أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مهند البراك - هناك . . عند الحدود (15)















المزيد.....



هناك . . عند الحدود (15)


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 4468 - 2014 / 5 / 30 - 21:11
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


الفصل الثامن
طريق كيله شين ـ غادار

ادت الحرب و الأحداث المتسارعة التي رافقتها، سواء في عموم البلاد او في كوردستان، و تزايد نزول المفارز القتالية، التي صارت تحتاج الى نقاط ارتكاز في شريط الموت الحدودي الذيّ هُجّر و اُحرق . . . لضمان امكانية التحرك نحو العمق. و نقاط الإرتكاز تلك كانت تعني سقف و كمية من المواد الغذائية الجافة و علب الأغذية المحفوظة، تحفظ في مكان يتوفر فيه حطب. اضافة الى خدمة و حماية العوائل التي بدأت تعود الى قراها المهجّرة، و تنشيط الإستطلاع و العناية بتكوين مفارز الإستطلاع . . و حاجات منوّعة اضافية أخرى .
الأمر الذي تطلّب اعادة توزيع و تنظيم القوى الموجودة الى مقرات اخفّ حملاً، مقرات سهلة الإنتقال، و تشكيل مفارز للإستطلاع و جمع المعلومات . . التي تفرض تعاون اوثق مع التنظيم المدني السريّ، الذي يستطيع القيام بالكثير و فق ظروفه الصعبة . .
و قد قامت مفرزة كبيرة قادها ملازم خضر ـ ابو عايد ـ ، ذهب ضمنها صاحب، قامت استطلاع موقع بشت آشان الذي ضمّ قرى بشت اشان، قورناقو، اشقولكا، كاسكان، بولي و مواقع اخرى ذات قيمة عسكرية فيه، و تعتبر المنطقة معروفة جيداً بتضاريسها لأجهزة الدكتاتورية بدلالة وجود آبار نفط مغلقة فيها . . و بدلالة هجوم القوات الحكومية عام 1977 على مواقع قوات اوك التي كانت فيها، و كبدتها بخسائر جسيمة آنذاك.
و قد قدّم ملازم خضر تقريره الذي عرضه على المفرزة، لتبيان صلاحية الموقع لمقرات خلفية للبيشمركةالأنصار بشرط ان لاتكون كبيرة ، و ان تكون خفيفة الحركة، في وقت كانت فيه بشت آشان نقطة اجبارية لمرور المفارز النازلة من نوزنك ـ نوكان الى سهل اربيل و سهل كويسنجاق . . و قد اقرّته المفرزة، عدا مام رسول معاون آمر سرية بشدر، الذي بقي يحذّر من خطورة اتخاذها كمقر كبير للبيشمركةالأنصار، وبقي يكرر ذلك بلا جدوى الى ان نام بعدئذ في جلسة المناقشة، و عند ايقاظه للمواصلة قال :
ـ انا ابن المنطقة، هنا قضيّت صباي و شبابي و حياتي في البيشمركة و اعرف كل طرقها و مزاغلها، و من حقي ان انام الآن لأن لا احد يسمعني. المنطقة مخطورة و قد قدم الإتحاد الوطني الكوردستاني فيها اكثر من مائة شهيد اثر هجوم قوات السلطة على مقره الرئيسي فيها شتاء عام 1977 ، و اريد تثبيت رأيي ذلك في المحضر!
بعد ذلك الإستطلاع . . نزلت قوة تكميلية الى بشت ئاشان و صارت مقراً للفوج الخامس اربيل، و مقراً لسرية مستقلة اخرى فيها و كانت مقرات خفيفة و سريعة الحركة . . نجحت في نشاطها و واجباتها هناك لمدة اكثر من عام .

و تطلب واقع النشاط الجديد من صاحب عملاً دؤوباً ضمن خطط المكتب العسكري، لتخفيف عدد الجرحى و المرضى المزمنين و الراقدين في مقر نوزنك ـ نوكان . . فشارك في ايجاد حلول لهم، و رافق عدداً من قوافل الجرحى و المرضى الذين توفرت امكانية لإيجاد حلول لهم، منها مرافقته قافلة الجرحى و المرضى، الذين توفرت امكانية لأرسالهم الى مستشفى مدينة خانه عبر قرية ميراوة، في فترة كان فيها الطريق سالكاً . . و غيرها، و استطاع ان يكون فيها خارج مقر الطبابة لقدوم اطباء جدد الى نوكان (1) .
فيما تزايدت اعداد الملتحقين الجدد المؤهلين عسكرياً تأهيلاً متفاوتاً، القادمين من الخارج بمساعدة فصائل كوردية في تركيا و سوريا الى منطقة بهدنان، ثم منها الى كوستا ليتجمعوا بعدئذ في الغالب في موقع القرية المهجرة روستي، الواقعة عند سفح حصار روست تحت قمة هلكورد اعلى قمة جبلية في العراق . . حيث تشكّلت هناك سرية روستي التي ضمّت انصاراً متحمسين للقيام بأي نشاط عسكري، بعد ان تدرّبوا في صفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان و في صفوف الحركة الوطنية اللبنانية .

و بسبب ضغوط السلطة التي تصاعدت آنذاك ضد عوائل المعارضين و عوائل البيشمركة، لجأت عوائل عدد من المناضلين الى اماكن ذويهم البيشمركة الموجودين في نوكان في ذلك الوقت . . الأمر الذي اضاف اعباءً جديدة على القاعدة من الناحية العسكرية، اعباءً يمكن ان تكون ضارة و خطيرة فعلاً، في ظروف ازدادت فيها العمليات العسكرية النظامية للطرفين المتحاربين، في المنطقة .
حتى حذّر قسم من ان نوكان قدد تتحول بوجود عدد العوائل ذلك، الى شبه مجمّع سكني اهلي يتطلب ذاته الحماية . . و حذّر قسم آخر من مخاطر تجمع العوائل في مقرات المكتب العسكري، لأنه يغري بمهاجمتهم سواء كان لأهداف عسكرية، او بهدف السرقة و النهب. و ان ذلك التجمع ينبغي وضع حد سريع له، و الاّ فإنه سيستمر بالنمو . . ليسبب كوارث حقيقية .
