أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - كمال التاغوتي - الإبادة الجماعية في القرآن مهمة تطهيرية















المزيد.....


الإبادة الجماعية في القرآن مهمة تطهيرية


كمال التاغوتي

الحوار المتمدن-العدد: 4466 - 2014 / 5 / 28 - 18:03
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الجزاء عبارة أساسية في النص القرآني، فعّلها وشحنها بجملة من السمات المحددة؛ وأمست من أشدّ العبارات جريانا على مسطح الخطاب العربي على الرغم من وجودها السابق لظهور الإسلام في القطاعين التوحيدي –أقصد اليهودية والمسيحية بمختلف مذاهبهما – والوثني. إلا أن هيمنة النص القرآني على مسطح الخطاب وتصفيته الوثنيةَ العربية وإشرافه على المقدرات الرمزية، جعل الجزاء ينحو منحى جديدا، وصار الاعتقاد في يوم آخر خارج الحيز الدنيوي جوهر الإيمان. بيد أن ما سطّرته آيات القرآن وما أُثر عن النبي الكريم من أحاديثَ ومواقفَ في هذا الشأن شهد ضروبا من التحول على يد "جماعة التأويل" سواء أكانوا من أهل الظاهر أم الباطن، إذ عملت هذه الجماعة على تأيين العبارة ومراكمة سمات جديدة في مدارها استجابة – عفوا أو قصدا – لما يطرأ على نمط الإنتاج وعلاقاته من تطور لاسيما إن كان قطيعة. ذاك دأبها، فهي تسعى دائما إلى احتكار النص المهيمن في صراعها من أجل السلطة؛ وليس ثمة أقوى من عبارة الجزاء تأثيرا في المسلم ذهنيا ووجدانيا. ولعل انخراط جماعة التأويل في نمط الإنتاج الرأسمالي الاحتكاري المتهالك، وشعورها بانفلات سيطرتها ، قد جعلاها تفتقر إلى الاشتغال على العبارة واستغلال كل ما أتيح من أدوات كي تحفظ "هيبتها" وتسلطها على الأفراد والجماعات. ذلك ما يجلوه تفعيلها سمة العقاب الجماعي الدنيوي، لحظة إفلاس آلية الترهيب بالموت وتعذر "إقناع" المتلقي بالقدرة على التنبؤ بالمصير الأخروي، وهو مصير يظل رهين رصيد المسلم من الأعمال الدنيوية. هكذا عجزت جماعة التأويل على حل تناقض أرّق أهل القِبلة، فهم يرون "دار الكفر" يتمتع أصحابها بالطيبات المادية والوجدانية ويمتلكون أسباب القدرة، في حين يغرق أصحاب "دار الإسلام" في شتى أنواع القهر. فلم يكن أمام الجماعة المتحالفة مع الطبقة المسيطرة سوى إزالة الحواجز بين الدارين: دار العمل والاختبار الدنيوية والدار الآخرة بما هي حيز الثواب والعقاب.
فيستدعون الأمثلة المنصوص عليها في النص القرآني عن أمم وأقوام نالوا "عقابا" إلهيا فأبيدوا عن بكرة أبيهم أو مسخوا نتيجة طغيانهم وتكذيبهم بما أنزل على أنبيائهم. فهو يسطر لمتلقيه من الوثنيين – وغيرهم – قصص أقوام قد هلكت "عقابا" على تكذيبها أنبياءَ ورسلا أتوْهم بما أنزل عليهم، فلما اشتد طغيان تلك الأقوام وأخذتهم العزة بالإثم والعدوان تدخلت المشيئة الإلهية لتعجل بما كان مدخرا للآجل. ولم تكن هذه القصص إلا احتجاجا وإقامة البرهان على مطلق القدرة والتمكين للكلمة المقدسة على مسطح الخطاب في قطاعه الوثني. وتحولت تلكم الأمم الهالكة إلى أيقونات تذكر كل ذي حجى بما يمكن أن يحيق بالمكذبين الروافض والمناهضين لمن سعى جهده إلى الانفتاح على العلو. وفي الجدول أدناه أمثلة على ذلك:
* وَأَخَذَ ٱ-;-لَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱ-;-لصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ هود (67) النبي صالح والوسيلة صيحة.
