أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الواحد مفتاح - قصيدة المعنى في ديوان قحطان جاسم - تجليات العزلة















المزيد.....

قصيدة المعنى في ديوان قحطان جاسم - تجليات العزلة


عبد الواحد مفتاح

الحوار المتمدن-العدد: 4466 - 2014 / 5 / 28 - 23:17
المحور: الادب والفن
    


هناك
في أعالي الأنهيار
عند أقصى لمحة يأسٍ للكونِ
سألمسكِ بتؤدةٍ نادرة،
أهديكِ قلقَ الجذور
ومدى للأستراحة... "تجليّات العزلة" ص 27

إني أروم هنا، ومن منطلقات مختلفة عبر الخطاب الواصف، الذي أحاول مراوغة علانية، للنظر إلى هذه التجربة، أن لا أستعجل نتائج مرابط التحليل، وأحكام القيمة التي أُشبعَت تداولا واستهلاكا، ف قحطان جاسم الذي مرّن كلماته طويلا على تلك النظرة الحاذقة لعين القارئ، والتي يحضر المعنى مترقرقا داخلها، كأنه يحتفل بنفسه
إن المشاكل المربكة التي تجدني أنزاح عنها هي تلك النظرة النقدية الشعرية حتى المابعد حداثية، التي يصير لها أن تصبح أداة لمحاكمة النص، أو في أرفق الأحوال تعنيفه، كائنا من كان هذا النص، أكثر مما تقترب منه، ما أسميه بسلطة توجيه الممارسة الشعرية، إلى مربعات محسوبة تماما كما كنا نعرفه قديما بالإيقاع والروي مثلا ... أترك هذا لأن ما يهمني هي اللغة وإشراقاتها في المعنى ومحاولة الكتابة من الداخل التي يجيدها جاسم. فنصه ليس أحاسيسا وأفكاراً تسبح في فضاء تعبيري، ويفترض وجود القارئ المكمل له، بقدر ما هو تنوع وارتجال معرفي ، هو توليف أكيد للقصيدة الممكنة .
بناءا على إشارات عديدة سأعمد إلى نص قحطان جاسم ، كحضور ووعي بالكينونة وتمظهراتها الإصطلاحية مع علائق الجدلية، واللغة في آن لأقول أن أسئلة كثيرة تندلع فينا، لمجرد التوغل داخل عالمه الشعري، فهو الأتي عن ذات كاتبة، بها شاغل ثقافي راسخ ،ركبت أجزائه بإتقان داخله، لذلك تجد النص رزين ومليء لا يبحث عن مشابهة كما الرسم المحترف.
فالشعر كبرهة تشتاق إلى المجهول، تحسّه هنا كأنه يمتحن البياض على صبر احتمال ما يسببه، من أناقة فادحة، أناقة لم نعتدها في خضم مطاحن التجريب العربي، داخل القصيدة وما يترتب عنه من ندوب مبرحة عليها، فكثيرون ينشرون قبل أن تختمر التجربة في لا صبر داخل العمل وتسلق يوقعون فوقه أسماء من ضباب. فهذا هو ديوانه الثاني، بعد ديوانه الأول " رؤى في مملكة الغياب" عام 1992، الذي اعقبه صمت كال لأكثر من 15 عاما، دون ان يعني ذلك توقفا عن الكتابة، كما يقول هو، بل سعي دائم لتنقية التجربة والأحاسيس والنظر بعمق للمعاناة الوجودية.
إن ورقتي هذه واستحقاق انتسابها إلى القراءات الشعرية، لا بد أن تفصح عن ذلك التكتم الرائع، الذي يستوقفني في النص، فلغته جديدة وتبين عن أصالة فذة، لا تدين لشيء غير ذلك النحت المبرح الذي خطه الشاعر في كامل جسدها، فقحطان جاسم يكتب مثل حطاب لغوي ساهر ..قصيدة المعنى عنده، هو توازي أستنبطه هنا بالرغبة في القصيدة / عند العزيز شربل داغر، وهو تقاطع أجد له أكثر من اختلاف تاريخي أو تنظيري داخل الحقل الواحد فما بالك بالإثنين، لكن جمرة العمل ونسقية البحث داخل الفعل الشعري وتمايزه، ما يعطي هذا التقاطع أفق الكتابة، وهو تقاطع غير لازم للإبدلات الشعرية للتجربتين، لكن محتواه عبر الحرية كفعل مضاعف للكتابة تام، كما الجنس الذي هو مضاعفة للطبيعة .