تقرر في ذلك الشتاء لتوفر الاطباء انتقال صاحب و نزوله الى مقر مكتب الفوج الخامس اربيل المخيّم آنذاك في بشت ئاشان وفق طلبه، و ان يكون عضو هيئته السياسية. و كان مقراً خفيفاً يتكون من ابنية متفرقة، و هي بقايا قرية بشت ئاشان المهجّرة و المحروقة، الواقعة في سفح من سفوح جبل قنديل العملاق، الممتد من كوردستان العراق الى مسافات بعيدة داخل ايران و تركيا.
امّا سرايا الفوج، فقد استقر مكتب سرية اربيل في عدد من بيوت الفلاحين المهدّمة بعد ان اصلحها بيشمركةانصار السرية، الذين اعدوا بنفس الطريقة طبابة الفوج و فرن الخبز. و استقر مكتب سرية كويسنجاق في موقع قرية بولي المهجّرة، بعد اصلاح عدد من بيوتها، اضافة الى سرية روستي التي استقرت في قرية روستي المهجّرة الواقعة بحذاء حصار جبل روستي.
و قد تميّز الفوج بتشكيلته العراقية المتنوّعة القوميات و الأطياف فكان يضم الى جانب البيشمركة الأنصار الكورد، عرباً من المحافظات الجنوبية و الوسطى و العاصمة، كلدانيين من عينكاوا و شقلاوة و هرموطه ، مندائيين و كورد فيليين . . و كانت ساحة عمله آنذاك سهل اربيل و سهل كويسنجاق و مناطق خوشناوتي و المناطق و الوديان المحيطة بجبل حصار روست و الى مناطق قرى رواندوز . .

و فيما كان المزاج العام للبيشمركةالأنصار جيداً و معنوياتهم تتصاعد، و هم يسمعون الإذاعات و هي تذيع انباء انكسارات الماكنة العسكرية للدكتاتورية امام ضربات احد ضحاياها الذي كان جيش البلد الجار و اراضيه التي احتلتها الماكنة تلك، في ضربات سلسلة عمليات " و الفجر " . . التي صارت حتى مارشاتها العسكرية تثير لوحدها حماس البيشمركة . .
في اوضاع صعبة و شائكة ضاع المنطق فيها و ضاعت مفردات الوطنية و حب الوطن، امام ما عملته القساوة الرهيبة اللامحدودة للدكتاتورية و ماخلقته بها من اجواء رعب وحشية في المجتمع اطارت صوابه و مُثُله الطبيعية، بعد ان حوّلت الدكتاتورية مسرح الإختلاف السياسي و الفكري، الى مسرح دموي وحشي لايعرف الرحمة، و اعتمد على ابادة حاملي الفكر المغاير.
و حوّل الدولة بذلك الى وحش منفلت لايعرف الرحمة و لايعترف بحدود سياسية او انسانية في تعامله . . وحش لم يستطع الوقوف امامه الاّ الذي تحدّاه و فقد حياته او اصيب بجرح غائر، لم يستطع جرّائه الإستمرار في تحديه تحديّاً مؤثراً، و احتاج ليعود الى ساحة المنازلة الى جهود مادية و معنوية و فكرية. الى ان بدات على ذلك الوحش، علامات خوف و انهيار بسبب الضربات المتلاحقة التي كيلت له في عمليات " و الفجر " .
التي افرحت كل معارض للدكتاتورية التي تنكرت لأبسط مبادئ الوطنية حين حاربت القوى العراقية بالدم و الحديد و بدأت بإشعال الحروب في المنطقة . . أفرحت كلّ معارض للدكتاتورية، فيما كان يتألم للدماء المهدورة لعشرات آلاف الشباب المساقين لحروبها الرعناء بفرق الإعدامات .
. . . .
. . . .
تزايد القلق و بخاصة لدى آمر الفوج الخامس اربيل علي كلاشنكوف، على مصير قوة الفوج الأساسية، وسط انباء متضاربة، افادت بوقوع معركة كبيرة بين بيشمركةانصار الفوج و وحدات النظام المتنوعة الشاّكة السلاح، و ان معنويات اهالي القرى تصاعدت الى اعنان السماء، فيما وردت اخبار افادت بخسارة القوة لعدد كبير من مقاتليها، في وقت اصرّت فيه قوة الأنصار تلك على عدم العودة الى بشت ئاشان ، حسب مفرزة البريد التي ارسلتها القوة الى مكتب الفوج . . في مسعى منها للثأر السريع لدماء شهدائها لتعزيز انتصارها . . لقد كانت اول اكبر معركة خاضتها منظمة بيشمركةانصار قوات اربيل لحشع ضد الدكتاتورية . .
ففي فجر يوم بارد من اول شهور ذلك العام في قرية سي كاني الواقعة في غرب مدينة كويسنجاق، اصطدمت قوة مشكّلة من وحدات الفوج الخامس اربيل بقيادة مام كاويس، بقوات كبيرة للدكتاتورية و دار صدام عنيف بينهما . . حدثت بنتيجته معركة كبيرة نادرة شاركت فيها مختلف وحدات قوات النظام البائد البرية و الجوية اضافة الى جحوشه ومرتزقته و استمرت اياماً . .
و قد تكبدت فيها قوات الدكتاتورية خسائر جسيمة بالأفراد و المعدات، انسحبت بعدها تاركة جثث قتلاها و كميات كبيرة من المعدات و السلاح و العتاد، استفاد الأنصار من قسم منها و ظهر قسم آخر منها، بعد انحسار مياه جدول الشرغة القريب من القرية في الصيف، حيث استفاد منها الأهالي و عموم البيشمركة، و كانت تلك المعركة هي التي اعادت ثقة جماهير المنطقة بالحزب و بمنظمة انصاره المكافحة اثر خروج الحزب من الجبهة المريرة مع النظام الحاكم قبل ذاك.
في تلك الظروف، ظروف تحطم جبهة حرب قوات النظام كعامل موضوعي هام و نتائج معركة سي كاني الإيجابية الكبيرة على اهالي المنطقة هناك، ازدادت التحاقات اصدقاء الحزب و منهم بيشمركة معروفين سابقين، كالتحاق الهدّاف الماهر محمد اوسطه و اخوانه و كاروخ من رواندوز . . اضافة الى تزايد الهروب من التجنيد و السوق الى الحرب . . و عادة ما كان الملتحقون الجدد يرسلون الى مقرات المكتب العسكري في نوزنك ـ نوكان .