* قَالُواْ يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱ-;-لْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱ-;-مْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱ-;-لصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱ-;-لصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ ٱ-;-لظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (هود الآيات 81-82-83) النبي لوط والوسيلة حجارة.
* فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( الأعراف الآية 166) النبي دواد، والوسيلة مسخ.
* وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱ-;-لْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ٱ-;-بْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يبُنَيَّ ٱ-;-رْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱ-;-لْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱ-;-لْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱ-;-لْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱ-;-للَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱ-;-لْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱ-;-لْمُغْرَقِينَ (هود الآية 40). النبي نوح والوسيلة طوفان.
تلك بعض وجوه الغضب الإلهي حين تجلى في الحياة الدنيا، والمتأمل لا يعدم التنبه إلى توفر أربعة شروط أساسية لتدخل قوة المتعالي المطلقة في سيرورة الحركة الطبيعية وقوانينها:
أما الأول فيتمثل في اقتران تدخلها بوجود نبي لتكون أمارة وآية على صدقه للخلف ونجاة للمؤمنين في الراهن. فالتدخل الإلهي في الحياة الدنيا – المبذولة للعمل – لا يتم إلا إذا بلغ "فساد الأمم" ذروته ولم يعد ثمة بد من إبادة جماعية "تطهيرا" وتجديدا؛ لذلك تكف القوانين الطبيعية عن الاشتغال وتمسي طاقاتها سلاحا تدميريا شاملا. إن الريح والماء والصوت والكائنات الحية (من قبيل القمل والضفادع...) ظواهر محكومة بقوانينَ فيزيائية ثابتة، لكنها في لحظة حاسمة تحولها المشيئة المفارقة أدوات طيعة لإيقاع الأثر المرجو. لا يعني ذلك أن هؤلاء المبادين قد سقط عنهم العقاب الأخروي، إذ الوعيد المنصوص عليه في النص القرآني دأبه المضاعفة، فمدار الأمر وغايته التدليل على انفتاح الأرضي على السماوي في تلكم اللحظة لتعلق كل السنن الكونية في موطن دون غيره من المواطن. الإبادة إذن مقطعية مكافئة للموقف من الرسالة السماوية.
أما الثاني فهو التكافؤ المبين بين شدة البطش وجبروت الهالك، إذ لا يحيق إلا بمن كانت بين يديه سلطة على الناس إما جماعية، مثل ثمود وعاد، وإما فردية مثل فرعون. فبعد استنفاذ كل وسائل الإقناع من أجل تثبيت أركان الإيمان، وبعد تحمل الأنبياء مشاق شتى ضروب التعسف والظلم – سواء اللفظية أو الحسية – تتدخل القوة الإلهية لحسم الصراع لصالحهم ومن آمن بهم. قد يبدو من نافل القول إن هذه القصص إنما سيقت ضمن تفعيل آلية الترهيب، وليس من اليسير تكرار عملية التدخل تلك في كل حين لاسيما وأن النبي الكريم لم تمس الحاجة لديه إلى معجزة محسوسة في مرحلة تاريخية تطورت فيها قوى الإنتاج الذهني والمادي؛ لذلك كان التوجه إلى العقل هو المعول عليه وعماد الدعوة.
أما الثالث فتفرد كل تدخل وانفراد كل طرف يسلط عليه الهلاك بضرب لا يتكرر، فالنص القرآني في وصفه يثبت أن تصريف الظواهر الطبيعية والفيزيائية متبدل وفق الحال وما يسعى إليه من مآل، لذلك كان الماء آلة تدمير في قصة النبي نوح طوفانا وكانت الصيحة في قصة النبي صالح...الخ يضاهي ذلك صيغته فمن الإبادة الجماعية إلى المسخ حجرا أو كائنا أدنى (قردة وخنازير) استحالت بموجب ذلك إلى علامة من العلامات.
أما الرابع – وهذا الأهم في رأيي – فهو تواصل الحياة في حيز دار العمل بعد كل تدخل إلهي ، فتفعّل قوانين الطبيعة من جديد لتعود إلى سالف عهدها قائمة ً على الفعل ورد الفعل والسببية والنسبية.
