أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد جهاد - المحطة - قصة قصيرة














المزيد.....

المحطة - قصة قصيرة


محمد جهاد

الحوار المتمدن-العدد: 4467 - 2014 / 5 / 29 - 13:10
المحور: الادب والفن
    


في محطة قطار القرية المنسية لا شيء سوى مصباح متدلي من سقف باحتها، خافت الضوء، مترنح، يستجدي السكون والريح التي بلون الغبار تكاد تقتنص منه ما بقي له من بريق.
لا مسافرون يثيرون الضجيج ولا حتى طير اضاع اهله يهفو مضرجا بالحنين وينوح مستنجدا، حتى جدران المحطة خلت من شتائم الصبية والسياسين المتصابين وقد بدت حائرة هي الاخرى وكانه معبد هاجرت اصنامه قبل ان تعبد.
تشتد الريح لتخفت قليلا ثم تشتد، والنواميس باجنحتها التي غدت بلون الغبار ما تكاد تقترب من الضوء الا وتكون نادمة على يوم ميلادها في تلك القرية التي عطش نهرها قبل ساكنيها.
اوراق الاشجار اليابسة تندفع للرقص بين ناصية وناصية بدوامات متلاحقة وتهفو لتطير قليلا ثم تهوي من سكرة الموت الساكن فيها لتمسح بوجنتيها المتكسرتين ارضية الرصيف الذي ما عاد يجدي الاعتناء به.
ها هو القطار المبطيء يجتاح صمت المحطة المريب بهدير صافرته الازلية النائحة وتمتمات عجلاته التي تزلزل الارض وتوقد النار في احزان الناس القاطنين في الجوار، النائمون اليقظون الذين اعتادوا سماع قصائد واغاني تشجب جبروت هذه الصفائح الفولاذية المطرزة بالنوافذ المهترئة أطرها، وقصص و روايات عن سرقة القطار اللعين لاحبتهم، غيداء وحمد والريل وما ادراك ما الريل.
يتقدم القطار ببطيء شديد مقتحما ظلمة الليل بمصابيحه الساطعة فتدق اجراس المحطة سبع دقات متلاحقة لتعلن وصول المارد الجبار الذي لا يملك سوى القسوة والصياح ونفث البخار ولا يقوى على السكون دون ان يسمع الدنيا صرير انزلاق دوالبيه الحديدية فوق سكته الفولاذية التي ترافقه اينما ذهب.
يقفز الفتى ذو الحزام الجلدي الاسود الغليظ من المجهول، حافي القدمين، بشعره الفاحم المغبر مهرولا نحو باب القطار حاملا في جعبته ما قد يسوّقه الى الركاب الحالمين بالوصول الى الضفة الاخرى في فجر الغد حاملين معهم احلامهم واشواقهم وهمومهم وحتى اوهامهم.
ما كاد يصل الفتى اليافع الباب حتى فتحت على مصراعيها وبانت الوجوه التي اصابها الخدر من سطوة الكرى ونشوة الوسن متاملة ان تشتري مما حمل من طيب اهل قريته وبراعة انامل امه الشيماء التي ما زالت تسكن بيت الطين وفي الصباح تعجن فضلات البهائم بالقش والتبن لتوفر الوقود لخبزها.
انتفض الشيخ المتجمد الملتحف بعبائتة المتهرية من خلف كومة من احجار البناء المركونة قرب الجدار متفحصا الوجوه كجندي يستطلع من ملجأه الشقي حركات العدو المريبة، يبقي راسه فوق ساعده المستريح على كومة الحجر في وضع لا يدل على قرب المعركة، وحتى اجفانه السمر التي اعتلتها خطوط الطول والعرض ما زالت رغم سكرتها المعلنة للجمهور تتيح له الرؤية بوضوح.