في منتصف ليلة 30 / 31 آذار . . ، شاهد حراّس موقع بولي وميض انفجارات و تراشق قذائف ار بي جي 7 استمر طويلاً، ثم سمعوا اصوات المدفعية تطلق حممها بكثافة و تواصل ذلك الوضع و بشكل متفرّق حتى اقتراب الفجر، و بدأت منذ الصباح الباكر دوريات الهيليكوبتر و هي تجوب و تقصف مناطق حددها قسم بأنها مناطق سرية روستي . .
و في ظهر اليوم التالي وصلت مفرزة بريد من سرية روستي، حملت اخبار اقتحام انصار السرية بقيادة معاون آمرها خضر كاكيل (2) لربيئة " سري سرين " الستراتيجية العاصية، و انهم حصلوا على غنائم ثمينة من السلاح و كميات كبيرة من العتاد و اجهزة الإتصال . . و طلب البريد مجئ د. صاحب الى السرية على عجل لوجود عدد كبير من الجرحى لديها.
هيّأ صاحب اغراضه الطبية في حقيبتين للتحرّك صحبة مام خضر روسي (3) آمر سرية روستي الذي كان موجوداً آنذاك في مقر الفوج ، مع مفرزة بريد سرية روستي في طريق عودتها . . صوب مقر سرية روستي، مستصحبين معهم حيواناً لنقل الأغراض الطبية و الأغطية و طعام و شاي كانت قد طلبته السرية.
تحرّك الجميع بعد الظهر الى موقع " بولي " ، ثم انحرفوا شمالاً سائرين على طول وديان جبال ليوزه، في موازاة طريق دولي شهيدان الواصل الى قرية خانقا . . و وصلوا عند الغروب الى بناية تعود لأعمال صيانة الجسر الأصفر الذي يعبر جدول كلاله، حيث ذهب نصير الإستطلاع الجرئ " ملا عثمان " (4) الذي شارك بفاعلية في اقتحام الربيئة في الليلة الفائتة، ليتشمم امكانية عبور الجدول بالخوض بمياهه، و للتأكد من عدم وجود كمين هناك و ان الطريق صالح للسير .
بعد التأكد من سلامة الطريق، عبروا الجدول خائضين بمياهه الباردة في نقطة ضيّقة حالكة الظلام في تلك الليلة المقمرة في اولها . . ليواصلوا السير صعودا نحو قرية " جيزان " الكبيرة الواقعة عند جبل " شاخي ره ش " ، و مرّوا على بعد بها، سائرين نحو " جيزان خواري " التي كان يصل قربها طريق ترابي ـ صخري يمكن للسيارات ان تسير عليه الى قرب القرية، في منطقة تشرف على قرية دار السلام و رباياها التي شكّلت خطراً حقيقياً على حركة البيشمركة، و كان افرادها يطلقون رشقات من اسلحتهم الأوتوماتيكية، بمختلف الإتجاهات للتدليل على يقضتهم و استعدادهم الدائم .
في الصباح الباكر تحرّكوا من قرية " ماوليان" الواقعة على طريق روستي، التي قضّوا في جامعها الليل . . و بعد مسيرة قصيرة فقط الى خارج القرية، فاجأتهم طائرتا هليكوبتر و هما خارجتان من الوادي العميق المجاور و بدأتا بالرمي العشوائي على القرية و على الطرق المحيطة . . و تفرق الجميع منبطحين ارضاً، مستترين بما هو موجود من صخور و اخاديد صغيرة هناك .
فيما وجد صاحب نفسه مع مام خضر روسي الذي سحب الحيوان المحمّل اليه، و هما في مدخل فوهة كونكريتية كبيرة، اسست في سنوات سابقة للسيطرة على مياه السيول، فاحتمايا في داخلها الى ان انتهى قصف الهليكوبترات . و قال مام خضر، ان ذلك القصف الذي تركّز على القرية و على الطرق المتصلة بها، يجري لوجود مخبر للسلطة في قرية جيزان، وفق معلومات السرية، و انهم لذلك السبب لم يستريحوا في القرية لدى مرورهم بها، رغم تعبهم الشديد في الليلة الفائتة.
و فيما لم يُصب احد بمكروه و واصلوا السير، كان صاحب يفكّر بكيفية خروج الهيليكوبترات المفاجئ من الوادي، و كيف انهم لم يسمعوا اية ضجة تنبئ بقدومها، رغم ضجيجها و هديرها العالي في العادة و هي تطير . . و بينما كانوا يستديرون استدارة حادة، شاهد صاحب طيرين كبيرين من نوع الكاير (5) ، كان كلاّ منهما بجسم ديك عملاق بأرجل طويلة، كانا يتناولان بنهم بقايا فطيسة بغل، غير منتبهين لمرور المفرزة قريباً منهما، يمكن لجوعهما الشديد.
و في تفسير للظهور المفاجئ للهليكوبترات التي لم يسمع احد من افراد المفرزة ضجيجها و هديرها، و لهدوء الطيور الذي لم يقلقه قصف الهيليكوبترات قبل دقائق . . صار واضحاً لصاحب من خلال كل النقاشات . . ان وعورة المنطقة و تعاريجها المعقدة المتداخلة، قد تحجب الصوت و الضجيج كلياً عن السماع حتى من مسافات قصيرة قد لاتصدّق ان وجد ساتر ما !
بعد ان خرجوا من المنطقة الأكثر تعرضاً لمخاطر القصف الجوي و المدفعي و دخلوا الى حوض روستي الواقع بين جبال كلاله و جبل حصاروست العملاق، مرّ الطريق على قرية " جزلنكه " و بعد ان اجتازوها مرّوا على بيت كاك رسول، الذي حيّاه مام خضر و قال انه مسؤول حسك في المنطقة و على علاقات طيبة بالسرية .