إن في هذه العينات المبسوطة في النص القرآني لآية على أن الجزاء يظل مقترنا بحيز مفارق مغاير، وما تنصيصه على فرادة كل تدخل إلهي سواء في الأداة أو الصيغة إلا أمارة على ندرته. فالقصص المروية عبرة وعبور: فهي عبرة للأقوام والأمم اللاحقة حتى لا تقع تحت طائلة غضبة ماحقة، وهي عبور للنبي الكريم برسالته من طور المهادنة إلى طور المجاهدة، إذ تلكم القصص على جلائها وقوتها التمثيلية للإرادة الإلهية لم تكن للترهيب وحسب، إنما مدارها الشد من أزر النبي وصحبه ليكون من أولي العزم صبرا ومثابرة رغم ألوان القهر والعناد. والعدول بهذا التدخل عن أصله ضرب من المغالاة والإيغال في إهدار فاعلية المسلم وطاقاته. فجماعة التأويل حين تجعله محايثا تذهل – عن قصد أو عن غير قصد – عن القيود المذكورة آنفا وتجري عبارة الجزاء دون التنبه إلى كونها بهذا الصنيع إنما تبتذل ما هو فذ لا يتكرر كل حين. لقد صور النص القرآني في قصصه وسيلة للتأييد الإلهي ذي المهمة التطهيرية ، فلم يكن التطهير - سيما إذا كانت الإبادة وسيلة فيه – مجرد انتقام من قوم مكذبين، بل كان، وهو الأهم في رأيي، لحظة فارقة في مسار البشر تظل راسخة في الأذهان لتقوية الإيمان. بينما يروق لجماعة التأويل أن تضيف إلى الرقيبين جزاءً فوريا من لدن المشيئة المطلقة وتنزل المفارق ليمسي محايثا للأسباب المركوزة في قوانين الطبيعة والتاريخ. والبرهان على ذلك أن المشركين من العرب كانوا واجهوا النبي الكريم بهذا الجزاء الفوري، يختبرونه اختبار المستهزئ؛ ولما كان مدركا غرضَهم المبطن بالعناد كفّ عن الإصغاء إليهم. يقول الرازي في تفسير الآيات:
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱ-;-لأَرْضِ يَنْبُوعا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱ-;-لأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ ٱ-;-لسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱ-;-للَّهِ وَٱ-;-لْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي ٱ-;-لسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً (الإسراء الآيات 91-92-93) ما لفظه:
(...) ليس من شرط كونه نبياً صادقاً تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها لأنا لو فتحنا هذا الباب للزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى الرسول بمعجز اقترحوا عليه معجزاً آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حد ينقطع عنده عناد المعاندين وتغلب الجاهلين لأنه تعالى حكى عن الكفار أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزاً التمسوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ستة أنواع من المعجزات القاهرة كما حكى عن ابن عباس «أن رؤساء أهل مكة أرسلوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهم جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لننتفع فيها وفجر لنا فيها ينبوعاً أي نهراً وعيوناً نزرع فيها فقال لا أقدر عليه، فقال قائل منهم أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً فقال لا أقدر عليه، فقيل أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا فقال لا أقدر عليه، فقيل له أما تستطيع أن تأتي قومك بما يسألونك فقال لا أستطيع، قالوا فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أي قطعاً (...) فقال عبد الله بن أمية المخزومي وأمه عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا والذي يحلف به لا أومن بك حتى تشد سلماً فتصعد فيه ونحن ننظر إليك فتأتي بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة ثم بعد ذلك لا أدري أنؤمن بك أم لا» فهذا شرح القصة كما رواها ابن عباس. (مفاتيح الغيب للفخر الرازي)
والفخر الرازي حين يشير إلى كون اختبارهم لا ينقطع عنادا دليل على أن تدخل المتعالي في مجرى الطبيعة الحدثي نادر وفذ فإذا تكرر إلى ما لا نهاية له فقد سلطانه على القلوب. وجماعة التأويل تذهل عن ذلك – وقد تتغافل – لبسط نفوذها على ذهنية المسلم ودفعه إلى الإذعان في زمن مغاير لعهد تجلى فيه الله واتصلت الشهادة بالغيب. ذاك ما تختصره الآيات الواردة في سورة الأعراف متوجهة إلى النبي الكريم ليمضي في ما هيئ له رغم عناد المعاندين، إذ جاء فيها:
وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱ-;-لْبَأْسَآءِ وَٱ-;-لضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱ-;-لسَّيِّئَةِ ٱ-;-لْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱ-;-لضَّرَّآءُ وَٱ-;-لسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱ-;-لْقُرَى آمَنُواْ وَٱ-;-تَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱ-;-لسَّمَآءِ وَٱ-;-لأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (الأعراف الآيات 94-95-96)
ويبسط ابن كثير شرحها بما لفظه:
يقول تعالى مخبراً عما اختبر به الأمم الماضية الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء، يعني: بالبأساء ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام، والضراء: ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ، أي: يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم، وتقدير الكلام: أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما فعلوا شيئاً من الذي أراد منهم، فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه، ولهذا قال: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱ-;-لسَّيِّئَةِ ٱ-;-لْحَسَنَةَ أي: حولنا الحالة من شدة إلى رخاء ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقر إلى غنى؛ ليشكروا على ذلك، فما فعلوا، وقوله: حَتَّى عَفَواْ أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال: عفا الشيء إذا كثر. وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱ-;-لضَّرَّآءُ وَٱ-;-لسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَـاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يقول تعالى: ابتليناهم بهذا وهذا ليتضرعوا، وينيبوا إلى الله، فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا، بل قالوا: قد مسنا من البأساء والضراء، ثم بعده من الرخاء، مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، بل لم يتفطنوا لأمر الله فيهم، و لا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين، وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء، ويصبرون على الضراء؛ ... ولهذا عقب هذه الصفة بقوله: فَأَخَذْنَـاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ أي: أخذناهم بالعقوبة بغتة، أي: على بغتة، وعدم شعور منهم، أي: أخذناهم فجأة؛ كما في الحديث: موت الفجأة رحمة للمؤمن، وأخذة أسف للكافر. (ابن كثير، تفسير تفسير القرآن الكريم)
وقد سبق وأن أشار الفخر الرازي إلى هذه الآية عند حديثه عن تطيّر اليهود من مقدم النبي الكريم إلى المدينة عندما أصابهم الضرّ والنقص في الثمار فعدّ ذلك سلوكا إلهيا معتادا : " كما جرت عادته في جميع الأمم ". ولهذا التدخل الإلهي – كما تبينه الآيات المذكورة – سمت ونهج قويم؛ إذ لا يكون إلا في حضور نبي [ وليس كما حاول الرازي تعميمه ] أمارة على أن اللحظة التاريخية فذة على غير العادة. إن النص القرآني، من خلال استعمال صيغة الماضي (أرسلنا) والإيغال في التنكير (قرية، من نبي) ينبئ عن حيز زمني استثنائي يتصل فيه البشر الفانين بالإلهي، وضمن هذا الحيز الوجيز تُختزل تصاريف الحياة القائمة على ثنائية النفع والضرر؛ فالمتعالي يكثف ما يعيشه الكائن البشري على مدى الزمن الدنيوي في تلكم اللحظة التاريخية الفارقة ليجتمع الرخاء والشظف والشدة والفرج في تقاطب ثنائي حاد كي يدرك المستهدفون بالرسالة صدق ما جاءهم من جهة ويتضرعوا ويؤمنوا من جهة أخرى. إنه اختبار فوري تكون نتيجته وفق نجاح القوم المستهدفين في استعادة صلتهم بالمتعالي، فإن ارتدوا بعد رفع الضراء عنهم كان الهلاك الشامل مصيرا. فالمتمعن يقف عند معادلة واضحة المعالم:
(ضراء/ حسنة ) + إيمان = استمرار الحياة.
