحرني العالم الموجود والقصب والطيور واللهجة الجنوبية بتنوعها".

وفي برلين قبل نحو عقدين طرحت عليه من جديد سؤال حقيقة دور الاهوار في انبثاق الاشياء الجميلة لديه، فكان هذا الجواب:

"الاهوار هو الموضوع الذي ساعد في تفتح كل هذه الاشياء في داخلي، فالهور ليس مجرد مكان، انما هو زمن وروح ايضا، كما ان الكتابة في الشعر الشعبي العراقي هي كتابة قاصرة اذا لم تكن مبللة بفهم روح الهور، لأن الشعر يصير مكتوبا باللهجة العراقية عندئذ وحسب وهو بالتالي ليس بالشعر العميق او الشعر الحقيقي حتى اذا تضمن كلمات الهور او الاهوار، انه في احسن الاحوال تعبير خارجي عن روح الهور والبردي والقصب. يسألني البعض احيانا كم عشت في الاهوار؟ لم اعش في الاهوار الا عدة مرات فقط، كل مرة لم تتجاوز بضعة اسابيع، لكن زياراتي كانت حاسمة في حياتي فقد احسست خلالها بأن صوتا داخليا يقول لي هنا تستطيع النمو، اهل الاهوار يعرفون ما اعني بذلك لأنهم ليسوا خارجيين عليه كما هو حال غيرهم".

والنواب يتذكر حتى الان ان اتحاد الادباء نظم بعد 1958 عدة زيارات الى الاهوار للكتابة عنها، وبالفعل نشرت عدة مقالات في حينه، لكن هذه الكتابات كانت تشبه تلك التي كتبها الرحالة الاجانب عن البلدان العريبة التي يزورونها. بينما الهور "هو جسد من ماء من الممكن ان ينام طفل في حضنه وان يتنفس من شم عبق القصب وان يستمع الى لغة الماء بل يستطيع ان يكبر وينمو معها جميعا، وحتى ان يشعر بآلام هذا الجسد، لابد من نوع من محاولة الفهم اذن، وليس مجرد الملامسة الخارجية اذا اردنا اقامة علاقة مع الهور، لابد ان نقرأ اسرار هذا العالم الجمالي السومري والقرمطي والصراع الداخلي الخفي الذي يمور او يدور فيه، وعندما يكون لديك حس حقيقي بزمن وروح الريف العراقي والهور بشكل خاص الذي يمتلك عمقا اضافيا رحيبا، انه يعطيك مفتاح اللغة، احيانا اجد مفردات في قصائدي لا اعرف كيف جاءتني على الرغم من ان اهل الهور وحدهم من يستعملون هذه اللغة، لا يمكن ان نسأل عاشقا لماذا احببت هذه المرأة دون غيرها، انه لا يعرف سوى انه أحبها".

ويستطرد مظفر في حديث يتماهى مع التأمل: "ان فهم ثقافة الماء يجعل المرء اكثر قدرة على فهم ثقافة الصحراء ولا يجعله يشعر بالغربة معها، فبفضل فهمي لروح الاهوار اكتشفت بانني افهم ايضا روح الصحراء، كما تجعلك تدرك لماذا شعر البادية ذي الجمالية العالية الاخاذة يبدو وكأنه مليء بمفردات الجفاف، الرمل والشمس والهجير، اما ثقافة الهور فانها مبللة بالماء، لكن العراق هور وصحراء وجبل ايضا، انه كل هذا التنوع، وبفضل تلك الشمولية الصوفية صار عليّ ان افهم كل هذا وان احس به، فعندما تتيه في مشحوف من قصب، مشحوف محمل بهذا الامتلاء الذي امامك لابد ان تتذكر الامتلاء الاخر الذي تشعر به عندما تتيه في الصحراء على ظهر ناقة حيث النجوم تجعلك قريبا من الله وامامك المجهول الذي يرمز له الرمل، وفي وجودك في كردستان تكتمل الروح حنوا اذ تشعر بانها كبيرة تحت شجرة لوز وان هناك انوثة متعددة وحس جمالي هائل يعمق الشعر ويمليه، ثم تأتي بعد ذلك التفاصيل، مفردات اللوز في قصائدي كثيرة للتعبير عن الفكرة هذه".


انتهى.

* د. حسين الهنداوي شاعر وكاتب عراقي.
[email protected]



#حسين_الهنداوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ذكرى الشاعر والناقد والمناضل اليساري العراقي الراحل ضياء ...
- خالد الأمين، ذلك الشاعر الشهيد
- ازمة الاسلام السياسي الاخواني بعد خلع محمد مرسي
- رحيل شاعر كردستان الجميل، عاشق الفرات، شيركو بيكه س
- بيادر الصمت
- قصر النهاية.. الرمز الاكبر لفاشية البعث
- حارس اصالة لغة الضاد، الاديب الكبير مهدي شاكر العبيدي
- بغداد منحت الفلسفة اليهودية عصرها الذهبي
- فلسفة الجدل والصراع تفقد رائداً متمرساً
- يا موسم البرتقال
- بعث
- أخاديد
- في المنطقة الخضراء..
- ننسون
- مقدمة لمجموعة صلاح نيازي الشعرية -ابن زريق وما شابه-
- ناوكليكان..* في ذكرى شهداء القيادة المركزية
- دمُ بابلَ نور..
- الى أحمد أمير
- أثر الحلاج في كتابات رامون لول
- العراق.. العراق


المزيد.....




- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الهنداوي - فتى العراق مظفر النواب