و فيما بان عليهم التعب و الجوع، دعاهم كاك رسول للغداء و لبّوا طلبه . و هنأهم على نجاح عملية اقتحام الربيئة الأم في المنطقة و واصلوا الحديث عن شؤون المنطقة . . فيما اعدت النساء الطعام المكون اساساً من "راشي الجوز" مع الخبز و الشاي الذي تناوله صاحب لأول مرة بشعور من الفرح للذة طعمه. و طلب كاك رسول من صاحب برجاء كبير، ان يفحص زوجته المطلقة السراح حديثاً من سجن الفضيلية في بغداد، حيث احتجزت السلطات المئات من عوائل البيشمركة، للضغط على الحركة الكوردية للإستسلام لشروط الدكتاتورية. و قامت باطلاق سراح عوائل من يأسوا من عودة ابنائهم، و من كانوا يعانون من حالات مرضية مستعصية.
و خلال معاينة صاحب لزوجة كاك رسول، تحدثت له عن اساليب التعذيب الرهيبة التي مرّت بها نساء البيشمركة الكورديات و النساء العربيات من الحزب الشيوعي العراقي، اللواتي كنّ موقوفات معهن في نفس الزنزانات، منهن المناضلة الشيوعية ام علي و رفيقاتها(6) اللواتي كنّ يتحدينهم و يستهزأن بهم، كما وصفت . .
كانت زوجة كاك رسول تشكي من آلام لاتنتهي في البطن، بسبب ضرب رجال الأمن المستمر ايّاها على بطنها و هم يرون انها حامل، حتى تسبب لها ذلك الضرب الذي لاينتهي . . نزيفاً اشتدّ و تسبب باسقاط الطفل و فقدانها الوعي، و منذ ان استعادت وعيها و هي تعاني آلاماً شديدة لا تنقطع اضافة الى نزيف متقطع تفقد اثره الوعي . .
و بينما كان يقوم بفحصها بحضور ابنتها، اشتعل القصف الجويّ ثانية وسط الهدير المرعب لأربع طائرات هيليكوبتر، اثنتان ابتدأتا بتمشيط الوادي و الأثنتان الأخريتان بتسديد قذائف مدافعها و رشاشاتها على اهداف مختارة، استهدفت مقر الحزب الديمقراطي الكوردستاني و مقر سرية روستي، اللذين ردّا على القصف، كلاً بدوشكته . .
و بذلك اضطر صاحب الى اعطاء المريضة ما امكنه لإسعافها السريع، و كتب لها وصفة علاجية اعطاها لكاك رسول، بعد ابدائه استعداده لتوفيرها، و غادر الجميع مسرعين بيت كاك رسول الذي احتمى هو و عائلته في موضع اعدّ لتلك الظروف . . فيما واصلت المفرزة سيرها مستفيدة من الممر شبه المغطىّ بالأشجار و الشجيرات المزهرة مع بدء الربيع، وهم يرون اطلال قرية " كرتك " المهجّرة في الجهة المقابلة للوادي الفسيح، التي تواصل القصف عليها ايضاً، رغم انها مهجّرة و احرقت اكثر من مرة .
بعيد الظهر، لاح لهم موقع سرية روستي حيث شغلت السرية بناية مدرسة القرية التي هُدّمت كما هدّمت القرية و أُحرقت، و قام البيشمركةالأنصار مستفيدين مما تبقى من البناء بتنظيفه و إكمال بنائه بالصخور و الطين، و عملوا السقوف من اخشاب الأشجار و غطّوها باغصانها، ثم بقطع الصخور الصغيرة و المفتتة مخلوطة بالطين . .
و كانوا قد اختاروا بقايا بناية المدرسة، رغم اعتراض البعض بكون احداثياتها معلومة للمدفعية، لأن المجاميع الأولى التي وصلت الى الموقع، وصلت في الشتاء الثلجي الفائت و كان عليها ان تعدّ موقعها الجديد باسرع وقت للإحتماء به من المطر و الثلج، و كان ذلك عملاً شاقاً حقيقياً لمجاميع انهكها التعب و الجوع و البرد . . الاّ انها اكملت المهمة الأولى في تثبيت نفسها في المنطقة التي اخلتها السلطات من القرى . . باشادة سقف يقي من البرد و المطر، و يقي من الجوع بما يمكن ان يوفره من طعام للبيشمركةالأنصار .
و انتبه صاحب الى انهم بشروعهم الدخول الى ساحة موقع السرية، مرّوا ببيت ريفي ذي طابقين مشيّد من الحجر، بقي قائماً رغم التهجير و تهديم المنازل . . و شاهد رجلاً يخرج منه و يقفل بابه. اثار ذلك انتباهه، اذ كيف يبقى بيت كبير و واضح قائماً، رغم تهديم و حرق كل القرية ؟ و بينما هو مستغرق في تفكيره، لاح له شارع مبلط يمتد الى مافوق القرية المهجّرة . .
و فيما دخلوا الى ساحة السرية، كان انصارها لايزالون في حالة استعداد منتظرين هجوماً جديداً بالهليكوبترات . . و لاحظ صاحب انه و برغم كلّ مايجري، كانت السرية تعيش فرحاً طاغياً ظاهراً على الجميع، بل و حتى على الجرحى الذين لم يحسوا بآلام جراحهم و بالخسائر امام ما حققوه. . ركضوا لأستقبال الطبيب و آمر السرية الذي لم يكن في سريته عند تنفيذ العملية، و بدى انه كان غير متحمس للقيام بها، لما يمكن ان تسبب من تأثيرات سلبية على عموم حالة المنطقة بتقديره.
في وقت كان فيه معاون آمر السرية خضر كاكيل و مسؤولها السياسي ابو داود (7)، من اشد المتحمسين لها ، فبتقدير المعاون خضر كاكيل ان السرية لديها انصار اكفّاء قادرون على القيام بأعمال عسكرية ناجحة تقويّ من مكانة عموم المنظمة، و رأى المسؤول السياسي، ان السرية بحاجة الى القيام بعمل عسكري و النجاح به، لتقوية لحمتها و شدّها الى الهدف الذي من اجله جاءوا الى تلك المنطقة البعيدة المهجّرة الخالية من البشر، لإن استمرار جلوس البيشمركةالأنصار دون فعاليات عسكرية، لن يؤدي الاّ الى تمزّق و تفسّخ القوة بمشاكل يحملها الركود .