دقائق ودوى صفير الاحزان وبكل قسوة نفث القطار زفراته الاولى المفعمة برائحة الوقود على سكة الحديد التي حملته وهنا على وهن، وما زال الفتى بالحزام الاسود الغليظ يعارك بلواه فلا يقصيه الخطأ الحسابي ولا الناس تغسل ذنوبها في التنازل عن ما بقي لهم من فتات العملة وها هو القطار الذي لم يعرف الرحمة يوما يصفر ثانية صفيره النهائي للمغادرة ليصمت كل شيء الا محرك القطار وصريرعجلاته التي بدات تنزلق بهدوء لتجر العربات واحدة تلو الاخرى الى مصيرها المحتوم.
استدار الفتى ذو الحزام الاسود الغليظ نحو مصباح المحطة المغبر متحسبا لطريق العودة وهو يجر ذيول الخيبة من مهنة لم تزده الا شقاءا وشقوقا في قدميه العاريتين ولا شيء يواسيه في مصابه حتى تمتمات المديح من حنجرة امه الحنونة عند عودته.
اقترب الفتى من كومة الحجر وما زال المقاتل الشيخ الملتحف عبائته يمشط ساحة المعركة من خلال جفونه المصابة بخطوط الطول والعرض حتى نظر اليه بازدراء شديد ثم حاول تجاهله عند الوصول اليه كي لا يسمعه قصة ابنه الذي سيعود يوما في مثل هذه الساعة حاملا معه الامانة وهدايا له ولامه التي تعيش في الجوار بصمت وخشوع.
هل لمحت حمد، بصوت خافت وكانه يعرف الجواب مسبقا، انه يرتدي عباءة بنية اللون مطرزة بخيوط بيضاء؟
هو لن ياتي، اجاب الفتى ذو الحزام الاسود وهو يضع كيس الطعام قرب جذع الشيخ المتآكل، هذا عشاؤك، لن ياتي اقسم لك لن ياتي، لن ياتي وانت هنا طول الوقت، اذهب واهجع في دارك الذي تركته منذ عشر سنين، عد لرشدك أما مللت.
سيعود لقد حلمت به عائدا، اجاب الشيخ، لكنه اطول من قبل لقد كبر وصار رجلا، لقد كان يصيد السمك بكل مهارة ويغني بصوت عذب عن غيداء التي احبها، لم يكن عدلا، ولكنه سيعود ليسقي الزرع والدواب ويسكت الكلاب النابحة، اقسم لك سيعود.
لم يابه الفتى وهو يدخل البيت الطيني لامه الحنون وهي شاخصة امامه فرمى الجعبة وما حملت على الحصير المفروش في الباحة منذ الازل مستنكرا ما جنته يد القضاء و جدوى الدعاء من امه وان كانت بالرجاء لطول العمر له.
اعانك الله حمد، ولدي الحبيب، هل انت تعب، استرح واشرب قليلا من الماء، لقد يبست مشارب البهائم وعلينا ان نحفر الساقية اكثر في فجر الغد، هل اوصلت العشاء لابيك؟
يجرد الفتى خصره من الحزام الجلدي الاسود الغليظ ويستلقي على الفراش القطني المتعكر ليرى امه الحنون بعد قليل تغطيه برفق كي لا توقض الغبار وتطيل الدعاء له وهو يحلم بعودة المياه الى مجاريها في فجر الغد الذي سيطول انتظاره.



#محمد_جهاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدان
- محمد البو عزيزي
- دار دور وطن مهدور
- الى اخي الشهيد ابراهيم لفته
- في العام التاسع بعد الالف
- وطن من طين
- فطور عادل
- مرشك باللغة الكردية دجاجة
- في صفوف المخابرات الامريكية
- الفضائية العراقية ... زووم- ان
- ألعبث بالشموع
- طبخ سمك الجرّي على طريقة جيني و رامسفلد
- الملابس الداخلية و الامبريالية
- مصوغات وردة
- أليس سهلا أن تكون عميلاً لدولةٍ اجنبية؟
- وزيرٌ لحقوق الانسان ألعراقي أم ببغاء؟
- من منا الحمار؟؟
- ألدانوب ألأزرق وحلم الحكومة العراقية الجديدة
- حجه قدري وشفه صدري
- الحمار والمائدة المستدير


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد جهاد - المحطة - قصة قصيرة