أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حفيظ بوبا - من ذاكرة البحر














المزيد.....

من ذاكرة البحر


حفيظ بوبا

الحوار المتمدن-العدد: 4472 - 2014 / 6 / 4 - 16:13
المحور: الادب والفن
    


كان يجلس ظهر كل يوم على صخرة عالية فوق منحدر صخري يشرف على البحر، يراقب أمواجه القوية وهي تصفع الصفائح في إندفاع مستمر، كان يرتدي هذه المرة قميصاً زري المظهر وطاقية سوداء وسروالاً فضفاضاً، وفي وضع مضحك كان يفتل لحيته الكثة ويرنوا بعينين جاحظتين خلف نظارة شمسية إلى خط الأفق.
كانت صور الماضي تطفوا على سطح ذاكرته، كما تطفوا تلك البواخر البعيدة التي يراها بشغف المقبل على الرحيل، لكنه كان ينوي الرحيل بفكرة مغايرة، لقد ماتت يامنة قبل خمس سنوات، وتزوج الأولاد، الواحد بعد الآخر، واغتنوا من تجارته التي خلفوه في تدبير شؤونها، كان يفكر في كل ذلك وهو يدري أن آخر دور سيقوم بأدائه على مسرح الحياة سيكون قصيراً بالقياس مع الماضي البهي.


بعد دقائق، جاء صيادان بصناراتهم وأكياسهم المملوءة، حياهم بحركة من يده ثم عاد إلى شروده في صمت رهيب، فمثلا على حافة صلبة، وانشغلا بتزويد بوصات الصيد بالخطاطيف والطعوم، فلبث ينظر إليهما، وقد اكتنفت وجهه المجعد غيمة من الحزن لم يدر لها سببا في قلبه، كان يتحدث بلسان وجدانه كآخر ما اختار في النهاية أن يتلفظ به أمام وجه الحياة، كان يتحدث بأسلوب المراثي عن نتف من لحظات الطفولة، ثم عن عنفوان الشبيبة التي كانت ضجته تجاري ضجة الأمواج لحظة الإصطدام، أما سنواته مع يامنة فقد كانت أحلى ما تذوقته أحاسيسه من اللذات والمتع النفسية والعاطفية، يحاول أن يستعيد كل صورة من قوقعتها، ويبرر بعد ذلك أمام ذاته بأن الحياة قد تغيرت والأهم من كل شيء آخر أن الأولاد قد كبروا وصارت لهم زوجات.

كانت يامنة عندما تزوجها شابة في مقتبل العمر، ناصعة الجبين، رشيقة القوام، هادئة الصوت، وقورة الملامح، عفيفة القلب، وحينما كانت تبسم كانت السماء تمطر زهوراً فوق رأسه ومنكبيه، والآن كل ما تبقى منها هو صورتها الضاحكة مع كل موجة.
فيما كان يسر إلى نفسه بمثل هذه الخواطر، كان الصيادان يتحدثان بصوت مهموس فقال أحدهما لصاحبه بتهكم.
ـ يبدوا أن هذا الشيخ زوج الحاجة الحمداوية.
ـ قد تكون مريضة، فأوصته خيراً بالبحر.
تضاحكا معاً ثم عادا إلى إنتظارهما، وقد كان حظهما من الصيد حتى الآن، سمكتان لكل واحد منهما، وضعاها في دلو بينهما

ـ ما قصته يا ترى؟ هل له بيت وأسرة ؟

رد الآخر:
ـ وما شأننا به، يريد أن يتفرج، هو حر طالما لم يثر شكوكاً.

ـ أنت على حق.

مضت لحظة إثر لحظة، فزادت سمكات الدلو وكانت الشمس تنسج من أشعتها أخاديداَ تقتحم الضفة وتسلط الضوء على بشرته السمراء التي عمرت خمسة وخمسين عاماً، كان يسترجع أغاني الرعاة، وصفير الناي يتخلل كل لحظة كان ينفرد فيها بزوجته، ربما كانت تضمد جراح نفسيته المهزوزة منذ الطفولة، فتندمل كل الشروخ والآلام مع كل كلمة أو لمسة أو عناق..

كل يوم، كانت الألفة تُسكن جسده وقلبه معاً في رياض من نعيم، والآن، الجسد لم يعد له بيت للسكنى، والقلب كذلك، لكنه لا يزال ينبض، ولم يصِبه الهرم.

قالت مرة وهي تبتسم في دلال:

إذا مُت يا إبراهيم، ماذا ستفعل؟

فأجابها بنية اختبارية:

ـ سألبس الحداد، وبعد ذلك سأتزوج.

ابتسمت ولم تنبس بكلمة، لكنه استطرد

ـ لا تكرري هذا القول، فقد يستحيل العيش بعد العشرة.

انحدرت دمعة على خده فكانت علامة واضحة على صبره المنهوك ووقف بعد جمود وتأمل، وجعل ينزل في اتجاه آخر إلى البحر متداركا الصخور ، وفي الأسفل كان الصيادان قد انتهيا، ففككا صنارتيهما وحمل أحدهما الدلو ومضيا يصعدان إلى الأعلى فلم يتبينا الشيخ، لكنهما عثرا على صورة صغيرة لإمرأة في غاية الجمال بجانب الصخرة التي كان يجلس فوقها، تظهر على وجهها ابتسامة مشرقة، فتساءل أحدهما قائلا: لمن هذه الصورة يا ترى ؟
نظرا كليهما إلى أمواج البحر التي كانت كقبضات مسددة تتكسر عند الضفة، وكانت الشمس تأذن بالرحيل

فهز الآخر رأسه بحزن وقال:
ـ ربما هي زوجة ذلك الشيخ، فلم يعد في حاجة إلى الصورة، لأنه قد لَحق بها الآن، فلنذهب يا صاح.



#حفيظ_بوبا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تلميحات نظرية في كتابة تاريخ للأدب
- أزمة المجتمع
- بؤس الأدب
- مع القمر
- الظل المفقود
- يكفي الصمت
- رحيل
- الخطاب الإنهزامي في شعر علي محمود طه


المزيد.....




- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حفيظ بوبا - من ذاكرة البحر