وهو الديوان الذي أرى إلى استقباله بارتياح نقدي مهم، هو المكتوب باللغة وأوزان صفائها، ما يجعل من أبجدية هذا الشاعر، كحصيلة ثقافية عربية دنمركية معمقة معلما رصينا، في مشهدية الشعر العراقي، أدعو أخيلتي إلى وليمة استقرائها بعشق، فهي أبجدية تحمل معيارها في صلبها أغنت القصيدة المعاصرة والجمالي بصورة عامة .
قصيدة "المعنى ":
يلح عليّ وأنا أتوغل في العوالم الممكنة لهذا الديوان أن أجترح "قصيدة المعنى" كمصطلح إجرائي، أقترحه الشاعر ذاته في مقابلة معه في صحيفة الصباح العراقية بتأريخ 6.11.2013 ، به أقترب و أرسم لأي رؤية قرائية لهذه النصوص، وهي نصوص لا ترسم شاعريتها على قياس اللغة بقدر ما تتوغل ككتابة في اللامتوقع، ذلك ما يوفر كثرة الأساليب واختراقها لخط الشكلانية التعبيرية إلى اللعب الجاد، اللعب الأكيد بالتخييل، ليس فقط باعتباره فضاء للمعرفة الإنسانية والأدبية ، وإنما كشكل من أشكال تحقق للفعل الرائي لما هو فلسفي في امتلاك متميز للبلاغة الإستعارية المتفردة .
إننا لا نستطيع العمل على النص تفكيكا في حصر للجانب الفني دون إهمال الخوض في خصوصيات الدلالات التي يكتنفها في رغبة من الإنسلاخ من متراكم النظريات النقدية في المدونة العربية والتي لم تحالفها الجرأة بعد لمداواة كثير من يقينياتها .
هذا ما يجعل قراءتها مفتقدة للحيوية في الكثير من نماذجها، رغم أن قصيدة النثر أو القصيدة البيضاء أو ما نصطلح عليه الآن بقصيدة "المعنى" عند جاسم استطاعت تحقيق بصمة لها سمتها الخاصة في الاقتراحات الجمالية على هذه النقدية المستكينة في برجها العاجي ومدارسها الكسولة. فالمشهد الشعري لا يحتاج إلى كثير تحليل للانتباه أنه يسير بسرعتين مختلفتين واتجاهين متباينين؛ الاول منتج ويتجاوز عميقهُ رديئَه بفعل الزمن أو التمّيز اللامع، والثاني يكرر نفسه ويتسم بإنتاجية ضعيفة ومنفصلة عن التحليل الجمالي -المعرفي .
ما يميز القصيدة الكرستالية أو "قصيدة المعنى" هنا، أنها تنطلق من الحافات الصعبة للكتابة وتجاوزها الإبلاغ المظهري للمجاز أوالتشبيه كمسببات لصورة شعرية وثيقة الصلة بالموروث الكلاسيكي، إلى الكتابة بضوء المعنى وبياضه، وهي كتابة ليس شرطا ان تحقق لي - كقاريء- ابدالات قرائية لتلتف على توليدات التقاطية لها تماما، كما يجنح كثيرون في إنتخاب للغموض والاصطفاف وراءه طلبا لعمق مبهم وفي غالب الأحيان يكون معدم .
لا أريد هنا تحصين ما أذهب إليه بجر التجربة إلى مفهومية مربوطة بحقل نقدي مشحون بحمولات جانبية، بحيث أن النص وما يفيض عنه من لمعان باعتباره تنويعا في قصيدة النثر يجعلك ترتهن إلى التفكير ليس في تمظهره الخارجي بل فيه وبه، وهي تجربة لا يمكن النظر إليها فقط كموضوع للبحث وإنما أيضا كوسيلة للتحاور داخل هذا البحث على شكل أسئلة ذات آفاق مفتوحة:

الطبول وأغاني الحرب
النياشين المعطوبة على صدور المخصيين،
التراثُ المزدهرُ في الظلمة،
النواح
ومواكب المهزلة
أليست تلكَ هي تأريج بلاد
قادتني
الى عتبات مهجورة
وللعبةٍ رخيصةٍ تلاحقنا كلّ يوم؟ (ص19 :ديوان تجليات العزلة)

