أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال التاغوتي - سحابة عابرة















المزيد.....

سحابة عابرة


كمال التاغوتي

الحوار المتمدن-العدد: 4466 - 2014 / 5 / 28 - 01:21
المحور: الادب والفن
    


سحابة عابرة
من أول درج في السلم الحلزوني شرع يكدّس ابتهاجه. وكلما بلغ طابقا يلقي تحية الصباح بأعلى صوته ويعمد إلى مطّها، كأنه يرغب في أن تبلغ أبعد مدى. دخل المكتب وابتسم في وجه زميله وصديق العمر، ولم يمهله حتى قال:" تونس فاقت"! اتخذ مكانه أمام الحاسوب وشغله مهمهما كمن يصوغ تعويذة. حاول أن يفتح صفحة على الانترنيت، لكنه فوجئ بانقطاع الاتصال. التفت إلى عمر مشيرا بيده إلى الجهاز، فجاءه الرد مداعبا:
- " قصّوه يا سيدي".
- "والملفات؟"
- ضحك عمر مشيرا إلى جهة اليمين:"هزهم، قالك ما يطمان عليهم كان في بيروه".
أدرك أن هذا اليوم سيمر دون عمل يذكر؛ لكنه في حاجة إلى الانترنيت، وقد توقّع ما هو محال إلا أن يقطعوا الاتصال عن مؤسسة حساسة كهذه. أدخل يده إلى جيبه ليستعمل هاتفه الجوال، غير أن عمرا سبقه وأخبره أن كل ما له صلة بالعالم الخارجي قد قطع، بل إنه لن يستطيعَ مغادرة المؤسسة إلا بإذن مباشر من رئيسه. - "وانت آش تعمل على البي سي؟"
اضطرب عمر، ولمح ارتجاف يده على الفأرة، وسرعان ما أدار الشاشة ليرى عليها لعبة الورق. غادر المكتب، وظل عمر في حيرة: لقد أنذروه إن هو باح بالسر فسيحال فورا على مجلس التأديب. ليس له إلا أن يلتزم بالأوامر، فرئيسه دعاه إلى المجيء منذ الساعة السادسة صباحا، ومرّر تقني المؤسسة سلكا خاصا بحاسوبه ليفتح السكايب فيصل كل ما يندّ عن زميله؛ فهو خطر على الوثائق وقد تسوّل له نفسه تمرير بعضها إلى جهات أخرى. تلك مهمته في هذه الظروف العصيبة، وحتى الأخبار منع من متابعتها فامتنع. البلاد في غليان، وكل شيء صار جائزا. لماذا تشنج حين وجد الانترنيت مقطوعا؟ أكيد أن له نية مبيتة. أجل صديقه، ولأنه كذلك فعليه حمايته من تهوره. دخل ثانية وهو يلعن الاستبداد والخيانة وما شابه؛ وأخذ يرتعد على كرسيه الخشبي دون أن ينبس، فسأله عمر:
- " حاجة ضرورية؟"
أجابه وهو يحملق في الأرض:
- " وما الفائدة يا عمر، ما الفائدة "
غاص عمر مرة أخرى في حساباته، واسترق النظر إلى وجه صديقه وهو يتقد غضبا. لا يمكن أن يترك له فرصة التواصل، والملفات المكدسة على قرص حاسوبه أمانة، وهو لا يرضى أن يخون. كان بين الفينة والأخرى يتثبت من سلامة الترابط على السكايب، وهو يدري أن أي خلل فيه إدانة. رآه يخرج ثانية، فوجه سؤالا إلى رئيسه المباشر على الطرف الآخر:" الصوت واضح؟" فجاءه الرد في شكل يد مقبوضة ما عدا الإبهام، فطمأنّ قلبه، وعاد إلى اللعب ثانية. فجأة انتبه إلى السلك المار من تحت الباب، نهض، ثم عاد إلى كرسيه، ثم نهض... لم يجد ما يفعل. ماذا لو رآه؟ إنها كارثة حقا، فهو الوحيد من بين زملائه العطوف عليه، منه يقترض وعليه يعول حين يتغيب لسبب ما؛ بل إنه لسان دفاعه في أحلك الظروف. آه كارثة إن فقد صداقته. كتب لرئيسه:
- " كان يشوف الكابل آش نقلو؟"
فأجابه:
- " هههههههه ما تخافش بهيم ما يفهمش"
حز في نفسه أن يوصف صديقه هذا الوصف ويعجز هو عن الرد. لكنه شعر باسترخاء يسري في كل أطرافه، وعلت وجهه ابتسامة ماكرة. رآه يدخل على عجل، وعالج الحاسوب بسرعة، لينقطع عنه تماما. لم يعد هناك من بد ليثيره حتى يتسنى له معرفة سر هذا التبدل.
- "رب يستر البلاد على كف عفريت".
أجابه من دون أن يرفع عينيه عن الشاشة:
- "العفريت باش نخرجوه من قمقم قرطاج"
يدرك عمر ثقافة صديقه وكفاحه المتصل ضد الفساد داخل الإدارة، وكثيرا ما كانت المواجهة شرسة لا تنتهي إلا بتدخل أطراف نقابية وسياسية أحيانا، وكان والسيدة مفيدة الشهيرة بينهم بـ"ريتا" يتحدثان في الشأن السياسي دون مواربة ويعبران صراحة عن رفضهما النظام. لكن ماذا جنيا من رفضهما؟ راجت الإشاعات حول علاقة مشبوهة بينهما، وعمر يعلم يقينا أن صديقه لا يرتكب مثل هذه الحماقات، بل حتى إن رغب في ذلك فإن "ريتا" لن تفتح له بابا، لأنها ببساطة لا أبواب لها سوى ذاك الذي يفتح لمن نزل عليها ضيفا أو زميلا. تذكر عمر شهادته أمام اللجنة، وكيف دافع عنه ونفى كل ما يروّجه "الحاقدون حوله". انشرحت أساريره وهو يستعيد المشهد؛ بينما لمح أصابع زميله تقفز على لوحة المفاتيح في سرعة فائقة كأنه يطارد حوارا. ماذا يكتب الآن؟ هل يخبر رئيسه؟ لم يطلب منه ذلك، مهمته تنهي عند السهر على الجهاز وهو ينقل صوته. ألن يعتبروا ذلك تهاونا منه ؟ همّ بإرسال الجملة، ثم تراجع إصبعه عن اللوحة، فإن يكن بصدد الإبحار عبر الانترنيت بوسيلة أخرى يكتشفوا أمره بيسر. مرت الدقائق متثاقلة، وعمر ثابت مكانه. كان يحصي على زميله أنفاسه، فالتجهم قد انقشع عن وجهه وكان أحيانا يبتسم. لا شكّ أنه يستعمل وسيلة أخرى. سأله في همس:
- "لقيت كْلِي؟"
رفع يديه عن لوحة المفاتيح واستدار نحوه، وظل لحظات ينظر إليه بعينين لامعتين، ثم قال بصوت مرتفع:
- " لقيت كلي يا عمر، وهاني شايخ"
تكدّست غمامة من رصاص على وجه عمر، تحامل وسأله:
- " تعرف تستعملو؟ أنا لتوة ما فهمتوش؟"
ضحك في ما يشبه المواساة وقال:
- "مراد ولد أختي علمني، مافيا متاع الحكايات هذي".
لم يجبه عمر، وسرت فيه قشعريرة لا يدري سببها، هل هو الغضب؟ قد يكون. الأهم من هذا كله أن الرسالة قد وصلت، وصلت بصوته المجلجل مثل قرع خطوات أخذت تقترب من المكتب. عاد عمر مسرعا إلى مركزه، وانتظر. الجلبة تتصاعد، أعادت إليه يوم اقتحموا عليهم المكتب ليقبضوا على صديقه. اتهموه بالإرهاب. احتجزوه أربعَ عشْرةَ ليلة دون أن يتوصلوا إلى إدانة، فأطلقوه. ماذا سيفعلون به اليوم والرصاص لا يكفّ عن الدويّ في القصرين وتالة وسيدي بوزيد والحوض المنجمي ليطال جل مدن تونس؟ كان يرغب في مساعدته، لكن هيهات. "آش ملزو هو؟" ذاك ما يردده دائما. أجابه ذات يوم لما صدع بشعاره هذا:" سلْ كل الرسل تجد جوابا". ألقمه حجرا، ومنذ تلك الملاحظة لاذ بالصمت أمام ما يحدث خيرا كان أو شرا. اقترب إيقاع أحذية من باب المكتب، ليفتح على وجه رئيسه المباشر. قام من كرسيه فأتته إشارة أن مكانَك، فقعد. لاحظ أن صديقه لم يضطرب، فازداد حنقا، "توة يشوف الجنون متاعو وين يوصل".
اقترب منه المسؤول وسأله في هدوء:
- " عندك قريبك اسمو مراد؟"
اتسعت عيناه ليجيب:
- " ولد أختي، شبيه؟"
رد عليه بالنبرة ذاتها:
- " ماكش تشوف في الأخبار"
- عذرا، نعرف الي هذا ممنوع أما ..." لم يسمع بقية الكلام، بل أدار الشاشة في سلاسة، وإذا به يقرأ:

ودون أن يسأله قال:
- " نحضر في ملف لبنتي على أنواع السحب، عندها امتحان"
أخبره أن ابن أخته قد أصيب، وأن والدته تدعوه إلى الالتحاق بها في مستشفى شارل نيكول. اهتز عمر بدلا عنه، وسمع رئيسه قبل أن يترك المكتب يأذن له بالمغادرة إن شاء، وتفرس في وجه صديقه فلم ير تغيرا. الأدهى أنه واصل إعداد الملف دون أن يهتز له جفن. وبعد نصف ساعة تقريبا أوقف الجهاز وانتزع المفتاح منه ، واتجه نحو الباب، فقال عمر:
- "نشالله لاباس."
التفت إليه وهو يشير إلى السلك:
- " حاول تبعدو من تحت الباب" .
وتركه يغرق في عرق كالجليد. في شهر فيفري من سنة إحدى عشْرةَ وألفين تجمّع الموظفون أمام باب مدير المؤسسة، وكان عمر يصرخ بأعلى صوته:" dégage " وهو يحمل صورة صديقه في لافتة كبيرة وعليها كتبت هذه الجملة:
"الصّيب، هو سحب شديدة الكثافة والضخامة لها امتداد ".



#كمال_التاغوتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال التاغوتي - سحابة عابرة