في مهرجان الفرح ذلك و بوجود مام خضر كاكيل آمر العملية، و حيث كانت الغنائم كثيرة بالسلاح و العتاد مكدّسة . . افتقد صاحب ابو داود الذي كان غائباً عن الجمع. و لمّا علم بكونه لايستطيع الخروج من القاعة لشدة آلام عينه التي اصيبت في العملية. اسرع صاحب اليه في الغرفة للإطمئنان على صحته و وجد ابو داود جالساً بجمود و عينه المصابة معصوبة و انزل عليها الجمداني، و بعد السلام عليه و تهنئته على نجاح العملية، الأمر الذي انعشه، استطاع صاحب فهم ماجرى له و ما الضروري الممكن اجراؤه لأسعافه و رؤية مدى الإصابة . .
بعد ان جلب الحقيبة الطبية، بدأ بمعاينة منطقة الإصابة و وجد ان عينه اليمنى اصيبت اصابة مباشرة، حيث كان السائل الزجاجي للعين يُقطّر منها مع الدماء التي اخذ يقلّ نزيفها بفعل عمليات تخثر الدم في الأوعية الدموية الشعرية في محور العين .
و اكثر ما آلم صاحب كان جوابه الصريح الضروري لأبو داود الذي سأله عمّا اذا كان سيستطيع البصر بعينه المصابة لاحقاً، حين اجابه . . . و هو يشاهد السائل الزجاجي الجلاتيني للعين الذي لايُعوّض لا يزال يقطّر منها :
ـ ابو داود !! للأسف قد لن تستطع البصر بها و اتمنى ان اكون غلطان !!
فاجابه على الفور :
ـ فدوه للحزب و للقضية !! (8)
و بعد ان نظّف صاحب الجرح، استأذن ابو داود بضرورة ذهابه لمعاينة الجرحى الآخرين و كانوا :
ابو آذار المصاب في الجهة اليمنى من البطن و في الساعد، باطلاقتي كلاشنكوف اصابته من الأمام ونفذتا من الخلف و هناك شكوك قوية بأن كليته اليمنى قد اصيبت بدلالة تبوله الدموي، ابو فيروز المصاب باطلاقة في عضده و بارتجاج في دماغه بسبب سقوط حجر على رأسه و فقدانه للوعي حينها .
ابو نضال من الديوانية مصاب بإطلاقة في كفه سببت سقوط الكف (9) ، ملا عثمان المصاب بشظايا حارقة من قذيفة ار بي جي اصابت اعلى الفخذين و الساقين . . و قد طلب علاجاً فقط لأستعماله الشخصي دون حاجة للرقود في الفراش، فيما بقي صاحب متحيّراً كيف جاء اذن مع مفرزة البريد الى بشت ئاشان و كان دليلهم الأساسي في المفرزة مع خضر روسي الى روستي ؟؟
و النصير سعدون (10) الملتحق الجديد القادم من الخارج حديثاً المصاب بشظايا قذيفة ار بي جي ، اضافة الى خمسة انصار اصيبوا اصابات خفيفة في مناطق متفرقة من اجسامهم . . و بعد العلاج المتوفر و الفحوص قرر صاحب ان الأنصار الذين يتطلب علاجهم ارسالهم الى مستشفى تخصصي هم : ابو داود، ابو آذار، ابو فيروز و ابو نضال .
. . . .
. . . .
بعد عشاء ذلك اليوم و قبيل الغروب، وصل الى مقر السرية، راعي يجرّ خلفه حصاناً محمّلاً ببيشمركة فاقدَ الوعي، كانت الدماء تنزّ من العصبة المعصوب بها رأسه بالجمداني تعصيباً ثابتاً، قام به الراعي الذي قال انه وجده متمدداً في اسفل الوادي لاحراك به الاّ ان قلبه كان يدق و نبضه و تنفسه محسوسين. حاول الراعي ايقاظه و اعطائه ماء ليشرب، الاّ انه لم يستجب. و في موقف وفاء من الراعي، ضمّد للجريح رأسه، وثبته على حيوانه و اتى به الى مقر السرية، لمعرفته بقدوم طبيب الى السرية التي ضمّت عدداً من المساعدين الطبيين اصلاً .
و فيما كانوا يفكون وثاق تثبيته على الحيوان لنقله الى غرفة في المقر كي يجري فحصه و تطبيبه . . انتبه نصيران الى ان الجريح هو احد الكوادر العسكرية المعروفة لدى الحزب الديمقراطي الكوردستاني البارتي ـ حدك ـ في المنطقة، فطلب صاحب من السرية اخبار مقر البارت، بأن يأتوا الى الجريح و اليه شخصياً للتفاهم على ما يجب عمله مع الجريح، خاصة و ان اصابته خطيرة و قد يفقد حياته من الإصابة ذاتها او من التداخل الجراحي لعلاجه .
بعد ان اتم صاحب فحص جريح الرأس و تبديل ضماده و تشخيص حالته و احتياجاته، وصلت مفرزة من مقر البارت ضمّت ابناء عم الجريح و اقاربه، الذين افتقدوه منذ قصف طائرات الهيليكوبتر الكثيف الذي استمر من الظهر الى غروب الشمس، و اضافوا بأن اسمه يوسف هركي و هو احد الكوادر العسكرية المعروفة للبارت .
بعد ابداء مفرزة البارتي كل الإستعداد لجلب اية ادوية و مواد ضرورية لعلاج كل الجرحى ـ التي اتوا بها بعدئذ ـ ، وافقوا على اجراء العملية الضرورية لإنقاذ حياته، اشترط عليهم صاحب بأنه لن يستطع البدء بأية عملية مالم يتأكد من وجود الضروريات التي يحتاجها لمعالجته علاجاً مؤقتا لانقاذ حياته، و خاصة مواد التعقيم، مواد التخدير الموضعي و محقناته، مضاد الكزاز، مغذي مانيتول اضافة الى مضادات الحيويات و المسكنات القوية .
و على ذلك افرغ الأنصار قاعة مناسبة و افرغوها من الأغراض، و نظفوها من الغبارلإعدادها كـ "صالة عمليات " ، و فرشوا فيها فراش الجريح يوسف هركي، الذي بقي معه ثلاثة من البيشمركة من رفاقه للمساعدة في اعداد الجريح للعملية .