هذه العتبات التي ينتهي اليها الشاعر، بفعل التدمير الذي سببتهُ اللعبة الرخيصة، يسعى عبرها لكي يضع لبنات أثر شعري لا يدين فيه إلا لفرادة صوته وعميق بحثه كأحد شعراء المنفى العراقي، كما ينظر للمفهوم مجموعة من النقاد. يقول الكاتب العراقي جبار ياسين (المنفى هو أشبه بحالة اكتشاف الثمرة المحرمة وبالتالي لحظة الاكتشاف هي لحظة معرفة ومن الصعب التراجع عن المعرفة) وتبقى قصيدة المنفى مؤشرا لمرحلة ثقافية كاملة من عمر المنجز الشعري العراقي فشعراء الخارج هم مكوّن أساسي من حركة الشعر داخل هذا البلد فقط مع مساحة أكبر من الحرية لما على الحركة في الداخل من التعامل مع المحاذير السياسية والمصاعب الثقافية
إن الشاعر خارج بلده لا يمكن إلا أن يكون ذا وجدانية طليقة العنان. فتجربة الغربة وتداعياتها لا يمكن إلا أن يكون الإنسان أو التفكير في هذا الإنسان سواء ذات أو مطلقا محورا رئيسيا لها وهذا ما نلمحه في منجزات مهمة لشعراء عرب اغتربوا كمحمود درويش وسعدي يوسف
إن المكان –سياسيا- كأحد المكونات اللامفكر فيها داخل النظر للمتن الشعري إلى جانب الحرية كفعل مضاعف للإبداع يتداخلان هنا كشرط أولي –ما تحت مسودة القصيدة- في تجربة الحركة الشعرية العراقية والعربية عموما حيث التداخل بينهما تداخل إضاءة متبادل وهو تداخل أساسي لقراءة هذا المتن الشعري الذي يُعَود نفسه عبر الجمالي على لمس الحدود العميقة لأسئلة الذات والتفكير في الوجود.
فجاسم واحتكاكه بالأدب الدنماركي و سعيه الى ترجمة بعض هذا الأدب إلى العربية، هو نفسه الفعل الذي أدّى إلى توسيع نظرته التجديدية للكتابة الشعرية والتسلح بجرأة غير معتادة على مستوى التجريب داخل النص مع الحفاظ على الخيط الرفيع لشعرية الممارسة الخاصة، لهذا تجد أن معجم وتقنيات هذا الشاعر لم تركن إلى اقتراف أدب الاغتراب كصوت لجرح عالٍ، كأنها السمة الرئيسية، بل تكاد تجد صعوبة في تصنيف هذا الشاعر، لكونية القضايا المطروحة في سياق لغوي، هو في آن واحد مألوف ومختلف، وهو ما يشكل العمود الفقري لهذه التجربة

تجليّات المعنى وإشراقاته:

تندرج قصيدة /ديوان تجليات العزلة، ضمن الفضاء الإبداعي الخاص، الذي تلمع فيه الممارسة الشعرية لقحطان جاسم، وهي ممارسة تستعيد تلك النظرة القحّة، ثرثارة المعنى التي يدخرها لنا الشعر، كمبنى يحاوره الشاعر أعلى من فعل جمالي يرغب الإفصاح عن البشري في مستوى من مستوياته، فقصيدة المعنى كعتبة عنوانية أضعها هنا للنظر، لهذا المنجز الذي تتعاقب داخله فصول عديدة، مأخوذة بكليتها، ضمن هجرة النص الصدى إلى النص المعنى، لدرجة تجدك ترى إلى الشاعر يكتب الشيء الذي يحسه لا اللغة التي يحبها، يُغمض كلماته في القصيدة وينفتح على أسئلة الدهشة وأصطفاء الإيقاع.
يحضر المعنى في قصيدة الشاعر كأنفصال عن بلاغة المعروف، لا تجسيدا لما ينظر إليه بعين الخيال، بل تثويرا للمغامرة الممكنة لفعل شعري ينزاح عن معطف "الصنعة" والمتداول في جوهرية لا ترتيبية للكلمات، بقدر ما هي ما تستطيع نسجه هذه الكلمات وحتى هذه الإستطاعة لا أبتغي أن أتحدت عنها كإقرار للفض وإنما عبور وتجاوز يلتقط بهاء الكلمة ومجهولها .إن إبداعية هذه القصيدة تلمسها من سعيها المتواصل لتطوير شكل كتابتها وامتلاك ناصية الفرادة والخصوصية
تتخذ الذات الشاعرة هنا شكل النطفة التي تتشكل بها ملامح القصيدة لنغدو أمام تعبير لغوي بأبجدية حلولية ،فإذا كنا نقول باللذة بما هي معرفة جسدية، فالشعر في حقل تجربة قحطان جاسم هو معرفة –كلّ إنسانية-
صحيح أن اللغة قوى لا نستطيع السيطرة عليها حتى عندما نستخدمها استخداما شديد الوعي، وأيضا لا يمكننا التحدت عن شاعر تابع لها ولقوانين بلاغتها، فعلاقة الذات باللغة علاقة تحتفظ بإشكالاتها وتعدد أسئلتها الكثيرة رغم ركام الأطروحات التي قدمت بالموضوع، أما الشعر فهو ذلك الاستحواذ الذي تمارسه الرغبة على اللغة يقول شربل داغر "الشعر فعل يقع قبل الوعي، أشبه بالعبقرية المحضة، وفق نزوعات باطنية لا يدركها حتى الشاعر نفسه".
غير أني عندما أنظر لتجربة ديوان "تجليّات العزلة" أجده ينفرد في نسج العلائق الفنية الجديدة بين المفردات في تقديم حسي للمعنى يرتدي فتنة الموسيقى

"لن أرثيكَ
الرثاء استراحة الخائب
وأنت آخر فسحةٍ للصرخة !!
سأهديكَ بدلاً عن ذلك
بعضَ شتلاتِ الوهم
وتعازٍ تعرفها
وسأحمي ذاكرتك المشدودة بإتقان
من طوابير الألم وورطة النواح
هل تعرفُ
لقد جئتكَ بخجل العصافير
وتعاويذ الوردَ ؟ (ص6 :ديوان تجليات العزلة)

ليست قراءتي توليفا أو عرضا لتجربة تطبع نفسها بميسم ثري تمكنت بواسطته من بلورة تراكمات جادة على مستوى العطاء الشعري العربي، وإنما لمعان القصيدة وبراعة ما تُحدثه داخلي مع كل قراءة جديدة هو ما شدني لمصاحبة هذه الممارسة النصية الكثيفة بصيغ التعدد كعنصر بنائي خصيب له ما يؤهله ليدهش عن نفسه ، وهي ممارسة تختزل مرايا الذات في بنية شعرية تتلائم والتنويعات الممكنة للفعل التجريبي كحقل اشتغالي داخل نص يهدم التصورات القبلية عنه باستمرار بعيدا عن البنية الوحيدة . هذا البعد هو ضمنيا نقد لمفهوم القارئ المطمئن الذي يقرأ نصا هربا من تعب النهار.
فقصيدة قحطان جاسم هي قصيدة ذات هوية متغايرة . كما أنها تبدو في وضعية دفاعية ضد القراءات التي ترتكز على الوعي القائم على علاقة عابرة بالشعر. وهذا ناتج عن الطبيعة التجريبية لمتن لا يرّكب حمولته الانفعالية والوجدانية فوق مهارات لغوية تقنية بات مفضوحا سرُّ بلاغتها ، وهي علاقة تفتقد القدرة على الإدهاش مع كل تكرار جديد لها. فالقصيدة هنا ومضة ينتجها الاحتكاك في لحظة التجربة مما يجعلها حالة جمالية صافية، بالإضافة إلى شاهدة مرحلة من عمر العراقي هذا، الذي يعيش غياهب التداخل والإندغام وغربة البلد/ اللغة.
نصوص جاسم الشعرية وحواشيها الرمزية، التي تبدو وكأنها تتضمن وتتقاطع مع نصوص وتجارب اخرى، إنما تستحيل إلى أثرٍ شعري مصاحب للزمن وللكتابة عنه ومنه .الزمن بعدٌ غزير، ومصاحبته بالكتابة ملغومة بشروط الإجرائية ؛ كيف للقصيدة أن تتحول إلى فعل مواز للزمن ؟ تبدو النظرة من هنا تجاوزيه لكنها عميقة هل يمكن أن نقول عن قصيدة أنها توازي بحت سسيولوجي أو تاريخي عن مرحلة من عمر العراقي ؟ سؤال كهذا ليس نمطي أو لعله خطأ مواصفات فنية مبهرة؛ هذا ما يبحث عنه الناقد داخل أيّ عمل شعري !