(ضراء / حسنة) - إيمان = إلغاء الحياة
فدوران جماعة التأويل حول سمة العقاب – بما هو عقاب إلهي – ضرب من اللبس والخلط بين الحيزين الدنيوي والأخروي، إذ التدخل الفوقي لم يكن إلا للقتل إما جزئيا، مثل إغراق فرعون وجنوده إبان مطاردته النبي موسى وشعبه، وإما كليا، شأن قوم لوط، أما العقاب – إن رجح – فجريانه في دار الجزاء. والمعوّل عليه في ذلك إنما التأييد الإلهي، وتنبيه النبي الكريم إلى كون زمنه استثنائي، حيز له نظائر سبقته ولن تكون له لاحقة، فإلى جانب قواه الذاتية – وهي من دواعي صموده أمام إغرائه أو الإغراء به – تقف قوة مطلقة سندا ورافعة أساسية للمضي قُدُما في الدعوة. وقد أشار النص القرآني إلى هذا المعنى في ما يأتي ذكره:
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱ-;-لنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ ٱ-;-للَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيراً * مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱ-;-لدُّنْيَا فَعِندَ ٱ-;-للَّهِ ثَوَابُ ٱ-;-لدُّنْيَا وَٱ-;-لآخِرَةِ وَكَانَ ٱ-;-للَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً " (النساء الآية 133)
ويبسط الفخر الرازي المقصد من ذلك موضحا:
والمراد منه أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد، فإن عصيتموه فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية، وعلى أن يوجد قوماً آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه... ثم قال تعالى: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱ-;-لدُّنْيَا فَعِندَ ٱ-;-للَّهِ ثَوَابُ ٱ-;-لدُّنْيَا وَٱ-;-لآخِرَةِ } والمعنى أن هؤلاء الذين يريدون بجهادهم الغنيمة فقط مخطئون، وذلك لأن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، فلم اكتفى بطلب ثواب الدنيا مع أنه كان كالعدم بالنسبة إلى ثواب الآخرة، ولو كان عاقلاً لطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع.(الرازي، مفاتيح الغيب)
وعلى هذا السمت يتبين المرء أن ما اعتبره أهل التأويل "عقابا إلهيا" يصل الدنيا بالآخرة إنما هو من باب ممارسة الترهيب من الموت، على الرغم من كونه نهاية حتمية لكل حيّ؛ بيد أن وجه الطرافة فيه أنه نتيجة غضب إلهي وليس وفق سنن كونية. وأيما تكن صيغة الفناء تبقَ مسألة الجزاء مؤجلة إلى يوم البعث والنشور إن عقابا أو ثوابا؛ وما وقع تكثيفه واختزاله من الضرّ والنفع اختبارا لا يخرج في نهاية المطاف عن الغاية التي إليها تجري الحياة الدنيا سيان في ذلك زمن النبوة الوجيز وزمن الوجود المديد، إذ هي ابتلاء وامتحان لا يتوقف إلا لحظة الانقطاع عن الحياة الدنيا. ولما كانت رسالة النبي الكريم هي خاتمة الرسالات، اختلفت معالجة القبول والإعراض، واستبعدت آلية الإبادة الجماعية لتستبدل بها إحداثيات إذا اعتصم بها المرء ادخر لنفسه رصيدا للثواب وإن تخاذل رجحت كفة العقاب، من دون إلغاء الآخر المغاير.
ملاحظة : التفسير مأخوذ كله من موقع: http://main.altafsir.com/Tafasir.asp?tMadhNo=0&tTafsirNo=0&tSoraNo=1&tAyahNo=1&tDisplay=no&LanguageID=1



#كمال_التاغوتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سحابة عابرة


المزيد.....




- بيسكوف: نرفض أي مفاوضات مشروطة لحل أزمة أوكرانيا
- في حرب غزة .. كلا الطرفين خاسر - التايمز
- ارتفاع حصيلة ضحايا هجوم -كروكوس- الإرهابي إلى 144
- عالم فلك: مذنب قد تكون به براكين جليدية يتجه نحو الأرض بعد 7 ...
- خبراء البرلمان الألماني: -الناتو- لن يتدخل لحماية قوات فرنسا ...
- وكالة ناسا تعد خريطة تظهر مسار الكسوف الشمسي الكلي في 8 أبري ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 795 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 17 ...
- الأمن الروسي يصطحب الإرهابي فريد شمس الدين إلى شقة سكنها قبل ...
- بروفيسورة هولندية تنظم -وقفة صيام من أجل غزة-
- الخارجية السورية: تزامن العدوان الإسرائيلي وهجوم الإرهابيين ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - كمال التاغوتي - الإبادة الجماعية في القرآن مهمة تطهيرية