بقي صاحب سهرانا طوال الليلة بجانب الجريح يوسف، لمراقبة حالته و للعناية بالمغذيات التي علّقها له . . و كان يمرّ على غرفة الجرحى لتفقدهم على فترات مناسبة لتلبية احتياجاتهم، معتمداً على قهوة النسكافة و على قراءة و اعادة مايمكن ان يكون ضرورياً للغد من كتاب لجراحة الإصابات، كان يحمله معه دوماً .
مرّت الليلة بسلام عموماً، و في الصباح الباكر جاءت مفرزة من ثلاثة مقاتلين بارزانيين بان عليهم النشاط و الحيوية و قدّموا بأدب و ثقة كل ما احتاجه و كتبه صاحب فعلاً للجريح يوسف . . سرّ صاحب كثيراً لذلك و باشر فوراً بتعليق قنينة المانيتول لإعطائه بالوريد . فيما تعاون الجميع على اخراج الجريح يوسف الذي كان بين الوعي و اللاوعي الى الممر . .
و عملوا على تنظيف الغرفة و تعقيم النايلون المغلف لجوانبها و للأرضية، و بعد ان اخرج صاحب الجميع وضع القرص المعقم القوى لأعداد هواء الغرفة كصالة عمليات، بعد اغلاق الباب و الشبابيك ثم خرج هو ايضاً و اوصد الباب خلفه للفترة الضرورية للتعقيم . . فيما تكلف مساعد الطبيب ابو بافل بأمور تعقيم السرنجات و الأدوات .
و لما سار كل شئ على مايرام، و كان المريض بحالة جيدة اثر اعطائه المغذيات، بدأ صاحب بالعملية يساعده المساعدين الطبيين ابو بافل و علي، و استطاع الوصول تحت التخدير الموضعي الى شظية الصاروخ التي اصابته و كانت مستقرة في جزء الدماغ الخلفي . . و لاحظ انه برفعه الشظية عاد الجريح الى وعيه مردداً كلمات لجمل مفهومة و معقولة و لكن غير مترابطة . . فاوقف نزف النقط النازفة و حافظ على سلامة المتخثر منها بعد تنظيفها بدقة و حذر .
بعد ان نجحت العملية في انقاذ حياة الجريح يوسف، وضعه صاحب على الأدوية و المغذيات و المقويات في الوريد، و كان جسمه يستجيب بشكل جيد للأدوية فكانت صحته العامة تتحسن بسرعة نسبية واضحة . . و سارت الأمور جيداً كذلك مع الجرحى الآخرين.
و فيما كان امر نقل الجرحى الى مستشفيات تخصصية برفقة مساعد طبيب، يقلق صاحب لأن ذلك قد لايكفي للعناية بكل الجرحى لصعوبة حلاتهم و لصعوبات الطريق . . حسم امر نقل الجريح يوسف معهم، ضرورة ان يقوم صاحب بمرافقة مفرزة الجرحى . . و كان عليه ان يواصل تحسين اوضاع الجرحى بالشكل السريع كي يتمكنوا من الإنتقال الى مستشفى، عبر طريق ذي صعوبات كبيرة حقاً . . طريق صعب لاتزال الثلوج تخيّم بقوة عليه، صعوبات تدبير وثائق عدم التعرض، و الى مدى سلامة و امن الطريق .
بعد ايام تحولت فيها السرية الى خلية نحل قسم منها يقوم باعمال الجرحى و القسم الثاني بالأعمال العسكرية و الإدارية النشيطة . . قرر مكتب السرية بالإتفاق مع مكتب الفوج و د. صاحب، كيفية تكوين المفرزة التي ستنقل الجرحى واي طريق ستسلك الى طبابة اشنوية ومن هناك الى رضائية ، في فصل من السنة، عليها ان تقطع فيه جبال و مرتفعات كان الشتاء و البرد القارس لايزالان مخيمان عليها، واضافة الى ان الطريق ثلجي الاّ انه في مواقع منه يمكن ان يكون هشاً في شهر نيسان، الأمر الذي قد يسبب انهيارات تحت اقدام المفارز ان لم تنتبه للتوقيت . . اضافة الى قضية توفير اوراق عدم التعرّض التي تسمح بالتحرك في الدولة الجارة . .
كان على المفرزة ان تنقل معها اسيرين عسكريين احدهما عريف و الثاني جندي اول، وقعا في اسر انصار سرية روستي في العملية، لأنهما قررا تسليم نفسيهما الى ايران . . و كان العريف عودة هادئاً و عرف بتمسكه بالصلاة و التسبيح التي يراها فرض لابد من ادائه لأنه سيّد موسوي عائد في نسبه الى الإمام موسى بن جعفر، على حد اقواله. فكان مرجعاً للجندي المرعوب علي المستجير به ليتشفع له عند آل البيت و الأئمة الأطهار . . كما كان يردد على الدوام.
و تم الإتفاق على ان الطريق الى اشنوية سيكون عبر كيله شين ، و ان الدليل هو احد اقارب يوسف هركي، و ان على الجميع اطاعة الدليل بلا مناقشة، لخطورة الطريق !! . . و ان يجري اعداد حيوانات بعدد كافي لركوب الجرحى و لتحميل الطعام للطريق، لأن الطريق لن يمر على قرى ابداً، و لا يوجد شئ يؤكل في الطريق .
و الجرحى كانوا : ابو داود، ابو آذار، ابو فيروز ، ابو نضال ، و اتفقوا على خصوصية وضع الجريح يوسف هركي، الذي سينقل و يثبت على الحيوان بهيئة جالس. الاّ ان حالته في الطريق قد تتطلب ان يكون راقداً كي يستطيع استلام المغذي، و سيكون تدبير ذلك من الطبيب و بمسؤولية اقاربه الذين يرافقوه، و كانوا بأمرة حمه هركي، فيما كانت مجموعة المرافقين من بيشمركة السرية بإمرة الجريح ابو داود الذي كان من ذوي الخبرة بالطريق .