جدلية الصورة والايقاع:

الجدلية بين الصورة والإيقاع أو ما شابه، لكن المضمون ذا السمة الأكثرحضورا في ديوان تجليات العزلة يذهب حد الوثيقة الطافحة عن ضراوة الإنساني فالشاعر ينطلق من العزلة إلى الرؤية المستكينة للداخل/ الذات وخارج ما يحاك لها من واقع خاصة على مستوى التمزق العربي. صحيح أن الشعر لم يعد ديوان العرب لكنه سيظل ضميرهم الجمعي :
لسنواتٍ
وانا ارقبُ الصمتَ
يختالُ في أجمّة الروحِ
يزاحم
هَيجانات أسىّ مبهم
حطاماً لوقتٍ فائتِ
تبعثر
في
الضجيج المسلح (ص5 :ديوان تجليات العزلة)

إني وأنا أنظر إلى الصورة الشعرية في ديوان تجليات العزلة وطرق توزيع مكوناتها، وبغض النظر عن الأطروحات أو سياقات النقد والتحليل التي يمكن إبرازها هنا ، أجد أنها صور شفافة ومثيرة للانتباه لشدة ما عانته من صقل وتشذيب تتخذ اللغة الشاعرة داخلها ذلك العنصر الإختلافي الذي يعبر عن زواج المعنى والصوت عن طريق المجاورة المركبة تركيبا استعاريا .
صحيح أن المعنى لا يمدد أصابعه للعميان، وأن الشعر برهة ذات أجنحة أنظر إليه في نص قحطان جاسم عبر ذلك الذي يأتي باستمرار كأحد أشكال الإنتاج الثقافي ، الذي لا يجد له محددا نقديا أو ذوقيا، غير أني أنظر إليه مستمتعا بمنظر المعنى الممدود فوق بياضه المحفور في ضفاف الجملة الشعرية وتخومها، وهو حفر لا يبرره سوى منطق المخاطرة بالذهاب بالبلاغة الجديدة إلى أقصى الحدود دون الخوف في السقوط في منزلقات التجريب أو فخاخ النمط الكتابي النموذج لما تحقق من كتابة شعرية رصينة في دواوين سابقة .

نحت اللغة كتشكيلات رؤيوية:
يكتب قحطان جاسم بلغة لا تستند إلى محددات تقنية أو تعويضية، إنها لغة قَوّامة على نفسها لا تحتاج خطاب مقدمات، أو الإستعانة بغنائية خافتة تفترش تلك اللقاءات المتواطئة، بين المعنى والشكل، لغة مطواعة، صحيح أننا نقول أن اللغة عامة تقول تاريخها في اللحظة التي نتوهم أنها تقولنا، غير أنها شعريا هنا ناعمة بغير أن تُذهب شيء خارج النص، أما ذكاء الدلالة عندها فليس سجية شعرية، بقدر ما هي إمكانية باذخة للتأسيس لفكر الذات وتأملاتها وهي تسوق نفسها.
موجات إيقاعية تتدفق تشكيلات بصرية، هي اللغة عند قحطان جاسم ، وهي لغة وضعت قصائدها في رف خاص في المكتبة العربية، لما لها من إحساس عال هو ذلك الشرف الذي تبتغي الكلمة أن تتزيا به، أما الصدق فقميصها في متن لا يعلي الغموض متراسا يرتجي وراءه.
حينما يذهب الآخرون إلى النوم
أو إلى لعبةٍ شبيهةٍ
يرمم بتؤدةٍ صارمةٍ الألمَ
يشّذبُ أسراره كالأزهار
ويبدأ كعادته حفلةَ العزلة
ان الرؤية الإبداعية التي تنبثق عن هذه العزلة وتفاصيلها، كفهم أو تعقل بواسطة الصورة الشعرية ،عند هذا الشاعر هي نتاج حرية وتفاصيلها، التي جعلته يتعامل مع أسبقية المعنى على بناء الخطاب الشعري، في خروج واضح وفاضح على زخارف ما بعد النقدية، أو حتى داخلها ذلك أن المؤتلف والمختلف في النص المفرد عنده، عبر خيط إضاءة غير المضاء، في مستوى من مستويات الإنساني – العراقي الذي يعيش خارج وطنه مثلا- يتواجد داخل القصيدة شبيهة الماء الذي يضل شابا مدى الحياة.
ليس غير الشعر به يربت قحطان جاسم على العمق الأبيض للورقة والإنسان داخله معا .لا طبول أو إعلانات داخل النص، فهذا الأخير المنتصر للعادي وتمام اللحظة خارج عواصم اللاشعر في تكثيف وتجاور لثيمات الحب وأسئلة الإنسان، بمتعة شعرية هي محفله اللغوي، يخيل لي معها أن متعة النص كمصطلح /بارطي/ يتجاوز هنا إلى فتنة النص ولمعانه عند الشاعر، الذي يكتب كبستاني ماهر القصيدة عنوان المعنى على تشبيه وائتلاف في رغبة تتوقد، تقيم معاهدة تتجدد مع اللغة الطليقة والبساطة المذهلة في مفرداتها.
فأبجدية هذا الشاعر، التي تنطلق من مطار القلب والينابيع الرؤيوية للفلسفي، على صهوة نسق -لا توحده راهنية أسئلة العراقي وحدها – هي ما تجعلك تنظر إليه يبصر بكلماته.
هناك عبارات تتجرد حسيا داخل إنشاء ذهني يمكن ان تكون أي تسمية تصطلح عليها، وهناك الشعر، هذا الذي يفجّره جاسم كحقيقة توحي بحقائق أخرى غائبة أو متترسة، وراء جمالي غالبا ما نحيي اشراقته ونمر. أقول هنا أن هذا الجمالي ليس جوهرا، بل كثافة شعرية تتحرك في قصيدة منحوتة في نظارتها ومشغولة في صفائها. فالمعروف أن الشعري يأتي من المنسي واحيانا العادي، البعيد عن المدرسي، غير أننا في ديوان "تجليات العزلة" ننظر إليه محبوكا بالموهبة الثرّة والآهلة بالمعرفي. فالشاعر يكتب بوعي أن لا راهنية في الإبداع الموصول بأصالة اللغة المصفاة، وشفافيتها المثيرة للإنتباه، التي لا تنفجر دواخلها إلا بين صلب القصيدة وترائبها المطرزة برؤيوية مغرية.
كم هو رائع أن تنظر إلى جملة شعرية غير مبنية للمجهول ..قصيدة بكاملها مصابة بعافية الضوء، شمعة تقطر فتنة لغوية فادحة، إن اقتناص حالات القصيدة عند قحطان جاسم وفتنتها وصورها وتراكمها ، لهو أمر بحاجة لعديد دراسات، غير أني الآن تأخذني نظرات اللغة العارية وشهوتها داخل النص ،هذه اللغة الثقيلة كحب اتسع وقته .هذه التي تجيد الكلام تتدفق كالنهر أما أشجار المعنى فضفافها.

* ديوان "تجليات العزلة" للشاعر قحطان جاسم، في المغرب عن مطابع في توزيع مشترك عربي - أروبي عام 2013



#عبد_الواحد_مفتاح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار مع الشاعر المغربي رشيد الخديري
- لم يحالفني الحب
- قراءة في تجربة الشاعر محمد بنميلود
- قراءة في تجربة عبد الرحيم الصايل
- قرائة في تجربة الشاعر رشيد الخديري
- باقة الزهور
- كلمة
- حوار مع حميد العقابي
- حوار مع الشاعر محمد اللغافي
- عن الكتابة عند عبد الله زريقة
- مطرزات شعرية / حول تجربة الكتابة الشعرية عند إيمان الخطابي
- ديوان تعب المسافر
- امرأتي الحبيبة
- ألليل
- حب
- قصيدة
- توقيعات
- ,مضات
- يوم
- الى اله ضائغ


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الواحد مفتاح - قصيدة المعنى في ديوان قحطان جاسم - تجليات العزلة