علماً ان المشكلة الأساسية التي يواجهها الجريح يوسف، كانت الحفاظ على حياته من خطرين : الأول هو ارتفاع ضغط الدماغ بسبب الإصابة، الذي لا يمكن الحفاظ عليه بمستوى طبيعي الاّ بالمانيتول عن طريق مغذي بالوريد يجب ان يستمر عند الحاجة . . والثاني خطر الإنجماد الذي يبقى قائماً مادامه لايتحرك و هو ينقل في درجات حرارية واطئة جداً، رغم تهيئته لمدة لابأس بها حيث بدأ يأكل بنفسه اطعمة مختارة تناسب حالته بعد عودته لوعيه، و بعد توقف التقيؤ الذي صاحبه بداية . .
كان على المفرزة ان تتحرّك عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل . . لأن عليها ان تعبر قطعين من قطوع جبلية عميقة يمر عليهما الطريق، حيث لايمكن عبورهما بالسير في اسفل القطوع لأمتلائها بالثلج من جهة و لمخاطر الإنهيارات الثلجية التي تحدث مراراً هناك و تتسبب بموت المارّة طمراً بالثلج . . سواء كانوا اهالي او بيشمركة او لاجئين، و انما يتحتم السير هناك على جسر ثلجي !!! ـ من الثلج فقط !! ـ . . يجب الوصول اليه قبل الرابعة صباحا، و الاّ فإن مفرزة كبيرة كمفرزتهم، و تتكوّن من عدد كبير من البيشمركة باسلحتهم و حيواناتهم . . يمكن ان تهدم ذلك الجسر الثلجي، لأنه لايتحمل ثقلهم بسبب هشاشة الثلج بعد حدود تلك الساعة . .
في الموعد المحدد بالساعة الثانية بعد منتصف الليل، و بعد تثبيت الجريح يوسف هركي جالساً على ظهر الحيوان و تغطيته باغطية و نايلون و تعصيب رأسه بعصّابة اضافية كذلك، طلب المسؤول السياسي للسرية الجريح ابو داود من العسكريين الأسيرين ان يحافظا على السير وسط المفرزة و ان يحافظا على الهدوء، و قال لهما ان ايديهما مطلقة و ليست مقيّدة، لثقتهم بهما لأنهما بريئان وان المجرم الوحيد في هذه المأساة هو الدكتاتور. و اضاف و هو يلاحظ ان الجندي علي كان خائفاً جداً !! موجهاً كلامه اليه :
ـ اخي حافظ على هدوئك، و لاتقوم باعمال صبيانية قد تؤدي بها بحياتك لأننا نمر بطرق صعبة، و لاتخرج عن مسير المفرزة والاّ فان البيشمركة يطلقون النار عليك ! و صاح عليه قائلاً :
ـ اهدأ فانت اخونا !!
بدأت المفرزة بالسير، و انتبه صاحب الى ان البيشمركة المرافقين لـ يوسف هركي يحيطون به من كل الجهات، في نموذج مؤثر لقوة التماسك العشائري في مواجهة المحن، و ساعد على ترتيب جلوس ابو آذار على سرجه، رغم انه في وضع مسيطر على حيوانه و ثبات جلوسه عليه، فيما لاحظ ان جميع الجرحى الآخرين جالسين بشكل ثابت على حيواناتهم . .
ساروا على طريق جبلي مطروق بين الثلج، يتسع و يضيق بشكل لايعيق تلك المسيرة في ليلة مقمرة ، و بعد حوالي الساعة بدأ الطريق بالصعود التدريجي عبر مدرجات كانت ترجّع وقع سنابك الخيل و البغال على إيقاع منتظم، كما لو انها كانت الواحاً صخرية متدرجة بنيت لمعبد كبير لحضارة قديمة هناك . . و كانت المدرجات تقود الى ساحات علوية شبه مستوية واسعة مغطاة جزئياً بالثلوج، التي بعد اجتيازها تأتي مدرجات صاعدة اخرى . .
سارت المفرزة بخطى ثابتة و بلا ارتباك، عكس مهارة الدليل الذي يكون في العادة من اهالي المنطقة، حيث لكل منطقة ادلاّؤها المختلفين بعضهم عن بعض في نوعيات السلوك و درجات المعارف . . . في مناطق كتلك تترصد المارين بها في ذلك الزمان انواع المخاطر و المفاجآت، و لتفاديها يتطلب الأمر معرفة تفصيلية بارض المنطقة و بالقاطنين فيها ان وجدوا او المتواجدين على ارضها فصلياً، و معرفة بالجبال و الوديان و عيون الماء ( ينابيع الماء) او اية مصادر اخرى . .
و تذكّر صاحب، حين أجبروا يوماً على اجتياز قمم جبل حرير الممتدة على طوله البالغ عدة كيلومترات، حين هدّهم العطش و الجبل خالي من الماء على حد معرفتهم . . فيما سمع قبلاً ان جبل حرير الخالي من الماء يتوفر الماء فيه في قمّته !! حينها لم يصدّق ذلك و اعتبره لغواً اذ كيف بجبل خالي من الماء، يحتوي على ماء في قمته فقط ؟ انه لاينسى كيف ان دليلهم يومها قال نفس ذلك القول على جبل حرير، و اومأ الى كوم من الحجر قائلاً ان عيون الماء تقع هناك !! و توجه اليها وهم يتبعوه الى ان وصلوا الى حفرة تشبه البئر و لكن قاعها جاف، و على الباحث عن الماء ان ينزل في تلك الحفرة التي هي بعرض شخص واحد فقط الى عمق قامتين ليجد ثقب بسعة كفيّن يطلّ على مجرى داخلي صغير للماء . .

(يتبع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. بدأ دخول اطباء جدد من الخارج الى كوردستان، بشكل خاص و متواصل منذ ايلول /تشرين الاول عام 1979 بمجئ د. غسان عاكف ( د.عادل) من لبنان الى بهدنان، د. ناظم الجواهري (د. دلشاد) من الاتحاد السوفيتي الى السليمانية، د. ابو كوران من يوغسلافيا الى بهدنان . . اطباء الاسنان: ابو الياس من لبنان الى نوزنك، د. ابو بدر من سوريا الى بهدنان . . اضافة الى اعداد كبيرة من المساعدين و المساعدات الطبيات
2. خضر كاكيل ؛ من اهالي رواندوز، احد قادة البيشمركة البارزين، خاض العديد من المعارك وتدرّج بالمسؤوليات، معاون آمر الفوج 21 / ليوزة . كان لألتحاقه الأخير بالبيشمركةالانصار دوراً كبيراً في رفع المعنويات والتحاق اعداد جديدة من ابناء المنطقة . مارس الصيد صيفاً وشتاءا للاستطلاع، و من خلاله كان يراقب الوحدات الحكومية و يخطط لتحقيق اهداف جديدة. كان الرائد الأول لعمليات اقتحام الربايا العسكرية التي اعتبرَ، ان نجاحها كان سيدفع ربايا النظام ومرتزقته الى الأنسحاب، وسيفتح ابواباً كبيرة امام نجاحات اكبر للبيشمركة . مركّزاً على مهاجمة الربايا المطمئنة القائمة على اعلى القمم ، الأمر الذي كان يسهّل اقتحامها اذا أُحسنت المفاجأة، و لكونه سيرعب الربايا الأخرى، التي سترى انها قابلة للسقوط في كلّ وقت بعد ان سقطت الأكثر مَنَعَة . وكان يعلّق بان بعض الخسائر مقبولة لأجل تحقيق مثل تلك النجاحات الستراتيجية. قضى في بشت ئاشان 1983 في حرب اقتتال الاخوة.
3. مام خضر روسي، كادر انصاري و سياسي معروف في اربيل، اشتهر بقدراته بشؤون العلاقات مع العشائر، و بنجاحه في عديد من المهام التي تكلّف بها، حتر صار آمر فوج 21 ليوزة عام 1982 . و قد لُقّب بالروسي لإكماله دراسة في العلوم الإجتماعية في روسيا .
4. ملا عثمان . . (توفيق سيدا) ؛ كلداني من عنكاوة ـ اربيل، و لشجاعته و نشاطه الكبير صار آمر فصيل ثم معاون آمر سرية، و بعدئذ آمر سرية خوشناوتي . قضى في كمين في ايلول عام 1984 ، في اقتتال الأخوة .
5. طيور كبيرة بحجم نسور الجبال، الاّ انها تأكل الحيوانات الميتة و الفطائس . . في سلوك يشبه سلوك الضباع على الأرض، باللاتينية Geier .
6. ام علي، عائدة ياسين معلمة من محافظة البصرة . . احدى القياديات في الحزب الشيوعي العراقي، و عضوة قيادة رابطة المرأة العراقية، اضطلعت باخطر المهمات حين كانت المسؤولة الرئيسية لتنظيم حشع حينما واجه اقسى هجمة عليه من قبل الدكتاتورية في عام 1978 ـ 1979 ، اعتقلت و عذبت بوحشية، حتى الموت . .
7. ابو داود، كادر حزبي فلاحي من محافظة كربلاء، من اوائل الكوادر الذين التحقوا بقوات البيشمركةالأنصار بعد دورات تدريب و مساهمة في الأعمال العسكرية للمنظمات الفدائية الفلسطينية في لبنان، قاد عدة مفارز قتالية ناجحة للبيشمركة في مناطق بهدنان و بالك، و بعد اصابته في عينه في عملية اقتحام ربيئة سري سرين، ارسل للعلاج في اوروبا و عاد للحركة، وشغل عضوية مكتب فوج 31 اربيل، اثر الأنفال حاول الخروج مع مجموعة ذهبت عن طريق افغانستان، و توفي في حادث سيارة في كابول العاصمة مطلع التسعينات .
8. فداءً للحزب، كتعبير عن اعتزازه بما قام به في العملية رغم خسارته عينه، و عينه لا تعني له شيئاً امام القضية التي يفتديها بحياته . .
9. سقوط الكف، تدليّ الكف على عظام الساعد، لإصابة اعصابها و عطلها . .
10. سعدون، وضاح حسن عبد الامير، عربي من مواليد كربلاء . . ترك العراق بداية شبابه اثر حملة الدكتاتورية ضد القوى الديمقراطية والحزب الشيوعي العراقي، . . قطع دراسته في الخارج ـ الاتحاد السوفيتي ـ والتحق بصفوف منظمة الأنصار وتدرج في المواقع و وصل الى آمر سرية خوشناوتي . . ساهم وقاد العديد من النشاطات و المعارك العسكرية والجماهيرية الناجحة . . عضو المكتب السياسي لـ حشع عضواً في البرلمان حتى اغتياله على يد ارهابيين اواخر عام 2004 .



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هناك . . عند الحدود (14)
- هناك . . عند الحدود (13)
- هناك . . عند الحدود (12)
- هل عادت انتخابات الفوز ب 99,9 %
- هناك . . عند الحدود (11)
- هناك . . عند الحدود (10)
- هناك . . عند الحدود (9)
- هناك . . عند الحدود (8)
- هناك . . عند الحدود (7)
- اين -الدولة الجديدة- بديل الدكتاتورية ؟
- هناك . . عند الحدود (6)
- للإسراع باعلان نتائج الإنتخابات !
- هناك . . عند الحدود (5)
- هناك . . عند الحدود (4)
- هناك . . عند الحدود (3)
- ما معنى الإنتخابات و الى اين ؟
- هناك . . عند الحدود (2)
- هناك . . عند الحدود (1)
- ثمانون عاما من اجل قضيتنا الوطنية . .
- الشعب بين حقوقه و بين تقاعد الرئاسات


المزيد.....




- وزير الدفاع الأميركي يجري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الـ -سي آي إيه-: -داعش- الجهة الوحيدة المسؤولة عن هجوم ...
- البابا تواضروس الثاني يحذر من مخاطر زواج الأقارب ويتحدث عن إ ...
- كوليبا: لا توجد لدينا خطة بديلة في حال غياب المساعدات الأمري ...
- بعد الفيتو الأمريكي.. الجزائر تعلن أنها ستعود بقوة لطرح العض ...
- السلاح النووي الإيراني.. غموض ومخاوف تعود للواجهة بعد الهجوم ...
- وزير الدفاع الأميركي يحري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...
- دراسة ضخمة: جينات القوة قد تحمي من الأمراض والموت المبكر


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مهند البراك - هناك . . عند الحدود (15)